القداسة والنقاوة – العظة الخامسة عشر للقديس مقاريوس الكبير
العظة الخامسة عشر للقديس مقاريوس الكبير – القداسة والنقاوة – د. نصحى عبد الشهيد
“هذه العظة تعلّم بالتفصيل، كيف ينبغي على النفس أن تسعى بالقداسة والطهارة
والنقاوة نحو عريسها يسوع المسيح مخلِّص العالم. وتحتوي أيضًا على بعض
مناقشات مملوءة بفوائد عظيمة مثل: هل تقوم جميع الأعضاء في القيامة كاملة؟
وعن الشر، وعن الإرادة الحرّة وعن كرامة الطبيعة البشريّة”
خطبة المسيح للنفس:
إذا كان إنسان غنيًا جدًا وهو ملك عظيم، ويضع قلبه على امرأة فقيرة لا تملك شيئًا سوى نفسها. ويصير محبًا لها ويرغب أن يأخذها لتعيش معه عروسًا له فحينئذٍ، إن هي أظهرت كل سخاء وخير ومحبة زوجها، مخصصةً أيضًا حبها له، فإن تلك المرأة الفقيرة المسكينة التي لم تكن تملك شيئًا تصير سيدة مالكة لكل ما يخص زوجها.
ومن الناحية الأخرى، فإنها إذا تصرفت ضد ما هو واجب وضد الالتزام والمسئولية، وسلكت بما لا يليق في بيت زوجها، فإنها حينئذٍ تُطرد خارجًا في خزي ومهانة وعار، واضعة يديها على رأسها كما يقول العهد القديم بالرمز عن الزوجة التي لا تسلك بلياقة في الغنى العظيم الذي سقطت منه وأي مجد قد ضاع منها، وكيف تجردت من كرامتها بسبب حماقتها.
واجب النفس التي يخطبها المسيح العريس السماوي:
وبنفس الطريقة فإن النفس التي يخطبها المسيح العريس السماوي لنفسه لأجل شركته السرية الإلهيّة، والتي قد تذوقت الغنى السماوي، يجب عليها بكل اجتهاد وإخلاص، أن ترضي المسيح حبيبها وتتمم كل ما هو واجب ولائق، خدمة الروح التي اُستؤمنت عليها، وأن تُرضي الله في كل شيء، ولا تحزن الروح في أي شيء وتحفظ التواضع والمحبة بحسب ما هو واجب نحوه هو الذي فيه يكمن الكمال، وتسلك حسنًا في بيت الملك السماوي بكل سخاء وخير وشكر قلب لأجل النعمة التي أُعطيت لها.
فمثل هذه النفس تصير سيدة ومتوليّة على كل خيرات الرب وحتى جسد مجد لاهوته يصير لها. ولكن إن سقطت، وسلكت ضد الواجب في خدمتها له ولم تفعل الأشياء التي ترضيه، ولم تتبع إرادته ولا تعاونت مع نعمة الروح الحاضر معها، فإنها حينئذٍ تحرم من كرامتها وتصير في خزى ومهانة، وتنفى من الحياة، كأنها غير نافعة وغير مناسبة لشركة الملك السماوي. حينئذٍ يكون غم وبكاء ورثاء على هذه النفس من كل الأرواح القديسة غير المنظورة: فالملائكة والقوات، والرسل والأنبياء والشهداء يبكون عليها.
فإنه كما قال الرب “يكون فرح في السماء” (لو 15: 7)، كذلك يكون أسف وبكاء في السماء على نفس واحدة تسقط من الحياة الأبديّة. وكما أنه حينما يموت إنسان غني، على الأرض، فإنه يُشيَّع بالموسيقى، والألحان الحزينة والولولة (العويل) من إخوته وأقاربه وأصدقائه ومعارفه، هكذا فإن جميع القديسين ينتحبون بألحان حزينة ومراثي على تلك النفس.
وهذا هو نفس ما يقوله الكتاب المقدس في موضع آخر بلغة رمزية “ولول يا سرو لأن الأزر سقط” (زكريا 11: 2).
فكما أن إسرائيل، حينما كان يظن فيه أن يرضي الرب- مع أنه لم يرضِ الرب أبدًا كما ينبغي- كان لهم عمود سحاب يظللهم، وعمود نار يضيء عليهم، وقد رأوا البحر ينقسم أمامهم، والماء الصافي يخرج من الصخرة، ولكن حينما تحوَّل قلبهم وقصدهم عن الله، أهلكتهم الحيَّات وسُلَّموا لأيدي أعدائهم فاقتيدوا إلى أسر مؤلم وعذبوا بعبودية مرّة.
وهذا ما يعلنه الروح سرّيًا بحزقيال النبي أيضًا، قائلاً عن مثل هذه النفس كأنها أورشليم “وجدتك عريانة في البرية فغسلتك من ماء في نجاستك، وألبستك ثوبًا، ووضعت عليكِ أساور في يدكِ وطوقًا في عنقك وأقراطًا في أذنيكِ. فخرج لكِ اسم بين جميع الأمم وأكلت السميذ والعسل والزيت، وبعد كل هذا نسيتِ خيراتي، وذ هبتِ وراء عاشقيكِ وزنيتِ بخزي وعار” (انظر حزقيال 16: 7-17).
لنتمم خلاصنا بخوف ورعدة:
هكذا بالمثل فإن الروح يحذر النفس التي تعرف الله من خلال النعمة، بعد أن تتطهر من خطاياها السالفة وتتزين بزينة الروح القدس، وتصير شريكة في الطعام الإلهي السماوي، ولا تسلك كما يجب بتمييز وتحفظ، ولا تحافظ كما يجب على التوقير والحب للمسيح العريس السماوي، وهكذا تُرفض وتُطرد من الحياة التي كانت شريكة فيها قبلاً.
فإن الشيطان يمكن أن يقوم وينتهز فرصة حتى ضد أولئك الذين وصلوا إلى قامات مثل هذه، وحتى ضد أولئك الذين قد عرفوا الله في نعمة وقوة، فإن الخطية لا تزال ترفع رأسها وتسعى أن تسقطهم. لذلك ينبغى أن نجتهد، ونسهر على نفوسنا بتبصر وحكمة، وأن “نتمم خلاصنا بخوف ورعدة” كما هو مكتوب (في 2: 12)، فمهما كنتم أنتم الذين صرتم شركاء في روح المسيح، فانظروا أن لا تسلكوا بازدراء أو عدم اهتمام في أي شيء، صغيرًا كان أم كان كبيرًا ولا تزدروا بنعمة الروح، حتى لا تُبعدوا من الحياة التي قد صرتم شركاء فيها.
وسأكرر هذا بمثل آخر. فإذا جاء خادم إلى قصر الملك ليستخدم الأواني الموجودة هناك، فهو يأخذ من الخيرات الخاصة بالملك- فهو لم يحضر معه شيئًا- ويخدم الملك بأواني الملك الخاصة. هذا الخادم يحتاج هنا إلى حكمة كثيرة وبصيرة وتمييز، حتى لا يرتكب خطأ في الخدمة، كأن يحضر إلى المائدة الملوكيّة نوع من الأطباق غير الذي كان يجب أن يحضره، بل ينبغي أن يرتب الأواني على المائدة بنظام من الأول إلى الآخر بالترتيب السليم فإذا كان بسبب الجهل وعدم التمييز، لا يخدم الملك بالنظام السليم وبترتيب، فإنه يفقد مكانه ومعيشته في القصر.
وبنفس الطريقة فإن النفس التي تخدم الله بالنعمة والروح يلزمها تبصر كثير ومعرفة لكي لا ترتكب خطأ في أواني الله، أي في خدمة الروح- بعدم حفظ إرادتها الخاصة في توافق مع النعمة. فإنه من الممكن في مجال خدمة الروح التي تتم سرًا بواسطة الإنسان الباطن، أن تقوم النفس بخدمة الرب في أوان من عندها، أي بروحها هي، ولكن الله لا يمكن أن يُخدم بغير أواني الله أي بغير النعمة حتى ترضيه وتعمل مشيئته في كل شيء.
الحاجة إلى الحكمة والتمييز:
وحينما ينال الإنسان النعمة، فإنه يكون حينئذٍ في حاجة شديدة إلى الفهم والحكمة والتمييز- وهذه العطايا هي نفسها تُعطى من الله للنفس التي تطلبها منه- لكي يُعبد الله عبادة مقبولة بالروح الذي ناله الإنسان، ولا تهاجمه الخطية بغتة فيخطيء، ولا يُغوى بالجهالة والطياشة والإهمال ويسلك ضد ما تطلبه مشيئة الرب، لأن نتيجة هذه الأشياء العقاب والموت، والبكاء لمثل هذه النفس.
فالرسول القديس يقول “لئلا بعدما كرزت للآخرين أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 9: 27) وها أنتم تنظرون أي حذر وخوف كان عنده، مع أنه كان رسول الله، لذلك فلنتوسل إلى الله، نحن الذين حصلنا على نعمة الله، لكي نعبد عبادة الروح حسب مشيئته بأكثر مما هو معتاد، ولا يكون لنا شركة مع أفكار الاحتقار والعصيان، حتى إذا ما عشنا بطريقة مرضية للرب وعبدناه عبادة روحيَّة حسب مشيئته فإننا إذ نحيا هكذا نرث الحياة الأبديّة.
