الإيمان الحقيقي القديس باسليوس الكبير
فكر الرب في عقولنا وقلوبنا
يقول داود النبي: “الرسول: أفكارك يا الله عندي، ما أكثر جملتها ” ( مز139: 17 ). ويقول معلمنا بولس الرسول : ” لأنه من عرف فكر الرب فيعلمّه، وأما نحن فلنا فكـر المسيح ” (1كو 2 : 16 ).
إنه حقاً شيء جيد إن نحتفظ بفكر الله العلىّ في عقولنا، وأي إنسان مسيحي حقيقي لا يتوقف عن أن يفعل هذا. ولكن لكى نعبّر عن هذا الفكر في كلمات، فهذه مخاطرة صعبة جداً، لأن ذكاؤنا غير كاف ليتعامل مع هذا الموضوع، واللغة التي نستطيع أن نعبر بها هي قاصرة وفقيرة عن وصف ذلك. لكن الرغبة في تمجيد الله هي طبيعة موجودة في كل مخلوق عقلاني، إلا أن القدرة للتعبير عن هذا الموضوع بكفاءة ليست متساوية. لا يوجد إنسان إلا ويرى في نفسه أنه قاصر وعاجز تماماً عن إدراك هذا، وكلما تعمق في الفهم في هذا الاتجاه فإنه يشعر أكثر بالجهل.
فبالرغم من أن الاثنان إبراهيم وموسى وصلا إلى أعلى قامة ممكن أن يصل إليها فهم البشر، إلا أنهما شعرا بضآلتهما أمام وجه الله، فقال إبراهيم ” أنى فقط تراب “، وموسى فكّر في أن صوته ضعيف ولسانه متلعثم، لأنه وجده غير قادر على التعبير عن كنه القوة العقلية. ولكن لأن جمهور المستمعين لي قد جاءوا ليسمعوا ما أتكلم به عن الله، ولأن الكنيسة دائما مستعدة أن تسمع، كما هو مكتوب ” لا توجد نهاية للسمع ” ( جا 1: 8 )، أنا أشعر إنني مرغم أن أتكلم بأكبر قدر من قدراتي، وسوف لا أتكلم عن الله كما هو، بل سأتكلم عن الله كما نفهم نحن فقط.
ولذلك فإذا أردنا أن نتحدث، يعتبر هذا فوق طاقة قدرتنا، لأنه حتى لو كان لدينا لسان الملائكة في كل طبيعتهم الذكية، فلا نستطيع أيضا أن نقدم إلا جزيئات صغيرة في هذا الموضوع لو أردت أن تتكلم عن الله أو تستمع إلى الله فلابد أن تسمو بجسدك وحواسك، وتعلو بعيدا فوق الأرض والبحر، وتترك الغلاف الجوى السفلى ورائك وتسافر فيما وراء الزمن والإيقاع الطبيعي للأرض ونظامها،
وتحلّق في الجو فوق الكواكب مع أشكالهم وأحجامهم المذهلة، وكل شيء يجعلها تسير في انسجام، وضوءها والوضع والحركة في التجاذب والتنافر مع بعضهم البعض، وعندما تذهب فيما وراء هذا ارتفع فوق في السماء وزد ارتفاعا وانظر حولك، وعقلك يفكر في هذا الجمال الذي هناك. الجموالله:ائية وجموع المرنمين من الملائكة ورؤساء الملائكة، ومجد هذه المنطقة، صفوف العروش، القوة، السلطة، الكرامة، وبعد أن مررت بكل هذا تأمل كل واحد منهم بعقلك.
في النهاية ستصل إلى الطبيعة الإلهية التي مازالت ثابتة، وهادئة، لا تتغير، بسيطة، نقية، واحدة لا تتجزأ، قوة تفوق الوصف، ومقدار غير محدود من المجد الذي لا يعبّر عنه، جمال لا يمكن أن تتصوره، الذي هو أداة جذابة حقيقية لأرواحنا المجروحة، ولكن لا تعبر عنها بالكلمات.
