عظات القديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد – بيت التكريس لخدمة الكرازة
مقدمة عن عظات القديس مقاريوس الكبير (الأنبا مقار)
عظات القديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد – بيت التكريس لخدمة الكرازة
“أولئك الذين يكونون أغنياء بالروح القدس، الذين عندهم الغنى السماوي حقًا وشركة الروح القدس في داخل نفوسهم، حينما يكلمون أحدًا بكلمة الحق أو حينما يتحدثون بالأحاديث الروحانيّة، ويريدون أن يعزّوا النفوس فإنهم يتكلمون ويخرجون من الغنى والكنز الخاص الذي يمتلكونه في داخل نفوسهم ومن هذا الكنز يعزّون ويفرّحون نفوس الذين يسمعون أحاديثهم.
فعندما نجد الرب أولاً في نفوسنا لمنفعتنا أي للخلاص والحياة الأبديّة فحينئدٍ يمكننا أن ننفع الآخرين أيضًا إذ يصير هذا ممكنًا لأننا نأخذ من المسيح الذي هو الكنز الموجود في داخلنا ونُخرج منه كل الصلاح الذي للكلمات الروحانيّة ونكشف أمامهم أسرار السماء”.
هذا الكلام الذي يقوله القديس مقاريوس الكبير (المصري) عن غنى وكنز الروح القدس هو ما يمكن أن نصف به عظات هذا القديس العظيم. فإن علماء “الآباء” ودارسي كتابات القديس مقاريوس يصفون عظاته ورسائله بأنها: “كلام إنسان يسكن السماء، أي إنسان سماوي. وأنه بالنسبة إلى شخص مثله- وصل إلى أقصى الكمال الممكن للبشر، فإن العالم الروحي بكل قوانينه يكون مكشوفًا وظاهرًا أمامه، إنه أيضًا ينظر النفس ويرى كل ما يحدث فيها من حركات، ويوضّح لها الطريق إلى الحياة الكاملة.
لقد كان القديس مقاريوس في معظم الأوقات في حالة اختطاف عقلي في رؤية الله وفي حالة دهش وذهول في الإلهيات كما يقول بلاديوس في تاريخه الرهباني.
إن الأسرار العظمى للعالم السماوي كانت مكشوفة أمام عينيه.
ولذلك كان يتكلم بما يرى في داخله بقوة وفيض الروح القدس.
ويقول البروفيسور إيفان م. كونتزيفيش، أستاذ الباترولوجي الأرثوذكسي في مقدمة الترجمة الإنجليزية: “لعظات القديس مقاريوس الكبير” إن عظات القديس مقاريوس تقوم على اختبار شخصي، وأسلوبها واضح، ومُعبّر، وغني بالتصويرات والتشبيهات بطريقة واضحة وبقوة غير عادية، ويُلاحظ في عظاته معرفته العميقة جدًا بالكتاب المقدس. وشرحه لآيات الكتاب المقدس يكشف دائمًا عن أعمق معنى روحي للآية.
وأن كتاباته تتحدث إلينا عن التأليه (أي شركة الطبيعة الإلهيّة) وأن القديس مقاريوس يكشف فلسفة الشركة مع الله رغم أنه (أي مقاريوس) لا يتبنى أي نظام فلسفي، إن الحكمة والفلسفة الحقيقيّة هي: العمل الروحي، واقتناء الروح القدس روح الحكمة والفهم. إن الإنسان الحامل لله الذي ينظر أو يتأمل أسرار الله هو الحكيم الحقيقي، أي محب الحكمة”.
ويستطرد الأستاذ كونتزيفيش في مقدمته قائلاً: “إن القديس مقاريوس يتحدث عن اقتناء الروح القدس، وأن المجهودات الخارجيّة من صوم وسهر وصلاة ليست غاية في ذاتها ولكنها مجرد وسائل فقط إلى هذه الغاية التي هي اقتناء الروح القدس. إن هذا التعليم عن اقتناء الروح القدس يأتي إلينا عبر القرون منذ مقاريوس حتى سيرافيم[1]، الذي كشف للعالم المعاصر هذا التعليم الآبائي القديم عن اقتناء الروح القدس الذي كثيرًا ما يُنسى تمامًا[2]“
ويُلاحظ في عظات القديس مقاريوس أنه يتحدث إلى المسيحيين عامة وليس إلى الرهبان بوجه خاص وهذا يدل على وعيه المستنير، إن الحياة في المسيح أو الحياة في الروح هي لكل الذين يعتمدون باسم الرب يسوع المسيح ويؤمنون به ويحبونه من كل قلوبهم وأن الروح القدس الذي يُعطى للمعتمدين باسم المسيح هو مصدر الحياة في المسيح وأساسها، وأن الحياة بقوة هذا الروح هي التي تجعل الإنسان روحيًا وليس أي شكل خارجي حتى ولو كان شكل ديني أو رهباني، كما يتضح من عظته الخامسة عن “خليقة المسيحيين الجديدة”.
