حالة الإنسان بدون المسيح – العظة 28 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
العظة 28 للقديس مقاريوس الكبير – حالة الإنسان بدون المسيح – د. نصحى عبد الشهيد
وصف مصيبة النفس التي- بسبب الخطية- لا يسكن فيها الرب، والحزن والتأسف على حالة هذه النفس، وتشمل العظة أيضًا حديثًا يختص بيوحنا المعمدان، إنه لم يقم من بين المولودين من النساء من هو أعظم منه.
مصيبة النفس التي لا يسكن فيها المسيح:
كما أن الله لما غضب على اليهود مرة، سلّم أورشليم إلى أعدائها “وتسلط عليهم مبغضوهم” (مز 106: 41) ولم يعد فيها بعد ذلك لا عيد ولا تقدمة، هكذا أيضًا النفس البشريّة التي غضب الله عليها بسبب عصيانها لوصيته، فسلّمها لأعدائها، أي للشياطين والشهوات، لأنه حينما أغواها هؤلاء الأعداء، أفسدوها تمامًا وأهلكوها ولم يعد فيها أي عيد وفرح، ولم يرتفع فيها بخور أو تقدمة إلى الله. وعلاماتها وآثارها ضاعت ونسيت في الشوارع بينما الوحوش المرعبة وأرواح الشر الخبيثة سكنت فيها.
كما أن البيت إذا لم يكن له صاحب يسكن فيه فإنه يكون مملوء ظلامًا وعارًا ويُساء استخدامه ويمتليء بالأدناس والقذارة، هكذا النفس التي لا يكون الرب ساكنًا فيها مع ملائكته، يقيم أعيادًا وأفراحًا فيها، فإنها تمتليء بظلمة الخطية وعار الشهوات وكل أنواع الخزي.
وكم هو مرعب ذلك الطريق الذي لا يسير فيه أحد، ولا يُسمع فيه صوت إنسان إذ أنه يصير مسكنًا للوحوش ويا ويل النفس التي لا يسير فيها الرب، ولا يطرد بصوته وحوش الشر الروحانيّة منها! والويل للبيت الذي لا يسكن فيه السيد! والويل للأرض التي ليس لها فلاح يُفلّحها! والويل للسفينة التي ليس لها قائد، لأن الأمواج والزوابع تحملها وتتلفها.
ويا للأسف والويل على النفس التي لايكون فيها المسيح هو الربان الحقيقي، فإنها توجد في بحر مرارة الظلمة المرعب وتلاطمها أمواج الشهوات وتصدمها وتضربها عواصف أرواح الشر وتنتهي بالهلاك.
الويل للنفس التي ليس لها المسيح ليفلّحها بعنايته لكي تأتي بثمار الروح الصالحة. لأن النفس إذ تبقى مقفرة قاحلة، وإذ تمتليء بالأشواك والحسك تكون نهايتها حريق النار. ويا للأسف على النفس حينما لا يكون لها المسيح سيدًا ساكنًا فيها، إذا أنها تكون مهجورة ومملوءة برائحة الشهوات الكريهة وتكون مسكنًا للإثم.
وكما أن الفلاح حينما يذهب لفلاحة الأرض، ينبغي أن يأخذ معه الأدوات والملابس المناسبة للفلاحة، هكذا المسيح الملك- وهو الزارع السماوي الحقيقي- حينما جاء إلى البشريّة التي كانت مقفرة بسبب الخطية، فإنه لبس الجسد وحمل الصليب أداة له، وهكذا فلّح النفس المقفرة وعمل فيها ونزع منها شوك وحسك أرواح الشر واقتلع زوان الخطية وأحرق بالنار كل أعشاب خطاياها. فإنه فلّحها بخشبة الصليب وزرع فيها فردوس الروح الفائق الجمال الذي يحمل كل ثمر حلو مقبول لدى الله صاحب النفس ومالكها.
وكما حدث في مصر في فترة الثلاثة أيام المظلمة، أن الابن لم يكن يرى أبيه، ولا الأخ أخاه ولا الصديق صديقه، بسبب أن الظلمة غطتهم، هكذا أيضًا حينما تعدّى آدم الوصية وسقط من حالة مجده الأول وصار تحت سلطان روح العالم، غطى حجاب الظلمة نفسه. ومنذ ذلك الوقت وإلى أن جاء آدم الأخير (1 كو 15: 46) الذي هو الرب فإن الإنسان لم يكن يرى أباه السماوي الحقيقي ولا أمه الصالحة الرحيمة، التي هي نعمة الروح، ولا أخاه الحلو المحبوب الذي هو الرب يسوع، ولا أصدقاءه وأقرباءه أي الملائكة القديسين الذين كان يفرح معهم سابقًا ويهلّل ويعيّد.
