مسحة الروح القدس – العظة السابعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
مسحة الروح القدس – العظة السابعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
“مسحة المسيحيين الروحانية ومجدهم، وأنه بدون المسيح يستحيل الخلاص وتستحيل الشركة في الحياة الأبدية”
مسحة الروح:
المسيحيون الكاملون الذين حسبوا أهلاً للوصول إلى مقاييس الكمال والالتصاق جدًا بالملك (المسيح)، هؤلاء يكرسون أنفسهم دائمًا لصليب المسيح. وكما كانت المسحة في أيام الأنبياء هي أثمن من جميع الأشياء- إذ أن المسحة جعلتهم ملوكًا وأنبياءً، هكذا الأشخاص الروحيون الآن، الذين يمسحهم بالمسحة السماوية فإنه يصيرون مسحاء بحسب النعمة، فيكونون هم أيضًا ملوكًا وأنبياء للأسرار السماوية.
هؤلاء هم أبناء وأرباب وآلهة، مأسورون ومستعبدون لنعمة الله، ومستغرقون في العمق، مصلوبون ومكرسون. فإن كانت مسحة الزيت، التي استخرجت من نبات مادي- من شجرة منظورة لها كل هذه القوة، حتى أن أولئك الذين مُسحوا بها، نالوا كرامة فوق كل اعتبار- فإنه هكذا كانت القاعدة الثابتة التي بها يعينون ملكًا، فداود مثلا بعد أن مُسح، وقع في الحال في اضطهاد وآلام، ثم بعد سبع سنوات صار ملكًا- فكم بالحري جدًا كل الذين يُمسحون في العقل والإنسان الباطن بدهن البهجة (عب 1: 9) الذي يقدس ويبهج، الدهن السماوي الروحاني، ينالون علامة ذلك الملكوت الذي لا يفنى، والقوة الأبدية، عربون الروح (2 كو 5: 5)، أي الروح القدس المعزي. وهو يُسمى المعزي لأنه يعزي أولئك الذين في الشدائد.
الدخول منذ الآن ومعاينة النور:
فهؤلاء إذ قد مُسحوا من شجرة الحياة- أي يسوع المسيح الغرس السماوي، فإنهم ينالون امتياز المجيء إلى درجات الكمال، درجات الملكوت والتبني، ويكونون مشاركين حقيقيين في أسرار الملك السماوي وخفاياه، إذ يدخلون بحرية إلى القدير، يدخلون في قصره حيث يكون الملائكة وأرواح القديسين، وهم يدخلون منذ الآن بينما هم لا يزالون في هذا العالم.
ورغم أنهم لم ينالوا الميراث الكامل المُعد لهم في ذلك الدهر، فإنهم متيقنون- عن طريق العربون الذي قد نالوه الآن- كأنهم قد كُللوا وملكُوا، وإذ هم عتيدون أن يملكوا مع المسيح، فإنهم لا يستغربون وفرة وحرية فيض الروح. لماذا؟. لأنهم حصلوا- وهم لا يزالون في الجسد- على لذة حلاوته وعلى عمل قوته الفعالة.
فحينما يكون إنسان ما صديقًا للإمبراطور، ويعمل في قصره ويتعرف على أسراره وخفاياه، وينظر أرجوانه، فإذا صار ذلك الإنسان هو نفسه إمبراطورًا فيما بعد، وتُوج فإنه لا يندهش أو يُصدم (بما في القصر) حيث أنه سبق أن تدرب طويلاً في أسرار القصر وخفاياه.
فلا يستطيع شخص ساذج أو جاهل أو غريب عن خفايا القصر أن يدخل القصر ويملك، بل يستطيع ذلك فقط أولئك الذين لهم خبرة وتدرب، وكذلك المسيحيون الذين سيملكون في الدهر الآتي، فإنهم لا يستغربون، إذ أنهم سبق أن تعرفوا على أسرار النعمة وخفاياها. فحينما تعدى الإنسان الوصية ألقى الشيطان على النفس حجابًا مظلمًا. ثم تأتي النعمة فتزيل الحجاب تمامًا، حتى أن النفس إذ تصير نقية، وتستعيد طبيعتها الأصلية، وتصير صافية بلا عيب، فإنها تنظر دائمًا بصفاء- بعينها النقية- مجد النور الحقيقي، وشمس البر الحقيقية ساطعة بأشعتها داخل القلب نفسه.
