آبائياتأبحاث

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) – حياته وأعماله – د. جوزيف موريس فلتس

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) – حياته وأعماله – د. جوزيف موريس فلتس

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) - حياته وأعماله - د. جوزيف موريس فلتس
القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) – حياته وأعماله – د. جوزيف موريس فلتس

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) هو أحد أعمدة الرهبنة القبطية والوريث الوحيد لفضائل ونعمة القديس أنبا أنطونيوس[1] أبو الرهبان. وهو الذي أسس الرهبنة بالمنطقة التي تسمى بالأسقيط[2] أو برية شيهيت[3]، ولهذا فإن المهتمين بدراسات الآباء يعتبرون أن القديس مقاريوس الكبير بالنسبة للتاريخ الكنسي هو الأب الروحي للأسقيط والمؤسس الحقيقي لبرية شيهيت[4].

ويسمى القديس مقاريوس بالمصري أو بالكبير لتمييزه عن القديس مقاريوس الإسكندري المعاصر له (293-393)، أما ألقابهم هذه فكانت تدل على موطن نشأتهم، فالأول نشأ في الريــــف المصري والثاني في الإسكندرية أكبر مدن العالم في ذلك العصر الأمر الذي أثر في تربيته وثقافته[5]. ويقول سقراط المؤرخ الكنسي[6] “أن فضائل المقارين كانت متشابهة للغاية إلا أن الفارق الوحيد هو أن مقاريوس المصري (أبو مقار) كان ذا هيبة وبنوعٍ ما صارمًا مع الذين كانوا يقصدونه بينما كان مقاريوس الإسكندري مرحًا جدًا في حديثه خصوصًا مع الشباب قائدًا إياهم للتوبة والنسك”.

 

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) - حياته وأعماله - د. جوزيف موريس فلتس
القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) – حياته وأعماله – د. جوزيف موريس فلتس

ولد القديس مقاريوس عام 300ميلادية في أسرة مسيحية إذ كان أبوه إبراهيم كاهنًا وأمه سارة امرأة قديسة في قرية شبشير القريبة من ترنوط[7] سوق شيهات الذي كان ينزل إليها الرهبان لبيع شغل أيديهم.

+ توحد في الصحراء المتاخمة لقريته وهو في الثلاثين من عمره، وانطلق إلى برية شيهيت بناء على رؤية ظهر فيها له الشاروبيم كانسان نوراني وأرشده إلى منطقة الاسقيط واعلمه أن الرب سيهبها ميراثًا له ولأولاده ليتفرغ فيها للصلاة وكان عمره آنذاك أربعين عامًا أي عام 340م بعد أن سيم قسيسًا بواسطة أسقف أشمون.

+ تخبرنا المخطوطة القبطية والعربية[8] أنه زار الأنبا أنطونيوس في بداية اعـــتزاله في بـــرية شيهيـــت وبعد 3 سنوات، وعلى التحديد 340م واستلم منه وصايا ومرسوم خدمته وكل ما يليق بزي الرهبنة المقدس[9] وأصبح تلميذًا للأب الكبير الأنبا أنطونيوس[10].

وتدكر نفس المخطوطة أنه قام بزيارة الأنبا أنطونيوس مرة أخرى، غير أن كثير من العلماء يؤكدون عدم صحة هذه المعلومة ولكن الذي يؤكدها هو قول محفوظ لنا للآباء جاء فيه “حدث مرة أن ذهب أبا مقار لزيارة الأنبا أنطونيوس فلما تحدث معه عاد إلى شيهيت، وجاء الآباء لاستقباله وبينما هو يتحدث معهم قال لهم: لقد قلت لأبا أنطونيوس أننا نقيم ذبيحة في موضعنا.. ديرنا بشيهيت[11] ومن هذا القول يتضح أن هذه الزيارة هي رقم 2 حيث أنه في المرة الأولى لم يكن هنا كنيسة بالمنطقة (جبل شيهيت) وظل الأنبا مقار يتردد على نتريا لمدة 10 سنوات لحضور القداسات هناك كما أن وجود الأخوة في استقباله يدل على مرور وقت تكونت خلاله جماعة رهبانية احتاجت لإقامة كنيسة لهم.

