Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

السعي للملكوت الأبدي – العظة الرابعة للقديس مقاريوس الكبير

العظة الرابعة للقديس مقاريوس الكبير – السعي للملكوت الأبدي محبة الله الشديدة للإنسان – د. نصحى عبد الشهيد

العظة الرابعة للقديس مقاريوس الكبير – السعي للملكوت الأبدي محبة الله الشديدة للإنسان – د. نصحى عبد الشهيد

العظة الرابعة للقديس مقاريوس الكبير – السعي للملكوت الأبدي محبة الله الشديدة للإنسان – د. نصحى عبد الشهيد

“ينبغي على المسيحيين أن يتمموا سعيهم في هذا العالم بحرص وحذر، لكي يربحوا المديح السماوي من الله والملائكة”.

نحن الذين نرغب أن نحيا الحياة المسيحيَّة بكل إخلاص وأصالة، ينبغي قبل كل شيء آخر أن نجتهد بكل قوتنا في تربية الملكة المميّزة والمفرزة في النفس (ملكة التمييز والإفراز)، حتى إذا حصلنا على إحساس دقيق وإدراك للفرق بين الخير والشر وصرنا دائمًا مميّزين الأشياء الغريبة التي اختلطت بالطبيعة النقيّة بشكل غير طبيعي، فإنه يمكننا أن نسلك باستقامة، وبلا عثرة وباستعمال قوة التمييز هذه كأنها عين، يمكننا أن نحفظ أنفسنا أحرارًا من أي ارتباط أو اتحاد، مع إيحاءات الخطية، وهكذا يمكن أن تُمنح لنا الموهبة السماويَّة التي نصير بها أهلاً للرب.

ولنأخذ مثلاً لإيضاح ذلك من العالم المنظور، فإنه يوجد تشابه بين الجسم والنفس، بين أمور الجسد وأمور النفس، وبين الأشياء المنظورة والأشياء المستترة.

 

تشبيه عين الجسد والسير في الغابات:

فالجسد له عين لترشده وتقوده. والعين بواسطة الإبصار، تقود الجسد كله باستقامة. فتخيّل إنسانًا يسير في مناطق غابات، مملوءة بالأشواك والأوحال، وحيث تكون هناك نار مشتعلة، وفي الأرض تكون الحشائش اليابسة سيوف منتصبة، وهناك أيضًا مهاوى ومياه كثيرة، فإن كان مسافرًا مُجدًا، حريصًا وذكيًا، فإن عينيه تقوده ليعبر تلك الأماكن الصعبة بانتباه شديد، ويرفع ملابسه من كل ناحية بيديه لئلا تتمزق من الأدغال والأشواك، أو تتلوث بالوحل أو تُقطع بأحد تلك السيوف. فعينه تقود الجسم كله. فعينه هي بمثابة نور له، تخلصه من الوقوع في المهاوي والمنحدرات، أو من الغرق في المياه وتحفظه من أي ضرر آخر.

فالإنسان النشط والحذر بهذا القدر، يسير بكل حرص، إذ يلف عباءته على جسمه لتلتصق به، وكل هذا تحت قيادة عينه، فيحفظ نفسه من الأذى ويحفظ عباءته التي يلبسها من الاحتراق والتمزق. ولكن إذا كان المسافر في مثل هذه الأماكن كسولاً متوانيًا ومتفائلاً وثقيلاً غير مبالٍ، فإن ثوبه يتهدل حوله من هنا ومن هناك، فيتمزق بواسطة الأدغال والأشواك أو يحترق بالنار لأنه لم يلفه بإحكام حول جسمه ليحفظه، أو ربما يتقطع الثوب إلى قطع بواسطة تلك السيوف المنصوبة في الطريق، أو يتلوث بالوحل- وبطريقة أو بأخرى فإنه سرعان ما يتلف ثوبه الجميل الجديد، وذلك لقلة حرصه وإهماله وتكاسله، وإذا لم ينتبه الانتباه الجيد المناسب لما تخبره به عينه، فإنه هو نفسه يسقط في حفرة أو ربما يغرق في المياه.

وبنفس الطريقة، فإن النفس التي تلبس رداء الجسد الحسن ككساء لها، تملك ملكة وقوة التمييز لتوجيه وقيادة الحياة كلها مع الجسد، بينما هي تعبر وسط أدغال وأشواك الحياة، والوحل والنار والمهاوي التي هي الشهوات واللذات وغيرها من أشياء هذا العالم الخاطئة، ينبغي لها أن تتحزم وتصون نفسها ولباسها الذي هو الجسد بحرص وتحفّظ من كل ناحية، وبحزم وغيرة وعناية، وتحفظ نفسها من أن تتمزق بأدغال وأشواك العالم- أي الهموم والانشغالات والمعوقات الأرضيّة ومن أن تحترق بنار الشهوة.

وإذ هي لابسة هكذا، فإنها تحول نظرها عن رؤية المناظر الشريرة وتحول أذنها عن الإنصات للمذمة، ولسانها عن التكلم بالكلام الباطل، ويديها وقدميها عن المسالك الشريرة. فالنفس لها إرادة، يمكن أن تحول بها وتحجز أعضاء الجسم عن المناظر القبيحة، وعن الأصوات الشريرة المخزية وعن الكلام البذيء وعن المساعي العالمية الشريرة.