وكما أنه في نهاية العالم تزول السماء (الجلد) ويعيش الأبرار حينئذٍ في الملكوت والنور والمجد ولا يعاينون شيئًا آخر سوى المسيح وهو جالس في المجد دائمًا عن يمين الآب، هؤلاء الناس يختطفون منذ الآن إلى ذلك الدهر الآتي ويؤسرون، وهناك يعاينون كل أنواع الجمال والبهاء والعجائب.
فنحن رغم أننا على الأرض فإن “مدينتا هي في السموات” (في 3: 20) إذ فيما يخص العقل والإنسان الباطن، نصرف وقتنا ونقوم بأنشطتنا في ذلك العالم. وكما أن العين الظاهرة- عندما تكون صافية- ترى الشمس دائمًا بوضوح، هكذا العقل المُطهر تمامًا فإنه دائمًا ينظر مجد نور المسيح ويكون مع الرب ليلاً ونهارًا، كما أن جسد الرب المتحد باللاهوت هو دائمًا مع الروح القدس.
قوة عمل النعمة وتأثير الخطية:
ولكن الناس لا يصلون إلى هذه المقاييس في لحظة، بل بالتعب والآلام والجهاد الكثير. لأن البعض منهم تعمل النعمة معهم وتسكن فيهم، ومع ذلك فالشر أيضًا يعمل فيهم في الداخل فكلٍ من النور والظلمة له عمل وتأثير على القلب الواحد بعينه.
ولكنك ستسألني قائلاً: “أي شركة للنور مع الظلمة” (2 كو 6: 14) وكيف يتأثر النور الإلهي أو يظلمْ؟ وكيف يمكن أن يتلوث ما هو طاهر ونقي؟ كما هو مكتوب “النور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه” (يو 1: 5) ولكننا لا يجب أن نفكر في هذه الأمور من وجه واحد وبدون تدقيق. فالبعض من الناس يستقرون في نعمة الله ويعتمدون عليها لدرجة عظيمة، حتى أنهم يصيرون أقوى من الخطية التي فيهم وينعمون بنعمة الصلاة وراحة كثيرة في الله، ولكنهم في لحظة أخرى يكونون تحت تأثير الأفكار الشريرة وينخدعون بالخطية بالرغم من كونهم لا يزالون في نعمة الله.
ولكن الناس ذوى العقول الخفيفة- الذين لم يدركوا حقيقة الأمر- حينما تعمل فيهم النعمة، إلى حدٍ ما، فإنهم يتخيلون أنه لم يبق هناك شيء اسمه الخطية. أما الذين لهم تمييز وفطنة فلا يجرؤون أن ينكروا أننا حتى مع حصولنا على نعمة الله فإننا معرضون لتأثير الأفكار الشريرة والمنجسة.
لقد وجدنا أمثلة كثيرة بين الإخوة الذين حصلوا على فرح عظيم ونعمة هذا مقدارها حتى أنهم لمدة خمس أو ست سنوات متتابعة جفت فيه الشهوة ولكنهم بعد ذلك حينما ظنوا أنهم صاروا أحرارًا تمامًا منها، فإن الشر الذي كان مختفيًا تحرك عليهم ثانية واشتعلت فيهم الشهوة، حتى أنهم تعجبوا وقالوا “من أين جاء علينا وقام ضدنا هذا الشر بعد كل هذا الوقت الطويل؟”.
فلا يجرؤ إنسان ذو عقل سليم أن يقول “حيث أن النعمة حاضرة في فأنا حر من الخطية على الإطلاق” والحقيقة إن كلاً من النعمة والخطية يكون لها- في ذلك الوقت- عمل وتأثير على القلب.
والذين ليس لهم خبرة في هذه الأمور، حينما تعمل فيهم النعمة بعض العمل، يتصورون أنهم قد وصلوا إلى الظفر الكامل وصاروا مسيحيين كاملين.
