آبائيات

العظة 27 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النعمة وحرية الاختيار – د. نصحى عبد الشهيد

عظات القديس مقاريوس الكبير - د. نصحى عبد الشهيد - بيت التكريس لخدمة الكرازة

العظة 27 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النعمة وحرية الاختيار – د. نصحى عبد الشهيد

العظة 27 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النعمة وحرية الاختيار – د. نصحى عبد الشهيد
العظة 27 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النعمة وحرية الاختيار – د. نصحى عبد الشهيد

العظة 27 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النعمة وحرية الاختيار – د. نصحى عبد الشهيد

هذه العظة كسابقتها تصف كرامة وحالة الإنسان المسيحي. ثم تعلّم أمورًا نافعة كثيرة عن حريّة الإرادة مع بعض أسئلة مملوءة بحكمة إلهيّة.

كرامة الإنسان في المسيح:

اعرف أيها الإنسان سموك وكرامتك وشرفك عند الله، لكونك أخًا للمسيح، وصديقًا للملك، وعروسًا للعريس السماوي، لأن كل من استطاع أن يعرف كرامة نفسه، فإنه يستطيع أن يعرف قوة وأسرار اللاهوت. وبذلك يمكنه أن ينسحق ويتضع أكثر، ففي ضوء قوة الله يرى الإنسان خطورة حالته الساقطة. وكما أنه (المسيح) عبر الآلام والصليب قبل أن يتمجّد ويجلس عن يمين الآب، هكذا ينبغي لك أن تتألم معه، وتُصلب معه، وبذلك تصعد معه وتتحد بجسد المسيح، وتملك معه إلى الأبد في ذلك العالم، “إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه” (رو 8: 17).

لأن أولئك الذين يستطيعون أن يغلبوا ويجوزوا حصون الشر، فإنهم يدخلون إلى المدينة السماويَّة المملوءة بالسلام وأنواع الصالحات حيث “أرواح الأبرار” تجد راحة (عب 12: 23). لذلك ينبغي أن نكد ونتعب كثيرًا من أجل ذلك. فإنه لا يليق أن العريس الذي أتى من أجلك، يتألم، بينما العروس التي جاء لأجلها العريس تعيش في بلادة وتكاسل هائمة في العالم.

وكما أنه في الأمور العالمية تعطي الزانية نفسها لكل إنسان بدون تمييز في عهارة، هكذا النفس التي قد أعطت نفسها للشيطان حتى أفسدتها تلك الأرواح الشريرة. فإن البعض يخطئون ويفعلون الشر باختيارهم بينما البعض الآخر يخطئون رغمًا عنهم. فما مفي هذا؟ إن أولئك الذين يفعلون الشر باختيارهم هم الذين قد باعوا إرادتهم للشر، ويجدون لذتهم فيه ويعقدون معه صداقة. مثل هؤلاء هم متصالحون مع الشيطان ولا يحاربونه في أفكارهم.

وأما اولئك الذين يفعلون الشر بدون إرادتهم فهؤلاء تحارب الخطية في أعضائهم (رو 7: 23). وقوة وحجاب الظلمة تحارب ضد إرادتهم وهم لا يتوافقون معها في أفكارهم، ولا يجدون لذتهم فيها، ولا يطيعونها بل يحاربون ضدها في القول والفعل. وهم يغضبون مع أنفسهم. فهؤلاء هم أسمى جدًا وأكرم في عيني الله من الذين يبيعون إرادتهم للشر ويفرحون به.

فإذا افترضنا أن ملكًا وجد فتاة فقيرة تلبس خرقًا بالية، ولم يستنكف منها بل أخذها وجردها من ثيابها الرثة وغسلها من سوادها وزينها بملابس أنيقة مبهجة وجعلها شريكته وجليسته على مائدته، فهكذا الرب أيضًا قد وجد النفس مجروحة ومضروبة، وأعطاها الدواء وخلع عنها الثياب السوداء وأزال عنها عار الخطية وألبسها الملابس الملوكيّة السماويّة أي ملابس اللاهوت اللامعة المجيدة.

