قوة سر الصليب والنار الإلهيّة – العظة 25 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
عظات القديس مقاريوس الكبير - د. نصحى عبد الشهيد - بيت التكريس لخدمة الكرازة
قوة سر الصليب والنار الإلهيّة – العظة 25 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
العظة 25 للقديس مقاريوس الكبير – قوة سر الصليب والنار الإلهيّة – د. نصحى عبد الشهيد
“هذه العظة تعلّم بأنه لا يستطيع إنسان، بدون أن يتأيد بالمسيح، أن يغلب
عثرات الشرير، وما ينبغي أن يفعله أولئك الذين يطلبون المجد الإلهي باشتياق،
وتعلم أيضًا أنه بواسطة عصيان آدم قد نزلنا جميعًا إلى عبودية الشهوات
اللحميّة، والتي أُنقذنا منها بالسرّ المختفي في الصليب، وتعلّم العظة أيضًا أن
قوة الدموع والنار الإلهيّة هي قوة عظيمة”.
السرّ الذي في الصليب:
أولئك الذين كُتب في داخلهم الناموس الإلهي، ليس بحبر وحروف بل هو مطبوع في قلوب لحمية، فهؤلاء إذ قد استنارت عيون أذهانهم ويتطلعون إلى الرجاء الذي لا يُلمس ولا يُرى بل هو غير منظور وغير مادي فهؤلاء يملكون القوة أن يغلبوا عثرات الشرير وذلك بقوة لا يمكن أن تُقهر.
أما أولئك الذين لم يُكرَّموا ويتشرفوا بكلمة الله ولم يتهذبوا بالشريعة الإلهيّة فإنهم “ينتفخون باطلاً” (كو 2: 8). وهم يظنون أنهم بإرادتهم الحرّة يستطيعون أن يقطعوا أسباب الخطية التي يُحكم عليها فقط بواسطة السرّ الذي في الصليب أن إرادة الإنسان الحرّة لها سلطان أن تقاوم الشيطان، ولكنها لا تمتد إلى السيادة المُطلقة على الشهوات. “فإن لم يبنِ الرب البيت- كما يقول الكتاب- وإن لم يحفظ المدينة فباطلاً يسهر الحارس، وباطلاً يتعب الباني” (مز 127: 1).
لأنه لا يستطيع أحد أن يطأ على “الأفعى والحية ويدوس الأسد والتنين” (مز 91: 13) إن لم يطهّر نفسه أولاً- بأقصى ما في طاقة الإنسان- وأن يتأيد بقوة ذلك الذي قال لرسله: “ها أنا أعطيكم السلطان لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو 10: 19).
حاجتنا للروح القدس للغلبة وللتبني:
فلو كانت طبيعة الإنسان لها القدرة بدون سلاح الروح القدس الكامل أن “تقف ضد مكايد إبليس” (أف 6: 11)، لما كان الرسول قد قال بتأكيد: “إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا” (رو 16: 20). وأيضًا “الذي سيبيده الرب بنفخة فمه” (2 تس 2: 8). لهذا السبب أيضًا قد أوصانا الرب أن نصلي ونطلب قائلين “ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير” (مت 6: 13). فإن لم تخلّصنا معونة القوة العليا من سهام الشرير الملتهبة، وإن لم نُحسب أهلاً لأن نكون أبناء بالتبني، فإن حياتنا على هذه الأرض تكون حينئذٍ باطلة وبلا هدف، إذ نوجد بعيدين عن قوة الله.
لذلك فمن يريد ويشتهي أن يصير شريكًا في المجد الإلهي، وأن يرى كما في مرآة صورة المسيح في داخل عقله، فينبغي أن يطلب معونة الله التي تتدفق منه بقوة- يطلبها بحب مشتعل لا ينطفيء وبرغبة حارة من كل قلبه وكل قدرته، ليلاً ونهارًا، هذه المعونة الإلهيّة التي لا يمكن نوالها، كما قلت سابقًا إن لم يتخلَ الإنسان عن لذة العالم وعن شهوات ورغبات القوة المعادية، والتي هي أجنبية عن النور ومخالفة له وهي من نشاط وعمل الشرير، وليس لها أي قرابة أو مشابهة لعمل الصلاح بل هي غريبة تمامًا عنه.
