الروح القدس في عظات القديس مقاريوس – أ. ناجى أسحق
الروح القدس في عظات القديس مقاريوس – أ. ناجى أسحق
مقدمة:
لعل من أكثر كتابات الآباء تعبيرًا عن الوحدة بين الروح والواقع هي كتابات الآباء شيوخ البرية الأقباط وذلك يعود لعمق خبراتهم الروحية والتي من خلالها تعاملوا مع كل الظروف المحيطة وأيضًا يعود إلى أنهم لا يدخلون الفلسفة في روحياتهم كاليونانيين.
مرة جاء افاغريوس البنطي إلى شيخ في البرية وسأله: ” لماذا يمارس المصريون النسك والتمييز أكثر من اليونانيين ؟
” فأجابه الشيخ ” لأن اليونانيين قد أهدروا وقتهم في حب الكلام والعجب ” وهذا يعكس لنا أن آباء البرية عاشوا التأمل Qewria والتاريخ istoria بعمق باطني يميز الروحانية القبطية. وسنتعرض الآن إلى هذا الجانب من خلال القديس مقاريوس المصري وسنلجأ في هذه الدراسة إلى عظات القديس مقاريوس التي صدرت في ترجمات عربية مختلفة.
الروح القدس والإنسان والكنيسة والتاريخ
في عظات القديس مقاريوس المصري
رؤية قبطية للعلاقة بين التأمل Qewria والتاريخ Istoria
القديس مقاريوس المصري (300 ـ 390م) وأسماه إخوته في البرية ” الشاب الشيخ ” هو مؤسس منطقة الاسقيط الرهبانية وهو تلميذ العظيم الأنبا أنطونيوس وكلاهما يعبران وبصدق عن خصوصية الروحانية القبطية بل والشرقية والتي تتميز بالتفاعل العفوي والاندفاع القلبي نحو الشركة مع الله الآب في وجه يسوع الحبيب بالروح القدس. والروح القدس عند مقاريوس هو (فلاح النفس البشرية ومخصبها) ويقول العالم الفرنسي A.Guillaumont بأن عظات مقاريوس إنما تعبر عن الروحانية المسيحية في أنقى صورها ويذهب آخر إلى أن الشرق المسيحي لم يفصل أبدًا بين العقيدة كلاهوت والعقيدة كخبرة كنسية وروحية وأن العقائد الأساسية كالثالوث والتجسد وعمل الروح القدس والتي صاغها الآباء في القرون الأولى ما هي إلا صور الاختبارات النسكية وضعت في صيغ عقائدية. فالروحانية (النسك والسلوك) لا تنفصل عن العقيدة (اللاهوت). وبأسلوب آخر المخدع لا ينفصل عن المكتب.[1]
الروح لا ينفصل عن التاريخ والأحداث. وليس من قبيل المصادفة أن تزامن جهاد مقاريوس لإعلاء شأن الروح القدس وعمله في داخل النفس اختباريًا (هذا الروح الذي فيه وحده تستطيع النفس المؤمنة أن تجد راحة (7:5) عظات القديس مقاريوس الكبير مركز دراسات الآباء 1991 وسوف نقتبس دائمًا من هذه الترجمة مع الرجوع إلى النص اليوناني من حين إلى آخر). نقول تزامن جهاد مقاريوس مع جهاد الكنيسة لإعلاء شأن الروح القدس لاهوتيًا وصياغة ذلك عقائديًا في مجمع القسطنطينية 381م.
فخبرة الآباء الشيوخ هي ثيؤريا=تأمل Qewria والمجمع هو التعبير التاريخي عن هذه الخبرة، تاريخ Istoria فهناك إذًا في ضمير الكنيسة وحدة بين الجهاد الروحي الاختباري والجهاد العلمي واللاهوتي [لأن تلك النار السماوية، ونار اللاهوت، التي يقبلها المسيحيون في قلوبهم الآن وهم في هذا العالم الحاضر، هذه النار نفسها التي تعمل في قلوبهم من الداخل سوف تصير ظاهرة من الخارج] (عظة 1:11) فاللاهوت كعلم كنسي هو امتداد لعاصفة يوم الخمسيين في الكون.