وكما يتضح أيضًا من القصة المشهورة في سيرة الآباء عن زيارته للسيدتين المتزوجتين في الإسكندرية وأنه قال بعد مقابلتهما كلمته المأثورة “حقًا أنه ليس عذراء (انظر أيضًا العظة 17: 13) ولا متزوجة وليس راهب ولا علماني إنما استعداد القلب هو الذي يطلبه الله وهو يعطي الجميع نعمة الروح القدس الذي يعمل في الإنسان ويقود حياة كل من يرغب في الخلاص[3]“. وكما يذكر كتاب “التعاليم النسكية لكبار آباء القرن الرابع المصريين”.. أن “القديس مقاريوس كان يوجّه كلامه” للإنسان أي “لكل إنسان متعطش إلى حياة القداسة[4]“.
وقد يتساءل البعض بعد قراءته لعظات القديس مقاريوس، لماذا لم يذكر الأسرار الكنسية في عظاته، خاصة في عظة مثل العظة الثلاثون التي يتحدث فيها عن الولادة من الروح القدس دون أن يذكر سر المعمودية.
لهؤلاء نقول إن صمت القديس مقاريوس عن ذكر الأسرار في عظاته لا يقوم دليلاً على عدم أهمية الأسرار في الحياة الروحيَّة، بل أن القديس مقاريوس يتحدث إلى المسيحيين أي الذين نالوا سرّ المعمودية ويعرفون الأسرار الكنسية ويمارسونها ولا يحتاج أن يحدثهم عن الأسرار، بل أن هدف عظاته هو الحياة حسب الروح أو الحياة في القداسة أو “الكمال المطلوب من المسيحيين الذين يجب عليهم أن يَجِدّوا في طلبه “كما جاء في فاتحة العظة الأولى في الترجمة العربية القديمة سنة 1901.
ولذلك فإن أحاديثه كلها روحيَّة عملية تواجه الإنسان لينظر إلى نفسه، ولتعرّف النفس سرّ حالتها وتكتشف حقيقتها وترجع بمواجهة نور الحق في الداخل لتتغير وتصير روحانية مقدسة، ونجد مثلاً واضحًا لطريقته هذه في عظته الأولى التي تحوي تفسيرًا روحانيًا رائعًا لرؤيا حزقيال فبعد أن يتحدث عن “السر الذي كان مخفيًا حقيقة عن العصور والأجيال، ولكنه أُظهر بظهور المسيح، فإن السر الذي رآه (حزقيال) هو سرّ النفس التي كانت مزمعة أن تقبل سيدها وأن تصير هي ذاتها كرسيًا لمجده (العظة الأولى: 2) وبعد أن يشرح كل تفاصيل رؤيا حزقيال العجيبة المجيدة يقول للقاريء أو السامع:
“لذلك فحينما تسمع بهذه الأشياء انظر إلى نفسك جيدًا، هل أنت حاصل على هذه الأشياء ومالك لها بالفعل والحق في داخل نفسك أم لا؟ فإنها ليست مجرد كلمات تُقال بل هي فعل الحق الذي يحدث في داخل نفسك، فإن لم تكن مالكًا لها بل أنت معدم من مثل هذه الخيرات الروحانيّة، ينبغي لك أن تكتئب وتحزن وتسعى بلهفة كإنسان لا يزال ميتًا ومنفصلاً عن الملكوت وكإنسان مجروح أصرخ دائمًا إلى الرب واطلب منه بإيمان أن يمنحك أنت شخصيًا هذه الحياة الحقيقيّة” (العظة الأولى: 10).
ولأهمية العلاقة بين الأسرار وبين الخلاص والحياة الروحيَّة، أو بين الأسرار والحياة في المسيح، نُعيد هنا نشر ما سبق أن كتبناه في مقدمة كتاب “الأسرار للقديس إمبروسيوس” الذي ترجمناه وقمنا بنشره سنة 1967 في الحلقة 3 من سلسلة كتابات الآباء.