حالة الإنسان العتيق:
لذلك، فإذا أردنا أن نعرف لماذا نحن الذين قد خُلقنا في كرامة ووُضعنا لنحيا في الفردوس، صرنا بعد ذلك “مثل البهائم التي لا تفهم وشُبهنا بها” (مز 49: 12، 20)، إذ قد سقطنا من المجد الأصلي، فاعرف أننا بواسطة التعدي، صرنا عبيدًا للأهواء الجسديّة. لقد أخرجنا أنفسنا من “أرض الأحياء المغبوطة” (مز 116: 9) وسرنا إلى الأسر حيث لا نزال “جالسين على أنهار بابل” (مز 137: 1).
ولأننا لا نزال محبوسين في “مصر”، لذلك فإننا لم نرث بعد أرض الموعد، “التي تقيض لبنًا وعسلاً” (خر 3: 8). إتنا لم نتخمّر بعد “بخميرة الإخلاص” (1 كو 5: 8)، ولكننا لا نزال في “خميرة الشر”. إن قلبنا لم يُرش بعد بدم الله، لأن “فخ جهنم” (أم 9: 18 السبعينيّة)، وصنارة الخطية لا تزال منصوبة فيه.
إننا إلى الآن لم نقبل بهجة خلاص المسيح، لأن “شوكة الموت” (1 كو 15: 55) لا تزال جذورها فينا. إننا لم نلبس بعد “الإنسان الجديد، المخلوق بحسب الله في القداسة” (أف 5: 24). لأننا لم نخلع بعد “الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الخطية” (أف 4: 22). إننا لم نحمل بعد “صورة السماوي” (1 كو 15: 49). ولم نصر “مشابهين لصورة مجده” (في 3: 21). إننا لم نعبد الله “بالروح والحق” (يو 4: 24) لأن “الخطية تملك في جسدنا المائت” (رو 6: 12).
إننا لم نرَ بعد “مجد الله الذي لا يفنى” (رو 1: 23) لأننا لا نزال تحت سطوة “الليل المظلم” (مز2: 11). وإلى الآن لم “نلبس أسلحة النور” (رو 13: 12) لأننا لم نلقِ عنا سلاح الظلمة وسهامها وأعمالها. نحن “لم نتغيّر بعد عن شكلنا بتجديد أذهاننا”، لأننا لا نزال “مشاكلين ومطابقين لهذا العالم” (رو 12: 2)، “في الذهن الباطل” (أف 4: 17).
إننا لم “نتمجد بعد مع المسيح، لأننا لم نتألم بعد معه” (رو 8: 17). إننا لا “نحمل سماته بعد في جسدنا” (غل 6: 17) لأننا لا نحيا في سرّ صليب المسيح، لأننا لا نزال في “أهواء وشهوات الجسد” (غل 5: 24). إننا لم نصر بعد “ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو 8: 7)، لأن “روح العبودية” لا يزال فينا وليس “روح التبني” (رو 8: 15)، وحتى الآن لم “نصر هيكلاً ومسكنًا للروح القدس” (1 كو 3: 16)، لأننا لا نزال هيكلاً للأصنام ومستودعًا لأرواح الشر بسبب تعلقنا بالشهوات.
وفي الحقيقة أننا إلى الآن لم نحصل على بساطة السيرة واستنارة العقل. وإلى الآن لم نُحسب أهلاً لنوال “اللبن العقلي العديم الغش” (1 بط 2: 2)، والنمو الروحي غير المنظور. وإلى الآن لم ينفجر النهار ولم يطلع كوكب الصبح في قلوبنا (2 بط 1: 19). “إننا لم نمتزج بشمس البرّ” (ملا 4: 2). ولا ابتدأنا أن نضيء بأشعته. إننا لم نقبل بعد “شبه الرب” (تك 1: 26)، ولا صرنا “مشاركين للطبيعة الإلهيّة” (2 بط 1: 4).