وهي تتحول أيضًا بعيدًا عن الخيالات الشريرة وتحفظ القلب كي لا يدع أعضاء فكره تتجول في العالم. وهكذا إذ تسعى بجد واجتهاد وبحرص عظيم فإنها تضبط أعضاء الجسد من كل جهة عن كل ما هو رديء فإنها تحفظ ذلك الثوب الحسن أي الجسد، غير ممزق، غير محترق، غير ملوث، وهي ذاتها تُحفظ بواسطة إرادة مبصرة عارفة ومميزة، وكل هذا يتم بقوة الرب، فبينما هي تجمع ذاتها بكل قوتها وتتحول عن كل الشهوات العالمية فإنها تنال المعونة من الرب لتُحفظ حقيقةً من الكوارث التي تكلمنا عنها.

لأنه حينما ينظر الرب أي إنسان يعطي ظهره بشجاعة للذات ولمعوقات الحياة الأرضيّة، والاهتمامات الماديّة والعلاقات الأرضيّة، ولخيالات الأفكار الباطلة، فإنه يعطيه معونة نعمته الخاصة ويحفظ تلك النفس بلا سقوط، بينما هي تعبر بسمو ونبل خلال هذا “العالم الحاضر الشرير” (غل 1: 4). وهكذا تربح النفس المديح السماوي من الله والملائكة لأنها حفظت ثوب جسدها وذاتها أيضًا حسنًا، معرضة بكل ما تملك من قوة عن كل شهوات العالم، وبمعونة الله تكون قد نجحت بسمو في شوط سباق هذا العالم.

ولكن إن كان الإنسان يسير في طريقه في هذه الحياة بتراخي وإهمال، وبدون حرص، ولا يتحول عن كل شهوة العالم، ولا يطلب الرب- والرب وحده- بكل شوقه، فإن أشواك وأدغال العالم تنغرس فيه وثوب الجسد يحترق هنا وهناك بنار الشهوة، ويتلوث بوحل اللذات، وبذلك فإن النفس تُحرم من الدالة (الثقة) في يوم الدينونة (1 يو 4: 17)، إذ أنها لم تنجح في حفظ ثوبها بلا عيب، بل أفسدته بأمور هذا العالم الخادعة، ولهذا السبب فإنها تُطرح خارج الملكوت.

فما الذي يستطيع أن يفعله الله مع الإنسان الذي يسلّم نفسه بإرادته واختياره للعالم وينخدع بلذاته وينجذب بالمتاهات الماديّة؟ فالله يعطي المعونة للإنسان الذي يتحول عن اللذات الماديّة وعن سيرته السابقة التي تعود عليها ويوجِّه عقله باجتهاد كل حين نحو الرب، وينكر نفسه ويطلب الرب وحده. هذا هو الإنسان الذي يعتني به الرب ويحفظه تحت عنايته الخاصة ويحرس نفسه من كل جهة، من فخاخ وشباك هذا العالم المادي، إنه هو ذلك الإنسان الذي تمّم خلاصه بخوف ورعدة (في 2: 12)، إنه هو الذي يسير بكل حرص وسط فخاخ وشباك وشهوات هذا العالم، ويطلب نعمة الرب وعونه، ويترجى برحمته أن يخلص بالنعمة.

 

مثل العذارى:

انظر وفكر في الخمس عذارى الحكيمات اللواتي كن ساهرات مستيقظات وقد أخذن في أوعية قلوبهم ذلك الذي لم يكن من طبيعتهن الخاصة- وهو الزيت، الذي يعني نعمة الروح المنسكب من فوق، أولئك العذارى تمكنَّ من الدخول مع العريس إلى العرس السماوي، ولكن الأُخر الخمس الجاهلات اللواتي اكتفين بطبيعتهن الخاصة فلم يتيقظن ولم يشغلن أنفسهن بنوال “زيت البهجة” (مز 45: 7) في آنيتهن أثناء وجودهن في الجسد، بل غرقن كما في نوم الإهمال والتغافل والكسل والجهل، أو لادعائهن البر، ولذلك أُغلق أمامهن عرس الملكوت إذ لم يتمكنَّ من إرضاء العريس السماوي.

فإذا قد رُبطن برباط العالم وبمحبة أرضية، لم يوجهن كل حبهنَّ ولم يقدمنَّ عواطفهنَّ الحارة للعريس السماوي،. فلم يُزودن بالزيت. فالنفوس التي تطلب تقديس الروح الذي هو من خارج طبيعتها تعلق حبها كله بالرب وتسير في الرب، وفي الرب تصلي، وبه تنشغل أفكارها، تاركين كل ما هو سواه، ولهذا السبب تُحسب أهلاً لنوال زيت النعمة السماويَّة، وتنجح في عبور هذه الحياة بلا سقوط مقدمين إرضاءً وإشباعًا كاملاً للعريس السماوي. وأما النفوس التي تكتفي بما لطبيعتها الخاصة فقط فإنها تهبط بفكرها على الأرض. وتنشغل أفكارها بالأرض، ويكون عقلها كله في الأرض. وهي تظن في ذاتها أنها تطلب العريس وتتزين بكمالات برّ الجسد، ولكنها غير مولودة من الروح القدس من فوق، ولم تنل زيت البهجة.