 

اشتهر بين آباء نتريا الذين كان يتردد عليهم باستمرار للاشتراك في الأسرار الكنسية بالحكمة ورجاحة عقل الشيوخ حتى أنهم لقبوه بـ”الشاب الشيخ”Paidariogeron  وكانت له مكانة كبيرة بينهم حتى أنهم دعوه في أواخر أيامه لزيارتهم فلبى الدعوة وألقى عليهم خطبته الأخيرة المشهورة كما سنتحدث عنها فيما بعد.

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) - حياته وأعماله - د. جوزيف موريس فلتس
القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) – حياته وأعماله – د. جوزيف موريس فلتس

في سنة 373م نُفى في جزيرة بالدلتا وذلك عندما حرض أتباع أريوس الوالي فالنس على اضطهاد الرهبان بسبب تمسكهم ودفاعهم عن الإيمان النيقاوي مما أدى إلى نفى القديسين مقاريوس المصري (أبو مقار) ومقاريوس الإسكندري[12]. وعاد قديسنا من منفاه بعد عامين أي سنة 375م بعد أن خدم أهل هذه الجزيرة وحولهم من وثنيين إلى مسيحيين. تنيح بسلام بعد أن بلغ 90 عامًا مليئة بالجهاد حتى النفس الأخير.

 

أعياد القديس أبو مقار:

13      برمهات عودته من المنفى

27      برمهات  نياحته

19      مسرى   إعادة جسده إلى ديره في شيهيت

8        طوبة    تذكار تكريس كنيسته على يد البابا بنيامين الـ38

 

لمحة مختصرة عن حياته الروحية وتعليمه:

عاش حياة مضيئة واشتهر باسم ابنفماتوفورس أي اللابس الروح. وكان يحيا في خبرة العشرة المستمرة مع الله، والمسيحية بالنسبة له ” طعام وشراب ” فكلما أكل الإنسان منها ازداد قلبه ولعًا بحلاوتها ولا يتوقف أو يكتفى بل يطلب المزيد ويستمر يأكل بلا شبع أو امتلاء (عظة13:17) وهي (المسيحية) في حقيقتها تذوق عميق للحق، هي أكل وشرب للحق.. أن تأكل وأن تشرب وهكذا لتنال القوة الفعلية (عظة 7:27).

لقد عاش وعلم أنه يجب علينا أن نطلب الله غير المحدود وغير الموحى فإنه موجود في كل مكان ” فإن كنت تطلب الرب في العمق فهناك تجده، في المياه فهناك تجده صانعًا عجائب (خر 15: 11) وإن فتشت عنه في الجب فهناك تجده حارسًا دانيال البار وسط الأسود، وان فتشت عنه في النار فهناك تجده حافظًا عبيده الفتية الثلاثة. وإن سألت عنه على الجبل فهناك تجده مع إيليا وموسى فهو في كل مكان ـ وتحت الأرض وفوق السموات…. بل وفى داخلنا أيضًا نعم إنه في كل مكان كما أن نفسك أيضًا قريبة منك من داخلك وفى خارجك لأنك إلى حيث تشاء أن تذهب إلى بلاد بعيدة فهناك يكون عقلك سواء ناحية الشرق أو نحو السماء ـ هناك يذهب عقلك (عظة 12: 12).

وهذا هم الأهم أن الله يوجد داخلنا وخصوصًا بعد التجسد والصليب. ومن واقع حياته وخبرته علم أن الإنسان بعد السقوط أصابه الهوان الشديد وكان من الضروري تدخل الله نفسه، ومع أن تدبير الله الخلاصي بدأ في العهد القديم ومن خلال تقابل الله مع شعب إسرائيل ـ أي قبل التجسد إلا أن عملية التجسد كانت ضرورية جدًا لكي يستطيع أن يخلص المثيل بالمثيل أي يخلص الإنسان بالإنسان (عظة44:15). وهذا هو عينه ما يركز عليه اللاهوت الأرثوذكسي بشأن أهمية التجسد لفداء الإنسان وما علم به الآباء الذين كتبوا باليونانية والآباء الكبادوك.