جمال الله :
الآن ما هو أعظم من الجمال الإلهي؟ ما هو أبهج من التفكير في روعة الله؟ ما هو أقوى من اشتياقات النفس التي تحل عليها نعمة من الله؟ تلك التي تنقيها من الشرور، وهى صارخة بالحب الحقيقي ” أنا مجروح بالحب “! بريق الجمال الإلهي يفوق كل عبارات ووصف، فالكلمات لا تستطيع أن تعبر عنه، وقوىّ السمع لا يستطيع أن يستقبلها، فلا تستطيع أن تقارنه بإشعاعات كوكب الصبح أو القمر المضيء أو ضوء الشمس في نصف النهار، كل هذه المقارنات بالتأكيد تفشل في أن تعبر عن الطبيعة الحقيقية لهذه الإضاءة السمائية. كمثل مقارنة ظلام الليلة الغير قمرية الدامس مع شمس ساطعة في منتصف النهار.
الجمال الحقيقي لا يرى بالعين البشرية، ولكن يلتقط فقط بالروح والعقل، عندما يحدث ويشع في واحد من القديسين، ويترك وراءه اشتعالا من الحنين الذي لا يحتمل، والقديسون الذين يدركون حقيقة هذه الحياة الحاضرة يصرخون دائما ” وحسرتاه لقد طالت حياتي هنا “، أو ” متى أجيء وأتراءى أمام حضرة الله ؟ “، أو ” لأنطلق وأكون مع المسيح هذا أفضل جداً ” أو ” عطشت روحي لله القـوى الحي “، أو ” الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام “.
لأن هذه الحياة تظهر وكأنها سجن لأرواحهم، التي تلامست بالإشتياقات الإلهية، فأصبحوا نادراً ما يستطيعون أن يتحكموا في رغبتهم الملحّة للانطلاق، ورغبتهم ليروا جمال السماء الذي لا يشبعوا منه، ويتضرعون أن يستمر تفكيرهم في محبة الله بدون انقطاع في الحياة الأبدية. طبيعتنا البشرية تحب الجمال، والصلاح دائما جميل، ويستحق الحب، الله هو الصلاح وكل الأشياء تحتاج إلى الصلاح وبالتالي كل الأشياء تحتاج لله…
معونات الرب يسوع المسيح
من خلال الابن الوحيد جاءت كل أنواع المعونات للإنسان، وكل واحدة منها أخذت اسما خاصا بها. فعندما يجتذب إليه النفوس الطاهرة، التي لم يشوبها شائبة ولا نجاسة، مثل عذراء عفيفة، فهو عندئذ يدعى ” عذراء النفوس “. وعندما يؤدب ويعالج النفوس التي إنجرحت من ضربات الشيطان الذي أسقطها في الخطية، ففي هذه الحالة يدعى ” طبيب النفوس “. إن كل اهتماماته العظيمة بنا لا تجعلنا نستهين بقوته العظيمة أو بمحبته الكاملة للبشرية، تلك التي جعلت مخلصنا له المجد يعانى معنا أسقامنا، وأن ينزل إلى حالتنا التي في الضعف.
لأنه لا السماء ولا الأرض ولا كل البحار والمحيطات ولا المخلوقات التي تعيش في الماء أو على الأرض، ولا أي من النباتات، ولا النجوم ولا الهواء ولا كل الفصول، ولا كل الموجودات المختلفة التي في الكون، تستطيع أن تظهر جيداً سمو جبروته. لأنه بالحقيقة هو الإله الغير محدود، الذي استطاع بغير استحالة أن يقابل الموت من خلال جسده، وبآلامه الخاصة، منحنا الحرية من المعاناة كما قال معلمنا بولس الرسول ” لكن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا ” ( رو 8: 37 ).
هذه العبارة لا توحي ببساطة هذه المهمة التي قام بها ربنا له المجد، ولكن على العكس تبين لنا عظم المساعدة التي أعطيت لنا بقوة لاهوته، حتى نحصل على انتصارنا. إن كلمة الله الخالق وحيد الجنس، هو مانح المعونة، وهو موزع مساعداته المتنوعة والكثيرة لكل الخليقة كل حسب احتياجه: فالمحبوسون في ظلام الجهل يعطيهم النور، لذلك هو يدعى ” النور الحقيقي “. عندما يقبل التائبين فهو عندئذ الديان، ولذلك يدعى ” الديان العادل “، لأن ” الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن ” ( يو 5: 22 ).