فحواس النفس الخمس العاقلة، إن هي حصلت من فوق على النعمة وتقديس الروح كانت حقًا عذارى حكيمات حاصلات على حكمة النعمة من فوق. ولكن إن بقينَّ في راحة مكتفيات بطبيعتهن فإنهن يكن جاهلات وينكشف أنهن من أبناء العالم. إذ لم يكنَّ قد خلعن روح العالم، رغم أنه في ظنهن أنهن عرائس العريس بسبب بعض المظاهر الخاصة والشكل الخارجي. فكما أن النفوس التي تلتصق بكليتها بالرب.

تكون فيه بفكرها، تصلي فيه وتسير فيه وتشتاق لمحبة الرب، هكذا من الجهة الأخرى، تلك النفوس المُقيدة والمربوطة بحب العالم، تريد أن تصرف وجودها على الأرض وتسعى وتفكر فيها وهناك يسكن ويوجد عقلها. ولهذا السبب فإنهم لا يقدرون أن يتحولوا إلى حكمة الروح الصالحة التي هي غريبة عن طبيعتهن- أعني النعمة السماويَّة- التي يلزم أن تلتحم بطبيعتنا وتمتزج بها، لكي نستطيع الدخول مع الرب إلى عرس الملكوت السماوي ولننال الخلاص الأبدي.

لأنه بمعصية الإنسان الأول دخل فينا شيء غريب عن طبيعتنا، الذي هو كارثة الفساد والأهواء وقد اتخذ هذا الفساد مكانه كأنه جزء من طبيعتنا بطول العادة والميل، وهذا الشيء الغريب يجب أن يُطرد ثانية بواسطة الضيف الآخر، ضيف طبيعتنا أي موهبة الروح القدس السماويَّة، لكيما نستعيد النقاوة الأصلية، وإن لم نحصل الآن على محبة الروح من السماء بالتضرع الكثير، والتوسل، والإيمان، والصلاة، والتحول عن العالم، وإن لم تلتصق طبيعتنا- التي كانت قد تلوثت بالشر- إن لم تلتصق بالمحبة، التي هي الرب، وتتقدس بمحبة الروح، وإن لم نثبت إلى النهاية غير عاثرين، سالكين بجد وتدقيق في كل وصاياه، فلا يمكننا الحصول على الملكوت السماوي.

 

حنان الله ومحبته الشديدة للإنسان:

وأريد أن أتكلم بعمق ودقة في هذا الموضوع بأقصى قدراتي، فاسمعوا لي إذن بانتباه وذكاء: إن الله غير المحدود، الذي لا يُدنى منه، غير المخلوق قد صار جسدًا، بصلاحه وحنانه الذي يفوق العقل، أي أنه أخلى نفسه من مجده الذي لا يُدنى منه، ليتمكن من الاتحاد بخلائقه المنظورة، مثل نفوس القديسين، والملائكة، وذلك حتى يستطيعوا هم أن يشتركوا في حياة اللاهوت. فإن كل واحد من هذه (الخلائق)، بحسب نوعه، هو جسم، سواء كان ملاكًا أو نفسًا أو شيطانًا.

وبرغم لطافة طبيعة كل منهم بحسب نوعها، فإنهم في جوهرهم وصفاتهم وصورتهم، لا يزالون أجسامًا لطيفة، كما أن جسدنا هذا هو في جوهره جسم كثيف. وأكثر من ذلك فإن النفس، التي هي لطيفة جدًا، قد استعانت بالعين لتنظر بها، والأذن لتسمع بها، واللسان لتتكلم به، واليد، بل وكل الجسد وأعضاءه قد استعانت بها النفس واتحدت بها، وعن طريقها تقوم بكل واجبات الحياة.

وبنفس الطريقة، فإن الله غير المحدود، الذي يفوق الإدراك، في صلاحه ورحمته، أنقص نفسه (أخلى نفسه)، ولبس أعضاء هذا الجسد، متخليًا عن المجد الذي لا يُدنى منه، وبرأفته ومحبته للإنسان يصير هو بنفسه جسدًا، ويأخذ إليه النفوس المقدسة المرضيّة الآمينة، ويختلط معها، بل ويصير معها روحًا واحدًا كما قال الرسول بولس (1 كو 6: 10) ونفسًا في نفس، وإن أمكن أن أقول هكذا: وجوهرًا في جوهر، حتى أن النفس تستطيع أن تعيش في اتحاد، وتتذوق الحياة غير المائتة وتصير شريكة في المجد الذي لا يفسد- أعني إذا كانت النفس مؤهلة ومرضية عنده.

فإن كان الله، مما لم يكن، قد خلق الخليقة المنظورة، بمثل هذا التنوع والاختلاف، وقبل أن تُخلق لم يكن لها وجود- وهكذا شاء فصنع بسهولة، من العدم، جواهر كثيفة وجامدة، مثل الأرض والجبال والأشجار- وها أنت ترى مدى الصلابة التي في الطبيعة- وأيضًا خلق المياه المتوسطة، وأمر بأن تخرج منها الطيور- وصنع أيضًا مخلوقات ذات طبيعة ألطف، كالنار والرياح وأشياء أخرى تصل في لطفاتها إلى حد عدم إمكان رؤيتها بعين الجسد.