ولكن من جهتي أنا أقول أن حقيقة الأمر هي هكذا: حينما تكون الشمس في السماء مشرقة في جو صافٍ ثم تأتي السحب وتحيط بها وتغطيها، وتجعل الجو معتمًا، فإن الشمس مع ذلك تكون بعيدة جدًا ولا يضيع شيء من نورها ولا من جوهر طبيعتها، هكذا هو الأمر مع أولئك الذين لم يتطهروا ويتنقوا تنقية كاملة. أنهم يكونون في نعمة الله، ولكنهم ممسكين تحت السطح بالخطية ولذلك فإن حركاتهم الطبيعية، وأفكارهم الحقيقية، متجهة بقوة إلى الله وبالرغم من ذلك فإنها ليست مرتبطة ارتباطًا كليًا بالصلاح.
ومن الجهة الأخرى فهناك البعض الآخر هم مُمْسكين في العمق بقوة الخير والصلاح- قوة النعمة ومع ذلك لا يزالون في عبودية وخضوع للأفكار الشريرة وجانب الشر. لذلك فالأمر يحتاج إلى إفراز كثير لكي يعرف الإنسان بالاختبار أن حقيقة الأمر هي هكذا. وأني أذكر لكم أنه حتى الرسل رغم نوالهم المعزي في داخلهم لم يكونوا خالين تمامًا من الخوف فإلى جانب امتلائهم من الفرح والبهجة كان فيهم أيضًا خوف ورعدة ناشئة من النعمة نفسها وليست ناشئة من جانب الشر، وكانت النعمة نفسها تحفظهم. وتحرسهم لكي لا ينحرفوا أي انحراف.
فإذا رمى إنسان حجرًا صغيرًا على حائط فإنه لا يضر الحائط ولا يحركه من مكانه وإذا أطلق سهم على رجل يلبس درعًا فإنه لا يضر درع الحديد ولا جسم لابس الدرع لأنه ينعكس ويرتد إلى خلف. هكذا حتى إذا اقترب من الرسل جزء صغير من الشر، فإنه لم يكن ليجرحهم أو يضرهم لأنهم كانوا بقوة المسيح الكاملة وإذ كانوا كاملين، كانت لهم الحرية الكاملة لعمل البر بكل أنواعه.
إن البعض يقولون أن النفس بعد نوالها النعمة تصير بلا خوف ولكن الله يطلب إرادة النفس- حتى في الكاملين- لتصير في خدمة الروح، لكي يعملا كلاهما في توافق واتفاق.
فالرسول يقول “لا تطفئوا الروح” (1 تس 5: 19) فالبعض منهم كانوا غير راغبين أن يثقلوا على غيرهم، والبعض كانوا يسيرون على حدتهم، والبعض الآخر كانوا يأخذون من العائشين في العالم ويوزعون على الفقراء. وهذا كان أفضل.
لأن البعض تكون فيهم النعمة فيهتمون بنفوسهم فقط، بينما يسعى آخرون لمنفعة نفوس إخوتهم أيضًا وهؤلاء أفضل من الآخرين. والبعض من الذين لهم النعمة يسلمون أجسادهم للتعييرات والآلام من أجل اسم الله وهؤلاء أيضًا أفضل من أولئك. والبعض في سعيهم إلى الفضيلة يميلون إلى التشامخ وإلى نوال الكرامة والمديح من الناس، ويقولون إنهم مسيحيون وشركاء للروح القدس.
وآخرون يجتهدون في إخفاء أنفسهم حتى من مقابلة الناس وهؤلاء أفضل من أولئك الآخرين. وهكذا ترون أنه حتى في الكمال تكون الإرادة الصالحة نحو الله المتوافقة بتكامل مع الإرادة الطبيعية هي التي تعلو وتتفاضل كثيرًا جدًا.
الحديث الروحي بدون تذوق واختيار:
فإذا كان إنسان فقير، يرى نفسه غنيًا في حلم الليل، وحينما يستيقظ من النوم يجد نفسه فقيرًا عريانًا مرة أخرى. كذلك الذين يتحدثون الحديث الروحاني ويظهرون كأنهم يتحدثون بكفاءة تامة، ولكنهم إن لم يكونوا حاصلين على الشيء الذي يتحدثون عنه، متحققًا في قلوبهم بالتذوق والقوة والاختبار الشخصي فإنه لا يكون لهم سوى مظهر باطل وخيال وهمي.