الأسرار والحياة في المسيح:
توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس (أع 2: 38). هذا هو الجواب الشافي الذي أجاب به القديس بطرس الرسول على تساؤل القلوب التي نخستها كلمات الكرازة الرسولية في يوم الخمسين داعية إياها إلى الخلاص. وإننا لنجد في هذه الكلمات القليلة مثلاً واضحًا لحقيقة كثيرًا ما تغيب عن أذهان الكثيرين، هذه الحقيقة هي أن الحديث عن الرب يسوع المسيح ودعوة الناس إلى التوبة والإيمان باسمه مرتبط كل الارتباط بالمعمودية وغيرها من الأسرار.
لقد أوضح لنا سفر الأعمال، المنهج الرسولي الذي به يستطيع الإنسان أن يتمتع ببركات الخلاص الذي صنعه الرب يسوع بصلبه على الصليب وقيامته من الأموات، إذ يشهد روح الله على لسان بطرس الرسول أنه لكي يحصل الإنسان على الخلاص لابد أن يتوب ويعتمد على اسم يسوع المسيح. هذا هو بداية الطريق المؤدي إلى الحياة الأبديّة.
ويشهد الروح القدس على لسان الرسول بولس أن كل من “يعتمد بالمسيح فإنه يلبس المسيح” (غل 3: 27). وبالمعمودية نُدفن مع المسيح ونقوم معه فنصير متحدين معه بشبه موته وقيامته (رو 6: 4-5)، “مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات، وإذ كنتم أمواتًا بالخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحًا لكم بجميع الخطايا” (لو 2: 13-14).
واضح إذن من هذه الشهادات أن المعمودية ليست مجرد ممارسة خارجيّة بل إنها ترتبط بصميم حياتنا في المسيح، إذ فيها نتحد بشخص المسيح في موته وقيامته، وبها ندخل في علاقة جديدة مع الله إذ نصير أولادًا له لا باستحقاق منا بل بسبب لِبسِنا للمسيح ابن الله الوحيد واتحادنا به بالروح. هذا هو غنى نعمة الله الفائق الوصف وإحسانه ولطفه علينا في المسيح يسوع بمقتضى رحمته التي خَلُصنا بها بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس (تي 3: 5-6).
إذن فبعمل الروح القدس في المعمودية نلبس المسيح ونتحد به في موته وقيامته.
وباختصار فإننا بالمعمودية نبتديء في الدخول في حالة اتحاد بالمسيح واندماج فيه وشركة حيَّة معه في الروح، ثم بعد أن يعدّنا الروح ويطهّرنا بالمعمودية ويجعلنا أبناء لله فإنه يأتي ويسكن في قلوبنا، إذ أننا بعد أن نعتمد نُمسح بالروح القدس “… فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع 2: 38). “ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبّا الآب” (غل 4: 6)، “لأن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مَسحَنا هو الله. الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2 كو 1: 21-22).
هذا الاندماج وهذه الشركة مع المسيح تتم بالدفن في مياه المعمودية ولكنها أيضًا تستلزم توفر رغبة الإنسان وإرادته، وهذا ما يعبّر عنه بالنسبة للمُعمد بالإيمان والتوبة “من آمن واعتمد خلص”، “توبوا وليعتمد كل واحد منكم” (مر 16: 16، أع 2: 38).
ففي حالة الذين يعتمدون كبارًا لابد من توفر الإيمان الحي بالمسيح والاستعداد الكامل للتوبة كشرط سابق للمعمودية حتى أن القديس كيرلس الأورشليمي يحذّر الموعوظين (الذين كانوا على أهبة قبول المعمودية) قائلاً: “إن ظللت في سوء استعدادك فالذي يكلمك ليس مسئولاً، ولكن لا تنتظر قبول النعمة، لأنك ستنزل في الماء ولكن الروح سوف لا يقبلك. فإذا كان أحد مجروحًا فليضمد جروحه وإذا كان أحد ساقطًا فليقم[5].
