رسالة الراعي لهرماس – د. وهيب قزمان
رسالة الراعي لهرماس – د. وهيب قزمان
أولاً: المقدمة:
إن كتاب الراعي لهرماس هو أوسع ما وصل إلينا من آثار الآباء الرسوليين. إلاّ أننا لانستطيع أن نجزم من هو واضع هذا الكتاب بدقة، لأن الكتاب له طابع النبوة يصعب فيه التمييز بين الرمز والحقيقة.
هرماس: ” جاء بالوثيقة الموراتورية (القرن الثاني) أن ” هرماس كتب كتاب الراعي O Poimen في زمن حديث جدًا، حين أعتلى أخوه بيوس الأسقف كرسي مدينة روما “.
وقد أكد أوريجينوس على هذه الشهادة في تعريفه لهرماس بأنه هو نفسه الذي ذكره القديس بولس في الرسالة إلى رومية (14:16).
ولا يمكن الجزم بأنه عاش في زمن ” كليمندس الروماني “.
وهرماس كما يقول عن نفسه، ينحدر عن أسرة يونانية، جيء به إلى روما وهو بعد شاب صغير وبيع هناك عبدًا، واشترته سيدة مسيحية تدعى رودا Rhoda. فأعتقته وتزوج وحقق ثروة لا بأس بها في التجارة والزراعة. لكن يبدو أن أخلاقيات الأسرة لم تبلغ نفس رُقى تجارته وثروته: إذ كان رجلاً قد اشتهر بالكذب وكانت زوجته ثرثارة، وانحرف أولاده، حتى أنهم أنكروا الإيمان أثناء الاضطهاد! لكن بقىّ هرماس وحده يواجه بشجاعة تلك المحنة التي أحاطت به وبأسرته وهو الأمر الذي يُحسب له، وخسر كل ثروته ما عدا مزرعة واحدة صغيرة كانت بالكاد تكفي احتياجاته. وتسبب الاضطهاد في تحوله الكامل إلى إنسان مسيحي تقى.
كتاب الراعي:
يُقسم في ظاهره إلى ثلاثة أقسام: خمس رؤى واثنتي عشرة وصية وعشرة أمثال. ولكن المنطق السليم يقضى باعتبار الكتاب مؤلفًا من قسمين رئيسيين هما الرؤى والوصايا.
ويمتاز الكتاب بسلسلة من الإرشادات والنصائح حول ” ضرورة التوبة “. وفى الرؤى يظهر بعض الأشخاص يرسلهم الله إلى هرماس لمنفعته، أولهم سيدة مُسنة شريفة تمثل الكنيسة، ثم تتخلى هذه عن شيخوختها تدريجيًا لتظهر في النهاية عروسًا لائقةً بالمسيح، وقد ظهرت له أربع مرات متتالية ترشده نحو الصلاح، وفى الرؤيا الخامسة يظهر له الراعي الذي يبقى معه إلى النهاية، وهو ملاك التوبة. الذي يكلفه بواجب كرازة التوبة وغفران الخطايا لمن يريدون الخلاص. ويفرح هرماس بتوبة أولاده الذين يراهم وقد عادوا إلى حظيرة الإيمان قبل الانتهاء من كتابة العمل الذي أنجزه على عدة مراحل ويرجح Quasten أن التأليف بدأ في زمن رئاسة كليمندس وانتهى في عهد بيوس.
دوافع كتابة الراعي:
1 ـ الأخطاء التي وقع فيها بخياله الدنس، بالإضافة إلى خطايا أسرته.
2 ـ الظروف التي عانى منها بسبب الإكليروس والعلمانيين…، وهو الذي رأى الكنيسة مجتمعًا مقدسًا يضم كل القديسين والأطهار المتشبهين بالمسيح، (وهو الفكر الذي ساد الكنيسة آنذاك). لهذا نبذ كل ما يمكنه أن يمنع حركة التوبة، وهي الحركة التي يُوقظها الروح القدس في نفوس عبيده.
لكن هرماس لم يتطرف في فكره، ولم يُعلم بأن لا مغفرة لمن سقطوا بعد المعمودية، الأمر الذي قسى قلوب المؤمنين نحو هؤلاء المعلمين المتزمتين، وأعثرهم وكاد أن يقطع رجاءهم في قبول المسيح لهم بعد توبتهم عن خطاياهم. وكان هدف هرماس أن يكرز بإمكانية الغفران بعد التوبة.