فإن كانت المهارة غير المحدودة التي لا يعبّر عنها- مهارة “حكمة الله المتنوعة” (أف 3: 10) تستطيع أن تخلق من العدم أجسامًا كثيفة وأخرى لطيفة وأخرى ألطف جدًا، كلٍ بحسب نوع جوهره، وذلك بحسب مشيئته، فهل لا يستطيع بالأحرى جدًا، ذلك الذي يفعل كما يشاء وما يشاء، وبرحمته التي لا توصف وصلاحه الذي يفوق العقل، أن يغيّر ويكيف النفوس المستحقة والآمينة، ويجعلها مشابهة له بواسطة الجسد الذي اتخذه، حتى أنه وهو غير المنظور، يمكن أن ينظروه، وغير الملموس يحسوه على حسب لطافة طبيعة النفس- ولكيما يشعروا بحلاوته ويختبروه اختبارًا حقيقيًا إذ يتمتعون بجمال وبهاء نوره الذي يفوق الوصف؟ وحينما يريد يصير نارًا محرقة لكل هوى خبيث دخل إلى النفس، “لأن إلهنا نار آكلة” (عب 12: 29). وحينما يريد يصير راحة لا يُنطق بها ولا يُعبر عنها، لكي تستريح النفس في راحة اللاهوت الخاصة. وحينما يريد يصير فرحًا وسلامًا للنفس، ومُدللاً ومُعانقًا لها.

وبالحقيقة، إذا سُرّ الله أن يتشبه بإحدى خلائقه- لأجل بهجة وفرح خلائقه العاقلة- مثلاً كأورشليم مدينة النور، أو صهيون[1] الجبل السماوي، فإنه يستطيع أن يفعل كل ما يريد، بحسب المكتوب “قد أتيتم إلى جبل صهيون، إلى مدينة الله الحي أورشليم السماويَّة” (عب 12: 22)، فكل الأشياء سهلة ويسيرة عنده، وقد يتشكل بأي شكل يختاره لأجل منفعة النفوس الآمينة التي تستحقه.

فليسعَ الإنسان فقط، أن يكون صديقًا له ومرضيًا إياه، فيرى في اختبار وشعور حقيقي، الخيرات السماويَّة، ومباهج اللاهوت التي لا يُعبر عنها وغناه غير المحدود، الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر” (1 كو 2: 9)، أعني روح الرب، الذي يجعل نفسه راحة وفرحًا وبهجة وحياة أبدية للنفوس المستحقة. لأن الرب يجسّم نفسه حتى في الطعام والشراب كما هو مكتوب في الإنجيل “من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو 6: 58)، لكي يُعطي النفس راحة لا يُنطق بها، ويملأها بهجة روحانية، لأنه هو يقول “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 25). وهو يجسّم نفسه في شراب الينبوع السماوي، كما يقول “كل من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو 4: 14)، وأيضًا يقول الرسول “وجميعنا سُقينا شرابًا واحدًا” (1 كو 12: 13 مع 1 كو 10: 4).

 

ظهورات الله المتنوعة للنفوس:

لقد ظهر الله لكل واحد من الآباء القديسين بالطريقة التي أرادها واستحسنها لهم- فظهر لإبراهيم بطريقة ولإسحق بأخرى وليعقوب بطريقة غيرها، وبغيرها لنوح، ولدانيال، ولداود، ولسليمان، ولإشعياء، ولكل واحد من الأنبياء القديسين، وبطريقة لإيليا، وبأخرى لموسى. وفي اعتقادي أن موسى- في كل ساعة على الجبل طوال صوم الأربعين يومًا- كان يقترب إلى تلك المائدة الروحانيّة ويتلذذ بها متمتعًا ببهجتها.

وظهر الله، بحسب ما شاء هو، لكل واحد من القديسين ليعطيهم راحة وخلاصًا، وليقودهم إلى معرفته. وأي شيء يشاءه هو سهل عنده. فكما يريد، فهو ينقص نفسه ببعض التجسيم، ويجعل ذاته منظورًا لعيون أولئك الذين يحبونه، مظهرًا ذاته لأولئك الذين يستحقون، في مجد نور لا يُدنى منه، وذلك بحسب محبته العظيمة والتي لا يُنطق بها، وبواسطة قوته الخاصة. والنفس التي حُسبت أهلاً باشتياق شديد وانتظار لله، وإيمان ومحبة، لأن تنال تلك القوة من الأعالي، أي محبة الروح السماويَّة، وقد نالت النار السماويَّة، نار الحياة غير المائتة، فإنها تنفك حقًا من كل محبة عالمية وتنطلق حرة من كل رباط الشر.

 

تغيير النفس بنار المحبة الإلهيّة:

فكما أن الحديد، والرصاص والذهب، أو الفضة، حينما تُلقى في النار تنصهر وتتغير من صلابتها الطبيعيّة إلى قوام لين، وطوال بقائها في النار تستمر منصهرة ومتغيرة عن تلك الطبيعة الصلبة، بواسطة شدة حرارة النار، كذلك النفس التي أنكرت العالم وثبَّتت شوقها نحو الرب وحده، بتفتيش كثير وآلام وصراع النفس، وتداوم على انتظار الرب انتظارًا غير منقطع بالرجاء والإيمان، والتي قد نالت تلك النار السماويَّة، نار اللاهوت ونار محبة الروح، فهذه نفس تنفك حينئذٍ بالحقيقة من كل محبة العالم وتنطلق حرة من كل فساد الأهواء وتطرح عنها كل شيء وتتغير من عادتها الطبيعيّة وصلابة الخطية، وتعتبر كل الأشياء بلا قيمة بالمقارنة مع العريس السماوي الذي قبلته، مستريحة بذلك في حبه الشديد الذي يفوق الوصف.