ووضع تاجًا على رأسها وجعلها شريكة مائدته الملوكيّة للفرح والبهجة. وكما في حالة الحديقة الجميلة حيث توجد أشجار مثمرة ويكون الهواء مُحملاً بالرائحة الزكية، وتوجد أماكن كثيرة جميلة ومُنعشة وذلك لبهجة وراحة أولئك الذين يذهبون إلى هناك، هكذا أيضًا تكون النفوس في الملكوت فإنها تكون جميعها في فرح وسعادة وسلام، ويكونون ملوكًا وأربابًا وآلهة. لأنه مكتوب “ملك الملوك ورب الأرباب” (1 تي 6: 15).

فالديانة المسيحيَّة ليست إذن شيئًا عاديًا، “هذا سر عظيم” (أف 5: 32)، لذلك فاعرف قدرتك وسموك لكونك دُعيت إلى الكرامة الملوكيّة “جنس مختار كهنوت ملوكي وأمة مقدسة” (1 بط 2: 9)، لأن سر المسيحيَّة هو غريب بالنسبة لهذا العالم.

والمجد المنظور الذي للإمبراطور أو الملك وكل غناه، إنما هو أرضي وفاني ومضمحل وأما ذلك الملكوت وذلك الغنى السماوي فهو إلهي سماوي ومملوء مجدًا وهو لا يفنى ولا يضمحل لأن مثل هؤلاء المسيحيون يملكون مع الملك السماوي في الكنيسة السماويّة “وهو البكر من الأموات” (كو 1: 18) وهم أيضًا أبكار، ولكن رغم أن هذه هي حالتهم وهم مختارون ومقبولون أمام الله، فإنهم يعتبرون أنفسهم أقل الكل وليس لهم أي استحقاق، وقد صار أمرًا طبيعيًا عندهم أن يعتبروا أنفسهم كلا شيء.

نفسي ليست ثمينة عندي:

سؤال: هل معنى ذلك أنهم لا يعرفون أنهم قد نالوا شيئًا زائدًا وأنهم قد حصلوا على ما لم يكن لهم قبلاً أي ما هو غريب عن طبيعتهم؟

جواب: ما أقوله هم إنهم لا يعتبرون أنفسهم مستحقين لمدح الله ورضاه، ويعتبرون أنهم لم يتقدموا ويرتقوا، وهم لا يعرفون كيف حصلوا على ما لم يكن لهم قبلاً. ولكن برغم كل ذلك فإن النعمة نفسها تأتي وتعلّمهم أن لا يحسبوا “نفوسهم ثمينة عندهم” (أع 20: 24) رغم أنهم قد نموا وتقدموا. بل وأن يحسبوا أنفسهم كأنهم من طبيعتهم لا قيمة لهم.

ورغم أنهم مكرّمون وأعزاء عند الله ولكنهمم ليسوا مكرّمون عند أنفسهم. ورغم أنهم ينمون ويتقدمون في معرفة الله، فإنه يكونون كأنهم لا يعرفون شيئًا ورغم كونهم أغنياء عند الله فإنهم يرون أنفسهم فقراء- وكما أن المسيح “أخذ صورة عبد” (في 2: 7) وغلب الشيطان بالتواضع، هكذا فإنه في البداية سقط الإنسان عن طريق الكبرياء والمجد الباطل بخداع الحيَّة، والآن فإن الحيَّة نفسها التي تختبيء في القلوب البشريّة تحاول أن تصرع وتهلك كثير من جنس المسيحيين عن طريق الكبرياء والمجد الباطل.

وإذا كان إنسان حرّ وكريم المولد بحسب العالم وعنده غنى كثير، وهو مستمر في تنمية ثروته وزيادة دخله، فإن مثل هذا الإنسان يفقد اتزانه ويصير معتدًا بذاته واضعًا ثقته في ذاته. هذا الإنسان يصير غير محتمل، ويبتديء يرفس الآخرين ويبطش بهم. هكذا يكون الحال أحيانًا مع بعض الأشخاص الذين ينقصهم التمييز، فإنهم بمجرد أن يبدأوا في تذوق الفرح والقوة في الصلاة، فإنهم يبتدأون أن ينتفخوا روحيًا، ويفقدون اتزانهم، ويبدأون في إدانة الآخرين ولذلك يسقطون إلى أسفل أعماق الأرض.