أعضاء الجسم وأعضاء النفس:
هناك البعض عندهم عاهات في أجسامهم، فقد يحدث أن إنسانًا تكون بعض أعضائه صحيحة، كعيناه مثلاً، أو غيرها من الأعضاء، ولكن بقية أعضائه عاجزة، هكذا أيضًا في العالم الروحي فقد يكون إنسان سليمًا وصحيحًا في ثلاثة أعضاء من روحه ولكن لا يكون كاملاً. فأنتم ترون كم للروح من مراحل ودرجات، وكيف أن الخطية يتم تصفيتها والتنقيّة منها على مراحل متتالية وليس دفعة واحدة، وأن عناية الله كلها وتدبيره للخليقة، وإشراق الشمس، وكل ما خلقه هذه جميعها إنما هي لأجل الملكوت الذي سيرثه المختارون لأجل تكوين ملكوت السلام والوئام.
نقاوة القلب وعدم إدانة الغير:
لذلك يجب على المسيحيين أن يجتهدوا على الدوام، ولا يدينوا أحدا بالمرة- ولا يدينوا حتى الزانية في الشارع ولا الأثمة المشهورين بخطاياهم والمتمردين- بل وأن ينظروا إلى كل البشر ببساطة النية ونقاوة العين، حين يصير الأمر هكذا كقانون ثابت في الطبيعة أن لا يحتقر أحدًا، ولا يدين أحدًا، ولا يمقت أحدًا حتى ولا يجعل تمييزًا بين أشخاص الناس. فإن رأيت إنسانًا بعين واحدة، فلا تنقسم في داخل قلبك، بل انظر إليه وراعيه كما لو كان صحيحًا تمامًا. والإنسان الأقطع (ذو يد واحدة) انظر إليه كما لو كان بيدين، والأعرج تنظر إليه كالذي يسير معتدلاً، والمشلول كالصحيح.
هذه هي نقاوة القلب، أنك حينما ترى خطاة أو مرضى، أن تشفق عليهم وترثى لحالهم، وتكون حنونًا ومحبًا من نحوهم[1] ويحدث أحيانًا أن قديسي الرب يجلسون في المراصد، وينظرون ضلال العالم وخداعه. فبحسب الإنسان الباطن هم يتخاطبون مع الله، ويصلون من أجل العالم ولكن بحسب الإنسان الخارجي فإنهم يظهرون للناس كأنهم يتأملون ما يحدث في العالم.
إن أهل العالم هم تحت تأثير روح الشر الواحد، وهو يجعلهم يهتمون بالأمور الأرضيّة، أما المسيحيون فلا هدف آخر، وفكر واهتمام آخر، فهم من عالم آخر ومدينة أخرى. إن روح الله له شركة مع نفوسهم، وهم يدوسون العدو تحت أقدامهم. فإنه مكتوب “آخر عدو يبطل هو الموت” (1 كو 15: 26). فالأتقياء هم سادة لكل الأشياء، أما أولئك المتراخون في الإيمان والخطاة فهم عبيد لكل الأشياء، والنار تحرقهم، والحجر والسيف يقتلانهم وأخيرًا تتسلط عليهم الشياطين.
قيامة الأجساد:
سؤال: هل تقوم كل أعضاء (الجسم)، في القيامة؟
جواب: إن كل شيء سهل على الله، وهو قد وعد بالقيامة، رغم أن هذا يبدو مستحيلاً بالنسبة إلى الضعف البشري والفكر البشري، لأنه كما أن الله أخذ من التراب ومن الأرض وكوَّن الجسد بطبيعة أخرى مختلفة وغير مشابهة بالمرة للأرض، وجعل فيه أنواع أعضاء وعناصر كثيرة، مثل الشعر، والجلد، والعظام، والأوتار، أو كما أن الإبرة إذا طُرحت في النار، يتغير لونها وتصير نارًا، رغم أن طبيعة الحديد (المصنوعة منه الإبرة) لا تنتزع بل تظل قائمة، كذلك أيضًا في القيامة، فإن جميع الأعضاء تقوم، وحتى شعرة واحدة لا تهلك، كما هو مكتوب (لو 21: 18).
وكل الأعضاء تصير مثل النور، وكلها تكون مغمورة في النور والنار، وتتغير تغييرًا حقيقيًا، ولكنها لا تتحلل وتصير نارًا خالصة كما يقول البعض، فلا يتبقى من قوامها الطبيعي شيء بالمرة على حسب ذلك الرأي، لا بل إن بطرس يظل هو بطرس، وبولس يظل هو بولس، وفيلبس هو فيلبس. وكل واحد يظل في طبيعته الخاصة وشخصيته ولكنه يكون مملوءً بالروح.
وأما إن قلت إن الطبيعة تتحلل وتفنى، فعندئذ لا يكون هناك وجود لبطرس أو بولس، أو أي شخص، ولا الذين ذهبوا إلى جهنم يحسون بعذابهم، ولا الذين دخلوا إلى الملكوت يشعرون بالغبطة والسعادة.
فإن قلنا إن هناك بستان زُرع فيه كل أنوع أشجار الفواكه، وكان فيه الكمثرى والتفاح والعنب، أشجارًا بثمارها وأوراقها، وهذا البستان تغيَّر وكل الأشجار وأوراقها تحولت إلى طبيعة أخرى وصارت مثل النور، هكذا أيضًا فإن البشر يتغيرون في القيامة، وتتقدس أعضاؤهم وتصير مثل النور (نورانية).
الصبر واحتمال الاضطهاد:
فيجب إذن على رجال الله أن يُعدّوا أنفسهم للحرب والقتال فكما أن الشاب الشجاع يحتمل الضربات التي تأتي عليه في مباراة المصارعة ويردها ثانية، كذلك يجب على المسيحيين أن يتحملوا الشدائد التي من الخارج، والحروب التي من الداخل، لكيما ينتصروا بواسطة الصبر رغم أنهم يُضربون، فهذا هو المسيحي. لأنه حيثما يكون الروح القدس، فهناك يتبعه الاضطهاد والحرب كظل له.
فأنت ترى الأنبياء، كيف اضطهدهم أقرباؤهم من الأول إلى الآخر، بينما كان الروح القدس يعمل فيهم. وانظر كيف أن الرب، الذي هو الطريق والحق، كان مُضطهدًا ليس من أمة أخرى، بل من خاصته. وخاصته- أي شعب إسرائيل- هم الذين اضطهدوه وصلبوه. كذلك كان الأمر مع الرسل. ومنذ أن جاء الصليب نُزع الروح المعزي من محلة إسرائيل، وانتقل إلى المسيحيين وحلّ عليهم. ولم يُضطهد اليهود بعد ذلك، وصار المسيحيون وحدهم هم الشهداء.
لهذا السبب فلا ينبغي أن يستغرب المسيحيون ذلك. فلابد للحق أن يُضطّهد.
الخطية وقلب الإنسان:
سؤال: يقول البعض إن الشر يدخل من الخارج وإن الإنسان يستطيع أن يمنعه من الدخول إذا أراد ويطرده عنه.
جواب: كما أن الحيَّة تحدثت إلى حواء وبسبب إذعانها دخلت إلى داخلها، هكذا أيضًا إلى هذا اليوم فإن الخطية التي هي خارج الإنسان تدخل إلى داخله برضى وإذعان منه. فالخطية لها السلطان والحريّة أن تدخل إلى القلب. لأن أفكارنا ليست خارجيّة بالنسبة لنا بل هي تأتي وتنبع من القلب في الداخل. فالرسول يقول: “فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا مجادلات[2] رديئة”. لأن هناك “أفكار تخرج من القلب” كما يقول الإنجيل (مت 15: 19).
فادخل للصلاة وافحص قلبك وعقلك، وقرر في نفسك أن ترفع صلاتك نقيّة لله، وانظر جيدًا ألاَّ يكون هناك شيء يعوق صلاتك، وأن تكون صلاتك طاهرة، وانظر هل عقلك منشغل تمامًا بالرب، كما ينشغل الزارع بزراعته، والعريس بعروسه، والتاجر بتجارته، أم أنك بينما تحني ركبتيك للصلاة يقوم آخرون بتشتيت أفكارك وسحبها بعيدًا.
إمكانية الخطية بعد المعمودية:
ولكنك قد تقول أن الرب قد جاء ودان الخطية بالصليب (رو 8: 3) وأن الخطية لم تعد بعد ذلك موجودة في الداخل. ولكن إذا فرضنا أن أحد الجنود وضع عربته في داخل بيت أحد الناس، أفلا يكون له الحريّة أن يدخل ذلك البيت ويخرج منه كما يريد. هكذا فإن الخطية لها حريّة أن تجادل في داخل القلب. إنه مكتوب أن الشيطان “دخل إلى قلب يهوذا” (يو 13: 27) وأما إذا قلت أن الخطية قد أدينت بمجيء المسيح، وأن الشر ليس له الحريّة- بعد المعمودية- أن ينازع في داخل القلب، أفلا تعرف أنه منذ مجيء الرب إلى هذا اليوم، وكل الذين قد اعتمدوا، تحاربهم أفكار شريرة في بعض الأوقات؟.
وألم يتحول البعض منهم إلى المجد الباطل، وإلى الزنى، أو إلى الشراهة؟. وهل كل الناس الذين هم في داخل حدود الكنيسة، لهم قلوب نقيّة وبلا عيب. وألا نجد أن هناك خطايا كثيرة ترتكب بعد المعمودية، وأن كثيرين يعيشون في الخطية، إذن فحتى بعد المعمودية، فإن السارق “الشيطان” له حريّة أن يدخل ويفعل ما يشاء.