[كما أن الثلاث فتية كان لهم أفكار البر، فقبلوا نار الله في داخلهم ” وسجدوا للرب بالروح والحق ” كذلك الآن فإن النفوس المؤمنة تنال النار الإلهية السماوية في إنسانها الداخلى وهم في هذا العالم وتلك النار نفسها تطبع صورة سماوية في طبيعتهم البشرية] (عظة 2:11) الترجمة الحرفية (يُشكل أو يرسم أيقونة سماوية) وفعل يُشكل morfie هو الذي استخدم الرسول الاسم منه في (فيلبى 2:5) “آخذًا صورة morfie العبد”.
في (عظة 30:4) يؤكد القديس مقاريوس أن السيد المسيح يرسم في النفوس صورة الإنسان السماوي على صورته. ويمثل لاهوت استدعاء الروح القدس Epiclesis في الليتورجيات الشرقية القاعدة لفهم فكر وممارسات آباء البرية وما يمثلونه من تيار نسكي ترك بصماته على الكنيسة أثناء الحقبة الآبائية، فالحياة النسكية هي استدعاء دائم للروح القدس لكي يحول جسدنا المائت إلى هيكل الحياة الأبدية أي يحول شهادة المسيح إلى واقع حي مقروء من جميع الناس أي يحول Istoria إلى Qewria[2].
1ـ الروح القدس والسر المكتوم منذ الدهور:
يعتبر القديس مقاريوس أن الهدف الأساسي وراء ظهور السر المكتوم منذ الدهور في السيد المسيح هو أن [يتمتع الإنسان بالاشتراك في روح ونور الله] (عظة 2:1) وهذا النور يجعل الإنسان ناظرًا دائمًا إلى الأمام أي يصير شخصًا حيًا Prospon.
المختبرون شركة الروح القدس عند مقاريوس لا ينظرون إلى الوراء بل هم مستقبليون [لا يكون لها جزء خلفي بل في كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام] (عظة 2:1)، والسبب وراء القدرة على النظر إلى الأمام هو [الجمال الذي يفوق الوصف الذي لمجد نور السيد المسيح] ولعل أكثر ما يثلج قلب الآب أن نتمعن في وجه النور، وجه ابنه الوحيد الذي به سُر وأكثر ما يبهج الروح القدس أيضًا هو أن يشهد في قلوبنا للسيد المسيح ويأخذ مما له ويهمس به في أورشليمنا الداخلية حتى ننال نحن الموهبة غير المائتة. نحن إلهيون من جهة وتاريخيون من جهة البشرية.
إننا نسير لكننا نثبت فيما نسير. نحن زمان وروح في آنٍ واحد. يحملنا زمان لا يخلو من روح. وروح ليست مستقلة عن الزمان[3]. نـــكرز بــالـــنور في اليهودية والسامرة وأقصى الأرض فالروح القدس يعطى للشهادة بُعدًا تاريخيًا وبُعدًا كونيًا وبُعدًا شخصيًا.
2ـ الروح القدس والتدبير الإلهى والحس التاريخى للخلاص:
[هذا السر المكتوم أُعلن تديجيًا للبشر وربنا يسوع المسيح إذ اهتم بخلاص الإنسان نفذ منذ البدء كل تدبير وعناية من خلال الآباء والبطاركة والناموس والأنبياء وفي النهاية جاء هو بنفسه واستهان بعار الصليب واحتمل الموت من أجل أن يلد من ذاته ومن طبيعته أولادًا من الروح لأنه سُرَ أن يُولدوا من الروح من فوق أي من نفس لاهوته] (عظة 2:30).