أو مثل امرأة مزينة بالحرير ومتحلية بالجواهر وتعرض نفسها في مكان الفساد والعار، هكذا يكون قلب هؤلاء الناس مأوى للأرواح النجسة فإنهم يسرعون إلى التكلم والحديث عن البر بينما هم لم يتمتعوا حتى بنظرة لهذه الحقائق.
السمكة لا تستطيع أن تعيش خارج الماء، ولا يستطيع أحد أن يمشي بدون قدمين، أو يرى النور بدون عينين أو يتكلم بدون لسان أو يسمع بدون أذنين. هكذا بدون الرب يسوع وعمل قوته الإلهية، لا يستطيع أحد أن يعرف أسرار الله وحكمته، أو أن يحصل على الغنى الحقيقي ويصير مسيحيًا.
فإن الحكماء، المحاربين، الشجعان، وفلاسفة الله هم أولئك الذين ينقادون ويتغذون وينضبطون في الإنسان الباطن بالقوة الإلهية. إن فلاسفة اليونانيين يتعلمون صناعة الكلام بينما الآخرون هم “عاميون في الكلام” (2 كو 11: 6)، ويبتهجون ويفرحون متهللين بنعمة الله لأنهم رجال تقوى فلنحكم أيهما أفضل. فالرسول يقول “ملكوت الله ليس بكلام بل بالفعل والقوة” (1 كو 4: 20).
فإنه من السهل جدًا على أي إنسان أن يقول: “هذا الخبز مصنوع من القمح”. ولكن كان ينبغي أن يخبرنا عن كيفية إعداده وعجنه بالتفصيل. هكذا فإن التحدث عن التحرر من الأهواء وعن الكمال هو أمر سهل ولكن خبرة الوصول إلى الكمال ليست أمرًا هينًا.
فالإنجيل مثلاً يقول في اختصار “لا تغضب، لا تشتهي” وأيضًا “من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا” (مت 5: 39-40).
ولكن الرسول إذ يتتبع كيفية تتميم عمل التطهير فإنه بصبر ومثابرة قليلاً قليلاً يعلمنا بالتفصيل مغذيًا إيانا باللبن كالأطفال ثم يأتي بنا إلى النمو وإلى النضج الكامل. فالإنجيل قال: إن الثوب مصنوع من صوف الحملان (مت 7: 15)، ولكن الرسول أعلن بالتفصيل كيفية صنعه.
هكذا أولئك الذين يتحدثون بالأحاديث الروحية، بدون أن يتذوقوا ما يتحدثون عنه فإنهم يشبهون إنسانًا مسافرًا في صحراء مقفرة تحت أشعة الشمس المحرقة، وبسبب عطشه فإنه يتخيل صورة ينبوع ماء جارٍ ويرى نفسه وهو يشرب منه، بينما تكون شفتاه ولسانه كلها جافة مشتعلة من شدة العطش الذي يتملكه، أو كمثل إنسان يتحدث عن العسل ويقول أنه حلو، مع أنه لم يذقه قط، ولذلك فإنه لا يعرف قوة حلاوته.
هكذا هي حالة أولئك الذين يتحدثون عن الكمال والفرح، والتحرر من الأهواء دون أن يكون فيهم العمل الفعال أو المعرفة الشخصية لهذه الأمور، وليست الأشياء كلها كما يصفونها هم. وإذا حسب إنسان من هذا النوع، أهلاً لأن يكتشف الحقيقة، فإنه يقول في نفسه إني لم أجد الحقيقة كما كنت أظن، فإني كنت أتحدث في اتجاه، والروح يعمل في اتجاه آخر.
لأن المسيحية هي في الحقيقة طعام وشراب، فكلما أكل الإنسان منها ازداد قلبه ولعًا بحلاوتها، ولا يتوقف أو يكتفي بل يطلب المزيد، ويستمر يأكل بلا شبع أو امتلاء. فإذا أعطى شراب حلو لإنسان عطشان، فإنه بعد أن يتنوقه، يزداد ظمئًا إليه، ويشتاق إليه بحرارة أكثر من الأول. والحقيقة أن مذاقة الروح تشبه ذلك، ولكن بغير حدود، حتى أنه لا يوجد شيء يمكن أن يمثل به، وهذه ليست مجرد كلمات. فهذا هو فعل الروح القدس وعمله الذي يعمله في الخفاء في القلب.