محبة الله من كل القلب:
أنه مكتوب “تحب الرب إلهك من كل قلبك” (تث 16: 5) وأنت تقول “إني أحب الله، وعندي الروح القدس فهل عندك تذكّر مستمر للرب، ومحبة مشتعلة، وشوق حار إلى الرب؟. وهل أنت ملتصق ومرتبط بالرب بهذه الطريقة نهارًا وليلاً؟. فإن كان عندك محبة مثل هذه، فإنك تكون نقيًا، ولكن إن لم تكن لك، فحينئذٍ ينبغي أن تفحص باستمرار: إذا أتت في طريقك الأشغال الأرضيّة أو الأفكار الدنيئة الشريرة، هل يكون لديك ميل إليها، وهل تنجذب نفسك إلى المحبة والاشتياق لله باستمرار. إن أفكار العالم تُحدر العقل إلى الأمور الأرضيّة الفاسدة ولا تدعه يحب الله أو يتذكر الرب.
وقد يحدث من الناحية الأخرى أن إنسانًا أميًا يذهب إلى الصلاة، ويحني ركبتيه ويدخل عقله إلى الراحة وعلى قدر ما يحفر ويتعمق، فإن سور الخطية ينهدم أمامه ويدخل إلى الرؤيا والاستعلان والحكمة، حيث لا يقدر العظماء والحكماء والفصحاء أن يدخلوا إلى هناك ليفهموا ويعرفوا حالة عقله السامية، إذ أنه يكون مستغرقًا ومشغولاً بالأسرار الإلهيّة، والذي ليس له خبرة في تمييز القلوب لا يعرف كيف يقيّمها ويقدِّرها، بسبب نقص الخبرة. والمسيحيون ينفرون من الأمجاد الأرضيّة ويحسبونها نفاية (في 3: 8) بالمقارنة بعظمة وسمو تلك الأشياء، تلك العظمة التي تعمل بتأثيرها وفاعليتها فيهم.
النعمة والسقوط:
سؤال: هل من الممكن أن يسقط الإنسان الذي له موهبة النعمة؟.
جواب: إن أهمل، فإنه يسقط، فالأعداء لا يتراخون أبدًا ولا يتوقفون عن الحرب، فكم بالأكثر جدًا ينبغي عليك أنت ألاَّ تكف عن طلب الله. لأن الخسارة التي تحصل لك نتيجة الإهمال هي خسارة عظيمة جدًا، حتى لو ظننت في نفسك، أنك متدرب ولك خبرة في سر النعمة ذاته.
سؤال: هل تبقى النعمة في الإنسان بعد سقوطه؟.
جواب: إن مشيئة الله هي أن يرد الإنسان ثانية إلى الحياة ويحركه ليعود إلى البكاء والتوبة. فإن كانت النعمة تظل باقية، فإنما غرضها من ذلك أن تجعلك عاملاً جادًا بعزم شديد في توبتك عن تلك الأشياء التي سبق أن أخطأت فيها.
الكاملون ومحاربات الشيطان:
سؤال: هل الكاملون مُعرَّضون لأن تحل بهم صعوبات أو حروب، أم أنهم أحرار تمامًا من كل هم وقلق؟.
جواب: إن العدو لا يكف أبدًا عن المحاربة. إن الشيطان عديم الرحمة في كراهيته للبشر، لذلك فهو لا يتوقف أبدًا عن المحاربة ضد كل إنسان.. ولكن الظاهر أنه لا يهاجم الجميع بنفس الدرجة، فإن حكام الولايات والنبلاء في البلاط الملكي يدفعون الجزية للإمبراطور، والإنسان الذي في هذا المركز له ثقة في ثروته من الذهب والفضة، حتى أنه يدفع الضريبة من فائض دخله، ولا يشعر بأي خسارة.
والإنسان الذي يعطي صدقة لا يشعر بأنه يخسر. وكذلك فإن الشيطان يعتبر هذا الأمر (أي عدم مهاجمته للبعض) أنه فضلة وزيادة وأنه ليس بالأمر الخطير[3].
ولكن قد يكون هناك إنسان فقير، معدم حتى من القوت اليومي. وهو يُضرب ويُعذب لأنه لا يستطيع أن يدفع الضريبة، وقد يصرف وقته في احتمال الجلدات والانتهاكات المتكررة ويسوقونه أمامهم بالقوة، ولكنه لا يموت، بينما هناك إنسان آخر يصدر الأمر بقطع رأسه ويهلك في لحظة واحدة- وهكذا الأمر بين المسيحيين فالبعض منهم يحاربون بشدة ويُضيّق عليهم بالخطية، ومع ذلك يصيرون أكثر ثباتًا وحكمة وتمرنًا على الحروب.
ويحتقرون قوة العدو، ولا يكونون في خطر من هذه الناحية، لأنهم يكونون محفوظين من السقوط ومتيقنين من خلاصهم، لأنهم قد تمرنوا كثيرًا في الحرب ضد الخطية والشر واكتسبوا خبرة عظيمة، ولأنهم حاصلون على حضور الله معهم، فإنه يقودهم ويكونون في راحة.
إلاَّ أن البعض الآخر، الذين لم يتمرنوا بعد، فهؤلاء إن سقطوا في شدة واحدة وثارت عليهم الحرب، فإنهم يقعون في الخراب والهلاك.
انشغال القلب بالمسيح وحده:
ومثل المسافرون الذين يدخلون إلى مدينة ما، قاصدين أن يروا أحباءهم ومعارفهم، فحينما يقابلون أناسًا كثيرين في أسواق المدينة فإنهم لا يتوقفون بسببهم، وذلك لأن غايتهم هي أن يجدوا أصدقاءهم. وحينما يقرعون على باب أحبائهم من الخارج وينادون عليهم فإن أصدقاءهم الأعزاء يفتحون لهم بفرح، ولكنهم إن تلكأوا في الأسواق، وانخدعوا أو تعوَّقوا بسبب أولئك الذين يقابلونهم فإن الباب يغلق ولا يفتح لهم أحد، وهكذا أولئك الذين يسعون إلى الأمام ليصلوا إلى ربنا المسيح المحبوب الحقيقي، فينبغي أن يغضوا النظر عن كل من هم سواه ولا ينشغلوا بهم.
فإن النبلاء والحكام، الذين يدخلون القصر إلى الملك، يكونون في خوف شديد من جهة ما يجاوبون به وكيف يتكلمون لئلا بسبب خطأ في إجابتهم عن أنفسهم ينتهي الأمر بهم إلى محاكمتهم وعقابهم، وأما عامة الشعب البسطاء، الذين لم تقع عيونهم قط على أمير، فإنهم يصرفون أيامهم بلا قلق أو همّ. وهذا هو الحال مع هذا العالم الأرضي الذي تحت السماء- من الملك إلى أفقر الناس- فإذ لا يعرفون شيئًا عن مجد المسيح- فهم يهتمون فقط بأمور هذه الحياة الأرضيّة ولا يوجد بينهم حتى ولا واحد يتفكر في يوم الدينونة. أما أولئك الذين يأتون بأفكارهم أمام كرسي دينونة المسيح، حيث يكون عرشه، ويصرفون حياتهم في حضرته فإنهم يكونون في خوف ورعدة باستمرار، لكي لا يصنعوا أي خطأ من جهة وصاياه المقدسة.
تملك النعمة على القلب:
وكما أن أغنياء الأرض حينما يحضرون ثمارًا كثيرة إلى مخازنهم، فإنهم يعملون أكثر فأكثر كل يوم ليحضروا ثمارًا أكثر، ليكون عندهم وفرة عظيمة، ولا يكون عندهم تناقص.
فلو أنهم اعتمدوا على الغنى المخزون في المخازن ولم يهتموا أن يضيفوا إليه وبدأوا يستعملون ما سبق أن خزنوا، فإنهم بعد فترة يقعون في الفقر والحاجة ولذلك فإنه يلزمهم أن يسعوا وأن يعملوا ويزيدوا دخلهم كثيرًا، لكي لا يتخلفوا. وهكذا الأمر في المسيحيَّة، حينما نتذوق نعمة الله كما يقول “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز 34: 8).
فهذا التذوق هو قوة فعَّالة من الروح في ملء الثقة، بحسب خدمة الروح في داخل القلب. لأن كل الذين هم أبناء النور، ومن خدمة العهد الجديد في الروح القدس فهؤلاء لا يتعلمون شيئًا من الناس، بل هم يتعلمون من الله (يو 6: 45، 1 تس 4: 9) فالنعمة نفسها تكتب على قلوبهم قوانين الروح.
لذلك فلا ينبغي أن يتكلموا فقط على الكتب المكتوبة بالحبر، فإن نعمة الله تكتب قوانين الروح وأسرار السماء على “ألواح القلب” أيضًا (2 كو 3: 3). لأن القلب يحكم ويملك على كل حركات الجسد، وحينما تملك النعمة على مراعي القلب، فإنها بذلك تملك على كل الأعضاء والأفكار لأنه هناك- أي في القلب- يوجد العقل، وكل ملكات النفس وكل آمالها، لذلك فإن النعمة تنفذ أيضًا إلى كل أعضاء الجسد (عن طريق القلب).
