نار الروح وفداء المسيح للنفس – العظة الحادية عشر للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
العظة الحادية عشر للقديس مقاريوس الكبير – نار الروح وفداء المسيح للنفس – د. نصحى عبد الشهيد
“إن قوة الروح القدس في قلب الإنسان المسيحي هي كالنار، وما هي
الأشياء التي نحتاجها لكي نميِّز الأفكار التي تنشأ داخل القلب. وعن الحيَّة
الميّتة التي رفعها موسى وثبتها على الساري في البريَّة، والتي كانت رمزًا
للمسيح. وتحتوي هذه العظة أيضًا على تصور لمحاورتين: واحدة بين
المسيح والشيطان، والأخرى بين الخطاة والشيطان”.
النار الإلهيّة وتجديد النفس:
أن تلك النار السماويَّة، نار اللاهوت، التي ينالها المسيحيون في قلوبهم الآن وهم في هذا العالم الحاضر، هذه النار نفسها التي تعمل في قلوبهم من الداخل، سوف تصير ظاهرة من الخارج حينما ينحل ويتحلَّل الجسد، ثم تجمع الأعضاء ثانية وتسبب (هذه النار) قيامة الأعضاء التي كانت قد انحلَّت واضمحلَّت.. فكما أن النار التي كانت تتقد على المذبح في أورشليم، ظلَّت مدفونة في حفرة أثناء فترة السبي.
وعندما حلَّ السلام ورجع المسبيون إلى أورشليم، تجدَّدت هذه النار نفسها واشتعلت كما كانت سابقًا قبل السبي (انظر 2 مكابيين 1: 19-22)، هكذا الآن أيضًا فإن النار السماويَّة تعمل في هذا الجسد الذي ألفناه- هذا الجسد الذي في انحلاله (بالموت) يتحول إلى نتانة وقذارة- فتجدِّد هذا الجسد وتقيمه بعد أن يكون قد اضمحل وفسد.. أن النار الداخلية التي تسكن الآن في القلب سوف تستعلن حينئذٍ من الخارج، وتتم قيامة الجسد.
ونار الأتون التي أوقدها نبوخذ نصَّر لم تكن نارًا إلهيّة، بل مخلوقة، ولكن الثلاثة فتية الذين بسبب برّهم طُرحوا في الأتون، هؤلاء بينما كانوا في وسط النار المنظورة، فقد كانوا حاصلين في قلوبهم على النار الإلهيّة السماويَّة عاملة في داخل أفكارهم وفاعلة بقوتها فيهم.. وهذه النار السماويَّة كشفت نفسها من الخارج أيضًا.. فحجزت بينه وبين النار المنظورة في الأتون وأوقفتها حتى لا تحرق الأبرار، ولا تؤذيهم بأي نوع من الأذى..
وكذلك حينما مال عقل شعب إسرائيل وأفكارهم بعيدًا عن الله الحيّ وتحولوا إلى عبادة الأوثان، فقد ألزموا هارون بأن يجمع أوانيهم وحليّهم الذهبية وقال هارون لموسى أنه لمَّا طرح الحلي الذهب في النار تحولت إلى صنم كما لو أن النار قد صوَّرت ما في نيتهم وكان هذا كأمر غريب.. فإنهم في نيتهم وأفكارهم تحولوا وزاغوا إلى عبادة الصنم، وبحسب رغبتهم وقصدهم شكَّلت النار من حليّهم عجلاً مسبوكًا من صناعتهم وعبدوه وسجدوا له جهرًا (خر 32: 2-24، 9)..
وكما أن الثلاثة فتية كان لهم أفكار البر، فقبلوا نار الله في داخلهم وعبدوا الرب بالحق كذلك الآن فإن النفوس المؤمنة تنال النار الإلهيّة السماويَّة في إنسانها الداخلي، وهي في هذا العالم، وتلك النار نفسها تطبع صورة سماوية في طبيعتهم البشريّة.