وأقول لكم بالحقيقة إنه حتى الإخوة المحبوبين جدًا الذين تبصرهم هذه النفس بعينها، إذا أعاقوها عن تلك المحبة فإنها تتحول عنهم. لأن حياة النفس وراحتها هي في تلك العشرة الخفيّة الفائقة الوصف مع الملك السماوي. لأنه إن كانت شركة المحبة الأرضيّة (بالزواج) تتسبب في مفارقة الإنسان لأبيه وأمه وإخوته بل وكل الأشياء تبتديء تصير في نظر الزوجين خارجة عنهما، ورغم أنهما يظلان يحبونهم فإنهما يحبونهم محبة أكثر سطحيَّة، بينما يكون انشغال الإنسان كله موجهًا نحو علاقته بعروسه- لذلك يقول الكتاب “من أجل هذا يترك الرجل وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا” (تك 2: 24).

فأقول إن كانت المحبة الجسديّة تجعل الإنسان ينفك من كل محبة أخرى فكم بالأحرى جدًا أولئك الذين حُسبوا أهلاً للدخول حقًا في شركة الروح، ذلك الروح السماوي المحبوب، ينفكون من كل محبة عالمية ويصبح كل شيء آخر عديم القيمة بالنسبة لهم لأنهم غُمروا بشهوة سماوية وصاروا بكليتهم في ألفة وانسجام معها.

حسنًا يا إخوتي الأحباء، فحينما توضع مثل هذه الخيرات أمامنا وقد وعدنا الرب بمثل هذه المواعيد العظيمة، فلنطرح عنا كل العوائق ونهجر كل محبة العالم، ونعطي أنفسنا بسعي واشتياق لذلك الذي هو وحده صالح، لكي نصل إلى ذلك الحب الذي لا ينطق به، أي محبة الروح التي أوصانا بخصوصها القديس بولس حاثًا إيانا أن نجدّ في طلبها قائلاً: “اتبعوا المحبة” (1 كو 14: 1) لكيما نتغير من قساوتنا بواسطة يمين العليّ، ونأتي إلى الحلاوة والراحة الروحانيّة، بعد أن ننجرح بالمحبة القوية، محبة الروح الإلهي.

إن الرب محب جدًا للإنسان وبرحمته يبقى في انتظار أن نتحول تحولاً كاملاً إليه ونتحرر من كل الأشياء المضادة. وبالرغم من أننا في جهلنا العظيم، وحماقتنا وميلنا إلى الشر، نبتعد عن الحياة ونضع عوائق كثيرة في طريقنا، غير راغبين أن نتوب حقيقة، لكنه هو مع ذلك مملوء بالحب والشفقة علينا، ويطيل أناته إلى أن نتوب ونأتي إليه، ونستنير في إنساننا الباطن لكي لا تخزى وجوهنا في يوم الدينونة.

 

محبة الله الشديدة لنا ومواعيده العظيمة:

فإن كان الأمر يبدو لنا صعبًا بسبب مشقة ممارسة الفضيلة، ويبدو أكثر صعوبة بسبب مشورات العدو الغادرة، فانظروا أحشاء رحمة الله وطول أناته من نحونا وهو منتظر رجوعنا، وحينما نخطيء فهو يمد يده، في انتظار توبتنا. حينما نسقط، لا يستحي أو يخجل من قبولنا واحتضاننا ثانية، كما يقول النبي “هو يسقطون ولا يقومون أو يرتد أحد ولا يرجع” (إر 8: 4). فلنكن فقط صاحين متيقظين، ولنا نيّة صالحة أكيدة، ولنتحول حالاً باستقامة ونطلب منه المعونة وهو مستعد أن يخلّصنا. وهو يتطلع وينظر إلى إرادتنا ورغبتنا في الرجوع إليه برغبة حارة بأقصى طاقة عندنا، ويتطلع إلى الإيمان والغيرة النابعة من القصد الصالح، أما نجاح المسعى كله فهذا هو عمله الخاص.

لذلك فلنسع، أيها الأحباء أولاد الله، تاركين جانبًا كل انشغال، وإهمال وتكاسل، ونتشجع ونكون مستعدين لاتباعه. ولا نتأخر من يوم إلى يوم، غير ملاحظين إلى أي مدى تجرحنا الخطية. إننا لا نعرف متى يأتي وقت انتقالنا من الجسد. إن المواعيد المعطاة والمقدمة للمسيحيين هي مواعيد عظيمة ولا يُنطق بها، عظيمة جدًا حتى أن كل مجد وبهاء السماء والأرض وكل زينة أخرى بكل نوع وكل كنوز وجمال الأشياء لمنظورة لا تساوي شيئًا بالمرة بالنسبة للإيمان والكنز الذي لنفسٍ واحدةٍ.