عندما يقيم الساقطين من الحياة إلى أسفل الخطية، فهو يدعى ” القيامة “، لأنه هو الذي قام من الموت وبعث الحياة، هو ” الخالق ” لكل الأشياء بلمسة من قوته وإرادته الإلهية، هو ” الراعي “، هو ” المنير”، هو ” المغذى “، هو “المقوي”، هو ” المرشد “، هو ” الشافي “، هو ” المقيم “، هو الذي ” دعي الأشياء التي لم تكن “، وهو الذي ” يثبت الأشياء الكائنة “.
لذلك كل المعونات الجيدة تأتينا من الله خلال ابنه الوحيد الجنس، الذي يعمل في كل حالة بسرعة عظيمة أسرع من أن ينطقها اللسان، فلا البرق، ولا سرعة الضوء في الهواء، ولا لمحة العين، ولا حتى حركة الفكر، تماثل سرعة استجابته، لأن القدرة الإلهية تفوق كل هذا.
الباراكليت
الروح القدس لا يستريح في النفس البشرية إلا بعدما تبتعد هذه النفس عن المؤثرات والأهواء التي أتت عليها نتيجة مرافقتها للجسد، والتي أدت بالتالي على انتزاعها من صداقتها لله.
فعندما يتنقى الإنسان من العار الذي أصابه بوقوعه في الرذيلة، ويرجع إلى الجمال الأصلي لطبيعته، التي هي الصورة الملوكية النقية، وترجع النفس إلى شكلها الأصلي، بعد هذا يمكن لها أن تقترب إلى ” الباراكليت “، الذي هو مثل الشمس، يجعل عينيك النقية ترى الصورة الحقيقية، صورة الله الغير مرئي، وتنظر الصورة المباركة لله، وتقترب من صورة الجمال الغير منطوق به ” للباراكليت “.
من خلال ” الباراكليت ” ترتفع القلوب إلى أعلى، والضعيف يقوده من يديه إلى الطريق السليم، والذين يحاولون أن يتقدموا في حياتهم الروحية يصل بهم إلى حالة الكمال. هو يشع على الذين نقّوا أنفسهم من كل دنس، ويجعلهم روحانيين بمرافقته لهم، تماما مثل الأشياء اللامعة والبراقة، التي عندما تسقط عليها أشعة الشمس، تظهر وكأنها أكثر لمعانا وبريقا، كذلك كل النفوس التي تحمل الروح القدس، تصبح مضيئة بالروح القدس، وهم أنفسهم يصبحوا روحانيين، ويشعوا على الآخرين بنعمتهم.
” الباراكليت ” هو القدوس: لاء النبوة وفهم الأسرار، وإدراك الأشياء الخفية، والحصول على العطايا السماوية، ومواطنة السماء، هذا المكان الذي فيه جنود الملائكة، والسعادة التي لا تنتهي، الإتحاد بالله، ونصبح شبه الله، بل والأعلى من كل هذا هو أن نصبح آلهة، هذه فقط بعض من أفكارنا التي تتعلق بالروح القدس، التي تعلمنا أن نتمسك بها، فيما يخص عظمته وعزته وجلاله وأفعاله، التي ننطق بها بنعمة الروح القدس.
إنعامات روح الله القدوس :
من هم الذين لا تنتعش أنفسهم عندما يسمعون كلمة ” الروح القدس ” ؟!، ومن هم الذين لا يرتفع تفكيرهم إلى الكائن الأسمى؟!، لأنه يدعى ” روح الله “، ” روح الحق “، الذي ” ينبثق من الآب “، ” روح الاستقامة “، ” الروح المرشد “. إن كل هذه الصفات المقدسة هي مندمجة ومتحدة ولا تتجزأ، فإن المرأة السامرية التي كانت تعتقد أننا سنسجد لله في مكان معين، فإن مخلصنا الصالح – لهذا الاندماج الغامض – قال لها ” الله روح ” ( يو 4: 24 ).
عندما نسمع عن الروح القدس، فإننا من المستحيل أن نعتبره طبيعة محدودة، ويتعرض للتغيير والتبديل، مثل أي مخلوق، ولكننا لابد أن نعلوا بعقولنا إلى العلو التام، ونؤمن بكل قوة على اعتباره جوهر عاقل لقوة غير محدودة، وعظمة لا نهائية، لا تقاس بالأوقات ولا العصور. إن الروح القدس هو كريم في عطاياه لكل المواهب الحسنة، إن لجأ إليه أحد يطلب منه المعونة التي يحتاجها للقداسة، أو يطلب منه أن يعيش في حياة الطهارة والفضيلة، فإنه يهبهم كلهم بعطاياه وهباته ومساعداته، حتى يصلوا إلى الطبيعة التي يريدونها، والنهاية الحسنة التي يرغبونها.