تملك الخطية على القلب:
ومن الجهة الأخرى، فإن كل أبناء الظلمة، تملك الخطية على قلوبهم، وتنفذ إلى كل أعضائهم “لأن من القلب تخرج الأفكار الشريرة” (مت 15: 19) وهكذا إذ تنتشر الأفكار الشريرة تجعل الإنسان في ظلمة. وأولئك الذين يقولون أن الشر لا يتولد في الإنسان وينمو في داخله، ربما لا يهتمون من جهة الغد، وقد لا تحاربهم شهوة، لأن الشر يكف فترة من الوقت عن إزعاجهم بتحريك نوع من الشهوة في داخلهم، حتى أن الإنسان يتجاسر على أن يقسم “إن هذه الشهوة لم تعد تهاجمني”.
ولكن بعد فترة وجيزة يشتعل بالشهوة، حتى أنه يوجد حانثًا في القسم الذي أقسمه. وكما أن الماء يجري في الأنابيب، هكذا تسري الخطية في القلب والأفكار، وكل الذين ينكرون هذا فإن الخطية نفسها تدحضهم وتهزأ بهم، حتى ولو كانت الخطية لا تفكر في الانتصار عليهم، لأن الشر يحاول أن يكون مستترًا ومتخفيًا في داخل عقل الإنسان.
المحبة لله وكرامة الإنسان:
إن كان أحد يحب الله، فإن الله أيضًا يخلط محبته بهذا الإنسان وإذا أؤتمن الإنسان مرة على محبة الله، فإن الله يزيد عليه من الإيمان السماوي ويصير الإنسان كائنًا متكاملاً. فكل جزء من نفسك تقدمه لله، فإنه يخلط بنفسك شيء مثله من نفسه، حتى أن كل ما تفعله يُعمل بنقاوة، ويصير حبك نقيًا وصلاتك نقيّة.
عظيمة هي كرامة الإنسان، فانظر عظمة السموات والأرض، والشمس والقمر، ولكن الرب لم يسر أن يستريح في هذه المخلوقات بل في الإنسان فقط. لذلك فالإنسان له قيمة أعظم من كل المخلوقات ولعلي أتجاسر وأقول ليس فقط المخلوقات المنظورة بل وأيضًا أعظم من المخلوقات غير المنظورة، وأعظم حتى من “الأرواح الخادمة” (عب 1: 4). فلم يقل الكتاب عن ميخائيل وجبرائيل رؤساء الملائكة “لنخلقهم على صورتنا كشبهنا” (تك 1: 26) بل قال هذا على الجوهر الروحي للإنسان، وأنا أعني نفسه غير المائتة. لأنه مكتوب “إن ملائكة الرب تعسكر حول خائفيه” (مز 34: 6).
الاختلاف بين الإنسان والمخلوقات الماديّة:
إن المخلوقات الماديّة مرتبطة بطبيعتها التي خُلقت عليها.
فالسماء خُلقت لأجل الخير وكذلك الشمس والقمر والأرض- ولم تكن مسرة الرب فيها، رغم أنها لا تستطيع أن تتغير عن ما خُلقت عليه، كما أنها ليست لها أي إرادة. وأما أنت أيها الإنسان، أنت مخلوق على صورة الله ومثاله، لأنه كما أن الله له السيادة في نفسه ويفعل ما يشاء- فإذا أراد فله السلطان أن يرسل الأبرار إلى جهنم والأشرار إلى الملكوت ولكنه لا يُسرّ بأن يفعل هذا، ولا يقبل مجرد هذا الفكر، لأن الرب عادل وبار- وهكذا أنت أيضًا فإنك سيد نفسك، فإذا أردت أن تهلك فيمكنك أن تفعل ذلك.
وإذا اخترت أن تجدف أو أن تخلط سمومًا لكي تقتل إنسانًا ما فلن يمنعك أو يعوقك أحد. فإذا أراد الإنسان يمكنه أن يخضع لله ويسير في طريق البر ويضبط شهواته. فإن عقلنا هذا هو قوة متوازنة وقد أُعطِيت له القدرة أن يُخضع حركات وشهوات الخطية المخجلة.
ينبغي محاربة الشر الساكن فينا:
وكما أنه في بيت عظيم، حيث توجد أوان من الذهب والفضة وأنواع ملابس مختلفة وأموال كثيرة، فإن الشبان والشابات الذين يعملون هناك يقمعون عقولهم رغم أن طبيعتهم- بسبب الخطية الساكنة فيهم- تشتهي كل هذه الأشياء. ولكن بسبب الخوف البشري من سادتهم فإنهم يلجمون رغباتهم، فكم بالحري جدًا حيث يوجد خوف الله، فينبغي على الإنسان أن يحارب ويقاوم الشر الساكن فيه.
فإن الله وضع عليك كل ما يمكن أن تفعله. إن طبيعة الحيوانات غير العاقلة هي طبيعة مقيدة. فطبيعة الحيَّة طبيعة مُرّة وسامة وهكذا تكون كل الحيات. والذئب طبيعته مفترسة، وكل الذئاب لها نفس الطبيعة. ووداعة الحمل تجعل منه فريسة وكل الحملان لها نفس الطبيعة، والحمامة ليس فيها غدر وإيذاء، وهكذا طبيعة كل الحمام. وأما الإنسان فليس مثل هذا. فهناك إنسان ما مثل ذئب مفترس، وآخر مثل حمل، ولذلك يكون فريسة، وكلاهما يصدران من أصل الطبيعة البشريّة.
الطبيعة الإنسانية المتغيرة:
فهناك إنسان لا يكتفي بزوجته ويسلك في الزنا بينما هناك إنسان آخر لا يحتمل حتى مجرد تحرّك الشهوة في قلبه. هناك إنسان ينهب ما لقريبه، وإنسان آخر يعطي كل ما عنده حبًا لله. فها أنت ترى كم أن الطبيعة الإنسانية متغيرة. فإنك تجدها تميل إلى الشر، وتجدها تميل أيضًا إلى الخير. وفي الحالتين تكون في وضع بحيث توافق وترضى بهذا العمل أو ذاك حسبما تشاء.
فالطبيعة الإنسانية إذن قابلة للخير والشر، قابلة إما للنعمة الإلهيّة أو للقوة المعادية، ولكنها ليست تحت اضطرار أن تقبل هذه أو تلك. إن آدم نفسه لما كان في حالة النقاوة كانت له السيادة على عقله، وجابه جبالاً من المصاعب لا يمكن احتمالها، ولكن منذ أن تعدى وصية الله اختلطت أفكار الشر بعقله فصارت كأنها أفكاره، مع أنه ولا واحدة من هذه الأفكار هي أفكاره أصلاً، لأن هذه الأفكار هي تحت سيادة الشرير.
الأفكار النقيّة هي الأفكار الطبيعيّة:
فينبغي إذن أن تطلب وتسعى للحصول على مصباح منير لكي تستطيع أن تجد الأفكار النقيّة. فتلك الأفكار هي الأفكار الطبيعيّة التي صنعها الله. فالناس الذين ينشأون على شاطيء البحر يتعلمون السباحة، وحينما تثور العواصف وتتلاطم الأمواج، فإنهم لا يندهشون منها، وأما أولئك الذين لم يعتادوا هذه الأشياء، فإن أتت عليهم زوبعة ولو ضئيلة فإنهم يرتعبون ويغرقون في البحر. وهكذا الأمر أيضًا مع المسيحيين.
فكما أن عقل الطفل في سن الثالثة لا يستطيع أن يتابع أو يفهم عقل الرجل البالغ المفكر، بسبب وجود فرق كبير في السن بينهما، هكذا المسيحيون فإنه ينظرون إلى العالم مثل الأطفال، وعيونهم مرفوعة ومثبتة على قوة النعمة المعطاة لهم. إنهم غرباء بالنسبة لهذا العالم، ومدينتهم ومكان راحتهم ليست في هذا العالم، فالمسيحيون لهم عزاء وروح ودموع وحزن وتنهد، وحتى الدموع هي راحة وتمتع لنفوسهم. ويوجد عندهم خوف أيضًا، في وسط الفرح والتهليل، ولذلك فهم مثل أناس يحملون دمهم في أيديهم، ولا يضعون ثقتهم في أنفسهم ولا يعتبرون أنفسهم أنهم شيء، بل هم محتقرون ومرذولون أكثر من كل الناس.
أي شيء لك لم تأخذه؟
فإذا افترضنا أن ملكًا أودع كنزه عند إنسان فقير. فالإنسان الذي أخذ مسئولية حفظ الكنز لا يتمسك به كأنه ملكه بل يعترف دائمًا بفقره ولا يتجاسر أن يبذِّر ويصرف من كنز غيره. ويضع دائمًا في عقله، ليس فقط أن الكنز ليس ملكه، بل أيضًا “أن الذي أودع الكنز عندي هو ملك مقتدر قوي، وحينما يشاء فإنه يأخذه مني” كذلك ينبغي على أولئك الذين ينالون نعمة الله أن يعتبروا أنفسهم هكذا، وأن يكونوا ذوي عقل متضع، ويعترفوا بفقرهم.
وكما أن الإنسان الفقير الذي، أودع الملك الكنز عنده، إذا اعتمد على الكنز الذي لغيره وتفاخر به كأنه كنزه وبدأ عقله يتشامخ، فإن الملك يأخذ منه الكنز، ويصير الإنسان الذي كان عنده الكنز فقيرًا كما كان سابقًا، هكذا الذين يحصلون على النعمة إذا استكبروا وانتفخوا، فإن الرب يأخذ نعمته منهم، ويرجعون إلى ما كانوا عليه قبل نوال النعمة من الرب.