 

محبته وطول أناته وانتطاره لحظة توبتنا ورجوعنا:

فكيف نستطيع إذن أن نرفض بقلوبنا قبول مثل هذه الدعوات والمواعيد من الرب ونأبى المجيء إليه وتخصيص نفوسنا له، منكرين كل شيء “حتى نفوسنا أيضًا ” (لو 14: 26) كما يقول الإنجيل، وأن نحبه وحده وليس شيء آخر معه، ولكن بالرغم من كل هذه الأشياء، والمجد العظيم الذي قد أُعطيّ، وبالرغم من كل تدبيرات الرب منذ أزمنة البطاركة والأنبياء- كم من مواعيد عظيمة قد أُعطيت، وما أكثر النصائح التي قُدمت، وما أعظم الشفقة التي أظهرها لنا السيد منذ البداية!

وأخيرًا، في مجيئه الخاص بيننا هنا، برهن على محبته التي لا يُعبر عنها من نحونا، بصلبه من أجلنا، ليحولنا وينقلنا إلى الحياة- وأما نحن فلا نزال غير راغبين في ترك مشيئتنا وترك محبة العالم وترك ميولنا وعاداتنا الرديئة. وبهذا نبرهن على أننا قليلي الإيمان، أو عديمي الإيمان، وبالرغم من هذا كله فإنه لا يزال محبًا رحيمًا حافظًا إيانا في الخفاء ومحتضنًا لنا، ولا يسلِّمنا بحسب آثامنا- إلى سلطان الخطية إلى الأبد، ولا يدعنا نهلك بغرور العالم، بل في رحمته العظيمة وطول أناته يجعل نظره مثبتًا علينا في انتظار اللحظة التي نرجع فيها ونتحول إليه.

أخاف أنه في يوم من الأيام بينما نحن متعلّقون بأفكارنا المخزية وسائرون وراء أهواءنا، تصدق فينا كلمات الرسول “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة” (رو 2: 4)؟

 

خطورة الاستهانة بلطفه وطول أناته:

ولكن إن كنا نقابل طول الأناة هذا واللطف والإمهال بعدم الرجوع بل بزيادة الخطايا، وبإهمالنا واحتقارنا نشتري لأنفسنا دينونة أعظم فيتحقق حينئذٍ بقية قول الرسول “ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو 2: 5)0 إن الله قد استعمل صلاحًا عظيمًا يفوق الوصف في علاقته مع جنس البشر بل وطول أناة يفوق التعبير، ويبقى فقط أن نكون راغبين في استعادة ورجوع أنفسنا، ونسعى أن نتحول إليه تمامًا، لكيما نجد الخلاص.

 

أمثلة من معاملات الله في الكتاب المقدس:

وإن أردت أن تعرف طول أناة الله ولطفه العظيم فلنتعلمها من الكتب الموحى بها. انظر إلى إسرائيل، الذي منه جاء الآباء، الذين لهم أُعطيت المواعيد، ومنهم جاء المسيح حسب الجسد والذين بهم اختصت خدمات “العبادة والعهد” (رو 9: 4-5)، كيف أخطأوا خطيئة عظيمة، وكم من مرة حادوا عن الطريق، ومع ذلك فلم يطرحهم إلى الأبد بل من وقت إلى وقت كان يسلّمهم للتأديبات إلى حين لأجل منفعتهم مريدًا أن يليّن قساوة قلوبهم بالضيقات والأحزان، وكان يعود إليهم ويشجعهم، ويرسل لهم الأنبياء.

وكم من مرة أخطأوا وأغاظوه، ولكنه كان يطيل أناته عليهم وحينما يرجعون إليه يقبلهم بفرح، وحينما يرتدون ثانية عن طريقة لم يتخلَ عنهم، بل كان يدعوهم من جديد بواسطة الأنبياء أن يرجعوا إليه، وكم من المرات الكثيرة تحولوا عنه ثم رجعوا فكان يحتملهم بلطف ويقبلهم إليه برأفة، إلى أن سقطوا في النهاية في التعدي الذي فاق الكل وذلك حينما ألقوا أيديهم على سيّدهم الذي تعلَّموا بواسطة تقاليد الآباء والأنبياء القديسين أن ينتظروه كمنقذ لهم ومخلّص وملك ونبي.

وحينما جاء لم يقبلوه بل بالعكس، فبعد أن وجهوا له الإهانة تلو الإهانة عاقبوه أخيرًا بالموت صلبًا على الصليب، وبهذا الإثم العظيم والتعدي الذي فاق كل التعديات تزايدت خطاياهم أكثر من الحد وامتلأت كأسهم. ولذلك تُركوا إلى النهاية، وهجرهم الروح القدس منذ أن انشق حجاب الهيكل. ولذلك أُعطي هيكلهم للأمم وهُدم، وصار خرابًا حسب إنذار الرب “إنه لا يُترك هنا حجر على حجرٍ لا يُنقض” (مت 24: 2). هكذا سُلموا أخيرًا للأمم وتشتتوا في الأرض كلها بواسطة الملوك الذين أسروهم ومُنعوا من الرجوع إلى أماكنهم الأصلية.