الروح القدس روح الـQewria يعطى للإنسان والكنيسة حسًا تاريخيًا. والآباء وبينهم القديس مقاريوس تكلموا بإسهاب عن التدبير الإلهي منذ السقوط وحتى مجيء المسيح ونجد تعبير ” تاريخ الخلاص ” كثيرًا في المؤلفات اللاهوتية المعاصرة. فالروح يعمل منذ السقوط وفي تاريخ البشرية الساقطة بالأنبياء.
ويعمل في العالم الحاضر في قلوب المسيحيين التائبين وسيعمل في المستقبل (عظة1:11-6:30-30،7-1:35،2) وعن استمرارية عمل روح الله في التاريخ البشرى نقرأ هذا القول المملوء بنبض الروح العامل في التاريخ بكل ظروفه [لقد كانت قوة الله حاضرة مع الأبرار بلا انقطاع وكانت تعمل عجائب منظورة وكانت النعمة الإلهية ساكنة فيهم وكان الروح يعمل في نفوسهم للتنبؤ، التكلم حينما كانت تدعو الحاجة أن يُخبروا العالم بأحداث عظيمة] (عظة3:50).
وهنا نلاحظ التناسق بين عمل الروح القدس وأحداث العالم العظيمة. فتاريخ العالم في اللاهوت الآبائي هو تاريخ عمل الله بالروح في العالم. والله في كلامه مع العالم استخدم ” أنواع وطرق كثيرة ” (عب 1:1) [ولما كلمنا في الأيام الأخيرة في ابنه أرسل الروح القدس ليعمل أعمال متنوعة في جميع الأعضاء] (عظة4:12). أي أن الله مازال يعمل بروحه في الكنيسة والعالم بطرق ومواهب متعددة. فمواهب الروح هي التي تميز بين المؤمنين في الجسد الواحد وهي تحقق حضور الكنيسة في العالم وحضور التأمل في التاريخ.
3ـ الروح القدس والصليب والقيامة ويوم الخمسين:
الروح القدس هو الذي يتسلم الفداء ويوزعه ويلغى الهوة القائمة بين ما مضى وما يحصل الآن لأن الزمان يستعلن كله في أبدية هي اللحظة الحاضرة التي أنجو فيها.
ويمثل الصليب والقيامة عند القديس مقاريوس الأساس اللاهوتي والتاريخي لانسكاب الروح. وهو كعادته لا يستفيض في شرح ما حدث في الصلب من أحداث والقيامة من مواقف بل يذهب رأسًا إلى أثر هذه الأحداث في الرسل وفي المسيحيين وفي الكنيسة وفي العالم [إن الرسل أنفسهم قبل الصليب بملازمتهم للرب رأوا آيات عظيمة، كيف كان البرص يتطهرون والموتى يقومون ولكنهم لم يكونوا يعرفون كيف تدخل القوة الإلهية وتتمم خدمتها في القلب، وكيف يُولدون ثانية بالروح ويشتركون مع النفس السماوية ويصيرون خليقة جديدة (2كو17:5) ولكنهم أحبوا الرب بسبب ما لمسوه في شخصه. والرب قال عنهم، لماذا تتعجبون من الآيات إني أعطيكم ميراثًا عظيمًا لا يملك العالم كله مثله] (عظة17:12).
4ـ من حب الاندهاش إلى الحب بالروح:
من الغموض إلى الوعي بالذات ومن الرؤية الإلهية إلى التاريخية. القديس مقاريوس يصف لنا مشاعر الرسل قبل يوم الخمسين فإذ هي خليط من الانبهار والإعجاب ولعل هذا يتفق مع وصف العهد الجديد لجماعة المؤمنين بعد الصليب، انبهار غير قادر على اتخاذ قرار! وأكثر من ذلك [فإن كلمات المخلص كانت تبدو غريبة لهم إلى أن قام من يبن الأموات وصعد بالجسد إلى أعلى السموات من أجلنا وبعد ذلك انسكب الروح المعزى ودخل في نفوسهم واختلط بهم والحق ذاته يظهر نفسه في النفوس الصادقة والمؤمنة، يأتى الرب الذي هو الإنسان السماوي ويصير في شركة مع كل إنسان وفي شركة معك] (عظة17:12)، [ونحن من خلال جسد الابن الوحيد الذي هو متحد باللاهوت وهو دائمًا مع الروح القدس نصير دائمًا مع الرب] (عظة 4:17).