خداع الخطية وثمرة الجهاد ضدها:
وهناك كثيرون، بالرغم من أن النعمة حاضرة معهم، فإنهم ينخدعون بالخطية بدون أن يلاحظوا. فإذا افترضنا أنه كان في أحد البيوت فتاة عذراء، وكان هناك شاب أيضًا، فيحتال الشاب عليها ويتملقها حتى ترضى وتوافقه على شهواته، فتسقط وتفقد عفتها. كذلك الحيَّة المرعبة، حيَّة الخطية فهي تحضر دائمًا مع النفس، تداعبها وتغريها، فإذا وافقت النفس ورضيت، فإن النفس غير الجسدانيّة تدخل في ارتباط مع الشر غير الجسداني الذي لذلك الروح (الشرير)، فالروح تدخل في ارتباط مع روح.
والذي يرضى بإغواء الشرير، فإنه يزني في قلبه، إذ يكون قد قَبِلَ ورضى بإيحاءات (الروح) الخبيث. فهذه هي إذن درجة جهادك، أن لا ترتكب هذه الخطية في أفكارك، بل تقاومها بعقلك، وتحارب وتجاهد في الداخل، ولا تذعن لفكر الشر، ولا تعطي مكانًا في أفكارك للتلدذ بما هو خاطيء، فإذا وَجَدَ الرب فيك هذا الميل والاستعداد فهو بلا شك، يأخذك إليه في ملكوته في اليوم الأخير.
الرب يسمح بالتجارب لامتحان الإيمان:
إن هناك أشياء يأمر بها الرب لكي لا يترك نفسه بلا شهادة من نعمته الإلهيّة ودعوته، وهناك أشياء أخرى يأذن بها الرب على سبيل السماح، لأجل امتحان الإنسان وتدريبه، لكي تظهر وتتضح حريّة إرادته وتقريره وعزمه. فأولئك الذين هم في الشدائد والتجارب، إذا احتملوا وصبروا لا يسقطون من ملكوت السموات، لذلك فإن المسيحيين لا يقلقون ولا يكتئبون في ظروف الضيق.
وإذا امتحنوا بالفقر أو الآلام، فلا ينبغي أن يستغربوا ذلك، بل بالحري أن يفرحوا بالفقر ويحسبوه كالغنى، وبالصوم ويحسبوه كالوليمة، وبالهوان وعدم الشهرة ويحسبونه مجدًا. ومن الجهة الأخرى، إذا وقعوا في ظروف وأحوال مبهجة ومجيدة في هذه الحياة، قد تميل بهم إلى الراحة العالمية، أو الغنى أو المجد، أو الترف أو التنعم، فلا ينبغي أن يفرحوا بهذه الأشياء. بل أن يتجنبوها كما يتجنبون النار.
محبة الله- كرامة الإنسان- تدبير الخلاص:
وفي العالم الذي حولنا، إذا أثارت أمّة صغيرة الحرب ضد الإمبراطور، فهو لا يهتم أن يدخل المعركة بنفسه، ولكنه يرسل جنودًا مع ضباطهم وهم يقومون بالقتال. ولكن إن كانت الأمّة التي تثير الحرب ضده هي أمّة عظيمة جدًا، وقوية لدرجة أنها تستطيع أن تخرب مملكته فإن الإمبراطور يضطر أن يخوض المعركة بنفسه ومعه رؤساء قصره وأبطال جنوده محركًا إياهم بنفسه في المعركة. فانظر إذًا مقدار كرامتك (أيها الإنسان).
فإن الله بنفسه قد تحرك بصحبة قواته- وإنما أعني الملائكة والأرواح المقدسة- وجاء من أجلك بنفسه، ليحميك وينقذك من الموت. لذلك اهتم بنفسك جيدًا، وتأمل في نفسك ما أعظم التدبير الذي صنعه الرب لأجلك، ونستعمل توضيحًا من هذه الحياة في العالم إذ أننا لا نزال نحيا في وسطها، فإذا افترضنا أن هناك ملكًا عظيمًا، يبحث ويفتش ليجد إنسانًا في فقر ومعاناة، وهو لا يخجل منه، بل يعالج جروحه بأدوية شافية، ويحضره إلى قصره، ويلبسه الأرجوان والتاج الملكي ويجعله شريكًا في مائدته الملكية، فهكذا أيضًا المسيح الملك السمائي جاء إلى الإنسان المجروح وشفاه وجعله شريكًا في المائدة الملوكيّة، وذلك بدون أن يغتصب إرادته، بل بواسطة الحث والإقناع يجعله في مثل هذه الكرامة العظيمة.
الرب أعد لنا الملكوت ويدعونا لنرثه:
إنه مكتوب في الإنجيل أن الرب أرسل عبيده، ليدعوا أولئك الذين يرغبون ويعلن لهم أن الغذاء قد أُعد، ولكن الذين دعوا بدأوا يستعفون فقال أحدهم “قد اشتريت خمسة أزواج بقر” وقال آخر “إني تزوجت بامرأة” (لو 14: 16-20). فها أنت ترى أن الداعي كان مستعدًا، ولكن المدعوين رفضوا دعوته فهم وحدهم المسئولون عن رفض الدعوة.
إن كرامة المسيحيين هي عظيمة جدًا فتأمل كيف أن الرب قد أعد لهم الملكوت، ودعاهم ليدخلوا فيه، وهم لا يريدون. ومن جهة الهبة التي سيرثونها، فيمكننا أن نقول إنه لو جاهد كل واحد من الناس منذ خليقة آدم إلى نهاية العالم، لو جاهد الجميع ضد الشيطان واحتملوا الشدائد فإنهم لا يفعلون شيئًا بالمقارنة بالمجد الذي سيرثه كل واحد منهم، لأنه سيملك مع المسيح إلى دهور لا نهاية لها، فالمجد لذلك الذي أحب النفس هكذا. المجد له لأنه أعطى نفسه وأعطى نعمته لها واستودعهما لهذا الشخص!.. فالمجد لعظمته!.
الاختلاف بين الإنسان الباطن والظاهر:
بحسب كل المظاهر الخارجيّة، فنحن الإخوة جميعًا الذين نجلس هنا الآن لنا صورة واحدة ووجه واحد وهي التي لآدم. حسنا، ولكن هل لنا في الخفاء أيضًا، في الأمور الداخلية، قصد واحد بيننا جميعًا، وقلب واحد؟ هل نحن جميعًا واحد، في الصلاح والتقوى؟ أم أن البعض منا لهم شركة مع المسيح وملائكته والبعض الآخر لهم شركة مع الشيطان والأرواح الشريرة؟ ومع ذلك نحن جميعًا ونحن نجلس معًا ظاهرين مثل إنسان واحد، وكل واحد منا يحمل نفس وجه آدم.
فها أنت ترى الفرق الكبير بين الجوهر غير المنظور، أي الإنسان الباطن وبين الإنسان الخارجي لأننا جميعًا نشبه إنسانًا واحدًا، ومع ذلك فالبعض هم مع المسيح، وملائكته والبعض مع الشيطان والأرواح النجسة. فالقلب له عمق لا قرار له. ففيه توجد غرف استقبال، وغرف للنوم، وأبواب وأروقة ومكاتب كثيرة، وممرات، وفيه يوجد معمل البر، أو معمل الشر. فيه الموت، وفيه الحياة، فيه توجد التجارة الصالحة وما هو ضدها أيضًا.
المسيح يقيم ملكوته في القلب:
فإذا افترضنا أن هناك قصر عظيم جدًا، وهذا القصر أصبح مهجورًا، وامتلأ بكل رائحة رديئة وبجثث ميتة كثيرة. هكذا فإن القلب هو قصر المسيح، وهو مملوء بكل نجاسة وبجموع كثيرة من الأرواح الشريرة، فينبغي إذن إعادة تأسيسه وإعادة بنائه، وإعادة تنظيم مخازنه وغرف النوم التي فيه، لأن الملك نفسه أي المسيح يأتي إلى هناك هو والملائكة والأرواح المقدسة. ليستريح وليسكن وليتمشى هناك ويقيم فيه ملكوته. وإني أخبرك أن القلب هو مثل سفينة مزودة بكمية وافرة من حبال الأشرعة والبكرات، وفيها قبطان يدبر الكل، ويحدِّد لكل واحد مهمته، ويصلح خطأ البعض منهم، ويبين لغيرهم ما هو الطريق، فالقلب أيضًا له قبطان في العقل، وهو الضمير الذي يقوم دائمًا بمحاكمتنا، “والأفكار فيما بينها مشتكية أو محتجة” (رو 2: 15).
الضمير وملكات القلب:
فأنت ترى أن الضمير لن يهمل أو يترك الأفكار التي تستجيب للخطية، بل يحكم عليها في الحال. وهو لا يكذب، بل يشهد بما ينبغي أن يقوله أمام الله في يوم الدينونة، كأنه يقوم بمحاكمتنا بصفة مستمرة. فإذا افترضنا أن هناك مركبة ولجم، فإذا الخيل وكل جهاز العربة إنما هي تحت سيطرة سائق واحد فحينما يشاء فإنه يجعل المركبة تحمله بسرعة عظيمة، ومتى شاء فإنه يستطيع أن يوقفها.