وهذا هو نفس ما يعمله الله مع كل واحد منا حتى الآن، فإنه كملك وإله صالح يطيل أناته علينا وهو يرى كم يخطيء كل واحد منا، فيمسك يده ويسكت وينتظر أن يعود الإنسان إلى نفسه ويرجع عن الخطية تائبًا فيرحب بالخاطيء الراجع بمحبة عظيمة وفرح كثير. فهذا هو ما يقوله “يكون فرح بخاطيء واحد يتوب” (لو 15: 10). وأيضًا يقول “هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار” (مت 18: 4).

ولكن إن كان أحد، تحت هذه الرحمة العظيمة وطول أناة الله الذي لا يسرع بالانتقام لكل خطيئة خفيّة أو ظاهرة بمجرد ارتكابها، بل ينظر ويسكت منتظرًا توبة الخاطيء، أقول إن كان الإنسان يزدري هكذا بالرحمة ويضيف خطيئة على خطيئة ويجمع كسلاً على كسلٍ ويكوّم إثمًا فوق إثمٍ، فإنه يملأ مكيال خطاياه، ويأتي في النهاية إلى إثم عظيم جدًا لا يمكنه القيام منه أبدًا، بل يتهشم تهشمًا ويسلِّم الشرير للهلاك الأبدي.

وهذا هو الذي حدث مع سدوم. فإنهم مرات كثيرة أخطأوا استمروا يخطئون وبدون رجوع حتى وصلوا إلى قصدهم الشرير نحو الملائكة طالبين أن يرتكبوا الإثم معهم على أنهم رجال، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يتوبوا بعد ذلك بل رفضوا نهائيًا، لأنهم ملأوا مكيال خطاياهم بل تعدوه ولذا أُحرقوا بنار النقمة الإلهيّة. وهكذا حدث أيضًا في أيام نوح، فإنهم كانوا يخطئون ولا يتوبون ووصلت كثرة خطاياهم لدرجة أن الأرض كلها فسدت تمامًا وهلكت.

وهكذا حدث مع المصريين أنهم أخطأوا كثيرًا وتعدّوا على شعب الله، وكان الله لطيفًا ولم يرسل عليهم ضربات كالأوبئة لكي تفنيهم كلّية، بل لأجل تأديبهم ورجوعهم وتوبتهم أرسل عليهم جلدات أسواطه الصغيرة صابرًا عليهم ومنتظرًا توبتهم. ولكنهم كانوا يخطئون ضد شعب الله ثم يندمون، ولكنهم يعودون مرة أخرى ويثبتون في عدم الإيمان القديم، الناتج عن قصد شرير، ويضيّقون على شعب الله من جديد، وأخيرًا حين أخرج الله الشعب من مصر بعجائب كثيرة بواسطة موسى فإنهم (المصريون) ارتكبوا الإثم العظيم بسعيهم وراء شعب الله، الذي بسببه أهلكتهم النقمة الإلهيّة وأفنتهم، واكتسحتهم بواسطة المياه إذ حسبتهم غير مستحقين حتى لهذه الحياة المنظورة.

وبنفس الطريقة كما قلنا سابقًا فإن إسرائيل كثيرًا ما ارتكبوا آثامًا وخطايا، وقتلوا أنبياء الله وفعلوا أشياء أخرى شريرة كثيرة. وبينما كان الله محتملاً وساكنًا، منتظرًا بصبر توبتهم، انتهوا بارتكاب إثم عظيم بسببه سحقوا حتى أنهم لم يستطيعوا أن يقوموا ثانية. ولهذا السبب تخلى عنهم الرب تمامًا ورفضهم ونُزعت منهم النبوة والكهنوت والعبادة وأُعطيت للأمم الذين آمنوا كما قال الرب: “إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعطي أثماره” (مت 21: 43) فقد ظلّ الله إلى ذلك الحين مطيلاً أناته عليهم محتملاً إياهم ولم يتخلَ عنهم وذلك بكثرة شفقته عليهم، ولكن حينما مالوا مكيال آثامهم وزادوا عن حدودها جدًا، وبإلقاء أيديهم على سيّدهم الكريم صاروا مهجورين تمامًا من الله.

 

لنرجع ونتوب بسرعة ولا نيأس من الخلاص:

أيها الأحباء لقد تناولنا هذه الأمور بنوعٍ من التفصيل مبرهنين من أفكار الكتب المقدسة أنه يجب عينا أن نرجع ونتحول بسرعة، ونبادر إلى الرب، الذي بسبب لطفه يتأنى علينا متوقعًا أن ننفك تمامًا من كل شر وميل خبيث، وهو الذي يرحب بفرح عظيم بتوبتنا ولا يريد أن يزداد احتقارنا من يوم إلى يوم ولا أن تتجمع خطايانا وتزداد علينا فتسبب غضب الله علينا. فلنسعَ إذن بحماس وغيرة أن نأتي إليه بقلب تائب حقًا، غير يائسين من الخلاص لأن اليأس هو نفسه خطيئة وإثم وذلك حينما يتملك علينا تذكر الخطايا السالفة فيقود الإنسان إلى اليأس وقطع الرجاء وإلى التراخي والإهمال والكسل، لكي لا يعود ويرجع إلى الرب لينال الخلاص، حيث إن إحسان الرب العظيم ولطفه هو ممتد لكل جنس البشر.