أما في حالة الذين يعتمدون أطفالاً (المولودين من أبوين مسيحيين)، فإن الأشبين (الوصي) يتولى- مؤقتًا- نيابة عن الطفل جحد الشيطان والاعتراف بإيمان المسيح والتعهد بالحياة في محبته وطاعته، على أساس أنه عندما يكبر الطفل المُعمد يجب أن يعرف بواسطة أشبينه بما جرى نيابة عنه في طفولته أي يجب أن يكون للإنسان بإرادته وحريته، حالة الإيمان والسير وراء المسيح إن أراد أن يكون له نصيب وشركة مع المسيح هنا في غربة هذا الدهر وفي دهر الحياة الأبديّة.
أو بمعنى آخر لابد أن يستمر لابسًا للمسيح بإرادته “البسوا الرب يسوع المسيح” (رو 13: 14). هذا ما يحتاجه كل من اعتمد طفلاً لكي يتمتع الآن بالتجديد الذي سبق أن ناله بعمل الروح القدس في المعمودية.
فعلى كل مسيحي أن يراجع نفسه الآن هل هو في شركة مع المسيح أم أنه منفصل ومبتعد عنه بقلبه وروحه، لأن ابتعادنا عنه وسلوكنا بحسب الجسد وبحسب العالم يعني أننا نجهل أو نتجاهل عهد معموديتنا، ولكن إن رجعنا إليه بقلب صادق في يقين الإيمان وعزم التوبة فإنه يعيدنا من جديد إلى حالة الشركة معه والتمتع بمحبته أي يجعلنا نلبسه من جديد، لأنه مشغول بنا ومشتاق إلينا حتى إن كنا قد بدّدنا كنوز الروح في كورة الخطية البعيدة.
هذا هو ما جعل الكنيسة تنظر إلى سرّ التوبة كمعمودية ثانية، إذ بالتوبة يستعيد الإنسان قوة تجديد المعمودية التي فقدها بالبعد عن المسيح والسلوك في الخطية وشهوات العالم.
لذلك فبعد التوبة الصادقة يرجع الإنسان إلى حالة التمتع بسكنى الروح القدس فيه (الذي سبق أن ناله في سر المسحة)- والتي حُرم منها طوال فترة تغربه عن المسيح- فيشتعل فيه النور الإلهي من جديد ويُشرق في إنسانه الباطن. لكن الحياة الجديدة في المسيح التي ننالها كبذرة حيَّة في المعمودية والتي نستعيدها بالتوبة لا تتوقف عن النمو، لذلك يلزم للإنسان السائر في طريق الملكوت أن يثبت في المسيح ويستمر لابسًا إياه كل الحياة.
لابد للمُعمد أن يطلب ما فوق ويهتم بما فوق “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق، حيث المسيح الجالس.. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد متم..” (كو 3: 1-3). هذه هي الشهادة الصحيحة على إخلاصه لعهد معموديته. لابد أن يهتم بما فوق وأن يموت إراديا عن محبة العالم. يجب أن يضع المسيح أمامه كهدفه وغايته دائمًا ويسلك على هذا الأساس تابعًا سيده ومخلصه حاملاً الصليب كل يوم.
إن معموديتنا معناها إننا صرنا من فوق، من السماء لا من هذا العالم، فلنربط قلوبنا بمحبة وإخلاص شديد للمسيح ونسلك في الطريق المضمون الذي به نحيا إلى الأبد معه. وهو قد رتب لنا ما يلزمنا في الطريق إذ أعطانا غذاءً وقوة لحياتنا الجديدة في كلمة الإنجيل وفي جسده ودمه الذي سلمه للكنيسة لنتحد به فنحيا بحياته الإلهيّة. وأعطانا وصية السهر والصلاة في كل حين، والوصية الجديدة “أن نحب بعضنا بعضًا كما أحبنا” كل هذه أعطاها لنا لنتسلح ونتقوى بها في الطريق ونحيا بقوته، وروحه القدوس الساكن فينا مستعد دائمًا للعمل فينا ومعنا لنتقوى حسب شدة قوته.
بهذه الوسائل والمجاري التي تتدفق منها نعمة الروح القدس، والتي فيها يعطينا الرب ذاته بصورة متجدّدة لنلبسه ونتحد به أكثر فأكثر تكون لنا القدرة على الجهاد في طريق الرب حتى الدم، مادام الهدف أمام قلوبنا لا يتغير. هذه هي العلاقة بين الأسرار وبين جهادنا الروحي. إننا لا نجاهد بقوتنا، نحن لسنا وحدنا في الطريق، إن روح الرب فينا ومعنا “يمكث معكم ويكون فيكم” (يو 14: 16، 19).
