العظة التاسعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – وصايا المسيح والامتلاء من الروح القدس – د. نصحى عبد الشهيد
العظة التاسعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – وصايا المسيح والامتلاء من الروح القدس – د. نصحى عبد الشهيد
“المسيحيون الذين يريدون التقدم والنمو، ينبغي أن يغصبوا أنفسهم إلى كل ما هو صالح ليتحرروا من الخطية الساكنة فيهم وليمتلئوا من الروح القدس”..
الإيمان بثبات والمواظبة على الصلاة:
إن أراد أحد أن يأتي إلى الرب، وأن يوجد أهلاً للحياة الأبديّة، وأن يصير مسكنًا للمسيح وأن يمتليء بالروح القدس لكيما يستطيع أن يثمر ثمار الروح، ويتمم وصايا المسيح بنقاوة وبلا عيب، يجب عليه أن يبتديء أولاً بالإيمان بالرب بثبات، وأن يسلّم نفسه كلية إلى كلمات وصاياه، ويتخلى عن العالم تخليًا تامًا، لكي لا ينشغل عقله بالمرة بشيء عالمي.
ويجب عليه أيضًا أن يواظب دائمًا على الصلاة، وينتظر دائمًا بإيمان وتوقع افتقاد الرب وعونه، جاعلاً نظر عقله مثبت دائمًا نحوه. ثم ينبغي أن يغصب نفسه إلى كل عمل صالح وإلى وصايا الرب كلها، وذلك بسبب الخطية الساكنة فيه. فمثلاً، ليغصب نفسه إلى تواضع القلب مع جميع الناس، ويحسب نفسه أقل منهم وأردأ منهم، فلا يطلب كرامة أو مدحًا أو مجدًا من أي واحد من الناس، كما هو مكتوب في الإنجيل (يو 12: 44)، بل يضع الرب، ووصاياه، أمام عينه كل حين، راغبًا في أن يرضي الرب وحده بوداعة القلب، كما يقول الرب “تعلموا من لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 11: 29).
وصايا المسيح والصلاة بإيمان وثقة:
وبنفس الطريقة فليعود نفسه على أن يكون رحيمًا، شفوقًا رقيق القلب، صالحًا، بأقصى طاقة عنده. كما يقول الرب ” فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم” (لو 6: 36)، ويقول أيضًا “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي” (يو 14: 15) وأيضًا ” ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12). وأيضًا يقول “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” (لو 13: 24).
وفوق كل شيء فليحفظ في ذاكرته- بدون نسيان مطلقًا- تواضع الرب يسوع وسلوكه، ووداعته وسيرته، كمثاله الدائم أمام عينيه. وليواظب على الصلاة بمثابرة متوسلاً إلى الرب بإيمان وثقة لكي يأتي ويسكن فيه ويصير كاملاً، ويقويه في حفظ جميع وصاياه، وليصير الرب ذاته هو موضع سكنى نفسه وهكذا فإن الأشياء التي يفعلها الآن بالتغصب وبقلب معارض، يأتي يوم حين يفعلها برضى وإرادة منه، معودًا نفسه دائمًا على ما هو صالح، ومتفكرًا دائمًا في الرب، وينتظر الرب بمحبة كثيرة في الروح القدس.
ملء الروح وعمل الوصايا بدون صعوبة:
وحينما يرى الرب تشوّقه، واجتهاده الصالح، وكيف أنه يغصب نفسه لتذكر الرب وكيف يلزم قلبه بما هو صالح حتى لو كان بخلاف رغبته، ويلزمه بالتواضع والوداعة والمحبة بأقصى طاقة عنده، فإن الرب يتحنن عليه وينقذه من أعدائه، ومن الخطية الساكنة فيه، ويملأه بالروح القدس.
وهكذا فبعد ذلك يفعل كل وصايا الرب بالحق بدون تغصب أو صعوبة أو تعب، أو بالحري فإن الرب نفسه هو الذي يفعل وصاياه فيه، وحينئذٍ يخرج ثمار الروح بنقاوة.
يغصب نفسه إلى ما هو صالح (وصايا المسيح):
فالذي يأتي إلى الرب يلزمه أولاً أن يغصب نفسه إلى ما هو صالح حتى لو كان ضد ميل قلبه، منتظرًا دائمًا رحمة الرب بإيمان لا يتزعزع.
