الربح العظيم والخميرة السماوية – العظة 24 للقديس مقاريوس الكبير –د. نصحى عبد الشهيد
العظة 24 للقديس مقاريوس الكبير – الربح العظيم والخميرة السماوية – د. نصحى عبد الشهيد
حالة المسيحبين تشبه التجارة وتشبه الخميرة. وكما أن التجار يجمعون الأرباح
الأرضيّة، هكذا فإن المسيحيين يجمعون أفكارهم المشتتة في العالم. وكما أن
الخميرة تخمر العجين كله، هكذا فإن خمير الخطية يتغلغل في كل نسل آدم،
ولكن المسيح يسكب في النفوس المؤمنة خميرة الصلاح السماوية.
التجارة العظيمة:
إن المسيحيين يشبهون التجار الذين يتاجرون للمكاسب العظيمة وكما أن التجار يجمعون مكاسب أرضية من الأرض، هكذا المسيحيون أيضًا يجمعون أيضًا أفكار قلوبهم من الأرض كلها، التي تكون قد تشتّت في هذا العالم الحاضر. وهم يفعلون هذا بواسطة كل الفضائل وبمعونة قوة الروح القدس. وهذه هي التجارة العظمى والحقيقيّة.
لأن هذا العالم يتعارض مع العالم السماوي، وهذا الدهر هو مخالف للدهر الأبدي لذلك فينبغي على المسيحي، حسب تعليم الكتاب المقدس، أن يجحد العالم وينتقل ويرتفع بفكره عن هذا العالم الحاضر، (الذي يوجد فيه العقل الآن وهو يتعرض للإغراءات وذلك منذ سقوط آدم) إلى عالم آخر، العالم السماوي. وينبغي أن يحيا بفكره في العالم الإلهي في الأعالي كما هو مكتوب “إن سيرتنا هي في السموات” (في 3: 20).
ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إذا لم يجحد المسيحي هذا العالم ويؤمن بالرب من كل قلبه. وفي هذه الحالة فإن قوة الروح الإلهي تستطيع أن تجمع القلب المشتت في الأرض كلها وتأتي به إلى محبة الرب وتنقل الذهن إلى العالم الأبدي.
خميرة الشر:
لأنه منذ سقوط آدم، قد تشتت أفكار النفس بعيدًا عن محبة الله متجهة إلى هذا العالم، واختلطت بالأفكار الماديّة الأرضيّة. وكما أن آدم حينما تعدى قَبِلَ في ذاته خميرة الأهواء الشريرة وهكذا اشترك في هذه الخميرة كل الذين وُلدوا منه أي كل جنس البشر- وقد نمت وتكاثرت خميرة الشر في الناس حتى وصلوا إلى الفسق والنجاسة والدعارة وعبادة الأصنام والقتل وغيرها من الأعمال الشنيعة حتى تشبع الجنس البشري بخميرة الخطية. وتزايد الشر بين الناس للدرجة التي ظنوا فيها أنه لا يوجد إله وصاروا يعبدون الأحجار العديمة الحس ولم يستطيعوا حتى أن يتصوروا بفكرهم وجود الله. إلى هذه الدرجة قد تخمّر نسل آدم القديم كله بخميرة الأهواء الشريرة.
المسيح الفادي والخميرة السماوية:
وبنفس الطريقة فإن الرب، حينما أتى على الأرض، سُرّ أن يتألم عن الجميع لكي يشتريهم ويستردهم بدمه، ولكي يضع خميرة الصلاح السماوية في النفوس المؤمنة، التي كانت مسحوقة ومذلولة تحت الخطية- ثم سُرّ أيضًا أن يحقق ويكمل فيهم كل برّ أوصاهم به وكل فضيلة وذلك بواسطة عملية النمو والتقدم إلى أن يتخمروا إلى واحد في الصلاح، ويصيروا مع الرب “روحًا واحدًا”. كما يقول القديس بولس (1 كو 6: 17)، وحتى أن الخطية والشرّ لا تستطيع حتى بالفكر أن تأتي إلى النفس التي تتخمر هكذا تمامًا وكلية بالروح الإلهي كما هو مكتوب “المحبة لا تفكر بالشر” (1 كو 13: 5).
ولكن بدون الخميرة السماوية التي هي قوة الروح الإلهي، لا يمكن للشخص أن يتخمر بصلاح الرب ويصل إلى الحياة. كما أن أبناء آدم لم يكونوا ليخدعوا بالشر والخطية ويتحولوا إليها لو لم تكن خميرة الشر، التي هي الخطية، قد دخلت إلى آدم نفسه، تلك الخميرة الشريرة هي قوة من الشيطان ذات طبيعة روحيَّة عقليّة.