+ إن نفس الإنسان وفكره تشتركان مع روح الله من حيث وجودهما في كل مكان (12: 12). ولكن فكر الإنسان لابد أن يتجه دائمًا نحو الله لكي يبقى دائمًا معه. إن نفس الإنسان هي عروس المسيح الذي هو عريسها ولابد أن ترتبط العروس بعريسها بصفة دائمة بواسطة شركة الروح. وفى موضع آخر يعلم أن النفس التي تتشبع تمامًا بالجمال الذي لا يوصف، جمال مجد نور وجه المسيح وتكون في شركة تامة مع الروح تنال الامتياز بأن تكون محل سكن الله وعرشًا له” (عظة 1: 2).

بل ويصف النفوس التي ” يتساقط عليها ندى روح الحياة أي ندى الإلهيات بأن قلوبهم تمتلئ بالعشق الإلهي وحينئذ تستطيع هذه النفوس أن تعيش من الآن وهي على الأرض حالة القيامة وعدم الفساد”.

القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) - حياته وأعماله - د. جوزيف موريس فلتس
القديس مقاريوس المصري (أبو مقار) – حياته وأعماله – د. جوزيف موريس فلتس

أعماله (كتاباته):

تنسب للقديس مقاريوس المصري أعمالاً كثيرة، وتحاول الأبحاث العلمية فحصها وتحليلها ونقدها للوصول إلى حقيقة مصدرها وصحة نسبها للقديس مقاريوس وتصل هذه الكتابات إلى ما يقرب المائة، تتنوع بين عظة ومقال توجد في خمس مجموعات.

ولقد أثرت هذه الكتابات في الحياة الروحية والنسكية في الشرق والغرب بعد أن تأثرت من قبل بكتابات القديس باسيليوس الكبير والتي تميزت بالشمولية ودقائق الأمور العملية.. لهذا فإن كتابات القديس مقاريوس لاقت انتشارًا واسعًا بين الأوساط الرهبانية والتي كان اهتمامهم منحصرًا في الحياة الروحية والنسكية الصارمة بجانب خبرات الرؤى الإلهية:

1ـ المجموعة الأولى: وتشمل 64 مقالاً وهي من أكبر المجموعات مع أنها من أقلها انتشارًا، والمقال الأول منها يطابق نص الرسالة الأخيرة الشهيرة كذلك فإن المقال 40

هو على هيئة رسالة والمقال 62 من الفقرة 1ـ 22 يوجد في كتابات كل من كليمندس الإسكندري ومكسيموس المعترف.

2 ـ المجموعة الثانية: وتشمل العظات الخمسين والتي نحن بصدد دراستها هنا، هي من أكثر المجموعات شهرة وتحظى بأكبر اهتمام من العلماء وقد نشرت لأول مرة عام 1559.

3 ـ المجموعة الثالثة: وتشمل 43 مقالاً. منهم مقال من المجموعة الثانية وثمانية مقالات من المجموعة الأولى وتم نشر هذه المجموعة لأول مرة 1961.

4 ـ المجموعة الرابعة: وتشمل 26 مقالاً وهي مقالات مكررة من المجموعة الأولى.

5 ـ المجموعة الخامسة: وتشمل 7 مقالات عن حفظ القلب (وهي عبارة عن مقاطع من مقالات المجموعة الأولى) ـ وعن الكمال المسيحي ـ عن الصلاة، عن الصبر في الجهاد ـ عن رفع الفكر لله ـ عن المحبة الإلهية ـ عن تحرر الفكر والمقالات من 2 ـ 7 هي مقتطفات من المجموعة الرابعة والتي تأتى معظمها من المجموعة الأولى ومقالات المجموعة الخامسة هذه عبارة عن فصول عددها 150 فصل.

 

ـ العظات السبعة: يوجد في مخطوطتين ضمن المجموعة الثانية 7 عظات الثانية والخامسة منها ورد مضمونها ضمن المجموعة الثالثة بينما الأولى والثالثة والخامسة في المجموعة العربية الرابعة عبارة عن الفصول 47، 48 من كتاب تاريخ بلاديوس.. والسابعة تطابق الرسالة الثانية لأموناس (رسائل الأنبا أنطونيوس).