ويغصب نفسه إلى المحبة حينما تنقصه المحبة، ويغصب نفسه إلى الوداعة حينما لا تكون عنده وداعة، ويغصب نفسه إلى الشفقة إلى أن يكون له قلب حنون- وأن يغصب نفسه على تحمل الازدراء وأن يحتمله بصبر، وحينما يُحتقر أو يُعير، فلا يغضب، كما هو مكتوب “ولا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء” (رو 12: 19)- وليغصب نفسه إلى الصلاة حينما لا تكون له الصلاة الروحانيّة، وهكذا إذ يراه الله مجاهدًا وغاصبًا بالرغم من معارضة قلبه، فإنه يهب له صلاة الروح الحقيقيّة وينعم عيه بالمحبة الحقيقيّة، والوداعة وأحشاء الرأفات والشفقة الحقيقيّة، وباختصار فإنه يملأه بثمار الروح.
ولكن إن كان إنسان يغصب نفسه إلى الصلاة فقط لكي ما يحصل على نعمة الصلاة، ولكنه لا يغصب نفسه إلى الوداعة والتواضع والمحبة وبقية وصايا الرب ولا يهتم أو يتعب ويجتهد لكي يتمم هذه الوصايا- بقدر ما هو مستطاع لحريّة الإرادة وعزم القلب- فقد تعطى له أحيانًا نعمة الصلاة جزئيًا، مع تعزية وفرح من الروح بحسب ما سأل وطلب ولكنه يظل كما هو في صفاته وسلوكه. فيكون بلا وداعة، لأنه لم يطلبها باهتمام، ولم يعد نفسه ليقبلها فيصير وديعًا ويكون بلا تواضع لأنه لم يطلب التواضع، ولم يغصب نفسه إليه. ويكون بلا محبة من نحو الناس لأنه لم يهتم ويجتهد لكي يحصل عليها بالتوسل والصلاة وليس له إيمان وثقة في الله في تكميل ما عليه من الأعمال، لأنه لم يعرف نفسه، ولم يكتشف أن هذا هو ما يعوزه، ولم يبذل أي اهتمام أو جهد ليحصل على احتياجه، طالبًا من الرب أن يحصل على إيمان ثابت وثقة حقيقيّة فيه.
فإنه كما أن كل واحد يلزم ويغصب نفسه إلى الصلاة بالرغم من نفور القلب، هكذا ينبغي لمن يغصب نفسه أيضًا إلى الثقة بالله، وإلى التواضع، وإلى المحبة، وإلى الوداعة، وإلى الإخلاص والبساطة، وإلى “كل صبر وطول أناة بفرح” (كو 1: 11)، وأن يعتبر نفسه كلا شيء ويحسب نفسه أقل وآخر الكل، وهكذا يتجنب الدخول في المحادثات التي لا تنفع، بل يتأمل دائمًا في أمور الله ويتكلم بها، بفمه وقلبه، وأيضًا لا يكون غضوبًا أو ذا صخب وصراخ كما هو مكتوب “ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث” (أف 4: 31)، ويسير في طرق الرب كلها، في عمل الفضيلة وفي حياة صالحة نبيلة، في كل سيرة الصلاح وكل تواضع الوداعة، فلا يتشامخ ولا يتكبر ولا يتكلم في حق أي إنسان.
فينبغي أن يغصب الإنسان نفسه إلى كل الأشياء إن كان يريد أن يرضي المسيح ويسر قلبه، حتى أن الرب عندما يرى غيرته وعزم قلبه في غصب نفسه هكذا إلى كل الصلاح والبساطة والرحمة والتواضع والمحبة والصلاة وكيف أنه يسوق نفسه إليها جميعًا بالقوة، فإن الرب يعطيه ذاته- أي أن الرب نفسه بالحق يعمل فيه كل هذه الأشياء بنقاوة وبدون تعب أو تغضب، هذه الأشياء التي لم يكن يستطيع قبلاً أن يعملها حتى بالتغصب وذلك بسبب الخطية التي كانت ساكنة فيه، وتصير كل أعمال الفضيلة هذه طبيعة فيه. لأن الرب حينما يأتي ويسكن فيه وهو يسكن في الرب. فإن الرب نفسه يتمم فيه وصاياه بدون تعب مالئًا إياه بثمار الروح.