وكما أن النار صوَّرت الأواني الذهبية فصارت صنمًا، فكذلك الرب يحقق ويتمم مقاصد النفوس المؤمنة الصالحة، ويطبع ويصوِّر في النفوس منذ الآن الصورة السماويَّة الجديدة بحسب رغبتهم وشهوتهم، وهذه الصورة هي التي ستظهر في القيامة من الخارج، وتمجّد أجسادهم من الداخل ومن الخارج.. وكما أن الأجساد في هذا الزمان تضمحل وتموت وتتحلل، هكذا تفسد الأفكار بعمل الشيطان، وتموت عن الحياة الحقيقيّة وتدفن في الطين والتراب لأن نفوسهم تهلك..
وكما أن الإسرائيليين طرحوا الأواني الذهبية في النار فصارت صنمًا، كذلك الإنسان الآن قد سلَّم أفكاره النقيّة الصالحة للشر، فاندفنت في وحل الخطية وصارت صنمًا.. وما الذي يفعله الإنسان حتى يكتشفها ويعرفها ويميِّزها ويطرحها بعيدًا عن ناره الخاصة؟.. هنا تحتاج النفوس إلى المصباح الإلهي، وهو الروح القدس، الذي ينير ويجدد البيت المظلم.. إن النفوس تحتاج إلى شمس البرّ الساطعة، التي تضيء وتشرق على القلب وهي السلاح الذي تكسب به المعركة.
وفي حالة تلك المرأة التي أضاعت الدرهم، فإنها أوقدت المصباح أولاً، وبعد ذلك كنست البيت، وهكذا إذ كنست البيت والمصباح مشتعل، فقد وجدت الدرهم المفقود، مدفونًا في التراب والوسخ..
هكذا النفس أيضًا، لا تستطيع من ذاتها أن تجد أفكارها وتميِّزها، وتحرِّرها، ولكن حينما يوقد المصباح الإلهي فإنه ينير البيت المظلم، وحينئذٍ تنظر النفس أفكارها، وكيف كانت مدفونة في وحل ووسخ الخطية. وتشرق الشمس وترتفع فترى النفس حينئذٍ هلاكها وتبدأ في استرداد أفكارها التي كانت مشتتة ومختلطة بالوسخ وعدم الطهارة، لأن النفس في الحقيقة كانت قد طُمست صورتها حين خالفت الوصية.
الخليقة استعبدت مع الإنسان:
وإذا حدث أن ملكًا له خيرات وخدم تحت سلطانه يخدمونه، قد أخذه أعداؤه أسيرًا، فإنه حينما يُؤسر ويبعد عن مملكته، فإن خدامه وعبيده يتبعونه في أسره.. وهذا ما حدث لآدم، فإن الله خلقه نقيًا لخدمته وعبادته، وكل هذه المخلوقات أُعطيت له لخدمة احتياجاته، وجعله الله سيدًا وملكًا على جميع المخلوقات.. ولكن حينما جاءته الكلمة الشريرة (كلمة إبليس) وتحدث معها، قابلها أولاً بالسمع الخارجي، ثم نفذت إلى داخل قلبه وملكت على كل كيانه.. وحينما أُسر وأُمسك هكذا، فإن الخليقة التي كانت تخدمه وتلازمه أُمسكت وأُسرت معه.. وعن طريق آدم ملك الموت على كل نفس، وطُمست الصورة الإنسانية الكاملة نتيجة العصيان، حتى أن جنس البشر تحولوا وصاروا يعبدون الشياطين..
ويا للأسف فإن ثمار الأرض التي خلقها الله حسنة صارت تقدم للشياطين. فإنهم يضعون على مذابحهم خبزًا وخمرًا وزيتًا، بل ويقدمون ذبائح الحيوانات أيضًا وليس ذلك فقط، بل صاروا يقدمون بنيهم وبناتهم ذبائح للشياطين (مز 106: 37).
