الحرب الروحية – العظة 21 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
الحرب الروحية – العظة 21 للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
“الإنسان المسيحي يخوض معركتين، معركة داخليّة وأخرى خارجيّة. المعركة الخارجيّة هي في ابتعاده عن الارتباكات العالمية وأما المعركة الداخليّة فتحدث في القلب ضد إيحاءات أرواح الشر”.
الحرب الخارجية والحرب الداخلية:
الإنسان الذي يريد حقيقة أن يرضي الله ويكون معاديًا حقًا للعدو الشرير، ينبغي أن يقاتل في معركتين. معركة منهما تكون في الأمور المنظورة لهذه الحياة، وذلك بأن يتحول تمامًا ويبتعد من الارتباكات الأرضيّة ومحبة الارتباطات العالمية ومن الشهوات الخاطئة.
والمعركة الأخرى تحدث في الداخل- في الخفاء ضد أرواح الشر نفسها، كما يقول الرسول “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء، مع أجناد الشرّ الروحية في السماويَّات” (أف 6: 12).
نوعان من القيود:
فالإنسان حينما تعدى الوصية وطُرد من الفردوس، صار مقيدًا من ناحيتين، وبقيدين مختلفين. أحد هذين القيدين كان عن طريق هذه الحياة، أي في اهتمامات المعيشة ومحبة العالم، أعني محبة اللذّات الجسديّة والشهوات، ومحبة الغنى والعظمة والمقتنيات والزوجة والأولاد، والأقرباء والأهل والبلد، والأماكن الخاصة، والملابس وكل الأشياء الأخرى المتصلة بالحواس، والتي تحثه كلمة الله على أن ينفك منها باختياره، (حيث إن ما يربط أي إنسان بكل أمور الحواس إنما يكون باختياره ورضاه)، حتى إذا تحرر من كل هذه الاهتمامات يستطيع أن يحفظ الوصية حفظًا كاملاً.
وإلى جانب هذا الرباط- ففي كيان الإنسان الداخلي، تكون النفس محاصرة بسياج ومربوطة بقيود الظلمة من أرواح الشر، فيكون الإنسان غير قادر أن يحب الرب كما يريد، أو أن يؤمن كما ينبغي، أو أن يصلي كما يرغب. فمن كل ناحية توجد مقاومة سواء في الأمور المنظورة والظاهرة أو في الأمور الخفيّة غير المنظورة، وهذه المقاومة قد نتجت وصارت فينا من سقوط الإنسان الأول.
قبول الكلمة واكتشاف الحرب الداخليّة:
لذلك فحينما ينصت أي إنسان لكلمة الله ويقبلها، ويدخل في المعركة ويلقي عنه اهتمامات هذه الحياة ورباطات العالم وينكر كل اللذّات الجسديّة ويتحرر منها، فبعد ذلك إذ يلازم الرب وينتظره في الصلاة وبمداومة، فإنه يصير في وضع يمكنه من أن يكتشف وجود حرب أخرى في داخل قلبه، إنه يكتشف مقاومة خفيّة وحرب أخرى مع إيحاءات أرواح الشر وتنفتح أمامه معركة أخرى.
وهكذا بوقوفه ثابتًا صارخًا إلى الرب بإيمان لا يتزعزع وصبر كثير، منتظرًا الحماية والمعونة التي تأتي منه، فإنه يستطيع أن يحصل من الرب على حريّة داخليّة من القيود والسياجات والهجمات وظلام أرواح الشر التي تعمل في مجال الشهوات والأهواء الخفيّة.
نعمة الله تبطل الحرب تمامًا:
ولكن هذه الحرب تبطل وتنتهي تمامًا بنعمة الله وقوته. فلا يستطيع إنسان بذاته، أن ينقذ نفسه بقوته الخاصة من مقاومة وغوايات الأفكار والشهوات الداخليّة وحيل الشر.
أما إذا كان الإنسان مربوطًا بالأمور الماديّة الحسيّة التي لهذا العالم، وواقعًا في شرك الرباطات الأرضيّة المتنوعة ومنساقًا بشهوات الشر، فإنه لا يستطيع حتى أن يكتشف وجود معركة أخرى، وأن هناك حرب تدور في داخل نفسه.
فالإنسان حينما يدخل المعركة ويتحرر من الرباطات العالميّة الخارجيّة ويحل نفسه من الأمور الماديّة ولذات الجسد ويبتديء أن يتعلّق بالرب ويلتصق به مفرغًا نفسه من هذا العالم، فإنه حينئذٍ يستطيع أن يرى ويكتشف حرب الشهوات والأهواء الداخليّة التي تحدث في باطنه. ويصير واعيًا وعارفًا بهذه الحرب الداخليّة، حرب الإيحاءات الشريرة.
وكما قلت سابقًا، فإنه إذا لم يناضل وينكر العالم ويتحرّر من الشهوات الأرضيّة بكل قلبه ويشتهي ويصمم بكل نفسه أن يصير ملتصقًا كلية بالرب، فإنه لا يكتشف ولا يعرف خداع أرواح الشر الخفي وشهوات الشر الخفيّة. ويظل غريبًا عن نفسه ولا يعرف أنه مجروح من الداخل وأن فيه شهوات خفيّة وهو لا يدري بها. لأنه لا يزال مربوطًا بالأشياء الخارجيّة ومتعلقًا بأمور هذا العالم وارتباكاته برضاه وموافقته.
نوال السلاح السماوي والانتصار:
ولكن الإنسان الذي رفض العالم حقًا وطرح عنه ثقل هذه الأرض وألقى عنه الشهوات الباطلة الجسديّة، وشهوات المجد والسلطان والكرامات البشريّة وابتعد عنها جميعًا بكل قلبه- (حيث إن الرب يعطيه النعمة والمعونة سرًا في هذا الصراع المستمر، حتى أنه يتنكر للعالم تمامًا).
ووضع في قلبه بثبات أن يخدم الرب ويعبده ويلتصق به بكل كيانه، جسدًا ونفسًا، مثل هذا الإنسان، أقول، إنه يكتشف وجود المقاومة، أي الأهواء الخفيّة والقيود غير المنظورة والحرب الخفيّة- أي المعركة والصراع الداخلي، وهكذا إذ هو يتوسل إلى الرب، فإنه ينال السلاح السماوي: سلاح الروح القدس، الذي وصفه الرسول المبارك بقوله “درع البرّ، وخوذة الخلاص، وترس الإيمان، وسيف الروح” (أف 6: 14). وإذ يتسلح بهذه الأسلحة فإنه يستطيع أن يقف ضد خداعات إبليس، حتى رغم كونه محاطًا بالشرور.
وإذ قد سلّح نفسه بهذا السلاح بكل صلاة ومواظبة وطلبة وصوم مع إيمان، فإنه يصير قادرًا أن يحارب ضد الرئاسات والسلاطين وولاة ظلمة هذا العالم، وهكذا بانتصاره على القوات المعادية بمساعدة الروح القدس مع سعيه وغيرته في كل فضيلة فإنه يكون معدًا للحياة الأبديّة، ممجدًا للآب والابن والروح القدس الذي له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.