فالروح القدس في اليوم الأول للخليقة “يرف على وجه المياه ” لكي يعطى الحياة للخليقة، وحل على السيدة العذراء ممثلة البشرية جميعًا لكي ينفخ في أحشائها الحياة البشرية لكي يتجسد اللوغوس الإلهي، وهب يوم (الخمسين) على التلاميذ لكي يجعل منهم الجسد الحي للبشرية الجديدة التي هي حياة الشركة الكنسية.[4] وهنا الروح ينشئ الكنيسة ويقيمها في المسيح في التاريخ.
5ـ الروح والعروس:
الروح القدس هو روح الشركة وروح الكنيسة، والقديس مقاريوس يركز دائمًا على القاعدة الرسولية للكنيسة (أي البعد التاريخي للرؤية السماوية) وأن [تعليم الرسل قد دشن عالمًا جديدًا مختارًا من الله] (عظة 6 :6). وحينما يفسر الآية الخاصة بيوحنا المعمدان (مت 11 :11)
يقول [حقًا من بين المولودين من النساء ليس أعظم من يوحنا….. فإنه هو تكميل الأنبياء وخاتمتهم، كل الأنبياء تنبأوا عن الرب واشاروا إليه من بعيد أما يوحنا فتنبأ عن المخلص وأظهره أمام عيون الجميع صارخًا بصوت عالٍ “هوذا حمل الله ” (يو29:1) أنه لايوجد أعظم من يوحنا في مواليد النساء ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه (مت11:11) أي المولودين من الله من فوق، أي الرسل، الذين نالوا باكورة الروح المعزى، لأنهم حسبوا أهلاً لأن يكونوا شركاء معه في الدينونة…وهم قد جعلوا محررين ومنقذين للناس… وتجدهم فلاحين في كرم النفوس وتجدهم أصدقاء العريس…] (عظة6:28،7).
وفي قراءة خريستولوجية typology للعهد القديم والتي ميزت كل اللاهوت الآبائى. يتكلم القديس مقاريوس عن الآباء الرسل قائلاً: [وكان رئيس الكهنة له على صدره حجران كريمان، وعليهما أسماء أسباط إسرائيل الأثنى عشر (خر10:28) وكان هذا ليكون رمزًا ومثلاًtypos لأن الرب أيضًا بنفس الطريقة وضع على صدره الرسل وأرسلهم مبشرين وكارزين للعالم اجمع وها أنت ترى كيف أن الظل يشير إلى الحقيقة] (عظة5:32) وهذا مثال رائع للوحدة بين الحس الروحي والحس التاريخي عند الآباء.
6ـ الكنيسة واقتناء الروح القدس:
إن اللاهوت هو امتداد لشهادة marteria،marturia المسيح في الكنيسة وتحقيق لها في العالم والتاريخ. ولهذا فاللاهوت يعبر عن يوم الخمسين الدائم الحضور في الكنيسة من خلال وحدتها وتمايز مواهب أعضائها وهذا التمايز في المواهب تحكمه احتياجات الإنسان. وهنا يحدث وعى بعمل الروح التجديدي لكل أعضاء جسد الكنيسة ومنهم إلى جسد البشرية جمعاء وهكذا فإن نعمة الشركة الإفخارستيا تتحول في أعضاء الكنيسة إلى مواهب وإلى لاهوت يسند هذه المواهب ويؤسسها ويحفظها في شركة الكنيسة.