كان هرماس بحق أول المدافعين كتابة لا عن عقيدة كنيسة، إنما عن التائبين، (تمامًا مثلما كان البابا كاليستوس بابا روما في القرن الثالث).
شخصية هرماس كراع:
لم يعتبر هرماس نفسه مُصلحًا لاهوتيًا، بل كاهنًا راعيًا يتحدث باسم الإكليروس الروماني في عصره. عاش أواخر أيامه حياة العفة وإماتة الذات والشهوات والبساطة في السلوك والحياة، مارس حياة الطهارة وهو كاهن ممتلئ بالإيمان الحي والغيرة على خلاص نفوس الآخرين والدفاع عن توبتهم وتأكيد غفران آثامهم كما لم يكن موهوبًا في الكتابة والتأليف، ولم يكن لاهوتيًا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه كان ” معلمًا أخلاقيًا ممتازًا مراقبًا وملاحظًا لممارسات عصره واعيًا لسلوكيات أبناء جيله، مرشدًا معتدلاً في إعطاء النصائح والإرشادات يفرق بشكل قاطع بين الوصايا الملزمة والمشورات التي تؤدى إلى طريق الكمال في الفضائل المسيحية.
وكتاب الراعي حسب تعريف البابا أثناسيوس له، عمل نافع من الأعمال شبه النبوية التي يظهر أثرها بشكل إيجابي في أخلاقيات المسيحي وحياته.
رأى الآباء في العمل:
لا يمكن اعتبار العمل من النصوص النبوية، التي قام بها نبي ومع ذلك فقد اعتبره القديس إيريناؤس وإكليمندس الإسكندري، وكذلك أوريجينوس عملاً إلهاميًا وصنفوه مع الكتاب المقدس! وكان لترتليان نفس الرأي ولكن سرعان ما عدل عن رأيه وقال عنه أنه: ” مؤلف عن الزناة “. أما الوثيقة الموراتورية ويوسابيوس القيصري، والقديس أثناسيوس الرسولي فقد اعتبروه كتابًا نافعًا للتعليم. ولكن بعد قوانين جلاسيوس صنفه البابوات في الغرب ضمن الأبوكريفا، وإن كان عملاً أدبيًا من التراث الرؤيوي الآبائي ذا نفع روحي جزيل لمن يقرأه.
ثانيًا: خلاصة كتاب الراعي:
رغم إن ” الراعي ” كعمل واحد لم يكتب كدفعة واحدة، بل تم إنجازه على مراحل متعددة إلاّ أنه يحتفظ بوحدة العمل. فله مؤلف واحد وفكرٌ واحد يتخلله. لكننا نميز ثلاثة أجزاء فيه:
1ـ الرؤى: وهي مقدمة العمل وتمهيد، في خمس رؤى.
2 ـ الوصايا: أو الإرشادات العملية في أثنى عشر وصية.
3 ـ الأمثال والاستعارات وعددها عشرة.
الكتاب الأول: الرؤى الخمسة
الرؤى الأربع الأولى، تعتبر القسم الأول من الكتاب التي أعلنتها الكنيسة لهرماس، ثم يبدأ القسم الثاني بالرؤية الخامسة التي يقدم فيها الراعي الوصايا والأمثال.
الرؤيا الأولى: تبدو الكنيسة كامرأة مُسنة ضعيفة جالسة على كرسي فضة على التوبة عن خطاياه وخطايا عائلته قائلة له [لأنك (يا هرماس) كنت عجوزًا بروحك وكنت بلا قوة بسبب فتورك وتشكّك… لأنكم أنتم المسترخون في الأمور الحياتية قد أسلمتم أنفسكم إلى اليأس بدلاً من أن تلقوا همومكم على المخلص].
الرؤيا الثانية: تستعيد الكنيسة قوتها وتظهر كامرأة تقف على قدميها بوجه أكثر قوة وإشراقًا، وذلك لأن هرماس كان كإنسان شيخ أقعدته خطايا أسرته وهمومه وأحزانه واستولى عليه اليأس… لكنه حينما سمع إعلان المخلص له، وتحننه عليه عادت إليه القوة في الإيمان، كإنسان سقطت عليه ثروة ما كان يحلم بها فجأة.