إن الروح القدس يكمل كل الأشياء، ولكنه هو بنفسه لا ينقص شيئا، لا يحتاج إلى إعادة حياة، وهو الذي يهب الحياة، لا ينمو بالتدريج، ولكنه كامل وثابت، ويوجد في كل مكان، هو منبع القداسة، وضوء العقل، ينير بذاته لكل عقل يطلبه بعد الإيمان به. يتعذر الوصول إليه بالطبيعة الجسدية، وصلاحه يشمل كل الخليقة، يحتوى كل الأشياء بقوته ويحل فقط في الذين هم مستحقين، لا يوزع هباته بمكيال واحد، ولكنه يوزعها بقدرته حسب درجة إيمان كل واحد.
هو روح بسيط، ولكنه يهب هبات مختلفة، كله موجود في كل واحد، وكله موجود في كل مكان. هو يُقسّم بدون أن يشعر بألم، يوزع على الكل بدون أن ينتهي، ولكنه يبقى كاملا إلى الأبد، مثل أشعة الشمس التي تلقى بخيراتها على كل شخص فيتمتع بها، كما لو كانت الشمس قد وُجدت له وحده، وفى نفس الوقت هي تضيء على الأرض والبحار وتخترق الأجواء.
هكذا أيضا يكون الروح القدس لكل الذين يستقبلونه، كأنه قد أعطى لهم وحدهم، وبهذا يسكب قوة كافية ونعمة غير ناقصة على الكل، ويتمتع به كل الذين يشتركون فيه، ليس حسب قدرة الروح القدس، فهو قادر على كل شيء، ولكن بقدرة طبيعة هؤلاء الأشخاص واستعدادهم ونموهم.
الامتلاء بالروح القدس:
بالروح القدس يتم رجوعنا إلى الفردوس وصعودنا إلى الملكوت السمائي، وتعود بنوتنا الحقيقية كأولاد وبنات الله[2]، وتكون حريتنا كاملة لندعوا الله أبانا[3]، وتتم مشاركتنا في نعمة المسيح، ويطلق علينا مرة أخرى أولاد النور، لنشارك في المجد السماوي. وباختصار امتلاؤنا بالنعمة في هذا الدهر، والدهر الآتي، ونحظى بالأشياء الجميلة المعدة لنا بالوعد، والتي ننظر نعمتها كما في مرآة، ونحن بشوق ننتظرها بالإيمان، كما لو كانت موجودة بالفعل. إذا كان هذا هو العربون فما أعظم المكافأة النهائية؟! وإذا كانت هذه هي الثمار الأولى فما أعظم الامتلاء؟!
قوة الروح القدس:
ما هي أعمال الروح القدس التي لا توصف في عظمتها، ولا تحصى في عددها لكثرة تعددها؟ كيف نستطيع أن نكوّن فكرة على هذا الذي يمتد عبر الأزمان ؟ ما هي مقدار القوة التي سيصنعها عبر الأزمان التي تأتى ؟
هو كائن، وقد كان، وسيكون فيما بعد، مع الآب والابن من قبل كل العصور. لو استطعت أن تكوّن فكرة عما يمتد فيما وراء الزمان ؟! فأنك ستجد الروح القدس فيما وراء هذا !. لو فكّرت في الخليقة فإن القوات السمائية قد أقسمت بالروح القدس، وإقامتهم في الحقيقة يكمن في أنهم لا يستطيعون أن يتركوا الصلاح. لأنه بالروح القدس، هذه القوات ترافق الله على الدوام، وهى هناك لا تستطيع أبداً أن تتجه إلى الشر، بل تثبت في القداسة إلى الأبد.