وكما يحدث في حالة الإنسان الذي يعجن دقيقًا بدون أن يضع فيه خميرة، فمهما كان الجهد الذي يبذله في تقليبه وعجنه، فإن العجينة تظل غير مخمرة وغير مناسبة للأكل، ولكن إذا وُضِعت الخميرة في العجين فإنها تجتذب كل كتلة العجين وتخمِّرها كلها وتجعلها خميرًا كما قال الرب في مثله عن الملكوت، “يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاث أكيال دقيق حتى اختمر الجميع” (مت 13: 33).
مزج خميرة الروح:
إذا كان إنسان عنده لحوم ويلزم أن يحفظها ولكنه لم يملّحها بالملح الذي يقتل الدود ويمنع الرائحة الكريهة، فإن اللحوم تنتن وتتعفن وتصبح غير صالحة لاستعمال الناس. وبنفس الطريقة انظر إلى كل جنس البشر وتصوّرهم كلحم أو كعجين غير مختمر وتيقن أن الملح والخميرة إنما ينتميان إلى عالم آخر، أي طبيعة الروح القدس الإلهيّة.
والآن إذا لم تمتزج خميرة الروح السماوية- ذلك الملح الصالح المقدس، ملح اللاهوت، الذي من فوق- إذا لم يمتزج ويدخل في طبيعة البشر الضعيفة فإن الإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من رائحة الخطية الكريهة. مثل ذلك الإنسان لا يتخمّر لكي يخلع عنه ثقل الخطية ويتحرر وينفك من حالة عدم التخمر (بالروح) الناتجة من الشر.
فكل ما يظن الشخص أنه يفعله بذاته، ويبذل جهدًا واهتمامًا وتعبًا كثيرًا في تتميمه معتمدًا على قواه الخاصة وحدها ويظن أنه يستطيع أن يحقق نجاحًا كاملاً بذاته، بدون معونة الروح القدس، فإنه يضل ضلالاً عظيمًا، فمثل هذا الموقف لا يناسب من يسعى إلى السماويَّات- إلى الملكوت. إذ أن مثل هذا الشخص يعتقد أنه يستطيع من ذاته وبذاته وحدها بدون الروح، أن يصل إلى النقاوة الكاملة.
فإذا لم يأتِ الإنسان- المعذب بالأهواء إلى الله منكرًا العالم، ويؤمن ويثق برجاء وصبر أنه سينال شيئًا صالحًا مختلفًا تمامًا عن طبيعته الخاصة، وأعني به قوة الروح القدس، وإن لم يسكب عليه الرب من فوق حياة اللاهوت، فإن هذا الإنسان لن يختبر الحياة الحقيقيّة أبدًا (الحياة الإلهيّة)، ولن يفيق من سكر الأمور الماديّة. ولن تضيء إنارة الروح- ساطعة بلمعان وبهاء- في تلك النفس المظلمة، ولن تنيره بنور “يوم مقدس” ولن يستيقظ من سبات الجهل العميق، ليمكنه إذا استيقظ أن يعرف الله حقيقة عن طريق قوة الله وفاعليّة نعمته.
لأنه إذا لم يُحسب الإنسان أهلاً بالإيمان، أن ينال النعمة فلا نفع فيه ولا يكون لائقًا للملكوت. ولكن من الجهة الأخرى فإنه إذا نال نعمة الروح ولم يتغير ذهنه أو إذا لم يقاوم النعمة بالإهمال أو رديء الأعمال، وهكذا يجاهد زمنًا لكي لا يحزن الروح، فإنه يحسب أهلاً للشركة في الحياة الأبديّة، فإنه كما أن الإنسان يدرك تأثيرات الشر عن طريق معرفته بالأهواء ذاتها، أعني عن طريق الغضب والشهوة والحسد والهم الرديء، والأفكار الشريرة وغير ذلك من الأشياء الخاطئة.
هكذا أيضًا يجب على الإنسان أن يدرك فعل النعمة وقوة الله عن طريق الفضائل، أعني عن طريق المحبة والشفقة والصلاح والفرح، والبساطة والبهجة الإلهيّة لكي يصير مشابهًا للطبيعة الصالحة الإلهيّة ومشتركًا معها بفاعليّة النعمة اللطيفة المقدِّسة وحينما تمتحن إرادة الإنسان مع الزمن والنمو وبحسب الفرصة (المتاحة له)، لكي يظهر ما إذا كان الإنسان متفقًا مع النعمة باستمرار ومرضيًا لها، فإنه بالتدريج يتحول ليصير متفقًا تمامًا مع الروح، وهكذا يصير مقدسًا ونقيًا بواسطة فعل الروح ويصير لائقًا للملكوت. والمجد والعبادة والسجود للآب الكلي الطهارة، وللابن وللروح القدس إلى الأبد. آمين.