الروح القدس المنبثق من الآب والمُرسل للكنيسة بالمسيح يوم الخمسين والعامل إلى الآن في المؤمنين الحقيقيين هو يعطينا أن نتذوق منذ الآن بعين الإيمان قوة الدهر الآتي، فبنعمة الملكوت الآتي نستطيع ونحن أمام مائدة الرب أن نرى في الخبز المكسور جسد المسيح الحيّ، الذبيحة التي تُحيي الكل، الحمل القائم في وسط عرش الله كما رآه يوحنا في الرؤيا، وبنعمة الملكوت الآتي نستطيع أن نرى في الكأس المقدسة، الدم النابع من جنب المخلص، والذي به دخل إلى الأقداس السماويَّة فوجد لنا فداءً أبديًا (عب 9: 12)، حتى إن كانت العين الجسديّة لا تستطيع أن ترى إلاّ خبزًا عاديًا ومشروبًا عاديًا.
وبعمل الروح فينا الذي يغيّرنا ويحوّلنا إلى طبيعة المسيح- طبيعة المحبة- نستطيع أن نرى في إخوتنا وجه المسيح حيث لا ترى عين الجسد سوى وجه اللحم من أجل اللذة أو الغضب.
كل هذا يمكن أن نتمتع به لأننا بقيامة المسيح التي نشترك فيها بالمعمودية نشهد عجائب الروح الذي يُغيّر العالم من الداخل، الروح الذي لا يعرفه العالم ولكن يعرفه جميع الذين حياتهم مستترة مع المسيح في الله (كو 3: 3).
بقوة هذا الروح الإلهي نحن نجاهد ونسير في الطريق فنزداد اتحادًا بالمسيح كلما سرنا معه، واضعين أمام قلوبنا يوم مجيئه المجيد السعيد على السحاب ليأخذنا معه، كغاية ورجاء نتطلع إليه باشتياق وحنين وثقة، وكلما أكلنا جسده وشربنا دمه باستعداد فإننا نتذكر العهد الذي أقامه بيننا وبينه بدم صليبه مجدّدين التعهد في كل مرة أن نثبت في محبته، مُخبرين بموته معترفين بقيامته، ونذكره إلى أن يجيء (1 كو 11: 26، القداس الإلهي).
أما إخوتنا (من غير الأرثوذكس) الذين يشتركون معنا في الإيمان بربنا يسوع المسيح ولكنهم لا يشتركون معنا في الإيمان بفاعليّة الروح القدس في الأسرار فنحن يؤلمنا أن يحرموا أنفسهم من هذه الكنوز الإلهيّة، ولكننا لا نرى أن علاج الأمر يكون بالدخول في مناقشات جدليّة معهم لأن المسألة ليست نظريات وبراهين عقلية بل مسألة رؤية وإيمان، فإن الإيمان نفسه هو برهان الأمور التي لا تُرى.
ولكن إن كان أحد يبحث عن الحق بإخلاص وتهمه الحقيقة في ذاتها، ومع هذا لم يكتشف بعد حقيقة الأسرار كما استلمتها الكنيسة منذ العصر الرسولي، مثل هذا نقول له بلسان أسقف أوخريدا (اليوغسلافي) في حديثه الذي وجهه إلى البروتستانت في مؤتمر لوزان عن أسرار الكنيسة “من شاء أن يسأل فليسأل الله بالصوم والصلاة والدموع، فيكشف له الحقيقة التي كشفها دائمًا للقديسين…”
فكل ما قلناه عن الأسرار المسيحيَّة العظمى ليس هو رأينا (فلو كان رأينا فلا قيمة له) بل هو اختبار الرسل في الأزمنة القديمة والقديسين على مر العصور حتى أيامنا الحاضرة، لأن كنيسة الله لا تحيا بالظن ولا بالرأي، بل بخبرة القديسين كما في البداية هكذا حتى أيامنا هذه. فقد يكون رأي أذكياء البشر غاية في الحذق وخاطئًا في الوقت ذاته بينما خبرة القديسين صحيحة دائمًا لأنها الله ذاته الصادق بالنسبة إلى ذاته في قديسيه[6]“.