المسيح يجدد النفس ويعيد الخلقة:
ولذلك فقد جاء الذي خلق النفس والجسد، أي المسيح، جاء بشخصه وأبطل كل عمل الشرير، وكل أفعاله التي عملها في أفكار البشر، وجدَّد وأعاد خلقة الصورة السماويَّة، لكي يصنع تجديدًا للنفس، لكي يعود آدم مرة أخرى ملكًا وسيدًا على الموت.. وفي ظلال الناموس سمى موسى مخلِّصًا لإسرائيل لأنه أخرجهم من مصر وكذلك الآن فإن المسيح المخلِّص والمحرِّر الحقيقي، يدخل إلى مكامن النفس الخفيّة ويخرجها من ظلمة مصر، ومن النير الثقيل والعبودية القاسية المُرَّة.. ولذلك فهو يأمرنا، أن نخرج من العالم ونصير فقراء في الأمور الماديّة المنظورة ولا نهتم بالاهتمامات الأرضيّة، بل نقف ليلاً ونهارًا على الباب وننتظر الوقت الذي يفتح فيه الرب القلوب المغلقة ويسكب علينا موهبة الروح القدس.
ولذلك فقد أخبرنا أن نترك الذهب والفضة والأقرباء، ونبيع كل مالنا ونوزع على الفقراء وبذلك يكون لنا كنز في السماء “لأنه حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك أيضًا” (مت 6: 21) فالرب يعلم أن الشيطان يسود على الأفكار من هذه الناحية، ليهبط بها إلى الاهتمام والقلق على الأمور الماديّة والأرضيّة.. لهذا السبب فإن الله لأجل عنايته واهتمامه بنفسك، قد أخبرك أن تتخلى عن الكل حتى تستطيع أن تطلب الخيرات والكنوز السماويَّة، وتحفظ قلبك منقادًا ومشتاقًا لله، لأنك حتى لو ملت ورغبت أن ترجع إلى الأشياء الماديّة فإنك لا تجد شيئًا تملكه، وبذلك فإنك تضطر، شئت أو لم تشأ، أن تلجأ بعقلك نحو السماء حيث كنزت كنزك ووضعته، لأنه حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك أيضًا.
الحيَّة النحاسية والمسيح المصلوب:
لقد أمر الله موسى- في الشريعة- أن يصنع حيَّة من نحاس ويرفعها ويثبتها على رأس ساري فكان كل من لدغته الحيات ينال الشفاء بمجرد تثبيت نظره على الحيَّة النحاسية ولقد صنع موسى هذا بتدبير وقصد إلهي، حتى أن أولئك المعاقين بالاهتمامات الأرضيّة، وعبادة الأصنام، ولذات الشيطان، وكل أنواع الشر، (هذه الأشياء هي سم الحيات)- فإنهم بهذه الوسيلة يتطلعون إلى أعلى، إلى ما هو فوق إلى الأمور السمائيَّة وإذ يبتعدون بنظرهم عن الأشياء السفلية فترة من الوقت فإنهم يعطون اهتمامهم لما هو أعلى وأسمى، وهكذا يتقدمون رويدًا رويدًا إلى ما هو أعلى وأكثر سموًا لكي يعرفوا ويتعلموا ذلك الذي هو الأعلى جدًا والأسمى جدًا والفائق على كل الخليقة..
وهكذا فقد أمرك بالمثل أن تصير فقيرًا، وتبيع كل شيء وتعطي للفقراء، حتى أنك فيما بعد إذا أردت أن تنزل بأفكارك إلى أسفل إلى الأرضيات، فإن الأمر يكون غير مستطاع لديك. لذلك فإنك تبتديء تفحص قلبك وتحاور أفكارك وتقول “حيث إنه ليس لنا شيء على الأرض فلنتجه بقلوبنا نحو السماء، حيث يوجد كنزنا، وحيث يوجد شغلنا وربحنا” وهكذا يبتديء قلبك أن يرفع نظره إلى فوق، لطلب السماويَّات- يطلب ما هو فوق- وإذ تفعل هكذا فإنك تنمو في الروح.
ولكن ما المقصود بالحيَّة الميتة؟ الحيَّة المثبتة على رأس الساري كانت تشفي أولئك الذين لدغتهم الحيات. فالحيَّة النحاسيَّة التي بلا حياة قد أبطلت فعل سم الحيات التي فيها حياة. وهذا رمز إلى جسد الرب. فالجسد الذي أخذه من العذراء مريم الدائمة البتولية، قد قدمه على الصليب، وعقله هناك مثبتًا على الخشبة، وهذا الجسد المائت على الصليب غلب وقتل الحيَّة التي تعيش وتزحف داخل القلب.