انفتاح العيون الداخليّة:
ولكن ليس فقط إلى يوم أن جاء آدم الأخير بل وحتى إلى هذا اليوم فإن أولئك الذين لم تشرق عليهم “شمس البرّ” (ملاخي 4: 2)، أي المسيح، والذين لم تنفتح عيون نفسهم وتسنير بالنور الحقيقي، لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية وتحت نفس تأثير الشهوات وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب.
ينبغي على كل واحد أن يعرف هذا الأمر ويتحقق منه، إنه توجد عيون داخليّة أعمق من هذه العيون الطبيعيّة ويوجد سمع أعمق من هذا السمع. وكما أن هذه العيون الجسديّة تنظر وجه الصديق أو المحبوب وتتعرّف عليه فإن عيون النفس- المستحقة المؤمنة بسبب نوالها الاستنارة الروحيَّة بنور الله- تنظر الصديق الحقيقي الذي هو العريس المحبوب جدًا والحلو جدًا أي الرب، وتتعرف عليه، إذ تكون النفس مملوءة ومشمولة بإشراق الروح الممجّد.
وهكذا إذ ترى بالعقل ذلك الجمال المُشتهى والذي لا يمكن التعبير عنه فإن النفس تُجرح بشهوة الحب الإلهي وتتجه إلى كل فضائل الروح وتسير فيها وهكذا تمتلك حبًا- لا يُحدّ ولا يسقط- للرب الذي تشتاق إليه.
صوت يوحنا المعمدان- وكرازة الرسل:
وماذا يمكن أن يكون أكثر غبطة من الصوت الخالد ليوحنا عندما يشير إلى الرب أمام عيوننا قائلاً: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29).
حقا “من بين المولودين من النساء ليس أعظم من يوحنا المعمدان” (مت 11: 11) فإنه هو تكميل الأنبياء وخاتمتهم جميعًا. كل الأنبياء تنبأوا عن الرب وأشاروا من بعيد إلى مجيئه، أما يوحنا فتنبأ عن المخلّص وأظهره أمام عيون الجميع صارخًا بصوتٍ عالٍ وقائلاً “هوذا حمل الله” (يو 1: 29). فما أحلى وأجمل صوت ذلك الذي يُظهر المخلّص مباشرة ويعلنه مبشرًا به! إنه لا يوجد أعظم من يوحنا في مواليد الناس. “ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه” (مت 11: 11) أي المولودين من الله من فوق أي الرسل، الذين نالوا باكورة الروح المعزي.
ولأنهم حُسبوا أهلاً لأن يكونوا شركاء معه في الدينونة، فهم يجلسون معه في عرشه. وهم قد جُعلوا محررين ومنقذين للناس. فتجدهم يشقون بحر القوات الشريرة ويخرجون نفوس المؤمنين، وتجدهم فلاحين في كرم النفوس. وتجدهم أصدقاء للعريس، يخطبون النفوس للمسيح، كما يقول الرسول: “إني خطبتكم لزوج واحد” (2 كو 11: 2) وتجدهم يوصلون الحياة للناس. وبالاختصار تجدهم بطرقٍ كثيرة وأنواع مختلفة يخدمون الروح. هذا هو الصغير الذي هو أعظم من يوحنا المعمدان.
وكما أن الفلاح يقود زوج البقر مربوطًا بنير لكي يحرث الأرض، هكذا الرب يسوع الفلاح الصالح الحقيقي يقود الرسل معًا اثنين اثنين وقد أرسلهم لكي يفلّح ويحرث بهم أرض أولئك الذين يسمعون ويؤمنون حقيقةً. ولكن ينبغي أن نقول أيضًا إن ملكوت الله وكرازة الرسل ليست في الكلمة التي تُسمع فقط، مثل إنسان يعرف الكلمات ويستطيع أن يتكلم ويُسمّعها للآخرين، بل إن الملكوت هو قوة وعمل الروح.
وهذا ما حدث للأسف لبني إسرائيل الذين كانوا يدرسون الكتب المقدسة وكان الرب هو موضوع دراستهم ولكن لعدم نوالهم الحق نفسه، نُقل الميراث منهم إلى آخرين. هكذا أولئك الذين يشرحون كلمات الروح للغير، بينما هم أنفسهم لا يملكون الكلمة بقوة الروح، فإن الميراث يُنقل منهم إلى آخرين. والمجد للآب والابن والروح القدس إلى الأبد. آمين.