وأن الحيَّة نفسها التي طردت آدم من الفردوس عن طريق الكبرياء بقولها “ستكونان كالآلهة” (تك 3: 5)، لا تزال تلقي بأفكار الكبرياء في قلوب البشر قائلة لكل منهم ” أنت كامل، إن عندك كثير وأنت غني، ولا تحتاج شيئًا، إنك مغبوط وسعيد”.

وهناك أشخاص آخرون أغنياء بحسب هذا العالم ومستمرون في تنمية ثرواتهم، ومع ذلك فإنهم يحفظون أنفسهم في حدود بعض البصيرة والتمييز ولا يفتخرون أو ينتفخون بل يظلون متزنين لأنهم يعرفون أن الوفرة والغنى يمكن أن يعقبها القلّة والشح. وأيضًا حينما تحدث لهم الخسارة والقحط فإنهم لا ييأسون بل يحفظون توازنهم عالمين أن الرخاء والوفرة ستعود مرة أخرى، وبكثرة تمرنهم في وقت الخسارة لا يندهشون ويتحيرون.

المسيحيَّة تذوق عميق وأكل للحق باستمرار:

والمسيحيَّة في حقيقتها هي تذوق عميق للحق، هي أكل وشرب للحق، أن تأكل وأن تشرب، وهكذا تستمر تأكل وتشرب لتنال القوة والفاعليّة. وإذا افترضنا أن هناك عين ماء يأتي إليها شخص عطشان ويبدأ أن يشرب منها ولكن في أثناء شربه يأتي شخص آخر ويصده قبل أن يرتوي تمامًا كما يريد، فإن ذلك الإنسان العطشان يشتعل عطشًا أكثر إلى الماء، لأنه قد تذوق الماء ولذلك فإنه يطلبه بغيرة وجهد أكثر. هكذا أيضًا في المجال الروحاني فإن الإنسان يتذوق الطعام السماوي ويشترك فيه، ثم يأتي في أثناء ذلك ما يمنعه فلا ينال شبعه تمامًا.

سؤال: ولماذا لا يُسمح له أن ينال شبعه الكامل؟

جواب: إن الرب يعرف ضعف الإنسان، وأنه ينتفخ بسهولة، ولهذا السبب فإنه يحجز عنه الشبع ويسمح للإنسان بأن يُمتحن ويُجرّب. فإذا كنت تنال قليلاً من النعمة ومع ذلك تصير غير محتمل وتكون منتفخًا، فكيف يكون الحال لو أنك أُعطيت حتى الشبع مرة واحدة بدون أن يحجز عنك الشبع؟ ولكن الله إذ هو يعرف ضعفك تمامًا فإنه بعنايته يرتب أن تأتيك الشدائد لكي تتضع وتطلب الله بغيرة واجتهاد. وكما يحدث في حالة إنسان فقير في الماديات وجد كيس ذهب وبخفة الفرح بدأ يصيح: “لقد وجدت كيسًا من الذهب وصرت إنسانًا غنيًا” وحينئذٍ يسمع صاحب الكيس الذي فقده فيأتي ويأخذ ذهبه.

وإنسان آخر كان غنيًا، وفقد اتزانه وبدأ يرفس الناس، ويحتقر كل واحد، ويعظِّم نفسه على غيره من الأشخاص، وحينما سمع الإمبراطور عنه صادر كل ممتلكاته. وهكذا الأمر في المجال الروحاني. فحينما يتذوق بعض الأشخاص قليلاً من العزاء والنعمة، فإنهم لا يعرفون كيف ينتفعون بما نالوا، بل إنهم يفقدون حتى ما قد نالوه لأن الخطية تضلّهم وتُظلِم عقولهم.

النعمة والسقوط وحريّة الاختيار:

سؤال: كيف يسقط البعض بعد افتقاد النعمة له أفلا يصير الشيطان أضعف بواسطة النعمة؟ وحيث يكون النهار كيف يمكن أن يكون هناك ليل؟

جواب: ليس أن النعمة تنطفيء أو تضعف، بل إن إرادتك وحريتك تُمتحن لكي يتضح إلى أي اتجاه تميل، ولهذا، فإن النعمة تعطي فرصة لوجود الخطية. وحينئذٍ تقترب أنت ثانية من الرب باختيارك وتتوسل إليه أن تأتيك النعمة وتفتقدك. فإنه مكتوب “لا تطفئوا الروح” (1 تس 5: 19) فالروح نفسه لا يمكن أن ينطفيء، بل هو نور دائم، ولكن إذا كنت أنت مهملاً، فبعدم توافقك وتعاونك مع الروح فإنك تنطفيء وتفقد الروح.