وأما إن غصب إنسان نفسه إلى الصلاة فقط لكي ينال موهبتها من الله ولكنه لا يغصب نفسه بنفس الطريقة ويلزم ويعود نفسه على كل هذه الأمور الأخرى، فإنه لا يستطيع أن يتمم هذه الأشياء بالحق، وبنقاوة وبلا عيب. فينبغي أن يعد نفسه بهذه الطريقة إلى ما هو صالح بأقصى طاقته، فإن النعمة الإلهيّة تأتيه أحيانًا وقت السؤال والصلاة والتضرعات. لأن الله صالح ورحيم والذين يسألون يعطيهم ما يسألون، وأما من كان خاليًا من الأشياء التي قد تكلمنا عنها ولم يعوّد أو يكيّف نفسه عليها مقدمًا، فإنه حتى إذا نال النعمة، فسيفقدها ويسقط بكبرياء أو على الأقل فهو لا يتقدم وينمو ويزداد في النعمة التي وُهبت له، لأنه لم يسلم نفسه إلى وصايا الرب بإرادته. لأن مكان سكنى الروح القدس وراحته هو التواضع والمحبة والوداعة وكل وصايا الرب الأخرى.
طاعة الوصية والمداومة على الصلاة:
لذلك فكل من يريد أن يرضي الله بالحق وأن ينال منه نعمة الروح القدس السماويَّة، وأن ينمو ويكمل في الروح القدس ينبغي له أن يغصب نفسه إلى كل وصايا الله ويخضع لها قلبه مهما كان رافضًا، كما هو مكتوب “لأجل هذا بإزاء كل وصاياك تقومت وكل طريق شر أبغضت” (مز 119: 128)، فكما يغصب الإنسان نفسه ويلزمها بالمثابرة في الصلاة إلى أن ينجح في ذلك هكذا بنفس الطريقة، إن أراد فقط، فإنه يستطيع أن يغصب ويلزم نفسه بكل ممارسات الفضيلة ويعود نفسه عادة حسنة، وهكذا إذ يداوم على الصلاة والسؤال من الرب وبحصوله على ما يطلب ونواله مذاقة الله وإذ يصير شريكًا في الروح القدس فإنه يجعل الموهبة التي مُنحت له تنمو وتزدهر، إذ يستريح مستقرًا في تواضعه، وفي المحبة والوداعة.
والروح نفسه يمنحه هذه الأشياء، ويعلّمه الصلاة الحقيقيّة، والمحبة الحقيقيّة، والوداعة الحقيقيّة، التي كان قبلاً يغصب نفسه إليها، وكان يطلبها ويهتم بها ويتأمل فيها، والآن أعطيت له، ولأنه نما هكذا وتكمل في الله، فإنه يحسب أهلاً أن يصير وارثًا للملكوت. فالمتواضع لا يسقط أبدًا. وإلى أين يسقط إذا كان هو تحت الكل؟ أما القلب المتشامخ فهو انحطاط عظيم، والقلب المتواضع هو ارتفاع عظيم وكرامة ومجد.
طلب الروح والصلاة بالروح وثمار الروح:
لذلك فلنغصب نفوسنا ونلزمها بالتواضع حتى ولو كان قلبنا غير راغب في ذلك، ونغصبها إلى الوداعة، وإلى المحبة، مصلين ومتوسلين إلى الله بالإيمان، والرجاء، والمحبة، وبلا انقطاع، وبانتظار وثبات، أن يرسل روحه إلى قلوبنا، حتى نصلي “ونسجد لله بالروح والحق” (يو 4: 24).
ولكيما يصلي الروح نفسه فينا، لكيما يعلمنا الروح بنفسه تلك الصلاة الحقيقيّة- التي لم نحصل عليها حتى الآن رغم أننا نغصب أنفسنا إليها، ويعلمنا التواضع الحقيقي الذي لا نستطيع الآن أن نصل إليه، حتى بالتغصب، ولكي يعلمنا أن نثمر بالحق أحشاء رأفات (كو 3: 12)، وشفقة، وكل وصايا الرب بدون تعب أو تغصب، كما يعرف الروح نفسه كيفية ذلك حين يملأنا بثماره.
وهكذا إذ نتمّم وصايا الرب بواسطة روحه، الذي هو وحده يعرف مشيئة الرب، وإذ يكمّلنا الروح في ذاته وهو نفسه يكمل فينا حينما نتطهر من كل دنس ولطخة الخطية، فإنه يحضر نفوسنا طاهرة وبلا عيب، كعرائس جميلات إلى المسيح، ونستريح في الله في ملكوته، ويستريح الله فينا إلى دهر الدهور.
فالمجد لتعطفاته، ورحمته ومحبته لأنه أعطى لجنس البشر مثل هذه الكرامة والمجد، وأنعم عليهم أن يصيروا أبناء للآب السماوي ودعاهم إخوة له خاصة. له المجد إلى الأبد آمين.