وأي طريق يريد أن يميل إليها فإن المركبة تسير معه حسب ما يوجهها فالمركبة هي تحت سلطان السائق. وبنفس الطريقة فإن القلب له ملكات طبيعية كثيرة مرتبطة به، فالعقل والضمير هما اللذان يوبخان القلب ويقودانه، ويوقظان الملكات الطبيعيّة التي تنبع في القلب. إن النفس لها أعضاء كثيرة، رغم أنها هي واحدة.
ومن الوقت الذي فيه تعدى آدم الوصية، دخلت الحيَّة إلى الداخل وجعلت نفسها سيدة البيت وصارت كأنها نفس ثانية إلى جانب النفس. لأن الرب يقول “من لا ينكر نفسه، ومن لا يبغض نفسه، فلا يكون لي تلميذًا” (لو 14: 26، 9: 23) وأيضًا “من يحب نفسه فسيهلكها” (مت 10: 39).
النقاوة والقداسة:
فالخطية لما دخلت إلى النفس صارت مثل عضو للنفس، واتحدت بالإنسان الجسداني، ولذلك فإن أفكارًا نجسة كثيرة تنشأ في القلب. فذلك الذي يعمل رغبات نفسه، فإنه يعمل رغبات الشر لأن الشر مختلط وممتزج بالنفس. والذي يجذب نفسه إلى الخضوع والطاعة، ويغضب مع نفسه وضد الرغبات التي تتحرك فيه، فهو مثل الذي يخضع مدينة العدو ويحكمها. وهذا الإنسان يحسب أهلاً للوصول إلى درجات الروح الصالحة ويكافأ بواسطة قوة الله بأن يصير إنسانًا نقيًا، ويجعله الله أعظم من نفسه (أعظم مما كان)، لأن مثل هذا الإنسان يؤله، ويصير ابنًا لله، إذ يحصل على الختم السماوي على نفسه، لأن مختاري الله يمسحون بدهن القداسة ويصيرون أناسًا ذوي مراتب بل وملوكًا.
وهكذا هي طبيعة البشر. فمن عمق الخبث وعبودية الخطية قد يتحول الإنسان إلى الصلاح وقد يكون هناك إنسان مرتبط بالروح القدس وسكرانًا بالأمور السماويَّة ومع ذلك ففي استطاعته إذا أراد أن يتحول إلى الشر. ومثل امرأة تلبس الثياب الرثة، وتعاني الجوع وهي كلها قذرة، قد تصل بجهد كثير إلى المرتبة الملوكيّة، وتلبس الأرجوان والتاج، وتصير عروسًا للملك.
فهي تتذكر أحيانًا حالتها السابقة القذرة وتخاف أن ترجع إلى حالتها القديمة، ولكنها لا تختار بإرادتها أن ترجع إلى عارها السابق، لأن ذلك يكون حماقة عظيمة، وهكذا أولئك الذين قد ذاقوا نعمة الله وصاروا شركاء الروح القدس إذا لم يحترسوا لأنفسهم (يأخذوا حذرهم) فإنهم ينطفئون ويصيرون أردأ مما كانوا عليه قبلاً حينما كانوا في العالم. وليس معنى هذا أن الله متغير أو غير قادر أن يحفظهم، أو أن الروح نفسه هو الذي “ينطفيء” (1 تس 5: 19)، بل أن الأشخاص أنفسهم هم الذين لا يوافقون النعمة ولا يتجاوبون معها، ولهذا السبب فإنهم يخفقون ويسقطون في شرور كثيرة.
لأن أولئك الذين قد ذاقوا تلك النعمة، يكون حاضرًا معهم كل من الفرح أو العزاء والخوف أو الرعدة، أي البهجة والحزن معًا. إنهم ينوحون لأجل نفوسهم ولأجل كل جنس آدم (إذ أن الجنس البشري كله هو واحد) وأن دموع مثل هؤلاء الأشخاص هي خبزهم وبكاءهم وحزنهم هو حلاوة وإنعاش لهم.
خطورة الكبرياء الانتفاخ:
فإذا رأيت إنسانًا متكبرًا ومنتفخًا بسبب ما ناله من نعمة فهذا الإنسان حتى لو صنع العجائب وأقام الموتى، ولكنه لم يعتبر نفسه أنه غير مستحق بل مزدرى، ويستمر مسكينًا بالروح ويبغض نفسه فإن الخطية تخدعه دون أن يدري وحتى إن كان يصنع العجائب فلا يمكنك أن تصدقه، لأن علامة المسيحيَّة هي هذه، أن يكون الشخص ممدوحًا من الله بينما هو يسعى باجتهاد لتجنب ملاحظة الناس له وحتى إذا كان عنده جميع كنوز الملك فإنه يخفيها، ويقول باستمرار “إن هذه الكنوز ليست ملكي بل إن شخصًا غيري قد وضعها بين يدي.
وأما أنا فإنسان فقير، وحينما يشاء صاحبها فإنه يأخذها مني، فإذا قال أحد “أنا غني وعندي الكثير وقد ربحت كثيرًا ولا أحتاج إلى شيء أكثر” فهذا الإنسان ليس مسيحيًا، بل هو إناء للضلالة والشيطان. إن التمتع بالله إناء لا يشبع منه، فبقدر ما يذوق الإنسان منه ويأكل، فإنه يجوع أكثر. ومثل هؤلاء الأشخاص لهم حرارة ومحبة لله لا يمكن حصرها، وكلما سعوا للتقدم والنمو، كلما اعتبروا أنفسهم فقراء، كأولئك الذين هم في غاية الحاجة ولا يملكون شيئًا.
وهذا ما يقولونه. “أنا لست أهلاً لإشراق هذه الشمس عليَّ” وهذه هي علامة المسيحيَّة- هذا التواضع، وأما إن قال أحد “أنا قد شبعت وامتلأت” فهو خادع وكاذب.
التجلى وتمجيد الأجساد:
وكما أن جسد الرب كان قد تمجد حينما صعد إلى الجبل وتجلى بالمجد الإلهي وبالنور غير المحدود، فهكذا ستتمجد أجساد القديسين وتضيء مثل البرق. فالمجد الذي كان في داخل المسيح فاض على جسده وأضاء، وبنفس هذه الطريقة ما يحدث في القديسين، فإن قوة المسيح التي في داخله ستنسكب في ذلك اليوم على أجسادهم من الخارج. فإنهم منذ الآن يشتركون في جوهره وطبيعته في عقولهم، لأنه مكتوب “الذي يقدس والذين يتقدسون جميعهم من واحد” (عب 2: 11). وأيضًا “وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني” (يو 17: 22).
وكما أن مصابيحًا كثيرة توقد من نار واحدة هكذا أجساد القديسين إذ هي أعضاء المسيح فإنها بالضرورة تصير مثل المسيح نفسه وليس شيئًا آخر.
الموت والحياة وحريّة الاختيار:
سؤال: ما هي أفضلية المسيحيين على آدم الأول؟ فإنه كان غير مائت وغير فاسد في الجسد وفي النفس معًا، بينما المسيحيون يموتون ويأتون إلى الفساد.
جواب: الموت الحقيقي هو في الداخل، في القلب، وهو مختفي، والإنسان الباطن هو الذي يهلك، ولذلك فإذا انتقل أحد “من الموت إلى الحياة” (يو 5: 24) في ذلك المكان الخفي، فإنه يحيا حقيقة إلى الأبد ولا يموت أبدًا. ورغم أن أجساد مثل هؤلاء الناس لتحلل إلى فترة من الزمن، إلا أنهم يقومون ثانيةً في مجد، لأنهم مقدسون.
لهذا السبب نحن نسمي موت المسيحيين رقادًا وراحةً. فلو أن الإنسان كان غير قابل للموت، وجسده محفوظ من التحلّل، فإن العالم كله حينئذٍ حينما يرون هذه الحقيقة الغريبة أن أجساد المسيحيين غير قابلة للفساد، فإنهم يأتون إلى فعل الخير بنوع من الإجبار وليس بحريّة الاختيار.
فلكي تظهر حريّة الإرادة وتظل ثابتة، تلك الحريّة التي منحها الله للإنسان منذ البدء، لهذا السبب فإن العناية نظمت هذه الأمور، وجعلت تحلل الأجساد (أي الفساد) أمرًا واقعًا حتى يكون الأمر متروكًا لاختيار الإنسان وتمييزه أن يتحول إلى الخير أو إلى الشر. لأنه حتى الإنسان المتأصل في الشر والمتعمق في الخطية، والذي يجعل نفسه أداة للشيطان ليتسلط عليه تمامًا، فحتى هذا الإنسان ليس مربوطًا بأي اضطرار، بل إن له الحريّة أن يصير “إناء مختار” (أع 9: 15)، إناء للحياة.
وبنفس الطريقة، فمن الناحية الأخرى أولئك الذين يتشربون باللاهوت، ولو كانوا مملوئين بالروح القدس وهم تحت سيادته، فإنه ليسوا مُقيدين بأي اضطرار، بل لهم حريّة الاختيار أن يتحولوا ويفعلوا ما يشاءون في العالم الحاضر.
النمو في النعمة بالتدريج:
سؤال: هل الشر يتناقص ويُستأصل بالتدريج، وهل يتقدم الإنسان في النعمة بالتدريج، أم أن الشر يُستأصل مرة واحدة حينما ينال الإنسان افتقادًا من النعمة؟.