وبالمثل يقول الكتاب “لا تحزنوا الروح القدس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف 4: 30) وأنت ترى هنا، أنك متروك لاختيارك وحريتك أن تكرم الروح القدس ولا تحزنه. وإني أؤكد لك أن حريّة الاختيار تظل باقية حتى في المسيحيين الكاملين الذين يُسبون بالصالحات ويسكرون بها، والنتيجة أنهم رغم تعرّضهم لآلاف من الشدائد والشرور فإنهم يتجهون إلى الصلاح.

وحينما يترك بعض الأشخاص- من ذوي الرتب والثراء والنسب- أموالهم ويلبسون ثيابًا فقيرة رثة ويقبلون المسكنة والإهانات بدلاً من التكريم والاحترام، ويحتملون الشدائد ويُحسبون بلا كرامة، فإنهم إنما يفعلون هذا باختيارهم وإرادتهم. وصدقني أن الرسل أنفسهم الذين كانوا كاملين في النعمة، لم تكن النعمة تمنعهم من أن يفعلوا ما يريدون، إن رغبوا أحيانًا أن يفعلوا شيئًا غير موافق للنعمة.

إن طبيعتنا البشريّة معرّضة لكل من الخير والشر، والقوة المعادية تعمل عن طريق الحث والإغراء وليس عن طريق الإجبار. وأنت تملك الحريّة أن تميل إلى الاتجاه الذي تريده. ألم تقرأ ما هو مكتوب أن بطرس “كان ملومًا” (غل 2: 11). وأن بولس قاومه مواجهة. فرغم كل ما كان عليه بطرس من نعمة فإنه استوجب التوبيخ. وبولس، مع كل الروحانيّة التي كان عليها، فإنه تشاجر مع برنابا حتى فارق أحدهما الآخر (أع 15: 39)، وبولس نفسه أيضًا يقول “اصلحوا أنتم الروحانيون مثل هذا.. ناظرًا إلى نفسك لئلا تُجرّب أنت أيضًا” (غل 6: 1). إذن فالروحانيون يُجربون لأن حريّة إرادتهم باقية، والأعداء يحاربونهم ماداموا في هذا العالم.

سؤال: ألم يكن الرسل يستطيعون أن يخطئوا لو أرادوا ذلك؟ أم أن النعمة كانت قوية جدًا فوق إرادتهم؟

جواب: إنهم لم يكونوا يستطيعون أن يخطئوا، لأنه لم يكن في استطاعتهم أن يختاروا الخطية لكونهم في النور وفي ملء النعمة. وأنا لا أقول إن النعمة كانت ضعيفة فيهم ولكن ما أقول إن النعمة تسمح حتى للأشخاص الروحانيّين الكاملين أن تكون لهم حريّة الإرادة، وأن يكون لهم السلطان أن يفعلوا ما يختارون، وأن يتجهوا الاتجاه الذي يرغبونه. والطبيعة البشريّة، إذ هي ضعيفة لها الإمكانيّة أن تميل إلى الشر حتى مع وجود الصلاح والنعمة فيها.

وكما أن هناك أناسًا يلبسون السلاح الكامل من الرأس إلى القدم مع الدروع وغيرها من الأسلحة، فإنهم حينئذٍ يكونون محفوظين في الداخل ولا يستطيع الأعداء أن يهاجموهم، فإنهم في استطاعتهم إمّا أن يستخدموا أسلحتهم ويحاربوا ويجاهدوا ضد الأعداء وينتصروا أو أن يصالحوا الأعداء ويعقدوا معهم صلحًا ويكفوا عن محاربتهم رغم أنهم يملكون السلاح. وبنفس الطريقة، فإن المسيحيين المسلحين بالقوة الكاملة والذين يملكون السلاح السماوي يستطيعون إن أرادوا أن يتصالحوا مع الشيطان ويكفوا عن الحرب. إن الطبيعة البشريّة معرّضة للتغيّر، والإنسان يستطيع إذا أراد أن يصير ابنًا لله أو ابنًا للهلاك. وفي هذا يتضح أن حريّة إرادتهم هي التي تحدد ماذا يكون.

