الإنسان العتيق والإنسان الجديد – العظة الثانية للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
الإنسان العتيق والإنسان الجديد – العظة الثانية للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
“عن ملكوت الظلمة- أي ملكوت الخطيئة- وأن الله هو القادر
وحده أن ينزع منا الخطيئة ويخلصنا من عبودية رئيس الشر”
إن ملكوت الظلمة، أي الرئيس الشرير، لمّا أسر الإنسان في البدء، قد غمر النفس وكساها بقوة الظلمة كما يكسو الإنسان إنسانًا غيره لكيما يجعلوه ملكًا، ويلبسونه الملابس الملوكيّة من رأسه إلى قدمه[1]“. وبنفس هذه الطريقة قد كسا الرئيس الشرير، النفس وكل جوهرها بالخطيئة. ولوثها بكليتها، وأخذها بكليتها أسيرة إلى ملكوته، ولم يدَع عضوًا واحدًا منها حرًا منه، لا الأفكار، ولا القلب، ولا الجسد، بل كساها كلها بأرجوان الظلمة.
لأنه كما أن الجسد لا يتألم منه جزء أو عضو بمفرده، بل الجسد كله يتألم معًا، هكذا النفس بكليتها تألمت بأوجاع الشقاء والخطيئة. فالشرير كسا النفس كلها التي هي الجزء أو العضو الأساسي في الإنسان، كساها بشقائه الخاص، الذي هو الخطيئة، ولذلك أصبح الجسد قابلاً للألم والفساد (الاضمحلال).
الإنسان العتيق:
لأنه عندما يقول الرسول: “اخلعوا الإنسان العتيق” (كو 3: 9)، فهو يقصد إنسانًا بتمامه، فيه عيون مقابل عيون، وآذان مقابل آذان، وأيدي مقابل أيدي، وأرجل مقابل أرجل، لأن الشرير قد لوث الإنسان كله، نفسًا وجسدًا، وأحدره، وكساه “بإنسان عتيق” أي إنسان ملوث، نجس، في حالة عداوة مع الله، “وليس خاضعًا لناموس الله” (رو 9: 7)، بل هو بكلّيته خطيئة، حتى أن الإنسان لا يعود ينظر كما يشاء هو بل ينظر بعين شريرة، ويسمع بأذن شريرة، وله أرجل تسرع إلى فعل الشر، ويديه تصنع الإثم، وقلبه يخترع شرورًا. لذلك فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق، لأنه هو وحده القادر على نزع الخطيئة منا.
لأن الذين قاموا بأسرنا ولا يزالون يستبقوننا في مملكتهم، هم أقوى منا. ولكنه قد وعدنا بأن يحررنا من هذه العبودية المؤلمة. فعندما تكون هناك شمس ساخنة وتهب معها الريح فإن كلاً من الشمس والريح لها كيان وطبيعة خاصة بها، ولكن لا يستطيع أحد أن يفصل بين الشمس والريح إلاَّ الله الذي يستطيع وحده أن يمنع الريح من الهبوب، وبنفس المثال، فإن الخطيئة ممتزجة بالنفس، على الرغم من أن لكل منهما طبيعته الخاصة.
فمن المستحيل الفصل بين النفس والخطيئة، إن لم يوقف الله ويسكت الريح الشرير، الذي يسكن في النفس وفي الجسد.
وكما أن الإنسان إذا رأى عصفورًا يطير، فإنه يشتاق أن يطير هو أيضًا، ولكنه لا يستطيع، لأنه لا يملك أجنحة يطير بها. كذلك أيضًا فإن إرادة الإنسان حاضرة (رو 6: 8) وقد يشتهي أن يكون نقيًا، وبلا لوم، وبلا عيب، وألاَّ يكون فيه شيئًا من الشر، بل أن يكون دائمًا مع الله، ولكنه لا يملك القوة ليكون كذلك. وقد تكون شهوته هي أن يطير إلى الجو الإلهي، وإلى حريّة الروح القدس، ولكن لا يمكنه ذلك إلاَّ إذا أُعطيت له أجنحة (لتحقيق هذه الغاية).
فلنلتمس من الله أن ينعم علينا “بأجنحة” (مز 55: 6)، ولكي يفصل الريح الشرير ويقطعه من نفوسنا وأجسادنا، ذلك الريح الذي هو الخطية الساكنة في أعضاء نفوسنا وأجسادنا. ليس أحد إلاَّ هو (الروح القدس) الذي يستطيع أن يفعل هذا الأمر.
