لباس الروح – العظة العشرون للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
لباس الروح – العظة العشرون للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
“المسيح، الطبيب الحقيقي للإنسان الداخلي، وهو يستطيع وحده أن يخلّص النفس، ويزيّنها بثوب النعمة”..
إن كان أحد عريانًا لقلة الملابس الإلهيّة السماويَّة التي هي قوة الروح القدس كقول الرسول “إن كان أحد ليس له روح المسيح فهو ليس من خاصته” (رو 8: 9). فليبكِ ويتوسل إلى الرب حتى ينال الثوب الروحاني الذي من السماء ويأخذ غطاءً لنفسه العارية من القوة الإلهيّة لأن الإنسان غير المكسو بكساء الروح هو مكسو بالعيب العظيم: عيب الأهواء الدنيئة.
لأنه كما في الأشياء المنظورة إن كان أحد عريانًا يحل به خزي وفضيحة عظيمة بل إن الأصدقاء ينصرفون عن أصدقائهم العرايا والأقارب عن أهاليهم. بل أن من البنين من رأوا أباهم عريانًا وصرفوا عنه وجوههم لكيلا يعاينوا جسد أبيهم العريان، وإنما رجعوا على أعقابهم وستروه. ولذلك ارتفعت عنه عيونهم. كذلك ينصرف الله عن النفوس غير المكسوة بلباس الروح في ملء ثقة الإيمان لكونها لم تلبس الرب يسوع (رو 13: 14). بالقوة والحق.
خطورة العري الروحي:
ثم أن الإنسان الأول لما رأي نفسه عريانًا خجل. فما أعظم فضيحة العري. فإذا كان من جهة الجسد يعتبر العري فضيحة كبرى، فكم بالحري النفس العارية من القوة الإلهيّة التي لا تكتسي ولا تلبس اللباس الأبدي الروحاني غير الموصوف وهو الرب يسوع نفسه بالحق- وهي مغطاة بالخجل والأهواء الرديئة، وكذلك كل من كان غير مكتسي بذلك المجد الإلهي يجب عليه أن يستحي ويقر بفضيحته كما استحى آدم من عري جسده.
ومع أنه ستر نفسه بورق التين فلم يزل خجله مصاحبًا له لعلمه بفقره وعريه جدًا. فعلى هذه النفس أن تطلب من المسيح الذي يعطي المجد لكي يكسوها بالمجد في النور الذي لا يوصف، بدون أن تعمل لنفسها غطاء من الأفكار الباطلة أو تنخدع بزعمها أنها بارة من نفسها وأنها تملك لباس الخلاص.
المسيح هو بر الله لنا:
فإنه إن استند أحد على بره ولم يتطلع إلى برّ الله، هذا البرّ الذي هو الرب يسوع “الذي صار لنا برًا وفداءً” (1 كو 1: 30). كما يقول الرسول، فإن تعبه يصبح باطلاً لا ثمرة له، لأن كل زعمه ببره يظهر في اليوم الأخير كلا شيء بل يكون مثل خرقة نجسة كما قال إشعياء النبي “كخرقة الحائض كل برنا” (انظر إش 64: 6).
فلنطلب إذن من الله ونتوسل إليه أن يلبسنا لباس الخلاص وهو الرب يسوع المسيح، النور الفائق الوصف الذي إذا لبسته النفوس لا تخلعه قط، بل تتمجد أجسادهم أيضًا في القيامة بمجد ذلك النور الذي تلبسه النفوس الآمينة الفاضلة منذ الآن حسب قول الرسول “إن ذلك الذي أقام المسيح من بين الأموات سيحيي أجسادهم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيهم” (رو 8: 11). فالمجد لمراحمه المتعطفة ولرأفته التي تفوق كل وصف وكل تعبير.
وأيضًا كما أن المرأة التي كانت معتلّة بنزف الدم لما صارت مؤمنة بالحق، ولمست طرف ثوب ربنا شفيت حالاً وانقطع نزيف دمها النجس، كذلك كل نفس فيها جرح الخطية الذي لا شفاء له، وينبوع الأفكار الخبيثة النجسة، إن هي أتت فقط إلى المسيح وصلت إليه بإيمان صحيح فإنها تعود إلى الصحة وتخلص من ينبوع الأهواء الفاسدة الذي لم يكن له علاج. وذلك الينبوع الذي يخرج أفكارًا نجسة لا ينقطع ويجف إلاَّ بقوة المسيح فقط، وليس لأحد غيره قدره على شفاء هذا الجرح.
لأن العدو كان محتالاً للغاية في معصية آدم حتى أنه جرح الإنسان الباطن وأظلمه أي العقل المرشد الذي ينظر الله. فمالت عيناه بعد ذلك إلى الخطية والأهواء وكانت مغلقة عن رؤية خيرات السماء.