وإلى الآن لم نتحوَّل إلى ذلك الأرجوان الملوكي الحقيقي، ولا صرنا صورة الله الحقيقيّة. إننا لم نسبى بعد بالحب الإلهي ولا انجرحنا بمحبة العريس الروحانيّة. إننا لم نعرف بعد تلك الشركة السرّية التي تفوق الوصف ولم نعرف القوة والسلام الموجودان في القداسة. وبكلمة واحدة فإننا لسنا بعد “جنسًا مختارًا، كهنوتًا ملوكيًا، أمة مقدسة، شعب اقتناء” (1 بط 2: 9) لأننا لا نزال إلى الآن “حيات أولاد أفاعي” (مت 23: 33).
أنوح وأبكي أمام الله على شقاوتنا:
وكيف لا نكون سوى حيات، ونحن لا نطيع الله بل نعيش في العصيان الذي دخل إلينا بواسطة الحيَّة. وأنا لا أستطيع أن أعرف كيف أبكي وأنوح على شقاوتنا هذه كما تستحق ولا أعرف كيف أصرخ بصوتٍ عالٍ باكيًا أمام الله الذي يستطيع وحده أن ينزع مني الخطأ المزروع فيَّ. “كيف أرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة” (مز 137: 4)، كيف أنوح على أورشليم؟ وكيف أهرب من عبودية فرعون القاسية؟ وكيف أهجر مكان الإقامة الدنس؟
وكيف أستطيع أن أنكر أو أجمد الطغيان المُرّ؟ وكيف أستطيع أن أخرج من أرض مصر؟ وكيف أستطيع أن أعبر البحر الأحمر؟ وأسير في وسط البرية الكبرى؟ وكيف أنجو من الهلاك بلدغات الحيات؟ وكيف أهزم الغرباء؟ وكيف أحكم الأمم الذين في داخلي تمامًا[1] ، وكيف أتقبل أقوال الشريعة الإلهيّة على ألواح قلبي؟ وكيف أرى عمود النور الحقيقي والسحاب الناشيء من الروح القدس؟ وكيف أتنعم بمَنّ البهجة الأبديّة؟ وكيف أشرب الماء من الصخرة المعطية الحياة؟ كيف أعبر الأردن وأدخل إلى أرض الموعد الجيدة؟ وكيف أعاين رئيس جند الرب الذي حينما رآه يشوع بن نون، خر في الحال ساجدًا؟.
ضرورة العبور والدخول إلى الراحة:
لأنني إن لم أعبر بكل هذه وأحطم الأمم الذين يعيشون في داخلي فإنني لن أستطيع أن أدخل إلى “أقداس الله” وأستريح (مز 73: 17). “ولا أصير شريكًا في مجد الملك”.
لذلك اسعَ بكل اجتهاد لتكون ابنًا لله بلا لوم، وأن “تدخل في تلك الراحة” (عب 4: 11)، حيث دخل المسيح كسابق لأجلنا (عب 6: 20).
اجتهد أن يكون اسمك مكتوبًا في “الكنيسة التي في السماء مع الأبرار” (عب 12: 23)، لكي توجد عن “يمين العظمة في الأعالي” (عب 1: 3). اسعَ أن تدخل إلى المدينة المقدسة، أورشليم مدينة السلام، التي هي فوق، فوق الكل، حيث يوجد الفردوس. فلا يوجد أمامك طريق آخر للدخول إلى هذه الأمجاد العجيبة السعيدة سوى أن تسكب الدموع نهارًا وليلاً مثل ذلك الذي قال “كل ليلة أعوم سريري وبدموعي أبل فراشي” (مز 6: 6).
وأنت تعرف جيدًا أن “الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج” (مز 126: 6). لهذا السبب فإن النبي يقول بكل صراحة “لا تسكت عن دموعي” (مز 39: 12). وأيضًا “أجعل دموعي أمام عينيك كما وعدت” (مز 56: 8). وأيضًا “دموعي صارت لي خبزًا نهارًا وليلاً” (مز 42: 3). وفي مزمور آخر “مزجت شرابي بدموعي” (مز 102: 9).