جواب: كما أن الجنين في رحم أمه لا يتشكل إلى إنسان كامل مرة واحدة، بل تتكون فيه الصورة بالتدريج إلى أن يولد وحتى عند ولادته لا يكون رجلاً كامل النمو، بل يحتاج إلى سنوات لينمو، ويصير رجلاً، وأيضًا كما أن حبوب القمح أو الشعير لا تتأصل في الأرض بمجرد أن تلقى البذار فيها، بل تعبر عليها العواصف والرياح، وبعد ذلك تنبت السنابل في أوانها، والإنسان الذي يزرع شجرة كمثرى لا يأخذ من ثمارها في الحال، هكذا أيضًا في الأمور الروحانيّة فإن فيها حكمة ودقة عظيمة، والإنسان ينمو رويدًا رويدًا إلى أن يصل “إلى إنسان كامل، إلى القامة التامة” (أف 4: 13) وليس كما يقول البعض، يخلعون معطفًا ويلبسون آخر بدله.
والذي يريد أن يصير إنسانًا متعلمًا فإنه يبدأ أولاً بتعلم الحروف وحينما يتقنها فإنه يلتحق بالمدرسة الابتدائية في أول صفوفها وحينما يصل إلى آخر صف فيها، فإنه ينتقل إلى المدرسة المتقدمة كمبتديء فيها وبعد ذلك حينما يصير “طالبًا باحثًا” فإنه يصير مبتدئًا بين المترافعين أمام القضاء وآخر واحد فيهم، وبعد ذلك حينما يرتفع إلى القمة بينهم فإنه يصير حاكمًا أو قاضيًا، وحينما يصل إلى درجة رئيس قضاة فيحق له أن يتخذ معاونًا يساعده.
فإذا كان في عالم الفكر توجد مثل هذه الدرجات من الارتقاء، فكم بالأولى يكون للأسرار السماويَّة درجاتها وارتقاءاتها، ويزداد عدد الدرجات، ثم بعد التمرن الكثير والامتحان فإن الإنسان الذي يجوز التجارب ويحتملها يصل إلى الكمال. فالمسيحيون الذين ذاقوا النعمة حقًا، وحملوا علامة الصليب في عقلهم وقلبهم. فهؤلاء- من الملك حتى الشحاذ- يعتبرون كل الأشياء التي في هذا العالم كنفاية ورائحة كريهة. وهؤلاء يستطيعون أن يعرفوا أن العالم الأرضي كله، وكنوز الملك، وكل غناه ومجده، وكل علوم الحكمة ليست إلاَّ مظهرًا باطلاً ليس له أساس ثابت، بل هو يعبر سريعًا، ويزدرون بسهولة بكل ما هو تحت السماء فإنهم يزدرون به بسهولة.
كرامة الإنسان العظيمة:
والسبب في ذلك هو أن الأشياء التي فوق السموات هي غريبة جدًا وعجيبة ولا يوجد منها في كنوز الملوك، ولا في حكمة الكلام، ولا في المجد العالمي والكرامات والغنى- إنما الغنى الحقيقي يملكه هؤلاء الذين يمتلكون الرب خالق كل الأشياء في عمق إنسانهم الباطن، وهو النصيب الذي لا يضمحل أو ينزع أو يعبر، بل يثبت ويبقى إلى الأبد. إن المسيحيين يعرفون جيدًا أن النفس هي أثمن من جميع الأشياء المخلوقة، فإن الإنسان وحده هو الذي صنع على صورة الله ومثاله. انظر إلى السماء، ما أوسعها وانظر إلى الأرض وما فيها من مخلوقات ثمينة وأجسادها العظيمة، إلاَّ أن الإنسان هو أعظم قدرًا من كل هذه الأجساد فهو وحده الذي سُرّ به الرب، حتى وإن كانت حيتان البحر، والجبال، والوحوش أعظم من الإنسان في مظهرها الخارجي (إلا أن الإنسان أعظم من جميع المخلوقات) فتأمل في كرامتك وقدرك العظيم، حتى أن الله جعلك فوق الملائكة، لأنه لأجل معونتك وخلاصك جاء هو بنفسه شخصيًا إلى الأرض.
إن الله وملائكته قد جاءوا[4] لأجل خلاصك. فالملك، ابن الملك تشاور مع أبيه، ولهذا أرسل الكلمة، ولبس لباس الجسد وحجب لاهوته الخاص لكي يخلِّص المثيل بالمثيل (أي يخلص الإنسان بالإنسان) وبذل حياته على الصليب. فما أعظم محبة الله للإنسان. فإن غير المائت اختار أن يصلب لأجلك فانظر إذن إلى أي درجة “أحب الله العالم” لأنه “بذل ابنه الوحيد لأجلهم” (يو 3: 16) “فكيف لا يهبنا معه كل شيء” (رو 8: 32) وفي موضع آخر يقول “الحق أقول لكم، إنه يقيمه على جميع أمواله” (مت 24: 47).
وفي مكان آخر يبين بوضوح أن الملائكة هم خدام للقديسين، فحينما كان أليشع في الجبل وأتى عليه الغرباء، قال له خادمه أن كثيرين قد أتوا علينا ونحن وحدنا- حينئذٍ أجابه أليشع ألا تبصر المعسكرات وجماهير الملائكة التي تحيط بنا وتحمينا (انظر 2 مل 6: 15-18) وهكذا فإن الرب نفسه مع جموع الملائكة يحضرون مع عبيده، فما أعظم النفس، وما أكرمها عند الله، لأن الله نفسه وملائكته يطلبونها لأجل الشركة معهم ولأجل الملكوت!. وأما الشيطان وقواته فإنهم يسعون وراءها لكي يجذبونها إلى ناحيتهم.
وكما أنه في العالم الطبيعي لا يقوم بخدمة الملوك أشخاص غير مهذبين أجلاف إنما يقوم بخدمتهم أناس حسنو المنظر مهذبون، هكذا في القصر السماوي فإن الذين يخدمون الملك السماوي هم أولئك الذين بلا عيب، وبلا لوم والأنقياء القلب. وكما أنه بالقصر الأرضي يقوم بخدمة الملوك عذارى جميلات، ليس فيهن عيب بل هن أكثر النساء وسامة، هكذا أيضًا في الأمور الروحانيّة فالنفوس التي تتزين بكل سيرة صالحة وقداسة هي التي تكون في صحبة الملك السمائي.
وفي العالم المنظور حينما يذهب ملك ليقيم في مكان ما، فإذا حدث أن ذلك المكان كان فيه شيء غير نظيف، فإنه حالاً يُنظف ويُنظم بنظافة ونظام كامل وتسكب فيه الروائح العطرة الكثيرة، فكم بالأكثر جدًا يحتاج بيت النفس، الذي يستريح فيه الرب إلى تطهير وتنقيّة، ليستطيع الرب أن يدخل فيه ويستريح هناك فإنه هو بلا عيب ولا دنس. وفي مثل هذا القلب المُطهر يستريح الله وكل الكنيسة السماويَّة.
الله يعطينا أمجاده الخاصة:
وفي عالم البشر، إن كان أب له أملاك كثيرة وعنده تيجان وأحجار كريمة فإنه يخفيها في مخازن البيت محتفظًا بها لابنه الحبيب، ولهذا الابن يعطي كل كنوزه. هكذا فإن الله قد ائتمن النفس على ما عنده، وعلى كل أمجاده الخاصة الثمينة. وفي العالم، إذا ثارت حرب، وجاء الملك بجيشه للقتال ووجد أنه أضعف في العدد أو في القوة من الجانب الآخر، فإنه يرسل في الحال رسولاً ليطلب شروط الصلح (لو 14: 32).
وأما إذا قامت أمة عظيمة جدًا في الحرب مقابل أمة عظيمة معادلة لها وملك عظيم في مقابل ملك مثله- مثل ملك الفرس مثلاً ضد ملك الرومان- فحينئذٍ يضطر الملكان أن يتحركا بكل قواتهما في هذه الحرب. فانظر إذن عظمة كرامتك أن الله قد تحرك مع كل قواته أي الملائكة والأرواح- لمحاربة العدو لكي ما يخلصك من الموت. فالله إذن إنما جاء من أجلك.
ما فعله الله لأجل خلاصنا:
وإذا افترضنا أن ملكًا وجد إنسانًا فقيرًا مملوءًا بالبرص في كل جسده، ولم يخجل منه بل وضع أدوية على جروحه وشفي قروحه، ثم أخذه إلى المائدة الملوكيّة وألبسه الأرجوان وجعله ملكًا، فهذا هو ما فعله الله مع جنس البشر. إنه غسل جروحهم وشفاهم، وأتى بهم إلى حجاله السماويَّة. فما أعظم كرامة المسيحيين حتى أنها لا يمكن مقارنتها بشيء آخر.
ولكن إذا تكبّر المسيحي وسمح للخطية أن تسرقه فإنه يكون مثل مدينة لا سور لها فيدخل اللصوص إليها من أي ناحية يريدون، دون أن يعوقهم شيء، فيخربونها ويحرقونها. لذلك، إذا كنت تأخذ الأمور باستهانة ولا تحترس لنفسك فإن أرواح الشر تأتي عليك وتظلم عقلك وتخرِّبه وتشتت أفكارك في أمور هذا العالم الحاضر.
