Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

القلب – العظة 43 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد

القلب – العظة 43 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد

القلب – العظة 43 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد

القلب – العظة 43 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد

عظة بخصوص نمو المسيحي وتقدمه، وأن كل قوة هذا النمو تعتمد على القلب، كما هو موصوف هنا بطرق متنوعة.

المصابيح:

كما أن الأنوار والمصابيح الكثيرة تشتعل من نار واحدة، وهذه الأنوار والمصابيح المشتعلة هي من طبيعة واحدة، كذلك المسيحيون يشتعلون ويضيئون من طبيعة واحدة، هي النار الإلهيّة، أي ابن الله، ولا مصابيحهم مشتعلة في قلوبهم، وتضيء قدامه، بينما هم يعيشون على الأرض كما أضاء هو. فإنه مكتوب: “من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن البهجة” (مز 45: 7).

ولهذا السبب سُمي مسيحًا، حتى إذا مُسحنا نحن أيضًا بنفس الدهن الذي مُسح به هو، فإننا نصير مُسحاء من نفس الطبيعة الواحدة والجسد الواحد. ومكتوب أيضًا “فإن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد” (عب 2: 11).

لذلك فالمسيحيون من وجهة معينة هم مثل المصابيح التي تحوي الزيت في داخلها، أي ثمار البرّ. ولكنهم إن لم يشتعلوا بالنور الإلهي في داخل نفوسهم فإنهم ليسوا شيئًا، ولقد كان الرب هو المصباح المشتعل، بسبب روح الله الحالّ في أعماقه والذي يشعل قلبه.

ولنأخذ مثالاً آخر: مثل الكيس البالي المملوء بالجواهر، هكذا أيضًا المسيحيون فإنهم ينبغي أن يكونوا متضعين ومحتقرين من الخارج، ولكنهم من الداخل في الإنسان الباطن، يملكون “الجوهرة الكثيرة الثمن” (مت 13: 46). بينما هناك آخرون يشبهون “قبورًا مبيضة تظهر من الخارج منقوشة ومزينة ولكن من الداخل مملوءة عظام أموات” (مت 23: 7) وعفونة كثيرة وأرواح نجسة. إنهم أموات أمام الله وهم لابسون كل عار وخزي ونجاسة مع ظلام العدو.

القاصر والابن:

يقول الرسول إن الطفل مادام قاصرًا فإنه تحت أوصياء ووكلاء (غل 4: 2)، من أرواح الشر التي لا تريد الطفل أن ينمو لئلا يصير إنسانًا بالغًا ويبدأ أن ينظر إلى الأمور المختصة ببيت أبيه ويمتلك السيادة كابن للبيت. فالمسيحي ينبغي أن يذكر الله في قلبه في كل الأوقات كما هو مكتوب “تحب الرب إلهك من كل قلبك” (تث 6: 5، مت 22: 37). فينبغي له أن يحب الرب ليس حين يذهب إلى مكان العبادة فقط، بل في السير والكلام والأكل يحتفظ بذكر الرب ويحبه بكل قلبه. إنه مكتوب “حيث يكون قلبك هناك يكون كنزك أيضًا” (مت 6: 21، لو 12: 34).

لأن ما يرتبط به قلب الإنسان وما تتجه إليه رغبته فهذا هو إلهه. فإن كان القلب يشتهي الله كل حين فيكون الله هو رب هذا القلب. أما إذا تخلى الإنسان عن أملاكه وتجرّد من كل شيء وصار بلا مأوى وكان يمارس الأصوام، ولكنه لا يزال متعلقًا بحب نفسه أو بحب الأشياء العالمية أو بحب بيته أو والديه فحيثما يكون قلبه مقيدًا ويكون عقله أسيرًا يكون هناك إلهه، ويكون قد خرج من العالم من الباب الأمامي ولكنه دخل ثانية إلى العالم وألقى نفسه فيه من الباب الجانبي.

الشياطين تتلاشى بقوة النار الإلهيّة:

وكما أن القضبان التي تُلقى في النار لا تستطيع أن تقاوم قوة النار بل تحترق سريعًا، هكذا فإن الشياطين التي تسعى أن تحارب ضد إنسان نال قوة بالروح، فإنها تحترق وتتلاشى بقوة النار الإلهيّة إن كان الإنسان ملتصقًا بالرب كل حين واضعًا ثقته ورجاءه فيه. وحتى إن كان الشياطين أشداء كالجبال القوية، فإنهم يحترقون بالصلاة، كما يذوب الشمع في النار.