هو أعجوبة عظيمة كيف أن حيَّة مائتة ذبحت الحيّ، ولكن كما أن موسى صنع أمرًا جديدًا لما عمل حيَّة من نحاس، هكذا الرب أيضًا قد صنع شيئًا جديدًا من العذراء مريم، ولبس هذا الجسد بدلاً من أن يحضر معه جسدًا من السماء فالروح السماوي دخل في الطبيعة الإنسانية وعمل فيها، وجعلها تدخل في شركة مع اللاهوت إذ لبس الجسد البشري الذي صوره وشكله في بطن العذراء. وكما أن الرب لم يأمر بصنع حيَّة من نحاس في العالم إلاَّ في عهد موسى، هكذا أيضًا لم يظهر في العالم جسد بلا خطية إلاَّ جسد الرب يسوع. لأنه حينما تعدى آدم الأول الوصية، ملك الموت وتسلط على جميع أبنائه بدون استثناء ولذلك جاء الرب وغلب بجسده المصلوب الحيَّة العائشة.
وهذا الأمر العجيب “هو لليهود عثرة ولليونانيين جهالة” (1 كو 1: 23) ولكن ماذا يقول الرسول؟.
يقول: “ولكننا نكرز بيسوع المسيح وإياه مصلوبًا، وهو لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما عندنا نحن المخلَّصين فنكرز بالمسيح قوة الله وحكمة الله” (1 كو 1: 23-24)، (1 كو 2: 2) لأن الحياة هي في الجسد المائت على الصليب. هنا الفداء، هنا النور.
تصور محاورة بين المسيح وسلطان الموت:
هنا يأتي الرب إلى الموت ويحاوره ويأمر سلطان الموت أن يُخرج النفوس من الجحيم والموت، ويردها إليه. وكأن الموت قد انزعج من أمر الرب، وكأنه يذهب إلى خدامه ويجمعهم معًا مع كل قواته ويأتي رئيس الشر بوثيقة الدين وكأنه يقول: “انظر فإنهم قد أطاعوا كلماتي، انظر كيف صار بني البشر عبيدًا لنا”. ولكن الرب لكونه ديَّان عادل يظهر عدله هنا أيضًا.
وكأنه يقول للشيطان: “إن آدم قد أطاعك وأنت قد امتلكت قلوب كل البشر، وكل البشريّة أطاعتك ولكن ما الذي يفعله جسدي هنا، إن جسدي هو بلا خطيئة وإن كان جسد آدم الأول قد صار تحت سلطانك ولك الحق أن تستعبده بسبب الخطيئة، ولكن من جهتي أنا فالجميع يشهدون أني لم أخطيء قط، ولذلك ليس لك فيَّ شيء بالمرَّة، بل الكل يشهدون أني ابن الله، وقد جاء الصوت من أعلى السموات وشهد لي على الأرض قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا” (مت 3: 17)، (مت 17: 5). لقد شهد يوحنا أيضًا قائلاً: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29).
ويقول الكتاب أيضًا: “الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش” (إش 53: 9)، (1 بط 2: 22) وأيضًا: “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء” (يو 14: 30). وكأن الرب يقول للشيطان وأنت نفسك شهدت لي قائلاً: “أنا أعرفك من أنت، قدوس الله” (مر 1: 24)، “أنك أنت ابن الله” (مر 3: 11) وأيضًا قلت “ما لنا ولك يا يسوع الناصري، هل أتيت قبل الوقت لتهلكنا” (مت 8: 29، لو 4: 34). إن هناك ثلاثة شهود يشهدون لي- الأول هو الآب الذي أرسل الصوت من السماء، والثاني هم الذين شهدوا لي على الأرض والثالث هو أنت بعينك. وكأن الرب يقول للشيطان “ولذلك فأنا أفتدى الجسد الذي باعه لك آدم الأول، وأبطل صكوكك بصليبي.