إن كثير من الناس هم مثقفون جدًا من جهة الأشياء الخارجيّة ولهم معرفة وعلم ويعتنون بنظام معيشتهم وآداب الحياة، ويعتبرون أن ذلك هو الكمال، دون أن ينظروا نظرة عميقة في داخل قلوبهم، ودون أن يروا الشرور التي تحبس النفس. وبحسب المعنى الداخلي للشر فهو جذر مختفي في داخل القلب وفي الأعضاء.
والسارق موجود في داخل البيت وأعني به القوة المعادية وهي قوة متحدية غير منظورة، فإذا لم يضع الإنسان في نفسه أن يحارب الخطية، فإن الشر المختفي في الداخل ينتشر تدريجيًا، ويزداد ويتكاثر حتى يجعل الإنسان يرتكب الخطايا ظاهرًا وعلانية. إن عنصر الشر يفور إلى أعلى مثل عين الينبوع. فاهتم إذن أن توقف مجاري الخطية، وإلا فإنك ستسقط في آلاف من الأشياء الخاطئة وتصير مثل إنسان في حالة غيبوبة.
فإذا افترضنا أن هناك أحد النبلاء يعيش في رخاء ووفرة ئم قام جنود الوالي وخدامه بالقبض عليه وحملوه إلى الحاكم قائلين “إنك متهم اتهامات خطيرة وإنك في خطر قطع رأسك. فبسبب هذه الأخبار المخيفة، يفقد توازن عقله ويصير مثل إنسان في حالة غيبوبة.
سبب الحيرة والاضطراب في حياة الناس:
فافهم إذن، أن هذا هو ما تفعله أرواح الشر ضد الإنسان. إن العالم الذي تراه حولك، ابتداءً من الملك حتى الشحاذ، جميعهم في حيرة واضطراب وفتنة وليس أحد منهم يعرف السبب في ذلك، مع أن السبب هو ظهور الشر الذي دخل داخل الإنسان عن طريق معصية آدم، وأعني به “شوكة الموت” (1 كو 15: 56).
لأن الخطية التي زحفت إلى الداخل، إذ هي نوع من القوة غير المنظورة من الشيطان، وهي قوة حقيقيّة، قد زرعت في الإنسان كل أنواع الشر. وهي تعمل سرًا في الإنسان الباطن دون أن يلاحظها أحد، وتعمل في العقل، وتحارب ضد الأفكار؛ ولكن الناس لا يدركون أنهم يفعلون الشرور بتأثير قوة غريبة تعمل فيهم، وهم يظنون أن ما يفعلونه هو أشياء طبيعية، وأنهم إنما يفعلون هذه الأشياء باختيارهم. وأما أولئك الذين حصلوا على سلام المسيح في عقولهم وحصلوا على نوره في داخلهم، فإنهم يعرفون جيدًا منبع كل هذه الحركات الشريرة.
إن العالم مستعبد لشهوة الخطية، وهو لا يدري، وهناك نار نجسة تشعل القلب وتنتشر إلى كل الأعضاء، وتحث الناس على فعل الشهوات، وعلى آلاف خطايا أخرى. فأولئك الذين يدعون أنفسهم أو يسمحون لأنفسهم أن تداعبها الخطية فيبتهجون بها، إنما يرتكبون الخطية داخليًا في القلب. وهكذا يجد الشر مكانًا له فيهم، إلى أن يسقطوا في النجاسة المكشوفة- ولاحظ أن نفس هذا الأمر هو حقيقي. كذلك فيما يخص محبة المال، والمجد الباطل والكبرياء والحسد والغضب.
وإذا دُعي إنسان إلى وليمة ووضعت أمامه أنواع أطعمة كثيرة، فإن الخطية تقترح عليه أنه ينبغي أن يأكل منها جميعًا، وهكذا فإن نفسه تُسر بهذا الإيحاء وتثقل بأثقال فوق طاقتها. فإن الشهوات هي كجبال ثقيلة لا تحتمل وتوجد في وسطها أنهار من التنانين والوحوش السامة والثعابين. وكما يبتلع الحوت إنسانًا في بطنه، هكذا تبتلع الخطية النفوس. إنها لهب نار حارقة وسهام ملتهبة من الشرير. فالرسول يقول “لكي تقدروا أن تطفئوا سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16) لأن الخطية وجدت لها مكانًا في النفس. ووضعت أساساتها حول النفس.
حالة الحكماء بالروح:
وأما الذين صاروا حكماء بالروح، فإذا تحركت الشهوات فيهم، فإنهم لاي ستسلمون لها البتة بل يغضبون على الرغبات الشريرة ويصيرون أعداء لأنفسهم ويبغضونها. لأن الشيطان يشتهي كثيرًا أن يستريح في النفس ويوسع دائرته في داخلها وهو ينزعج ويتضايق حينما ترفض النفس الإذعان له.
إن بعض الأشخاص هم تحت سيادة القوة الإلهيّة، هؤلاء الذين إذا رأوا فتى مع امرأة فربما يفكرون قليلاً، ولكن عقلهم لا يتنجس البتة، ولا يخطئون في داخل قلوبهم، ومع ذلك فليس من الممكن أن يطمئن الإنسان ويثق في جسده في هذه الحالة. ويوجد آخرون يكون أصل الشر فيهم منطفئًا ويابسًا أي قد انتهي منهم، ولكن هذه هي درجات العظماء بالنعمة حقًا.
وكما أن الناس في مجال تجارة اللآليء يغوصون عراة في أعماق البحر في أعماق المياه، ليجدوا هناك اللآليء التي تصلح لزينة التيجان الملوكيّة والأرجوان الملوكي، هكذا أولئك الذين يعتنقون طريق الحياة التوحدية، يخرجون عراة من العالم، وينزلون إلى أعماق بحر الشر وإلى هاوية الظلمة، ومن تلك الأعماق يخرجون حجارة كريمة مناسبة لتاج المسيح وللكنيسة السماويَّة، وللعالم الجديد، ولمدينة النور، ولمحفل الملائكة.
وكما أن الشبكة تجمع أنواعًا كثيرة من السمك فتطرح الأصناف الرديئة في البحر ثانية، هكذا فإن شبكة النعمة تنتشر على الكل وتطلب القبول والرضا، ولكن كثيرًا من الناس لا يوافقونها، ولذلك فإنهم يطرحون ثانية إلى هوة الظلمة العميقة.
وكما أن الذهب يوجد بعد أن يُنقى من وسط رمل كثير، على شكل ذرات صغيرة، هكذا فإنه من وسط كثيرين يوجد قليلون يثبتون مع التمحص. فأولئك الذين لهم عمل الملكوت هم ظاهرون وكذلك أولئك الذين يلبسون فقط كلمة الملكوت هم ظاهرون أيضًا. والمُمَلحون بالملح السماوي يصيرون ظاهرين وكذلك الذين يمتلئون من كنوز الروح.
وكذلك فالأواني التي يُسر الله بها هي ظاهرة أيضًا، وهو يعطيهم نعمته الخاصة، وآخرون، بالصبر الكثير ينالون قوة التقديس بأنواع مختلفة كما يشاء الرب. فذلك الذي يتكلم، إذا لم يكن منقادًا ومُرشدًا بالنور والحكمة السماويَّة، فإنه لا يستطيع أن يرضي ويشبع عقول الجميع، إذ أنه توجد أغراض كثيرة مختلفة، والبعض يكون في حالة حرب والبعض في راحة.
تطهير القلب والبناء الجديد:
وإذا كانت هناك مدينة خربة وأراد أحد الناس أن يعيد بناءها من جديد فإن أول شيء يفعله، هو أن يهدم تمامًا كل الأشياء المتهدمة الساقطة وهكذا يبدأ في الحفر ويضع الأساسات وهكذا يرتفع البناء رغم أنه لا يكون قد تم بناء بيت واحد بعد.
وذلك الذي يريد أن يقيم حديقة جميلة في مكان قفر كريه الرائحة فإنه يبدأ أولاً في تنظيف المكان وعمل سياج حوله وإعداد قنوات المياه، ثم بعد ذلك يغرس البستان، فتنمو الأشجار وهكذا بعد وقت طويل يأتى البستان بالثمر، وهكذا قلوب البشر منذ السقوط، قد جفت وصارت خربة ومملوءة بالأشواك. لقد قال الله للإنسان “شوكًا وحسكًا تنبت لك الأرض” (تك 3: 18).
لذلك فالأمر يحتاج تعبًا كثيرًا وجهدًا لكي يطلب الإنسان الأساسات ويضعها، إلى أن تأتي النار إلى قلوب الناس، وتبتديء في اقتلاع الأشواك وتنقيّة القلوب، وهكذا يبتدئون أن يتقدسوا فيمجدون الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.
[1] قارن بالعظة الثامنة فقرة 6.
[2] الكلمة المترجمة “مجادلات” في الأصل اليوناني في (1 تي 2: 8) هي نفس الكلمة المترجمة “أفكار” في إنجيل متى 15: 19.
[3] القديس مقاريوس يقصد أن الشيطان يمكنه أن يحتمل أن يترك البعض بدون حرب، وهذه تكون بالنسبة للشيطان مئل الضريبة بالنسبة للغني، أو الصدقة بالنسبة للمحسن فهي لا تشمكل أي خسارة بالنسبة له.
[4] المقصود بمجيء الملائكة لخلاص الإنسان هو خدمتهم للعتيدين أن يرثوا الخلاص لأنهم “أرواح خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14) (المعرب).