المسيح وحده هو الذي يخلص ويشفي النفس مجانًا:
فهذه كانت شدة جرح آدم حتى أنه لم يستطع أن يشفه منه غير الرب وحده. فهذا مستطاع عنده وحده. ولهذا فقد جاء “ورفع خطية العالم” (يو 1: 29)، أي جفف الينبوع النجس. ينبوع أفكار النفس. لأنه كما أن تلك المرأة التي كانت مريضة بنزف الدم كانت قد صرفت كل ما كان لديها على الذين وعدوها بالشفاء ولم يشفها أحد، إلى أن أتت إلى الرب بإيمان صادق ولمست طرف ثوبه فشعرت حينئذٍ بالشفاء في الحال، ووقف نزف الدم. كذلك هو حال النفس التي جرحت منذ البدء بجرح أهواء الخطية الذي لا شفاء له، فلم يقدر أن يعالجه أحد من الأبرار. كلا ولا الآباء ولا البطاركة.
ولقد أتى موسى ولكنه لم يقدر أن يعطى شفاءً كاملاً. والكهنة والعطايا والعشور والسبوت والأهلة والغسلات والذبائح والمحرقات وسائر تفرعات البرّ كانت تحفظ جميعها بالدقة تحت الناموس. ومع ذلك لم يمكن بها شفاء النفس وتطهيرها من الينبوع النجس أي ينبوع أفكار الخطية. وكل برّ النفس لم ينفع لشفاء الإنسان إلى أن أتى المخلص نفسه الطبيب الحقيقي الذي يشفي مجانًا فبذل نفسه فداء لجنس البشر.
فهو وحده صنع فداء النفس العظيم وخلاصها وشفاءها، وهو ذاته الذي حرّرها من العبودية وأخرجها من الظلمة ممجدًا إياها بنوره الخاص. فهو حقًا جفف ينبوع الأفكار النجسة الذي كان فيها لأن الكتاب المقدس يقول “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29).
الدواء الوحيد:
لأن أدوية النفس التي كانت من الأرض، يعني أفعالها البارة لم تقدر أن تعالجها وتشفيها من هذه الضربة العظيمة غير المنظورة بل يتم الشفاء بالطبيعة السماويَّة الإلهيّة التي لموهبة الروح القدس. فإنه بواسطة هذا الدواء فقط يمكن للإنسان أن يجد الشفاء ويحصل على الحياة إذ يتطهر في قلبه بالروح القدس. ولكن كما أن تلك المرأة، بالرغم من أنها لم تكن قد شُفيت بعد وكان مرضها فيها، إلاَّ أنها جاءت بقدميها إلى الرب، وعند مجيئها نالت الشفاء.
وكما أن الأعمى أيضًا الذي لم يقدر أن يمشي ليأتي إلى الرب، بسبب عماه، صرخ إليه صرخة شديدة وصل بها إلى الرب لأنه قال “ارحمنى يا ابن داود” (مز 10: 47) وبإيمانه نال الشفاء إذ أن الرب أتاه بنفسه وجعله يبصر بوضوح. كذلك النفس ولو أنها جرحت بجروح الأهواء الفاسدة وعميت بظلمة الخطية فمع ذلك لا تزال فيها الإرادة أن تصرخ إلى يسوع وتناديه ليأتي ويصنع لها فداءً أبديًا.
ضرورة المجيء إلى المسيح بثقة الإيمان:
لأنه كما أن الأعمى لو لم يصرخ إلى الرب، والمرأة التي كان بها النزف الدموي لو لم تأتِ إليه لما وجدًا الشفاء، كذلك الآن إن لم يأتِ الإنسان إلى الرب بإرادته وبكل نية قلبه ويطلب منه بثقة الإيمان التامة فلا يشفي أبدًا. فلماذا شُفي هذان الاثنان للوقت بإيمانهما، ونحن لم يعد إلينا بصرنا بالحقيقة ولم نُشفَ من أمراضنا الخفيّة؟. إن الرب يهتم ويعتني بالنفس غير المائتة أكثر من الجسد، لأنها إن انفتحت عينيها، كما يقول “افتح عينيّ” (مز 119: 18) فلا تعمى أبدًا فيما بعد.
وإن شُفيت فلا تعود تنجرح أبدًا. فإنه إن كان الرب عند مجيئه على الأرض اعتنى بالأجساد الفاسدة، فكم بالحري يعتني بالنفس غير المائتة المصنوعة على شبهه؟ ولكن بسبب قلة إيماننا وانقسام قلوبنا وعدم محبتنا له من كل القلب، وعدم إيماننا به حقيقة، لذلك لم نجد بعد الشفاء الروحي والخلاص.
فلنؤمن به إذن ولنأتِ إليه بالحقيقة لكي يتم فينا حالاً عمل الشفاء الحقيقي لأنه وعد بأنه يعطي للذين يسألونه روحه القدوس ويفتح للذين يقرعون وبأن الذين يطلبونه يجدونه. فالذي وعد لا يمكن أن يكذب له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.