الرؤيا الثالثة: تظهر الكنيسة صبية جميلة فرحة [كما أن إعلان الخير يُنسى الرجل أحزانه الماضية، فلا يفكر إلاّ في البشارة الجديدة، فتعود إليه كل القوى التي تفعل الخير ويشعر أن روحه قد عادت شابة بالفرح الذي غمره (هكذا صار هرماس) … أما كون المرأة جالسة على كرسي، فلأنها أرادت أن توضح رسوخ مركزها وثباته].
الرؤيا الرابعة: يظهر تنين مرعب فوق رأسه، يرمز إلى الاضطهادات المحدقة، لكنه لا يؤذى المؤمن الثابت في إيمانه. وتظهر الكنيسة خلف التين في شكل عروس جميلة متوجة، رمز سعادة المؤمنين وقبولهم في الكنيسة الخالدة الآتية.
يقول هرماس [بعد أن اجتزت التنين… قابلت فتاة مزينة كأنها خارجة من عرس.. فغمرتني رؤيتها فرحًا فصافحتني.. وقالت: ” إذا كنت قد نجوت من التنين، فلأنك ألقيت همومك على الله، وفتحت له قلبك وآمنت أنه لا خلاص لأي إنسان إلاّ بواسطة اسمه العظيم.. اذهب وفسر لمختاري الله أعماله المجيدة، وعرفهم أن هذا الوحش صورة للأحزان المستقبلة العظيمة. استعدوا وتوبوا من أعماق قلوبكم.. آمنوا بالمخلص أيها المؤمنون المتأرجحون!!]
الرؤيا الخامسة: يظهر ملاك التوبة في ثوب راعي يدبر أمور التوبة، ويعلن الوصايا الواجب حفظها، وهي الوصايا الاثنتي عشر التي نناقشها في القسم الثاني.
+ وهنا لا يفوتنا أن نوضح أن ملاك التوبة لم يظهر لهرماس إلاّ بعد توبته واعترافه وفرحه الغامر، ولهذا تمتع برؤية الكنيسة الشابة الجميلة الغالبة للتنين، المتوجة بأكاليل النصرة… هذا المنظر غمره بالفرح وبعث فيه الرجاء الذي يشجعه على قبول الوصية والجهاد من أجلها لأنه يجب أن نكتشف الحياة الكنسية المجيدة المنتصرة على الشر والموشحة بقداسة مسيحها حتى نقبل الوصية بفرح، كطريق ملوكى ننعم فيه بشركة مسيحنا واهبًا الغلبة والقداسة في ثقة في وعده بالغلبة ” ثقوا أنا قد غلبت العالم ” وتصبح الوصية ليست صعبة لأنها طريق ملوكي ننعم فيه برفقة المسيح واهب النصرة.
الكتاب الثاني: الوصايا الأثنى عشر
تسلمها هرماس من ملاك التوبة (في شكل راع)، وهي تتضمن التعاليم المسيحية التي لا يمكن ممارستها إلاّ بقيادة الروح القدس. لذا يؤكد الملاك على الإيمان والصلاة، ويحذر من أحزان الروح القدس، ونوجزها فيما يلي:
1 ـ الإيمان بالله الخالق وخشيته: [آمن أن الله خالق ومدبر الكل… وأخشه، وإذا خشيته تتعفف].
2 ـ البساطة وعدم النميمة: [كن بسيطًا كالأطفال… اعط ببساطة ما تنتجه بأتعابك للمحتاجين لأن المعطى هو الله]
3 ـ الحق والصدقة: [أحبب الحق ولا ينطق فمك إلاّ به، ليرى الناس جميعًا حقيقة الروح الذي أسكنه الله فيك].
4 ـ طهارة المتزوجين والسلوك الحسن: [حافظ على النقاوة فلا يدخل فكر الزنا إلى قلبك].
5 ـ طول الأناة: [إن كنت طويل الأناة فالروح القدس الساكن فيك يبقى نقيًا… طول الأناة يفوق العسل حلاوة].