القديس مقاريوس وتاريخ عظاته:
القديس مقاريوس صاحب هذه العظات هو القديس مقاريوس الكبير الذي وُلد في سنة 300 ميلادية وتنيح سنة 390 م، وهو أب رهبنة الأسقيط كلها، وقد لقب بمقاريوس المصرى تمييزًا له عن القديس مقاريوس الإسكندري (أب القلالي بالقرب من نتريا) الذي كان من منطقة قريبة من الإسكندرية، ولكن اللقب الذي ارتبط باسم القديس مقاريوس صاحب هذه العظات هو لقب “الكبير” وهكذا يُذكر في معظم المراجع الآبائية وفي قواميس الدراسات الآبائية ولهذا فضلنا أن نستخدم لقب “الكبير” بدلاً من “المصري” في هذه العظات التي تُسمى في أصلها اليوناني “بالعظات الروحانيّة” وقد نشرتها الترجمة العربية السابقة (سنة 1901) باسم “العظات الروحانيّة للقديس أنبا مقاريوس المصري”.
وُجدت “العظات الروحانيّة” للقديس مقاريوس وحُفظت في عدة مخطوطات باليونانية بعد نياحته بفترة قصيرة، وقد نُشر الأصل اليوناني للعظات مطبوعًا لأول مرة سنة 1559 بواسطة جوهانس بيكوس Johannes Picus الذي نشر ترجمة لاتينية مع الأصل اليوناني.. وأُعيد طبعها بعد ذلك في “مجموعة الآباء باليونانية” المجلد 34، للراهب الكاثوليكي مينى J.P. Migne, Patrologiae Graecaفي باريس بين 1857-1866.
وهذه “العظات الروحانيّة” أعطت لصاحبها “القديس مقاريوس الكبير” مكان الصدارة في تاريخ الروحانيّة المسيحيَّة للعصور الأولى وصارت مصدرًا للإلهام والتأثير القوي على المتصوفين المسيحيين في الغرب في العصور الحديثة: لذلك فإن مؤلف كتاب “المسيحيَّة الحقيقيّة De Vero Christianismo جون أرندت John Arndtسنة 1708، يعرف عظات مقاريوس كلها يحفظها عن ظهر قلب.
أما جوتفريد أرنولد Gottfried Arnold فقد ترجمها إلى الألمانية منذ عام 1696، وقد قام جون وسلي J. Wesly صاحب “حركة القداسة” في إنجلترا، ومؤسس “كنيسة الميثودست” Methodists بأول ترجمة لعظات مقاريوس إلى الإنجليزية سنة 1749 وتُظهر ترانيمه الكثيرة التي ألفها وكان يستعملها في اجتماعاته، تأثره الواضح بعظات القديس مقاريوس، كما يقول كواستن Quasten أستاذ الباترولوجي، وأعيد طبع ترجمة وسلي الإنجليزية هذه سنة 1819 بلندن.
ثم قام A. Masonماسون- بترجمة جديدة من اليونانية إلى الإنجليزية ونشرتها له جمعية نشر المعارف المسيحيَّة S.P.C.K بلندن سنة 1921م.
وقد وُجدت مخطوطات لعظات القديس مقاريوس بالسريانية وبالعربية في مكتبة الفاتيكان، وتُوجد نسخة مخطوطة بالعربية في مكتبة البطريركية القبطية الأرثوذكسية بالقاهرة، وهي التي يشير إليها يوسف منقريوس ناظر المدرسة الإكليريكية، ويقول إن قداسة البابا كيرلس الخامس أعطاها له عند إعادته نشر الترجمة العربية السابقة 1901.
وقد اكتُشفت حديثًا مخطوطة لعظات مقاريوس باللغة الروسية تحوي 57 عظة مثل مخطوطة أكسفورد لعظات القديس مقاريوس باليونانية.
عظات مقاريوس بالعربية:
وقد قام المرحوم يوسف منقريوس ناظر المدرسة الإكليريكية سنة 1901 بنشر “العظات الروحانيّة للقديس أنبا مقاريوس المصري” مطبوعة باللغة العربية، ويظهر من المقدمة التي كتبها لطبعة 1901،
أنه قام بإعادة طبع ترجمة عربية للعظات عن الإنجليزية، أي أن العظات ظهرت مترجمة بالعربية ومطبوعة قبل سنة 1901، ثم قام هو بأخذ الترجمة العربية وأعاد طبعها، إذ يقول في المقدمة “ظلت (عظات مقاريوس) محفوظة حتى توفق الإنجليز لطبعها بلغتهم بعد مقابلتها مع النسخة اليونانية ثم تُرجمت إلى اللغة العربية وهي النسخة التي عولنا عليها عند إعادة طبعها اليوم مع بذل الجهد المستطاع في ضبط عباراتها ومراجعة شواهدها الكتابية”.