يقول الكتاب: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29)، إنه وحده الذي أظهر هذه الرحمة لأولئك الأشخاص الذين يؤمنون به، إذ أنه يخلِّصهم من الخطيئة، وهو يحقق هذا الخلاص الذي لا يُنطق به لأولئك الذين ينتظرونه دائمًا ويضعون رجاءهم فيه ويطلبونه بلا انقطاع.
وكما أنه يحدث في أحد الليالي المظلمة الكئيبة أن تهب ريح عاصفة وتحرِّك وتفتش كل الزروع والنباتات وتهزها، وهكذا حينما يسقط الإنسان تحت سلطة ظلام ليل الشيطان، ويصير في الليل والظلمة، فإنه يتكدر بواسطة ذلك الريح المرعب ريح الخطيئة الذي يهب (عليه) فيهزه ويقلبه ويفتش أعماق طبيعته كلها: نفسه وأفكاره، وعقله، ويهز أيضًا كل أعضاء جسده، ولا ينجو عضو سواء من أعضاء النفس أو أعضاء الجسد ويبقى بمأمن من الخطيئة الساكنة فينا.
وبالمثل فهناك نهار النور والريح الإلهي، ريح الروح القدس، الذي يهب وينعش النفوس التي تكون في نهار النور الإلهي. والروح القدس ينفذ في جوهر النفس كلها وفي أفكارها وكل كيانها، وكذلك ينعش ويريح كل أعضاء الجسد براحة إلهيّة تفوق الوصف. وهذا هو ما أعلن عنه الرسول عندما قال: “لسنا أبناء ليل أو ظلمة، بل جميعنا أبناء نور وأبناء نهار” (1 تس 5: 5).
الإنسان الجديد:
وكما أنه هناك في الحالة الأولى- حالة الخطيئة والسقوط- فإن الإنسان القديم قد لبس إنسان الفساد بكليته، أي لبس ثوب مملكة الظلمة، ورداء التجديف وعدم الإيمان، وعدم المبالاة والمجد الباطل والكبرياء والجشع والشهوة، وكل الفخاخ الأخرى الوسخة غير الطاهرة البغيضة التي لمملكة الظلمة، هكذا يحدث الآن، فإن كل الذين خلعوا الإنسان العتيق، الذي هو من تحت- من الأرض- كل الذين خلع عنهم يسوع رداء مملكة الظلمة- قد لبسوا الإنسان الجديد السماوي- أي يسوع المسيح- بكل عضو مقابل (العتيق): عيون مقابل عيون، آذان مقابل آذان، رأس مقابل رأس، ليكون الإنسان كله نقيًا بارتدائه الصورة السماويَّة.
هؤلاء قد ألبسهم الرب لباس ملكوت النور الذي لا يُنطق به، لباس الإيمان والرجاء والمحبة والفرح والسلام والصلاح واللطف وكل الملابس الأخرى الإلهيّة الحيَّة التي لنور الحياة، ملابس الراحة التي لا يُعبَّر عنها، حتى كما أن الله نفسه هو محبة وفرح وسلام ولطف وصلاح، فكذلك يكون الإنسان الجديد بالنعمة.
وكما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى خفية في النفس إلى يوم القيامة، الذي فيه سوف تُغمر أجساد الخطاة أيضًا بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور، والصورة السماويَّة- يسوع المسيح- يضيء الآن سرًا داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين ولكنه مخفي عن عيون الناس، وعيون النفس فقط هي التي ترى المسيح حقًا حتى يأتي يوم القيامة، الذي فيه سيُغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الإنسان، ليملك الجسد أيضًا مع النفس التي تنال منذ الآن ملكوت المسيح وتستريح مستنيرة بالنور الأبدي.
فالمجد لمراحمه وحنانه وشفقته، لأنه هكذا يعطف على عبيده وينيرهم، وينقذهم من مملكة الظلمة ويمنحهم نوره الخاص وملكوته الخاص. له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.
[1] الاقتباس- لم يذكر مصدره- وهو ليس اقتباسًا من الكتاب المقدس، والقصد منه، على أية حال، هو إعطاء فكرة التغطية الكلّية بالملابس.