والقديس مقاريوس مثل غيره من الآباء يدرك أهمية الكنيسة وأسرارها في “نقل” النار السماوية إلى البشرية وهنا نحن أمام أعمق تجسد للرؤية في التاريخ البشرى، بالأسرار تتحول الكنيسة إلى خليقة جديدة ويندفع أولادها المستنيرون بالمعمودية وإضرام بذرة الحياة الجديدة بالتوبة واقتناء المواهب في شركة الإفخارستيا والخدمة، إلى الشهادة الحية.
والقديس مقاريوس يشرح لنا أسرار الكنيسة على أنها هي الأمور التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن (1كو2:9) والتي أعلنها الله لكنيسته بالروح [في ذلك الزمان كان الأبرار والعظماء والملوك والأنبياء يعرفون أن المخلص لابد أن يأتي ولكنهم لم يكونوا يعرفون ولا كانوا قد سمعوا أنه سيتألم ويصلب ويسفك دمه على الصليب ولم يخطر على بالهم أنه ستكون هناك معمودية بالنار والروح القدس] وأن في الكنيسة ستُقدم تقدمة الخبز والخمر تحقيقًا لجسده ودمه، الإفخارستيا هي أعمق مثال على الاتحاد الكامل بين الثيؤريا والتاريخ عند الآباء وفي الكنيسة فكما تقول الديداكية ” الكنيسة تجمع الحنطة من على الجبال أي ثمرة عمل الإنسان وتقدمها للرب على المذبح لكى يتحول الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه…”.
ويقول عالم الآباء ألكسندر شميمن في كتابه عن الأسرار[5] (إننا نقدم إلى الله العالم كله وتاريخ البشر في هيئة الخبز والخمر لكى ما يقدسها ويعيدها إلينا متحدة بروحه وجسده ودمه، إن أولئك الذين يتناولون الخبز المنظور سيأكلون جسد الرب روحيًا)، [لأن الرسل والمسيحيين سينالون المعزى “ويتأيدون بالقوة من الأعالي “(لو49:24) ويمتلئون إلى كل ملء الله(أف) وأن نفوسهم تمتزج بالروح القدس وتتشبع به، هذا لم يعرفه الأنبياء والملوك ولا خطر على قلبهم، والآن فإن المسيحيين يتمتعون بغنى عظيم يختلف عن غيره وقلوبهم تشتاق إلى الله] (عظة 17:27).
وفي العظة الثالثة عشر يتكلم عن ضرورة تكريس القلب والتغصب للاستعداد لنوال الأسرار السماوية ويعطيه الرب الطعام السماوي والشراب الروحاني (1كو4:10) والجسد والدم هو طعام البنين (يو35:8) [وإذ يذهب الأولاد مع يسوع والدهم في كل مكان فإنه يعطيهم ذاته] ” من يأكل جسدي ويشرب دمى يثبت في وأنا فيه ” (يو56:6) وأيضًا ” لايرى الموت ” (يو51:8) المعمودية كممارسة في الزمن وعطية الروح القدس أي الزمن الجديد.
واكن ما يعنينا هنا أن في النصوص الأخرى هناك تعاليم أخرى للقديس مقاريوس سبق وأشرنا إلى بعضها في العظات الخمسين ولكن هنــــاك تأكيـــد عليها يهمنا أن نعرضه لعلاقته الوطيدة بعمل الروح القدس في الكنيسة ذكرها العالم الفرنسي الأرثوذكسي Placide Deseille في المقدمة الرائعة التي سبقت ترجمته لعظات مقاريوس إلى الفرنسية ووضعها تحت عنوان ” اقتناء الخلاص ” وبعدها وضع عنوانًا جانبيًا ” المعمودية أساس الحياة الروحية ” وفي هذا النص الهام يجيب القديس مقاريوس على السؤال الآتي: إذا كانت المعمودية ممارسة حقيقية وأساس الإيمان فلا يجب أن ننتظر شيئًا آخر من السماء (يقصد الامتلاء وشركة الروح التي يذكرها دائمًا القديس مقاريوس) إذًا من الواضح أنه لا جدوى من انتظار شيئًا آخر بعد المعمودية!