6ـ السلوك في طريق العدل: [إذا فكر الرجل والمرأة في أعمال ملاك العدل في قلبيهما، فإنهما يعملان أعمالاً صالحة، حتى لو كانا مجردين من كل صفات الخير… عندما تشعر بالتذمر والمرارة فاعلم أن الشيطان يسكن فيك.. فابتعد عنه].
7 ـ مخافة الله: [خف الرب واحفظ وصاياه التي تقويك في كل أمورك، فلا يكون مثيل لأعمالك، مخافتك لله تعطيك سلطانًا على الشيطان فلا تخشاه].
8 ـ صنع الخير (الصلاح): [إن فعلت الصلاح تحيا في الله، ويحيا أيضًا الذين يفعلون الخير مثلك].
9 ـ الثقة بالله: [إن الذين يطلبون واثقين ينالون ما يريدون، لأن صلاتهم تخلوا من التردد والشك… أما إذا تسلل الشك إلى قلبك فلن تنال شيء].
10ـ تجنب الكآبة: [نق قلبك من الحزن المميت فتحيا في الله أنت وكل الذين طرحوا اليأس والحزن ولبسوا لباس الفرح… واطرد عنك الحزن (الكآبة) فإنه شقيق الشك والغضب، لأن الروح القدس الساكن فيك لا يحتمل الكآبة].
11ـ الأنبياء الكذبة وتميزهم: [من حياة المرء نميز النبي الكاذب من الحقيقي… الذي فيه روح الله يكون متواضعًا].
12ـ الرغبة الصالحة والشريرة: [كرس نفسك للرغبة الصالحة، وهكذا تستطيع أن تسيطر على الشهوة الشريرة].
الكتاب الثالث: الأمثلة العشرة
أ ـ الأمثال الخمسة الأولى: وقد جاءت من نوع الوصايا، وهي تصف المسيحي كغريب موطنه في السماء، وممتلكاته الأرضية لها قيمة سرائرية، وشراء ” النفوس المبتلاة ” أهم بكثير من الأراضي والعمارات.
1 ـ الوطن السماوي والغربة:
[يا خدام (عبيد) الله: إنكم تعرفون أنكم تقيمون في الغربة وأن وطنكم بعيدًا جدًا... فلماذا تقتنون الحقول والمساكن والقصور؟!… من يهيئ نفسه لهذه الحياة يصعب عليه أن يعود إلى مدينته الحقيقية.].
2 ـ الكرمة وشجرة الدردار: ” كمثل للتعاون بين الغنى والفقير “
[لأن الكرمة التي تعلو فروعها شجرة الدردار تعطى ثمرًا جيدًا وكثيرًا، أما إذا تُركت فوق الأرض فإنها تعطى ثمرًا قليلاً ومتهرئًا… الغنى يملك ثروة كبيرة إلاّ أنه فقير في خدمة الله… أما صلاة الفقير فهى غنية ومقبولة عند الله… الغنى والفقير يتمان عملاً واحدًا يرضى الله، هذا بالصلاة، وذاك بماله الذي أعطاه الرب].
3 ـ الأشجار العالية في العالم ” الشتاء “:
[لأن الصديقين والخطاة لا يتميزون في هذا العالم بل يتشابهون… ففي الشتاء تفقد جميع الأشجار أوراقها… ويصعب التميز بين الأشجار الميتة والأشجار الحية].
4 ـ تمايز الأشجار في الدهر الآتي: ” الصيف ”
[كما أن ثمار الأشجار تظهر في الصيف وكل شجرة تُعرف من ثمارها، هكذا سيُعرف الصديقون المثقلون بالأوراق من ثمارهم، أما الوثنيون والخطاة الذين ترمز لهم الأشجار اليابسة فإنهم سيظهرون حاقدين في الدهر الآتي ويُلقى بهم في النار لأعمالهم الشريرة].
5 ـ الصوم كتضحية مقبولة:
[صُمْ للرب هكذا: لا تصنع الشر، واعمل بقلب نقى، واحفظ وصايا الله… اجمع المال الذي وفرته بسبب صيامك واعطه إلى محتاجيه… وبهذا تصبح تضحيتك مقبولة عند الله].