ولكن في نفس الوقت هناك نضال كبير وحرب عظيمة للنفس ضد الشياطين وهناك تنانين وأفواه أسود ونار مشتعلة في النفس. فإن المنغمس في الشر تمامًا الذي يسكر بروح الإثم، لا يشبع من الشر سواء كان قتلاً أو زنى، أما المسيحيون المُعمّدون بالروح القدس فليس لهم شركة مع الشر بالمرة. ولكن أولئك الذين يختبرون النعمة ولكنهم مع ذلك يتهاونون مع الخطية فإن الخوف يسيطر عليهم فيعيشون حياتهم في اضطراب وقلق.

لأنه كما أن التجار أثناء سفرهم في البحر حتى إذا وجدوا الريح موافقة والبحر هادئًا، ولكنهم لأنهم لم يصلوا بعد إلى الميناء فإنهم لا يزالون معرّضين للخوف لئلا تهب فجأة ريح معاكسة، فتهيج البحر وترتفع الأمواج وتصبح السفينة في خطر، هكذا المسيحيون أيضًا حتى وإذا كان لهم في نفوسهم ريحًا موافقة من الروح القدس، إلاَّ أنهم يحترسون لئلا تثور عليهم روح القوة المضادة وتسبب الاضطرابات وتثير العواصف على نفوسهم.

الحاجة إلى السهر واليقظة:

لذلك، فهناك حاجة إلى سهر كثير ويقظة لكي ما نصل إلى ميناء الراحة في العالم الكامل، وإلى الحياة الدائمة والسعادة الأبديّة إلى مدينة القديسين، أورشليم السماويّة، إلى كنيسة الأبكار (عب 12: 23). فإذا لم يعبر الإنسان في هذه الدرجات فإنه يكون تحت تأثير الخوف من أن تسبب له القوى الشريرة سقوطًا في أي وقت من الأوقات.

حفظ الزرع الإلهي في القلب:

وكما أن المرأة التي تحمل يكون الجنين في داخل بطنها في ظلام ومختفيًا عن العيون، ولكن حينما يخرج الجنين في الميعاد المناسب من البطن فإنه يرى خليقة جديدة لم يكن قد رأها قبلاً، يرى السماء والأرض والشمس، ويبدأ الأصدقاء والأقرباء يأخذونه بين ذراعيهم بوجوه فرحة، ولكن إذا حدث شيء للجنين قبل ولادته حينئذٍ يتدخل الجراحون ويضطرون إلى استعمال الآلات الحادة حتى أن الطفل يعبر من موت إلى موت ومن ظلام إلى ظلام.

طبقوا هذا أيضًا على الحياة في الروح، فإن كل الذين نالوا الزرع الإلهي فإنهم ينالونه في الخفاء بطريقة غير منظورة، وبسبب الخطية الساكنة فيهم أيضًا فإنهم يخفون الزرع الإلهي في أماكن خفيّة في داخلهم. فإذا حفظوا نفوسهم وحفظوا الزرع الإلهي فإنهم في الوقت المناسب يُولدون ثانية بشكل منظور وبعد ذلك عند انحلال الجسد تستقبلهم الملائكة وكل الأرواح السماويّة بوجوه فرحة. ولكن إن كان الإنسان بعد أن ينال أسلحة المسيح ليقاتل بشجاعة، يتكاسل ويهمل، فإنه يقع في أيدي الأعداء وعند انحلال الجسد يعبر من الظلمة التي تحيط به الآن إلى ظلمة أردأ، وإلى الهلاك.

البستان والقلب:

مثل آخر: بستان يحوي أشجارًا كثيرة مثمرة ونباتات أخرى ذات رائحة وهو مُنسق تنسيقًا حسنًا وجميلاً، وله سور صغير ليحفظه، فإذا افترضنا أن نهرًا متدفقًا بقربه، فإنه حتى لو كان الماء الذي يصدم السور قليلاً فإنه يُفسد الأساس شيئًا فشيئًا ويحفر له مجرى حتى ينهدم السور من أساسه فتدخل المياه وتفسد النباتات وتقتلعها وتشوه جمال البستان وتجعله بلا ثمر.