ويجيب القديس مقاريوس: [إننا في المعمودية نأخذ أساس عمل الروح القدس] وهنا تجد عظات مقاريوس في وضعها اللاهوتي الصحيح وهو احترام لموهبة الله التي حلت في المسيحيين وذلك بالتوبة والصلاة والشركة: وفي ” الرسالة الكبرى ” يشرح القديس مقاريوس هذا الأساس الكنسي لعمل الروح القدس وفي الفقرة الثانية من الرسالة يُسهب القديس مقاريوس في شرح ضرورة أن يقدموا أجسادهم ذبيحة مقدسة عبادتهم العقلية (رو2:12) ليختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية، ويربط بين سر الثالوث والإيمان الأرثوذكسي والاعتراف بالإيمان في المعمودية، [الإيمان الأرثوذكسي يسجد للثالوث ذي الجوهر الواحد والمجد الواحد كما نعترف في السر المقدس الذي للمعمودية].
وفي موضع آخر يقول [إن المؤمنين يقبلون عربون الروح في المعمودية باسم الثالوث وذلك من أجل أن ننمو في الكمال، كمال الميراث ومن أجل مضاعفة الوزنة في (مت 15:25) التي للسر العظيم]. وفي نفس الرسالة يتكلم عن الكنيسة بشكل أوضح [إن الروح الإلهى المعزى الذي أُعطى الرسل ومنهم لكنيسة الله في ساعة المعمودية، هذا الروح يتحد بكل من يتقدم للمعمودية بإيمان صادق]… أي أنكار للأسرار أو تقليل من شأنها هو تقليل من شأن الكنيسة وبالتالي الحضور التاريخي الفعلي للروح في العالم والكنيسة ليست مؤسسة دنياوية بل هي امتداد ملكوت الله (الثيؤريا)على الأرض (الأستوريا).
” إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء يا والدة الإله أنت هي باب السماء افتحي لنا باب الرحمة ” (من صلوات الأجبية المقدسة).
روح الشركة: أنا أتكون من حرارة الآخر الروحية:
يسمى القديس مقاريوس حياة الشركة:
(أ) بالشركة الأخوية (عظة 3). (ب) والمدينة السماوية (عظة 2:12).
(جـ) والعائلة السماوية (عظة 23).
[والكنيسة السماوية هي واحدة ولكن بها أعداد لا تحصى وكل شخص فيها يتزين بمجد الروح بطريقة فريدة خاصة لأنه كما أن الطيور تخرج من أجسادها غطاء لها هو ريشها إلا أنه توجد اختلافات كبيرة بين الطيور نفسها…هكذا القديسون فأنهم متأصلون في سماء واحدة هي سماء اللاهوت ولكن بطرق متنوعة…. فإن الروح إذ يأتي إلى القلب فإنه يصنع فكرًا واحدًا، فإن الذين هم فوق والذين أسفل هم تحت تدبير وقيادة روح واحد] (عظة 3:32).
التوازن بين المؤسسة والخاريسما (موهبة) بين الروح والتاريخ:
القضية الكبرى التي واجهتها الكنيسة الأولى منذ البدء والواضحة في رسائل بولس والآباء الرسوليين ولاهوت أغناطيوس الأنطاكي هي ضرورة أن تجتمع كل المواهب حول سر الإفخارستيا والأسقف. وهنا تأسس الانسجام والتوازن بين المواهب والتنظيم الكنسي والإدارة والتي انطلقت من روح الإفخارستيا. فلأفخارستيا هي مركز كل حركة الكنيسة في التاريخ. قد كتب الباحث الأمريكي Peter Brown عن أن الخطورة تكمن في أن يحدث (روتنة المواهب) وهنا يحدث الفصام بين الإدارة الكنسية والمواهب وقديمًا قال أفلاطون ” ليت الفلاسفة يحكمون والحكام يتفلسفون “.