أهمية الاختبار وبرهان الروح:

إن مجرد الحديث عن الأطعمة والمائدة شيء وأما أن تأكل وتتمتع بالطعام لتقوية أعضاء جسدك فهذا شيء آخر تمامًا. والحديث عن مشروب لذيذ بالكلمات شيء، وأما الاقتراب من الينبوع نفسه والشرب منه حتى الارتواء فهذا شيء آخر. وأن تتحدث عن الحروب وعن الأبطال والمحاربين الشجعان هذا شيء ولكن ذهاب الإنسان إلى المعركة في الطبيعة ومحاربة الأعداء وجهًا لوجه ومناوراتهم والأخذ والعطاء معهم والانتصار عليهم فهذا شيء آخر تمامًا.

وبالمثل في الأمور الروحيَّة: الكلام والحديث بالمعرفة والأفكار العقليّة هذا شيء، وأما الجوهر والحقيقة في ملء الاختبار وفي الإنسان الداخلي وامتلاك كنز ونعمة ومذاقة وفاعليّة الروح القدس في القلب فهذا شيء آخر. لأن أولئك الذين يتكلمون مجرد كلمات عارية يعيشون في أوهام، “وينتفخون في ذهنهم” (كو 2: 8).

والرسول يقول: ” وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة” (1 كو 2: 4) وأيضًا يقول: “إن غاية الوصية هي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء” (1 تي 1: 5). ومثل هذا الإنسان لا يسقط. وكثيرون من الذين يطلبون الله ينفتح لهم الباب ويبصرون الكنز ويدخلون فيه، وبينما هم يفرحون بهذا ويقولون “لقد وجدنا الكنز” فإنه يغلق الأبواب. ويبدأون بالصراخ والطلب والتوسل كثيرًا ويقولون “لقد وجدنا الكنز وضيعناه”. فإن النعمة تنسحب بقصد وتدبير لكي ما نسعى ونطلب باجتهاد وغيرة. والكنز يُكشف لنا لكيما يجعلنا نسعى في طلبه.

سؤال: يقول البعض إن الإنسان بعد أن ينال النعمة مرة فإنه يعبر من الموت إلى الحياة. فهل من الممكن لمن قد صار في النور أن تكون عنده أفكار غير طاهرة؟

جواب: مكتوب “أبعد ما ابتدأتم بالروح تكملون بالجسد” (غل 3: 3) وأيضًا يقول “البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس” (أف 6: 11).

وهذه النصوص تبين وجود وضعين: الأول هو الذي يكون فيه الشخص حينما يكون لابسًا سلاح الروح، والآخر حينما يحارب مع السلاطين والرؤساء سواء في النور أو الظلمة. ومكتوب أيضًا “لكي تقدروا أن تطفئوا سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16). وأيضًا “لا تُحزنوا روح الله القدوس” (أف 4: 30) و أيضًا “لأن الذين استُنيروا مرة وذاقوا موهبة الله وصاروا شركاء الروح القدس وسقطوا لا يمكن تجديدهم أبدًا” (عب 6: 4).

فهناك أولئك الذين استُنيروا وذاقوا الرب ومع ذلك يسقطون. ومن ذلك نرى أن الإنسان يملك الإرادة أن يحيا في توافق وانسجام مع الروح، وأيضًا يملك الإرادة أن يحزنه. وهو يأخذ الأسلحة لكي يذهب إلى المعركة ليحارب الأعداء. إنه بالتأكيد قد استنار حتى يمكن أن يحارب ضد الظلمة.

الفرق بين المواهب والمحبة الكاملة:

سؤال: ماذا يعني الرسول بقوله “إن كان لي كل علم وكل نبوة وأتكلم بألسنة الناس والملائكة فلست شيئًا” (1 كو 13: 1-3).

جواب: لا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أن الرسول ليس بشيء ولكنه يعني أن كل هذه المواهب ليست شيئًا بالمقارنة بالمحبة الكاملة، وهذه كلها لها أهمية قليلة. والذي له مثل هذه المواهب يمكن أن يسقط. أما الذي يملك المحبة فلا يمكن أن يسقط. وإنى أؤكد لكم هذا، إني قد رأيت أشخاصًا نالوا كل المواهب الروحيَّة وكانوا شركاء للروح ولكن لأنهم لم يصلوا إلى المحبة الكاملة فقد سقطوا.