قوة الدموع:
لأن الدموع التي تُسكب حقًا من حزن كثير وكآبة قلب وبمعرفة للحق واحتراق في الداخل، إنما هي طعام للنفس يأتيها من الخبز السماوي الذي سبقت مريم وأخذت منه حينما جلست عند قدمي الرب وبكت بحسب ما شهد لها المخلص نفسه. فإنه قال: “لقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها” (لو 10: 42).
فما أثمن تلك الدرر، التي تتساقط مع انسكاب وفيض الدموع المغبوطة! ويا لتلك الاستجابة الفوريّة والانصات المستمر! وأي عقل قوي حكيم! ويا لشدة روح الرب، التي تتحرك بقوة نحو عريس بلا عيب! وأي رغبة شديدة وشوق في النفس إلى الله الكلمة! وأي شركة حميمة للعروس مع العريس السماوي!.
النار الإلهيّة:
فتمثل بها إذن يا ابني، اقتدِ بتلك التي ثبتت عينيها عليه وحده، ذلك الذي قال “جئت لألقي نارًا على الأرض فماذا لو اضطرمت” (لو 12: 49).
فهناك اشتعال للروح، هو الذي يُشعل القلوب نارًا. فإن النار الإلهيّة غير الماديّة لها فاعليّة لإنارة النفوس وتمحيصها كما يُمتحن الذهب النقي بنار البوتقة. ولكنها (النار الإلهيّة) تحرق كل شرّ مثل الأشواك والقيود “لأن إلهنا نارًا آكلة” (عب 12: 29) “معطيًا نقمة للذين لا يعرفون الله، في نار لهيب، وللذين لا يطيعون إنجيله” (2 تس 1: 8).
وهذه النار هي التي عملت في الرسل حينما تكلموا بألسنة ناريّة (أع 2: 25). هذه النار هي التي أحاطت ببولس، بالصوت الذي أنار عقله ولكنها أعمت بصره (أع 9: 3). فلم تكن رؤيته لقوة ذلك النور بدون الجسد. هذه النار ظهرت لموسى في العليقة، وهذه النار، في شكل مركبة هي التي اختطفت إيليا من الأرض (2 مل 4: 11). وداود المبارك كان يطلب فاعليّة هذه النار حينما قال “امتحني يارب، جربني محِّص كليتيَّ وقلبي” (مز 26: 2).
هذه النار هي التي ألهبت طالب كليوباس ورفيقه حينما تكلم المخلص معهما بعد القيامة. والملائكة والأرواح الخادمة تأخذ من لمعان هذه النار كما هو مكتوب “الصانع ملائكته أرواحًا وخدامه نارًا ملتهبة” (عب 1: 7). وهذه النار هي التي تحرق الخشبة التي في العين الداخليّة، لتجعل العقل نقيًا، حتى إذا استرد قوة رؤيته الطبيعيّة، يمكنه أن يتفرس بلا انقطاع في عجائب الله كما هو مكتوب “اقتح عيني، لكي أبصر عجائب من شريعتك” (مز 119: 18).
هذه النار أيضًا تطرد الشياطين، وتنزع الخطايا، ولها قوة القيامة، وفاعليّة قوة الخلود، وهي نور النفوس المقدسة، وسند القوات العاقلة.
فلنصلِ ولنتوسل أن تأتي إلينا أيضًا هذه النار، حتى بسيرنا دائمًا في النور، فإننا “لا تعثر بحجر أقدامنا” (مز 91: 12) ولا إلى لحظة واحدة، بل “نضيء كأنوار في العالم” “ممسكين بكلمة الحياة الأبدية” (في 2: 15)، حتى إذا تنعمنا بخيرات الله بين قديسيه، فإننا نجد راحة مع الرب في الحياة، ممجدين الآب والابن والروح القدس الذي له المجد إلى الأبد. آمين.
[1] يقصد الشعوب الوثنية وعبادة الأصنام الأهواء الشريرة.