وأباء الكنيسة طبقوا ذلك في الكنيسة فأدار الكنيسة اللاهوتيون فصارت الإدارة نفسها خاريسما أي الموهبة الروحية فلا يوجد عند الآباء تناقض بين ” خادم النادي ” و ” خادم الكلمة ” أو ” خادم أخوة الرب ” أي أن كل عمل في الكنيسة تحول إلى عمل خريسماتيكى نابع من روح التوبة والشركة وحين يتكلم عن مريم ومرثا يؤكد مقاريوس على هذه الوحدة (عظة 16:12)
وفي تعبير رائع عن هذا الاتزان بين المواهب ” فمهما كان انشغال الأخوة فينبغي أن يقوموا به في محبة وبشاشة نحو بعضهم البعض، فالذي يشتغل منهم فليقل عن الذي يصلى ” أن الكنز الذي يجده أخي هو كنز مشترك فلذلك فهو كنزى ” والذى يصلى يقول عن الذي يقرأ ” أن كل ما استفادة أخي من القراءة هو لمنفعتى ” والذى يعمل فليقل ” أن ما أعمله من الخدمة diakonia هو لمنفعة الجميع “…..
وهناك أمر لازم للجميع، هو أن يحصل الإنسان في داخل نفسه على كنز، وعلى الحياة في عقله هذه الحياة التي هي الرب نفسه ـ حتى أنه سواء كان يشتغل أو يصلى أو يقرأ فلا يزال حاصلاً على ذلك النصيب الذي لا يزول الذي هو الروح القدس (عظة 3:3). الوحدة بين المواهب والكنيسة وأباءها لدليل على الوحدة بين عمل الروح والواقع التاريخي بين الثيؤريا والإستوريا.
إن العداء بين الأنبياء كحاملين للروح والكهنة كخدام للطقس أي بين النعمة وتجسيدها التاريخي في الأسرار والكهنوت لا يمت بصلة للتراث الآبائي بل هو نتاج قراءة بروتستانتية للكتاب المقدس أثناء عصر الإصلاح والهجوم على الكنيسة الكاثوليكية وخاصة العهد القديم فالنبي في العهد القديم هو ابن بيئته الطقسية ونقد الأنبياء كان ضد الممارسة الشكلية للطقس وليس ضد الطقس ومحاولة تأسيس الصراع بين المواهب والمؤسسة، بين النبي والكاهن نشأ في ظروف عصر الإصلاح البروتستانتي (5)، ولا نجد أثر له عند الآباء فالكنيسة تحفظ المواهب وتجد بينها الاتزان اللازم. (راجع 1كو12).
الجهاد الروحي والواقعية الآبائية:
في وسط هذه الأجواء الروحية المقاريوسية أي الطوباوية يجد الجهاد الروحي معناه وهدفه وفي معظم العظات يتكلم قديسينا عن الجهاد وضرورة اشتراك الإنسان في العمل مع الروح: ” فليغصب كل واحد منا نفسه ليطلب من الرب أن يحسب أيضًا أن ينال وأن يجد كنز الروح السماوي لكيما يستطيع بدون صعوبة أن يتهيأ أن يعمل كل وصايا الرب بنقاوة وبلا لوم ـ تلك الوصايا التي لم ينجح قبل ذلك مهما غصب نفسه…. أما النفس التي وجدت الرب الذي هو الكنز الحقيقي فإنها بواسطة طلب الروح وبالإيمان والثقة وبصبر كثير تثمر ثمار الروح بسهولة وراحة ” (عظة 3:18، 19).