 

هو الذي يغيِّر ويحوِّل ويجدد النفس:

وإن كان يظهر لنا أن الرجوع من الخطايا الكثيرة أمر عسير ومستحيل وذلك بسبب أننا صرنا مستعبدين لها فإن هذا الفكر- كما قلت- هو خدعة من الشرير وتعويقًا لحصولنا على الخلاص. فلنتذكر ونعتبر كيف أن ربنا حينما جاء بصلاحه بيننا على الأرض، أعطى البصر للعميان وشفى المشلولين، وشفي كل أنواع المرض وأقام الأموات بعد أن فسدت واضمحلت أجسادهم، وجعل الصم يسمعون وأخرج جيشًا من الشياطين من إنسان واحد وأعاده إلى عقله بعد أن كان في غاية الجنون.

فكيف لا يغيّر ولا يحوِّل- بالأحرى جدًا، النفس التي ترجع إليه طالبة رحمته وهي محتاجة إلى حمايته، ويحضرها إلى حالة سعيدة، حالة التحرر من الشهوات وحالة الثبات المستمر في كل فضيلة بتجديد الذهن، ويغيرها إلى الصحة والإبصار العقلي وأفكار السلام، بدلاً من العمى والصمم وموت عدم الإيمان والجهالة وعدم المبالاة، ويأتي بها إلى اتزان الفضيلة ونقاوة القلب. فالذي خلق الجسد هو الذي خلق النفس أيضًا، وكما أنه في سعيه على الأرض حينما كان يجيء الناس إليه طالبين منه المعونة والشفاء فإنه بلطف كان يمنحهم ولا يضن عليهم بحسب ما تكون احتياجاتهم كمثل طبيب صالح، بل الطبيب الحقيقي الوحيد، فهكذا يكون الأمر في الاحتياجات الروحيَّة.

فإن كان قد تحرّك بملر هذه الشفقة على الأجساد التي تضمحل وتموت، وبلطف شديد أعطى لكل واحد حاجته التي كان يطلبها، فكم بالأحرى جدًا يصنع للنفس غير المائتة التي لا تفسد ولا تضمحل، وهي تئن تحت وطأة مرض الجهل والشر وعدم الإيمان واللامبالاة وكل أمراض الخطيئة الأخرى. فحينما تأتي إلى الرب وتلتمس معونته وتثبت أنظارها على رحمته، وترغب أن تنال منه نعمة الروح لأجل إنقاذها وخلاصها وتحررها من كل شر ومن كل شهوة، أفلا يمنحها بأكثر استعداد خلاصه الشافي، بحسب كلمته هو “أفلا ينصف الآب السماوي مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً”؟ (لو 18: 7) ويضيف قائلاً “نعم أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا” (لو 18: 8).

وفي موضع آخر يحثنا “إسألوا تعطوا لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له” (لو 11: 9-10)، ويختم هذا الحديث بقوله “كم بالحري أبوكم السماوي يعطي الروح القدس للذين يسألونه… الحق أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج” (لو 11: 8-13).

 

التماس عطية النعمة بلجاجة:

فباللجاجة إذن، وبدون انقطاع، وبلا كلل يستحثنا في كل هذه الكلمات أن نلتمس عطية النعمة. فإنه جاء إلى العالم لأجل الخطاة، لكي يحوِّلهم ويرجعهم إلى نفسه ويشفي ويخلِّص الذين يؤمنون به، لذلك فلنتجنب الوساوس الشريرة، على قدر طاقتنا، ونبغض المقاصد الرديئة وخداع العالم، ونعطي ظهورنا للأفكار الشريرة الباطلة، ونلتصق بالرب بأقصى طاقتنا، وهو على استعداد أن يسرع بإعطائنا معونته. فمن أجل هذه الغاية هو رحيم ومحيي وشافي للأمراض التي لا شفاء لها. وهو يصنع الخلاص لأولئك الذين يدعونه ويرجعون إليه، مبتعدين بأقصى طاقتهم- بالإرادة والقصد- عن كل تعلق عالمي، ويبعدون عقولهم بعيدًا عن الأرض ويثبتونها فيه بتوسل واشتياق.

فعلى مثل هذه النفس يسبغ الله نعمته، تلك النفس التي تحسب كل شيء آخر بلا أهمية أو ضرورة، ولا تستريح على شيء في العالم، بل تتطلع لتجد الراحة والفرح في حضن لطفه ومحبته، وهكذا بعد أن تنال الموهبة السماويَّة بمثل هذا الإيمان، تحصل على إشباع رغبتها بيقين تام بواسطة النعمة. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا تخدم الروح القدس باتفاق ولياقة، وتتقدم نامية كل يوم في كل مكان في كل ما هو صالح وتثبت في طريق البر، وإذ تلبث غير متزعزعة أو مساومة مع الشر، ولا تحزن النعمة في شيء، فإنها تمنح الخلاص الأبدي مع كل القديسين لأنها قد عاشت في العالم كشريكة ورفيقة لهم متمثلة بهم آمين.

 

[1]  يبدو أن القديس مقاريوس يقصد أن (أورشليم) و (صهيون)، في مثل هذه الحالات هي تعبير عن الله نفسه، فالله يجعل نفسه مسكن النفس وحصنها.

السعي للملكوت الأبدي – العظة الرابعة للقديس مقاريوس الكبير

Exit mobile version