وطبعة يوسف منقريوس هذه التي نُشرت سنة 1901، هي نفسها التي قامت كنيسة مارجرجس بسبورتنج بالإسكندرية، بطبعها مرة أخرى كما هي سنة 1976، ويبدو أن الذي حرّك كنيسة مارجرجس بسبورتنج[7] لطبع “عظات مقاريوس” هو تأثير كتاب “الروح القدس وعمله داخل النفس” للأب متى المسكين الذي أورد أجزاء كثيرة من عظات القديس مقاريوس عن عمل الروح القدس في النفس، إذ تقول طبعة سبورتنج في المقدمة:
“لقد كان الفضل في كشف أسرار وعظمة هذه العظات لدير القديس أنبا مقار في كتابه “الروح القدس وعمله داخل النفس” فقد كشف عن العمق الروحي لهذه العظات مع بساطة التطبيق العملى في حياة النفس الداخلية”.
وقد وجدنا بعض الصعوبة في لغة الطبعة العربية السابقة (طبعة 1901 التي هي طبعة 1976) مما جعل كثيرون ينصرفون عن متابعة قراءتها والاستفادة منها بسبب أسلوبها العربى القديم، وعدم الوضوح في بعض الأحيان، رغم أهمية هذا التراث الآبائي الروحي الرائع، ولذلك فكرنا في ترجمتها من الإنجليزية إلى العربية ترجمة جديدة، وقد رتب الرب هذا الأمر بأن أرسل لنا الدكتور رودلف يني مرقس بأميركا نسخة هدية من الترجمة الإنجليزية التي ترجمها أ. ماسون سنة 1921 والتي أُعيد نشرها بأمريكا 1974 بواسطة هيئة “الكتب الشرقية الأرثوذكسية” Eastern Orthodox Books بكاليفورنيا، مع مقدمة عن “حياة وتعاليم القديس مقاريوس الكبير” بقلم البروفيسور إيفان م. كونتزيفيش أستاذ اللاهوت الأرثوذكسي (المتوفي 1965).
وقد قمنا بوضع عنوان رئيسي وكذلك عناوين جانبية لكل عظة من العظات الخمسين لم تكن موجودة في الأصل اليوناني، ولا في الترجمة العربية القديمة (1901). أما الملخص الموجود تحت كل عنوان رئيسي لكل عظة بخط صغير فهو موجود في الترجمة الإنجليزية كما في الترجمة العربية القديمة.
ولإلهنا القدوس الآب والابن والروح القدس كل مجد وتسبيح وسجود الآن وإلى الأبد. آمين.
عيد العنصرة 1978م
- العظة الأولى للقديس مقاريوس الكبير – النفس عرش الله وهو قائدها
- العظة الثانية للقديس مقاريوس الكبير – الإنسان العتيق والإنسان الجديد
- العظة الثالثة للقديس مقاريوس الكبير – الشركة الأخوية ومقاومة أفكار الشر والخلاص بيسوع وحده
- العظة الرابعة للقديس مقاريوس الكبير – السعي للملكوت الأبدي محبة الله الشديدة للإنسان
- العظة الخامسة للقديس مقاريوس الكبير – الخليقة الجديدة وبيت الروح الأبدي
- العظة السادسة للقديس مقاريوس الكبير – الصلاة بهدوء – معنى العروش والأكاليل
- العظة السابعة للقديس مقاريوس الكبير – محبة المسيح للإنسان
- العظة الثامنة للقديس مقاريوس الكبير – حالات الصلاة ودرجة الكمال
- العظة التاسعة للقديس مقاريوس الكبير – النعمة والتجارب والالتصاق بالرب وحده
- العظة العاشرة للقديس مقاريوس الكبير – الشركة والاتحاد بالعريس السماوي
- العظة الحادية عشر للقديس مقاريوس الكبير – نار الروح وفداء المسيح للنفس
- العظة الثانية عشر للقديس مقاريوس الكبير – نار الروح وفداء المسيح للنفس
- العظة الثالثة عشر للقديس مقاريوس الكبير – أولاد الله
- العظة الرابعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – حلول المسيح في الإنسان أرض اللاهوت
- العظة الخامسة عشر للقديس مقاريوس الكبير – القداسة والنقاوة