وأحد هؤلاء- وقد كان من النبلاء- رفض العالم وباع كل ممتلكاته وأطلق عبيده أحرارًا، ولأنه كان ذو حكمة وفهم، فقد نال شهرة كبيرة بسبب شدة تنسكه في الحياة. ولكنه- في نفس الوقت- كانت له أفكار عالية عن نفسه، وكان متكبرًا، ففي نهاية الأمر سقط في نجاسة فاضحة وآلاف أمور رديئة.

وإنسان آخر في زمن الاضطهاد، قدَّم جسده وصار معترفًا. ولما انتهي زمان الاضطهاد وأُطلق حرًا صارت له شهرة عظيمة لأن جفون عينيه كانت محترقة. وأيضًا هذا الإنسان نال مجدًا كثيرًا من الناس وكانوا يطلبون صلواته وصار يأخذ منهم نقودًا وتقدمات ويعطيها لخادمه. وتغيرت أفكاره حتى صار كأنه لم يسبق له أن سمع كلمة الله. وآخر قدّم جسده في زمن الاضطهاد، وعلقوا جسده وجلدوه ثم ألقوه في السجن، وهناك كانت تخدمه إحدى الراهبات، وقد كوّن ألفة معها أثناء وجوده في السجن وسقط معها في الزنى. فانظر كيف أن الرجل الغني، بعد أن باع كل ممتلكاته، وكذلك الذي قدّم جسده للاستشهاد كلاهما يمكن أن يسقط.

كان هناك ناسك حكيم، وكان يعيش معي في إقامة واحدة وكان يصلي معي، وكان غنيًا جدًا في النعمة حتى أنه حينما كان يصلي بجواري كانت تغمره الندامة والدموع، وكانت النعمة تغلي في داخله. وقد أُعطي موهبة الشفاء، ولم يكن يطرد الشياطين فقط، بل كان يضع يديه على أولئك المربوطين والمعذبين بأمراض خطيرة فيشفيهم. ثم بعد ذلك بدأ يتهاون لأنه كان ينال مجدًا كثيرًا من العالم: وكان يجد متعة ولذة في هذا المجد، وصار منتفخًا.

وسقط إلى أعماق الخطية. فانظر كيف أن الذي كانت له موهبة الشفاء قد سقط. ألا ترى أنهم يسقطون قبل أن يصلوا إلى المحبة الكاملة. لأن الذي يصل إلى المحبة يؤسر منها ويسكر بها. إنه يغطس فيها ويُمسك أسيرًا في عالم آخر، وكأنه لا يعرف شيئًا عن طبيعته القديمة.

معنى “ما لم تره عين.. “:

سؤال: ما معنى الآية التي تقول: “ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر” (1 كو 2: 9)؟

جواب: في ذلك الزمان كان الأبرار والعظماء والملوك والأنبياء يعرفون أن المسيح لابد أن يأتي. ولكنهم لم يكونوا يعرفون ولا كانوا قد سمعوا أنه سيتألم ويُصلب ويُسفك دمه على الصليب ولم يخطر على بالهم أنه ستكون هناك معمودية بالنار والروح القدس وأن في الكنيسة ستُقدّم تقدمة الخبز والخمر مثالاً لجسده ودمه، وأن أولئك الذين يتناولون الخبز المنظور سيأكلون جسد الرب روحيًا، وأن الرسل والمسيحيين سينالون المعزي “ويتأيدون بالقوة من الأعالي” (لو 24: 49) ويمتلئون باللاهوت، وأن نفوسهم تمتزج بالروح القدس وتتشبع به، هذا لم يعرفه الأنبياء والملوك ولا خطر على قلبهم. والآن فإن المسيحيين يتمتعون بغنى عظيم يختلف عن غيره، وقلوبهم ممسوكة بشهوة اللاهوت، ولكن برغم كل ما يتمتعون به من فرح وتعزية فإنهم لا يزال عندهم، خوف ورعدة.