القداسة هي نقاوة القلب:
إن البعض يتصورون أنهم صاروا قديسين بسبب امتناعهم عن الزواج وعن بعض أمور أخرى منظورة، ولكن الأمر ليس كذلك. فإن الخطية لا تزال تعيش وترفع رأسها في العقل وفي القلب. فإن القديس هو ذلك الذي يتنقى ويتقدس في الإنسان الباطن. وحيثما يرفع الحق رأسه، فهناك يبدأ الشر هجومه محاولاً أن يخفي الحق ويحجبه.
وحينما كان اليهود يمتلكون الكهنوت، فإن بعضًا من تلك الأمة كانوا يُضطهدون ويتألمون بسبب ثباتهم في الحق، مثل أليعازر والمكابيين. والآن بعد الصليب وانشقاق الحجاب، فارق الروح اليهود، وأما الآن فإن الحق كُشف هنا وهو يعمل هنا (في المؤمنين بالمسيح)، وهكذا فإن البعض من هذه الأمة (المسيحيين) يُضطهدون بدورهم. إن الاضطهاد والشدائد تقع على المؤمنين، لكي يستطيع محبي الحق أن يشهدوا له لأنه كيف يظهر الحق إن لم يكن له أعداء، الذين هم الكذبة والمقاومون للحق…؟
وحتى بين الإخوة، يوجد البعض ممن يحتملون آلام وشدائد كثيرة، ومع ذلك يحتاجون إلى احتراس كثير لكي لا يسقطوا.
كان أحد الإخوة مرة في صلاة مع آخر، وأُسر من القوة الإلهية واختطف ورأي أورشليم العليا ومناظرها المضيئة، والنور اللانهائي، وسمع صوتًا يقول هذا هو مكان راحة الأبرار، وبعد وقت قصير، انتفخ في نفسه وظن أن الرؤيا التي رآها هي مختصة به وتنسب إليه، وبعد ذلك سقط إلى أعماق الخطية، وآلاف أمور شريرة.
فإن كان الذي دخل إلى الداخل والمتقدم كثيرًا سقط هكذا، فكيف يستطيع الشخص العادي أن يقول ” أني بصومي وتغربي، وتوزيع كل أموالي قد صرت قديسًا؟”.
إن مجرد الامتناع عن الشرور ليس هو الكمال، بل إن دخلت إلى قلبك الخرب وذبحت الحية القتالة التي تكمن تحت العقل، تحت سطح الأفكار، وتختبيء داخل ما نسميه مخادع النفس ومخازنها الخفية. إن القلب هوة عميقة، فقط إن كنت تقتل هذه الحية وتخرج خارجًا كل ما كان فيك من النجاسة فحينئذٍ تتحول إلى النقاوة. فإن كل الفلاسفة والناموس والأنبياء بل مجيء المخلص، كل ذلك كان من أجل الطهارة. فكل الناس يهودًا كانوا أم أممًا يحبون الطهارة، رغم أنهم لا يستطيعون أن يكونوا أطهارًا. فينبغي أن نستمر في البحث عن الكيفية والوسائل التي نحصل بها على نقاوة القلب.
طريق النقاوة:
وبالتأكيد لا يوجد طريق آخر سوى بواسطة ذلك الذي صُلب لأجلنا. فهو الطريق والحياة والحق، والباب والجوهرة، والخبز الحي السماوي. وبدون هذا الحق تستحيل معرفة الحق، أي يستحيل الخلاص.
فكما أنه من جهة الأمور المنظورة، قد تخليت عن كل شيء ووزعت أموالك، هكذا أيضًا من جهة الحكمة العالمية، فإن كان لك علم وفصاحة كلام، فإنك ينبغي أن ترذلها وتعتبرها كلا شيء، حتى تستطيع أن تتهذب وتبنى “بجهالة الكرازة” (1 كو 1: 21)، هذه الكرازة التي هي الحكمة الحقيقية التي لا تعتمد على عظمة وغرور الكلمة، بل لها قوة تعمل بفاعلية بواسطة الصليب المقدس. فالمجد للثالوث الواحد في الجوهر إلى الأبد. آمين.