لقد دفعت ديون آدم حينما صُلبت ونزلت إلى الجحيم، والآن أنا آمرك أيها الجحيم والظلمة والموت أن تطلق نفوس أبناء آدم المأسورين” وهكذا فالقوات الشريرة تصاب برعب شديد وتضرب بالفزع وتعيد نفوس آدم وبنيه التي كانت محبوسة.
المسيح يدخل إلى عمق قلبك ليقيمك:
ولكن حينما تسمع أن الرب خلَّص النفوس من الجحيم والظلمة، في ذلك الوقت ونزل إلى الجحيم وعمل عملاً مجيدًا، فلا تتصور أن هذه الأمور هي بعيدة جدًا عن نفسك أنت خاصة. فالإنسان عنده القابلية لدخول وقبول الشرير في حياته. والموت يمسك بنفوس أولاد آدم، فتنحبس أفكار النفس في الظلمة. وحينما تسمع عن القبور، لا تفكر فقط في القبور المنظورة، فإن قلبك ذاته هو قبر ومدفن وحينما يختبيء رئيس الشر وجنوده كامنين هناك (في القلب)، ويصنعون فيه طرقًا ومسالكًا، تسير فيها قوات الشيطان وتدخل إلى عقلك وأفكارك، ألا تكون أنت في هذه الحالة جحيمًا ومدفنًا وقبرًا، إنسانًا ميتًا من جهة الله؟ وهناك يصنع الشيطان فضة زائفة مرفوضة.
وفي هذه النفس يزرع بذور المرارة. ويخمِّرها بالخميرة العتيقة، فينبع فيها ينبوع الوحل والقذارة. ولذلك فإن الرب يأتي إلى النفوس التي تطلبه ويدخل إلى عمق جحيم القلب، وهناك يصدر أمره للموت قائلاً: أخرج النفوس المحبوسة التي تطلبني، التي تحتجزها أنت بالقوة وهكذا يكسر الرب الحجارة الثقيلة الموضوعة على النفس، ويفتح القبور ويقيم الإنسان الذي كان مائتًا بالحقيقة ويطلق النفس المحبوسة من السجن المظلم.
ومثل إنسان مقيَّد اليدين والرجلين بالسلاسل، ثم يأتيه شخصٍ ما يفك قيوده ويجعله ينطلق حرًا، هكذا الرب يحلّ النفس المقيَّدة بأغلال الموت من قيودها ويطلقها، ويطلق العقل حرًا ليحلق براحه وبدون عائق في الجو الإلهي. ولو افترضنا أن إنسانًا غرق في وسط نهر في شدة فيضانه وتغمره المياه فيصير بلا حياة وتحيط به الحيوانات المائية المخيفة.
فإذا أراد إنسان آخر أن ينقذه وهو لا يعرف السباحة فهو أيضًا يهلك ويغرق معه، وإنه لأمر واضح أنه يلزم وجود سبَّاح ماهر، وخبير لينزل إلى عمق المياه ويغطس حتى يرفع الإنسان الغارق وينقذه من وسط الحيوانات، فالماء نفسه حينما ينزل إليه إنسان ماهر في السباحة فإنه يساعد مثل هذا الإنسان ويحمله إلى السطح.
وبنفس الطريقة فإن النفس التي غطست وغرقت في هاوية الظلمة وعمق الموت، تنفصل عن الله في صحبة الحيوانات المخيفة، (هذه النفس) من الذي يستطيع أن ينزل إلى الأماكن المخيفة وإلى أعماق الجحيم والموت لينقذها إلاَّ ذلك الخبير والصانع العظيم الذي خلق النفس والجسد. وهو بشخصه يدخل إلى الناحيتين، إلى عمق الجحيم وإلى عمق القلب حيث يكون الموت ممسكًا بالنفس وأفكارها ويخرج آدم المائت من الهاوية المظلمة. إذن فحتى الموت نفسه- عن طريق التمرن والخبرة- يصير مساعدًا للإنسان، كما يفعل الماء مع السباح.
وأي صعوبة على الله أن يدخل إلى الموت، أو أن يدخل إلى عمق هاوية القلب ويدعو الإنسان المائت من هناك؟ ففي العالم الطبيعي، توجد بيوت ومساكن حيث يسكن البشر، وتوجد أماكن تسكن فيها الوحوش والأسود والتنانين وغيرها من الوحوش السامة.