هكذا الحال أيضًا مع قلب الإنسان. فالقلب فيه أفكار صالحة، ولكن أنهار الشر تجري دائمًا بالقرب من القلب وهي تسعى أن تشده إلى أسفل وتجتذبه إلى ناحيتها، فإذا مال العقل قليلاً إلى الطيش وإلى الأفكار النجسة، فإن أرواح الخطية تجد مكانًا فيه وتدخل وتفسد كل الجمال الذي كان للداخل وتمحو الأفكار الصالحة وتترك النفس خربة.

العين والقلب:

وكما أن العين عضو صغير بالمقارنة بكل أعضاء الجسم، وإنسان العين صغير جدًا إلاَّ أنه عظيم للغاية، فإنه بنظرة واحدة يرى السماء والنجوم والشمس والقمر والمدن والمخلوقات الأخرى. وهذه المخلوقات نفسها التي تُرى بنظرة واحدة، إنما تتشكل وتتصور في إنسان العين الصغير. هكذا أيضًا العقل بالنسبة إلى القلب، فالقلب صغير ومع ذلك يوجد فيه تنانين وأسود ووحوش سامة وكل ينابيع الشر إلى جانب المهالك والطرقات الوعرة الخشنة، وفي نفس الوقت يوجد فيه الله نفسه، والملائكة والرسل، ويوجد فيه الحياة والملكوت والنور، كذلك المدن السماويّة وكنوز النعمة كل هذه توجد فيه.

وكما أن السحابة إذا امتدت على العالم كله تجعل الإنسان لا يرى صاحبه، كذلك ظلمة هذا الدهر الممتدة على كل الخليقة وعلى كل الطبيعة البشريّة منذ وقت العصيان، فإن البشر منذ ذلك الحين إذ ظلّلتهم الظلمة، صاروا في الليل، وهم يصرفون حياتهم حيث الخوف والرعب. وكما يخيّم الدخان الكثيف على غرفة البيت، هكذا هي الخطية مع أفكارها النجسة، فإنها تملك على أفكار القلب وتزحف فيها، ومعها شياطين بلا عدد.

سماع الكلمة ونوال نعمة الروح:

وكما يحدث في الأمور المنظورة حولنا أنه في وقت الحرب، لا يذهب الحكماء والعظماء إلى الحرب، بل يذهب الرعاع والمساكين والأميون[1]، فإذا حدث أنهم انتصروا على الأعداء وطردوهم بعيدًا عن الحدود فإنهم ينالوا مكافأت وترقيات وأكاليل من الملك. وأما أولئك العظماء فإنهم يتخلفون وراءهم.

هكذا هو الحال أيضًا في المجال الروحاني فإن البسطاء يسمعون الكلمة ويعملون بها عن حب للحق وشوق في قلوبهم، فينالون من الله نعمة الروح. وأما الحكماء الذين يسعون وراء بلاغة الكلام بلا حب للحق فإنهم يهربون من الحرب ولا يتقدمون، وبذلك يصيرون وراء أولئك الذين حاربوا وانتصروا.

وكما أن الرياح عندما تهب بشدة، فإنها تهز كل المخلوقات التي تحت السماء وتصنع صوتًا عظيمًا جدًا، كذلك قوة العدو فإنها تهاجم الأفكار وتشوشها، وتهز أعماق القلب وتلقي في الفكر شكوكًا شريرة.

السعي في طلب النعمة:

وكما أنه يوجد مكّاسون[2] يجولون في الطرق الضيقة ويمسكون بالعابرين ويغتصبون منهم أموالهم، هكذا فإن الشياطين يتجسسون على النفوس ويحاولون أن يمسكوا بها. وعند خروج النفوس من الأجساد، فإنها إن لم تكن مُطهرة تمامًا فإنهم لا يدعونها تصعد إلى منازل السماء لتلاقي الرب بل تسقطها شياطين الهواء إلى أسفل.

وأما إن كانت وهي في الجسد تسعى وتطلب من الرب نوال النعمة التي من الأعالي فإن هذه النفوس بلا شك تشترك مع أولئك الذين سبق أن دخلوا بسيرتهم الفاضلة، وتمضي معهم إلى الرب كما وعد هو قائلاً: “حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي” (يو 12: 26). ويملكون إلى أبد الدهور مع الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى دهر الدهور آمين.

[1]  هكذا كان يحدث قديمًا.

[2]  محصلوا المكوس: أي الضرائب.

القلب – العظة 43 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version