 

ـ الرسالة الكبرى: وهي نص مهم للحياة الروحية والنسكية ويرى العلماء أن لها علاقة كبيرة بمقالة لإغريغريوس النيصصي أو (النيسي) عن.. الهدف الإلهي.

 

خصائص كتاباته:

تتميز كتابات القديس مقاريوس وخصوصًا رسالته الأخيرة بمنهجها الروحي العملي وبأنها تخلو من المنهج التأملي الذي ميز كتابات أوريجينوس كما أنها تخلو من المنهج العقلي والذي كان يركز على التداريب الروحية كما كان يعلم أوغريس في القرن الرابع والذي كان منتشرًا بين آباء نتريا وشهيت ومن بعده الشيخ الروحاني ومار اسحق. لقد اعتمد القديس مقاريوس في كتاباته على الخبرة الروحية القائمة على حياة التسليم المطلق للأب الروحي، حيث تأتى المعرفة دائمًا نتيجة الخبرة الروحية وليس العكس.

 

لقد حاول بعض العلماء إثبات أن كتابات القديس مقاريوس لها علاقة بالكتابات الخاصة بجماعات (المصلين) التي انتشرت تعاليمها في القرن الرابع والتي حرمها المجمع الثالث (431م). لكن القديس مقاريوس ـ إن كان هو فعلاً كاتب هذه العظات ـ حاول أن يصحح لجماعات الرهبان في عصره والمتأثرون بفكر جماعات المصلين غير الأرثوذكسي فكرهم عن النسك والعلاقة الحية مع الله، ونجح من خلال كتاباته هذه أن يعيد هذه الجماعات الرهبانية المتطرفة إلى حضن الكنيسة وأن يعطيها أساسًا أرثوذكسيًا لجهادها.

 

[1] كتاب تاريخ الرهبنة في مصر لروفينوس (كما يظن) Historia Monachorum, Latin version. ch. xxviv

[2] الأسقيط هي ترجمة الكلمة اليونانية SkhtiV  وهي مشتقة من الكلمة AskhthV بمعنى الناسك. أى أن كلمة الأسقيط معناها مكان النسك ومنها أيضًاSkhtiwthV  بمعنى الراهب الأسقيطى.

[3] كلمة قبطية تكتب  si/tوتنطق شيهات وجاءت في بعض المخطوطات sih/t و s/h/t  وأضافة حرف H (الهورى) هو حديث يرجع إلى القرن 13 وما بعده ومنذ القديم كان سائدًا أن المعنى العام للكلمة هو أنها تشير إلى كلمة   s/t بمعنى قلب كما جاءت في قصة يوحنا القصير حيث يُفسر اسم المنطقة هكذا “أذهب إلى جبل النطرون الذي هو شيهيتsih/t الموضع الذي توزن فيه القلوب والأفكار بمقايس حقيقية Amelineau,Monastore de la basse.. Egypta (Mus`ee Gvimt xxv),P.236

[4] Quasteu, Patrology, vol.II, P.161

[5] Lausiaca, Monachorum in Aegypto, les moines d.orient I, 2.

[6] سقراط مؤرخ كنسي يوناني (380-450م) من القسطنطينية. كتب كتاب في التاريخ الكنسى من 7 أجزاء ويعتبر مكملاً لتاريخ يوسابيوس. كتب من الفترة ما بين (305-439م)

[7] مدينة تقع غرب فرع النيل الغربى (رشيد) وقريبة من مدينة نقوسبا وأسمها باليونانية teronouqhVوهي المدينة التي تقابل فيها الرهبان (70000) مع عمرو بن العاص عند مجيئه إلى مصر وحسب رواية المقريزى اعطاهم الأمان في صورة وثيقة tu.white ,II,72,Apoth.Part xiii

[8] هي المخطوطة رقم 18 س بمكتبة دير الأنبا مقار حققها وترجمها ونشرها اميلينو عن حياة القديس مقاريوس بقلم صرابامون تلميذه.

[9] المرجع السابق

[10] Butler, The Lausiac History of Palladius I/II

[11] Apoth.Part.xxvi, Macar Aegypt

[12] Socrates, H.E. IV, 24