- العظة السادسة عشر للقديس مقاريوس الكبير – أنت مدعو إلى فوق رغم التجارب
- العظة السابعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – مسحة الروح القدس
- العظة الثامنة عشر للقديس مقاريوس الكبير – غنى وكنز الروح القدس
- العظة التاسعة عشر للقديس مقاريوس الكبير – وصايا المسيح والامتلاء من الروح القدس
- العظة العشرون للقديس مقاريوس الكبير – لباس الروح
- العظة 21 للقديس مقاريوس الكبير – الحرب الروحية
- العظة 22 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النفس بعد الموت
- العظة 23 للقديس مقاريوس الكبير – العائلة السماوية وسلاح الروح
- العظة 24 للقديس مقاريوس الكبير – الربح العظيم والخميرة السماوية
- العظة 25 للقديس مقاريوس الكبير – قوة سر الصليب والنار الإلهيّة
- العظة 26 للقديس مقاريوس الكبير – كرامة النفس وتجارب الشر والانتصار
- العظة 27 للقديس مقاريوس الكبير – حالة النعمة وحرية الاختيار
- العظة 28 للقديس مقاريوس الكبير – حالة الإنسان بدون المسيح
- العظة 29 للقديس مقاريوس الكبير – تدبيرات نعمة الله
- العظة 30 للقديس مقاريوس الكبير – الولادة من الروح القدس
- العظة 31 للقديس مقاريوس الكبير – تغيير الذهن والصلاة الحقيقية
- العظة 32 للقديس مقاريوس الكبير – ثوب المجد الآن وفي القيامة
- العظة 33 للقديس مقاريوس الكبير – الصلاة بانتباه
- العظة 34 للقديس مقاريوس الكبير – تمجيد الأجساد في القيامة
- العظة 35 للقديس مقاريوس الكبير – السبت القديم والسبت الجديد
- العظة 36 للقديس مقاريوس الكبير – درجات النعمة والمجد
- العظة 37 للقديس مقاريوس الكبير – الفردوس والناموس الروحاني
- العظة 38 للقديس مقاريوس الكبير – المسيحيون بالحق
- العظة 39 للقديس مقاريوس الكبير – لماذا أعطانا الله الكتاب المقدس
- العظة 40 للقديس مقاريوس الكبير – ارتباط الفضائل معًا
- العظة 41 للقديس مقاريوس الكبير – أعماق النفس
- العظة 42 للقديس مقاريوس الكبير – روح النعمة وروح الشر
- العظة 43 للقديس مقاريوس الكبير – القلب
- العظة 44 للقديس مقاريوس الكبير – تغيير وتجديد الإنسان بالمسيح
- العظة 45 للقديس مقاريوس الكبير – حضور المسيح وحده يخلص الإنسان ويشفيه
- العظة 46 للقديس مقاريوس الكبير – أولاد الله وأولاد العالم
- العظة 47 للقديس مقاريوس الكبير – الرمز والحقيقة
- العظة 48 للقديس مقاريوس الكبير – الإيمان الكامل بالله
- العظة 49 للقديس مقاريوس الكبير – الشبع الإلهي
- العظة 50 للقديس مقاريوس الكبير – صانع العجائب
[1] القديس سيرافيم الراهب الروسي في القرن 19- الذي تحدث حديثه الشهير عن اقتناء الروح القدس وهو غاية المسيحية، انظر كتاب “لهيب وسط الثلوج” للقمص ويصا السرياني، نشر مكتبة المحبة- الذي يحوي سيرة الراهب سيرافيم الروسي وحديثه عن “اقتناء الروح القدس”.
[2] المرجع السابق.
[3] كتاب سير الآباء Vita Patrum III. 97.
[4] اقتباس في كتاب الرهبنة القبطية للأب متى المسكين صفحة 136.
[5] كيرلس الأورشليمي- تعاليم الموعوظين- المقدمة- فقرة 4
[6] هذا الجزء من الحديث الذي وجهه الأسقف نيقولاوس فليمروفتش متروبوليت أوخريدا إلى المندوبين البروتستانت في مؤتمر لوزان سنة 1927 باعتباره أحد المندوبين الأرثوذكس.
[7] الأب القمص بيشوي كامل الذي تنيح 21 مارس سنة 1979.