حينما تجسد ربنا يسوع المسيح، حيث الروح القدس كان هو الفاعل، ومجيئه كان بالجسد، ولكن الروح القدس لم ينفصل عنه. أعمال المعجزات ومواهب الشفاء كانت تصنع بالروح القدس، الشياطين كانت تخرج بروح الله، الشيطان أنحدر إلى الجحيم في حضرة الروح القدس، الخطايا غفرت بنعمة الروح القدس، أنت أيضاً اغتسلت وتقدست وتبررت في اسم الرب يسوع المسيح، وفى الروح الذي لإلهنا، الروح القدس هو الذي يعطى التبعية لله، ” الله أرسل روح ابنه في قلوبكم صارخا يا أبا الآب ” ( غلا 4: 6 )، إقامة الموتى هي عملية الروح القدس ” عندما ترسل روحك تخلق، وتجدد وجه الأرض ” ( مز 104: 30 ).
لو فهمنا عملية الخلق بأنها تعنى أن ترجع الحياة للذين كانوا قد ماتوا، إذاً كم هو عظيم عمل الروح القدس، الذي يمنحنا الحياة في القيامة، ويجعل النفس تعيش في انسجام مع الحياة الروحية ( التي هي عتيدة في القيامة ).
إن نفوسنا ترتفع متعجبة بشدة من أن عملية الخلق هذه تعنى التغيير إلى الأفضل، لهؤلاء الذين سقطوا في الخطية، كما يقول معلمنا بولس الرسول: ” هكذا إذا كان أي أحد في المسيح فهو يكون خليقة جديدة ” ( 2كو 5: 17 )، التغيير في هذه الحالة يعنى التجديد في هذه الحياة، والتحول من الشهوات العالمية إلى الطريق السمائى الذي يحدث بفعل الروح القدس.
بالنظر إلى كل هذه الأشياء، بالحقيقة أخشى إن أكون قد تعديت الحدود في شرح الشرف العظيم الذي للروح القدس، أو أكون قد أنقصت منه، لأن أفكارنا البشرية هي قاصرة عن أن تفهم ذلك الذي هو أعظم الأسماء ( الروح القدس ).
الروح القدس يغيرنا:
ليتنا نعود للموضوع الأساسي، عندما ننقى العقل من كل الاهتمامات العالمية، ونترك وراءنا كل أشكال الحياة المحسوسة ونرتفع بأنفسنا مثل سمكة من الأعماق إلى السطح، الآن ومن خلال خليقة نقية، نستطيع أن نرى الروح القدس والآب والابن الذي في نفس الطبيعة والجوهر، يظهر نفس الخير والصلاح والقداسة والوجود. فقد قال داود النبي ” روحك صالح ” ( مز 143 : 10)، وقال أيضاً ” روحك مستقيم ” ( مز 51: 10 ) وقال معلمنا بولس الرسول ” المعطى الحياة بفعل الروح ” ( رو 8: 11 ).
كل هذا ليس مستحدثاً أو جاء في الوجود متأخراً، لأن الدفيء لا ينفصل عن النار، ولا التألق عن الضوء، وأيضا قوة التقديس وإعطاء الحياة، مع صفة الخير والصلاح لا يمكن أن تنفصل عن الروح، لأن هنا تسكن الروح في الكيان الإلهي، وبالتالي لا نستطيع أن نحصيها في صيغة الجمع ولكن تظهر فقط في وحدانية الثالوث، وبدون انقسام. فبما أن الآب واحد والابن واحد كذلك الروح القدس أيضا واحد.
الملائكة القديسين الذين يسهرون على خدمة الروح القدس يظهروا لنا بشكل خاص أنهم يفوقوا العدد، ولكننا لا يجب أن ننظر إلى الخليقة بهذه الطريقة، بما يحدث خارجها، ونحكم على القداسة بالذين يُقدّسون، لأن الروح يملأ الملائكة ورؤساء الملائكة وهو يقدس قوتهم ويعطى كل شيء الحياة. فالروح القدس ينتشر من خلال كل الخليقة، ويعطى من جوهره بدون أن ينقص بمضي الزمان، ويوزع نعمته لكل شيء ولكن هو بالذات لا يتشتت، ولكن باستمرار يعيد امتلاء كل الذي يزوره
( المؤمنين به ) بدون أن يفقد أي شيء من نفسه، بالضبط مثل الشمس يشع ضوءها على كل شيء، وتعطى من نفسها،، ولكن لا يمكن أن تنقص بمرور الوقت، فالروح يجود بعطاياه ويبقى كاملاً غير منقسم، هو يضيء طريق الله لكل الذين يطلبونه، يلهم الأنبياء يعطى الحكمة للمشرعين، وروح الإرشاد للكهنة، يعطى القوة للملوك والثقة للنبلاء والحكام، يشفى المرضى ويقيم الموتى، يعتق الذين في القيود، يعول الذين لا عائل لهم .