سؤال: أي خوف ورعدة؟

جواب: لئلا يتخذوا خطوة خاطئة، بل يظلون متوافقين مع النعمة. ومثل إنسان يملك كنوزًا كثيرة، ويسافر في رحلات حيث يوجد بعض اللصوص. فرغم أنه يفرح بغناه وكنوزه ولكنه يخاف لئلا يهاجمه اللصوص وينهبوه، ويكون كمن يحمل دمه على يديه. فانظر ها نحن من جهة الأمور الخارجيّة، قد تخلينا جميعًا عنها وصرنا غرباء لا نملك شيئًا، وتركنا كل عشرة جسديّة مع العالم.

والآن حينما يكون الجسد في وضع الصلاة فإن الإخوة هم الذين يرون هل العقل أيضًا متحد مع الجسد ومشترك في الصلاة أم لا؟ فإنه في حالة العمال المهرة والبنائين في العالم، فإنهم يكونون مقيدين بجسدهم وعقلهم ليلاً ونهارًا في حرفتهم. فانظر الآن جيدًا إلى نفسك: إنك متغرب بالنسبة للعالم، فهل عقلك متغرب عن العالم ولا يرتبط بأمور هذا العالم؟

إن كل إنسان في العالم، سواء كان جنديًا أو تاجرًا حيثما يكون جسده فإنه هناك يكون عقله وهناك يكون كنزه، كما هو مكتوب “حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا” (مت 6: 12).

ما هو كنزك؟:

والآن ما هو الكنز الذي يميل إليه قلبك ويسعى إليه. هل هو يميل كُلّيةً وتمامًا إلى الله أم لا؟ فإن لم يكن مائلاً إلى الله فأخبرني ما هو الذي يمنعك من ذلك، فبالتأكيد هناك الأروح الشريرة، أي الشيطان وجنوده الذين يجذبون العقل ويربطون النفس بالأغلال، لأن الشيطان ماكر جدًا وله حيل وخدع كثيرة من كل نوع، وهو يستولي على مراعي النفس وأفكارها ولا يدعها تصلي الصلاة الصحيحة وتقترب من الله. الطبيعة البشريّة عندها القابلية لتكوين شركة مع الشياطين وأرواح الشر، كما أن عندها قابلية أيضًا لتكوين الشركة مع الملائكة والروح القدس، فمن الممكن أن تكون هيكلاً للشيطان أو هيكلاً للروح القدس.

والآن افحصوا عقولكم يا إخوة، مع من أنتم في شركة؟ هل مع الملائكة أم مع الشياطين؟ وأنتم هيكل لمن: هل أنتم مسكن لله أم للشيطان؟ وما هو الكنز الذي يملأ قلبك: هل النعمة أم الشيطان. وكمثل بيت قد امتلأ بالروائح الكريهة والقذارة، ينبغي أن يتم تنظيفه تمامًا ويُنسق ويمتليء بكل رائحة طيبة وبكل الكنوز، لكي يأتي الروح القدس بدلاً من الشيطان ويجد راحة في قلوب المسيحيين.

وفي الحقيقة فإن الإنسان حينما يسمع كلمة الله لا يتحول في نفس اللحظة إلى جانب الصلاح. فلو أن مجرد الاستماع يجعله بين الصالحين لما كان هناك صراع أو أوقات حروب أو جهاد إذ أنه بمجرد سماعه فقط يتمتع براحة كاملة وبحالة سلام وكمال. ولكن حقيقة الأمر تختلف عن كل ذلك فإن الذين يظنون أن الأمور تسير هكذا إنما ينتزعون من الإنسان حريّة اختياره وأيضًا ينكرون بذلك وجود قوة معادية تحارب ضد الإنسان.

أما ما نقوله نحن فهو، إن الإنسان الذي يسمع الكلمة ويقبلها فإنها تقوده إلى التوبة، ثم بعد ذلك تنسحب النعمة قليلاً بتدبير عناية الله لأجل نمو الإنسان ومنفعته، فيدخل في التدريب ويتعلّم نظم الحرب، ويدخل في عراك وحرب ضد الشيطان وبعد كفاح طويل وعراك ينال الانتصار ويصير مسيحيًا. فلو كان مجرد الاستماع يجعل الإنسان من القديسين والصالحين لكان رجال اللهو وكل الزناة قد دخلوا إلى الملكوت والحياة الأبديّة. ولكنهم لن يُعطى لهم هذا بدون توبة وجهاد لأن الطريق مستقيم وضيق (مت 7: 14) وفي هذا الطريق الكرب ينبغي أن نسير ونحتمل الشدائد بصبر وهكذا ندخل إلى الحياة.