فإن كانت الشمس- التي هي مخلوقة حينما تشرق تدخل في كل اتجاه، من النوافذ والأبواب وحتى إلى مغائر الأسود وجحور الثعابين ثم تخرج ثانية من كل هذه المواضع دون أن تصاب- أي الشمس- بأي ضرر، فكم بالحري جدًا عندما يدخل الله رب الكل إلى الأماكن المظلمة الضيقة والمساكن التي نصب فيها الموت خيمته. ويدخل إلى النفوس التي تعيش فيها ويوقظ الإنسان من الظلمة والموت دون أن يصاب الله بأي ضرر من الموت. والمطر أيضًا ينزل من السماء ويسري إلى أسافل الأرض وهناك يرطب ويجدد الجذور الجافة المائتة، وينشأ هناك زرعًا جديدًا.
النعمة تثبِّت وتسند الأخ المجاهد:
ومن الناس من له جهاد ومعاناة وحرب مع الشيطان، ومثل هذا الإنسان يكون منسحق القلب، ويكون في حرص وبكاء ودموع.. فإن كان هذا الإنسان يصبر ويحتمل، فإن الرب يكون معه في الحرب، ويحفظه ويحميه لأنه يطلب ويسعى بغيرة واشتياق، ويقرع على الباب إلى أن يفتح له، فإن رأيت أخًا صالحًا، فإن النعمة هي التي تثبِّته وتسنده، أما الإنسان الذي بلا أساس فلا تكون فيه مخافة الله هكذا.
وقلبه ليس منسحقًا وهو لا يعتني ويحرس قلبه وأعضاؤه بحيث يسلك باستقامة. فنفس مثل هذا الإنسان هي بعيدة عن النعمة وهو لم يدخل بعد في الحرب والجهاد. إذن يوجد فرق بين الإنسان الذي له حرب وجهاد وبين تلك الذي لا يعرف معنى الحرب. وحتى البذور حينما تُلقى في الأرض تعاني من الشتاء والصقيع وبرودة الهواء. ولكن في الوقت المناسب ينبت الزرع ويحيا.
تمسَّك بوعود الرب واطلبه باستمرار:
ويحدث أحيانًا أن الشيطان يتكلم في القلب قائلاً: انظر كم من الشرور فعلت! “انظر ما أكثر الحماقات التي تمتليء بها نفسك، وأنت مثقل بخطايا كثيرة حتى أنه لا يمكنك أن تخلص”. والشيطان يقول لك هذا لجذبك إلى اليأس وليجعلك تظن أن توبتك لا تُقبل فمنذ دخل الشر فينا بالمعصية، فقد صار يتحدث مع النفس كل ساعة كما يخاطب الإنسان صاحبه. وأما أنت فأجبه وقل: “إن عندي شهادات الرب المكتوبة، التي تقول “إني لا أُسر بموت الخاطيء بل أن يتوب ويرجع من شره فيحيا” (حز 13: 11، 18: 21).
ولأجل هذا الغرض قد نزل الرب وتجسد، ليخلِّص الخطاة وليقيم الموتى ويحيي النفوس التي هلكت وليضيء على الذين في الظلمة. إنه في الحقيقة قد جاء، ودعانا لنكون أبناء بالتبني، دعانا إلى المدينة المقدسة التي هي في سلام دائم، دعانا إلى الحياة التي لا موت فيها، وإلى المجد الذي لا يضمحل، فلنثبت إلى النهاية في الدعوة التي دعانا إليها وبدأنا فيها.
فلنظل في فقر وفي تغرُّب وفي احتمال الشدائد، وفي التوسل والصلاة لله قارعين الباب بلجاجة، والرب قريب إلينا أكثر من قرب النفس من الجسد. لذلك فهو يأتي ويفتح أبواب القلب المغلقة ويسكب علينا غناه وخيراته السمائيَّة. فهو صالح ومحب ومشفق على الإنسان، ومواعيده صادقة بلا كذب، إن كنا نستمر في طلبنا إياه إلى المنتهى.. والمجد لرأفات الآب والابن والروح القدس. آمين.