إذا وجد عشاراً يجعله تلميذاً، وإذا قابل صياد سمكٍ يجعله ناطقا بالألوهيات، وإذا وجد مضطهدا للكنيسة يصيّره رسولاً ينشر الإيمان ويكون أداته المختارة. وهكذا يعمل الروح الضعيف يصير إلى القوة، والفقير يصبح غنيا، والجاهل يتحول إلى حكيم. رغم أن بولس كان ضعيفا، ولكن وجود الروح القدس بداخله أعطاه قوة، حتى ثيابه كانت تشفى الأمراض. وعندما كان بطرس محاطاً بالمرضى، كان ظله إذا وقع على أي مريض شفى في الحال من أسقامه.
بطرس ويوحنا كانا رجلان فقيران لا يملكا ذهبا أو فضة، ولكنهما أعطيا عطية شفاء الأمراض التي تعتبر ذات قيمة أفضل من أكوام من قطع الذهب. فقد كان هناك رجل مقعد، الذي أخذ مالاً من كثيرين، ولكنه استمر يعطى، ولكن بمجرد أن أخذ عطية بطرس قفز مثل الغزال يمجد الله ولم يعد يستعطى مرة أخرى. يوحنا الذي كان يجهل حكمة العالم كان قادرا وشاكرا على قوة الروح حتى أظهر الحكمة التي تفوق حكمة الحكماء.
الروح في السماء ولكنه يملأ الكون، وحاضر في كل مكان، ولا يمكن أن يكون مقيداً، هو كله موجود في كل شيء وكله أيضا موجود مع الله. يوزع العطايا ولكنه يختلف عن أي أحد آخر يعطى، لأنه يعطى بكامل سلطته، كما قال ربنا يسوع له المجد : ” لأن كل من له يعطى فيزداد ” (مت 25: 29). فإنه يجعل توزيعه بإرادته وبرغبته الحرة، ليتنا نصلى أن يكون دوما فينا، ولا يتركنا إلى الأبد، بنعمة إلهنا يسوع المسيح له القوة والمجد إلى الأبد آمين…
إيماننا ثابت:
أصدقائي الأعزاء رغم أننا صغار وضعفاء، إلا أننا كلنا متساويين أمام نعمة الله، التي لا يمكن أن تتغير بالظروف أو الأحداث، لأنه لا يوجد إيمان في سيلوكيا، وآخر في القسطنطينية، واحد في زيلا، واحد في لامبساكيوس وواحد في روما، والذين في المناطق المحيطة لا يختلفوا عن ذلك، لأن كل الإيمان واحد وغير مختلف، كلنا تعمدنا كوصية الرب يسوع، ولدينا إيمان ثابت لأننا تعمدنا على اسم الثالوث ونعبد الله كما نؤمن به.نحن لا نفصل الروح القدس عن الآب أو الابن، ولا ندّعى أنه أكثر أهمية من الآب أو الابن كبعض الهراطقة، الذين يحاولون أن يدّعو ذلك، من يتجاسر أن يرفض قوانين الله أو يقدر أن يرتب أسماؤه بالأوليات ؟! وأيضا لا ندّعى أن الروح القدس وُجد بعد الآب والابن، ولا أن دوره في الإرشاد بطريقة أو بأخرى أقل أهمية.
أننا نتأكد بالكلمات التي قالها الله ” كل خطية وتجديف يغفر للناس، أما التجديف على الروح القدس فلن يغفر لا في هذا العالم ولا في الآتي ” ( مت 12: 31 ).
احترس من التجديف على الروح القدس. استمر ثابتا على إيمانك وعندما تنظر حول الكنيسة تأكد أن جزءاً فقط منها هو المريض، أما الباقين كلهم استقبلوا الأخبار الجيدة إلى أبعد مدى وقبلوا هذا الإيمان الجيد والصحيح الذي نعلمّه.
نحن نصلى ألا نلقى خارجاً معهم في يوم الدينونة، عندما يوزع إلهنا يسوع المسيح مصيرنا كلّ حسب أعماله.