الاختيار بين الصلاح والشر- مكافأة اختيار الصلاح:

فلو أن النجاح الروحي ممكن بدون أي جهد، لما كانت المسيحيَّة “حجر صدمة وصخرة عثرة” (رو 9: 33). ولما كان هناك إيمان وعدم إيمان. وبذلك فإنك تجعل من الإنسان مخلوق على الضرورة والإجبار، غير قادر على الاتجاه إلى الخير أو إلى الشر. والقانون يُعطي فقط لمن يستطيع أن يتجه لأي من الاتجاهين- يُعطي لمن له الحريّة أن يدخل المعركة ضد القوة المعادية. ولا يمكن أن يوضع قانون لطبيعة تسير بالإجبار.

إن الشمس والسماء والأرض لا تحتاج أن تُسن لها قوانين، فإن مثل هذه المخلوقات طبيعتها محكومة جبريًا، ولهذا السبب فإنها لا تنال مكافأة ولا عقاب.. إن المكافأة والمجد إنما هي مُعدة لمن يتجه إلى الصلاح، أما جهنم والعقاب فهي مُعدة لهذه الطبيعة المتغيّرة، التي في استطاعتها أن تهرب من الشر، وتلقي بكل كيانها إلى الجانب اليمين أي جانب الصلاح والخير.

فإذا قلت إن الإنسان طبيعته غير متغيّرة فهذا يخالف حقيقة الواقع، ثم إنك تجعل الإنسان غير مستحق لأي مجد أو مدح من الله. فإن الذي هو صالح ورحوم بطبيعته، لا يستحق أي مدح على ذلك مع أن هذا (الصلاح والرحمة) أمر محبوب ومرغوب. إن من لا يصير في حالة الصلاح باختياره، لا يستحق المدح، مهما كان الصلاح مرغوبًا فيه. إن المدح إنما يستحقه ذلك الإنسان الذي يقرر هو شخصيًا ويتعهد مع الله بتعب واحتمال أن يكون الصلاح هو اتجاهه الشخصي واختياره الحرّ.

قوة العقل تعادل قوة الشرير- الانتصار بقوة النعمة:

فإذا كان معسكر الفرس في مواجهة معسكر الرومان فينبغي أن يخرج شاب مُجنح من كل معسكر منهما، لهما قوة متساوية ليصارعا في المعركة. فبالمثل فإن العقل البشري والقوة والمعادية هما متساويان في القوة في حربهما ضد بعضهما. فالشيطان يحث ويغري الإنسان لكي يتبعه، والإنسان له قوة معادلة ليرفض إيحاءاته ولا يطيعه بأي حال، وكل من الشر والخير يعمل عمله بالحث وليس الإجبار.

ومعونة النعمة الإلهيّة تُعطى لمن يختار الصلاح بحريته، وبدخوله في المعركة فإنه ينال الأسلحة السماويّة التي يستطيع بها أن يغلب الشر ويستأصله. أما أولئك الذين يقولون إن الخطية هي عملاق جبار والنفس هي كطفل صغير مخطئون فلو كان الأمر هكذا، حتى أن الخطية تكون قوة عملاقة، والنفس البشريّة في قوة طفل صغير، فيكون الله حينئذٍ ظالمًا، بإعطائه للإنسان قانونًا أن يحارب ضد الشيطان.

أساس الطريق الإلهي:

أن أساس طريق الله هو هذا: الصبر الكثير، والرجاء، والاتضاع، ومسكنة الروح التي أوصانا بها الرب، هي مثل علامات ولافتات في الطريق الملوكي لإرشاد المسافرين إلى المدينة السماويّة. لأنه يقول “طوبى للمساكين بالروح، طوبى للودعاء، طوبى لصانعي السلام” (مت 5: 3). وهذه هي المسيحيَّة. أما الذي لا يسير في هذا الطريق فإنه يضلّ إلى حيث لا طريق. ويكون قد بنى على غير أساس.

والمجد لتحننات الآب والابن والروح القدس إلى الأبد. آمين.