وفي العظة 25 يؤكد الحاجة إلى قوة الصليب ويعتبر أن الحياة على الأرض باطلة وبلا هدف بدون قوة الله أي أن التاريخ بلا معنى بدون رؤية الله. (عظة 2:25)
ويميز القديس مقاريوس بين الجهاد الذاتي والجهاد بالروح (عظة 21:26) ” الأشياء التي تعملها بنفسك هي حسنة مقبولة أمام الله ولكنها ليست نقية تمامًا فمثلاً: أنت تحب الله، ولكنك لا تحبه محبة كاملة فحينما يأتي الرب إلى داخلك فإنه يعطيك محبة سماوية غير متغيرة… منذ سقوط الإنسان صارت تربة القلب البشرى تنبت شوكًا وحسكًا والإنسان يعمل فيها ويتعب ومع ذلك تنبت فيها أشواك الخطية (تك 18:3) إلى أن يأتي الروح نفسه ” ويعين ضعفات الإنسان ” (رو26:8) ويزرع الرب الزرع السماوي في تربة القلب ويفلحها ولكن برغم ذلك لايزال الحسك والشوك ينبتان ثانية ثم يعمل الرب والإنسان معًا في أرض النفس ولايزال أشواك “.
تظهر الواقعية الآبائية أيضًا في أن حصول الإنسان على النعمة لا يغير طبيعته فالذي كان شديدًا يبقى على شدته والرقيق على رقته (عظة 5:26) وسيظل احتفاظ كل إنسان بطبيعته حتى في قيامة الأجساد (عظة 10:15). سر الخلاص عند الأباء هو في إطلاق طاقة الإنسان لتصير أعمالاً خلاقة وإبداعات شاهدة للمسيح وأخيرًا فإن الحياة في الروح عند القديس مقاريوس هي مسيرة لا تنتهي ويعتبر أن سبب الخطية يكون في أن كثيرين ظنوا أنهم قد حصلوا على الكمال وقالوا هذا يكفي ولكن الرب ليس له نهاية ولا يمكن إدراكه بصورة كاملة ولا يجرؤ المسيحيون أن يقولوا ” لقد أدركنا ” (في 13:3) ولكنهم يظلون يطلبون بتواضع.
ويعلمنا القديس مقاريوس أن أمور الحياة نسبية لأنه ” إذا ذهب إنسان له بعض العلم إلى قرية حيث الناس غير متعلمين فإنهم يعجبون به ويمدحونه كأحد العلماء لأنهم جهلاء تمامًا ولكن إذا ذهب نفس هذا الشخص بعمله القليل إلى مدينة حيث العلماء والخطباء فإنه لا يجسر أن يظهر بينهم أو يتكلم لآن العلماء الحقيقيون يحسبونه جاهلاً (عظة 17:26).
فالمعرفة البشرية مهما كان مستواها فهي لا ترقى إلى معرفة كل شيء. والأباء أحبوا رؤية الرسول بولس للأمور الآن في مراه (1كو 10:13). والتاريخ والأحداث ستأخذ معناها من قصدها النهائي أي من الاسخاتولوجيا وذلك واضح من قول الرسول في بقية الآية: [فإننا ننظر الآن في مراه في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت] (1كو 12:13). المعرفة عند الأباء اسخاتولوجية المدى. وهناك يأخذ تأمل الأباء الشيوخ في الموت كل قوته في الإسخاتولوجيا.
[1] Andrew Louth, the origins of the Christian Mystical Tradition Oxford, 1991, P.v
[2] الرؤية الآبائية لحضور الروح القدس وعمله في الكنيسة والعالم ـ خرستوس ياناراس ـ ترجمة أ. ناجى أسحق. وقد ظهر هذا المقال في كتاب أعمال المؤتمر السنوي الثاني للدراسات الآبائية ـ سبتمبر 1994م.
[3] الخولاجي المقدس والثلاث قداسات إصدار دير السيدة العذراء ـ المحرق (صلاة الصلح القداس الباسيلي). انظر أيضًا كتاب (وجه النور) للأب ليف جيلليه.
[4] ملحوظة: انظر خرستوس ياناراس ص1، انظر أيضًا عظة 6:6،7.
[5] من أجل حياة العالم For the life of the world.