ب ـ الأمثلة الأربعة من (6 ـ 9): تعالج موضوع التوبة بالتفصيل،
ج ـ أما المثل الأخير (10): فيظهر البرج (الكنيسة) ويعلم الملاك هرماس أن ينقى عائلته وينصح الجميع بالتوبة:
6 ـ رؤية ملاك الشهوة وملاك العقاب في ثوبي راعيين: يمثل القطيع الغبي حشدًا عظيمًا من النفوس الذين يحيط بهم خطر الهلاك وإذا يقودهم ملاك الشهوة إلى الشر فإن الله يسلم الخطاة الذين يلهون دون فرح إلى ملاك العقاب ليعاملهم بقسوة، ليردهم عن ضلالهم وغيهم إلى الطريق الثواب ” المستقيم “. وهذه العقوبة عادلة بسبب خطايا الناس.
7 ـ هرماس وعائلته بين ملاك العقاب وملاك التوبة: بينما عانى هرماس من شدة العقاب لجأ إلى التوبة مفضلاً أن يتحمل آلامها الشافية… يقول ملاك التوبة: [يجب على التائب أن يفرض الألم على نفسه، وأن يكون متواضعًا وأن يتحمل آلامًا متعددة… فيتراءف خالق الكون عليه ويشفيه من كل شروره، لأنه عارف مكنونات القلوب] (قطع4،5).
8 ـ عمل النعمة وشجرة الصفصاف: هناك شجرة صفصاف ضخمة، تمثل ناموس الله المعطى لكل العالم والنعمة المعطاة في الابن، وهي شجرة تظلل على كل المسيحيين في العالم (تشبيه8،3) ويقطع الملاك ميخائيل فروعها وأغصانها ويعطى لكل واحد، ثم يجمعها بعد حين، وتكشف حالة الأغصان العائدة عن ضمائر الذين حملوها معهم… ومن بين ثلاثة عشر صنفًا من المسيحيين، فإن ثلاثة فقط هم الذين يدخلون إلى الكنيسة (البرج) في مجدٍ عظيم، وهم: ” الشهداء والمعترفون والأبرار، أما كل الباقين فهم خطاة عليهم بالتوبة لنوال الخلاص حسب إرشادات الراعي.
9 ـ الكنيسة كبرج عجيب مبنى على صخر الدهور: نرى منظر البرج الذي ظهر في الرؤيا الثالثة يتم اكتماله، ففي وسط سهل أركاديا تقف هذه الصخرة القديمة (وهو ابن الله) وفى الصخرة باب جديد (التجسد) محاطًا بإثنى عشر عذراء (رمز للفضائل المسيحية) ويبنى الملائكة برجًا “الكنيسة” على الصخرة والباب (إشارة إلى الإيمان بالمسيح الصخرة والباب) بواسطة الأحجار “المؤمنين” التي يحصلون عليها من مجارى المياه (إشارة إلى المعمودية)، أو من الأثنى عشر جيلاً [تشبيه للعالم كله حيث هذه الجبال تمثل أثنى عشر سبطًا يقطنون كل العالم، إشارة إلى الكنائس المحلية المنتشرة في العالم والذين كرز لهم الرسل بابن الله] وكلهم يجب أن يعبروا من الباب، وعندما كانت هذه الأحجار توضع في مكانها من البناء فإنها كانت تفقد ألوانها وتصبح كلها بيضاء [إشارة إلى الكنيسة التي تصبح قلبًا واحدًا نقيًا وبهيًا في المسيح يسوع].
وفجأة يتوقف العمل إذ يأتي السيد صاحب البرج ليمتحن نوعية وجودة الأحجار المستخدمة في البناء، وكثير من الأحجار تطرح وتعطى للراعي ليعيد تشكيلها من جديد بالتوبة: لأن صاحب البرج يشتاق أن يستخدم كل حجر في البناء، وهكذا يصلح بعضها للبناء، أما بقية الأحجار التي لا تستجيب فتأخذها نساء جميلات يرتدين ملابس سوداء (الرذائل الأثنى عشر) وتمثل هذه الأحجار المؤمنين الذين لم يستجيبوا لنداء التوبة وهؤلاء يهلكون إلى الأبد.
10 ـ وصية ختامية بالكرازة والتوبة: ينصح الملاك هرماس بأن يطهر وينقى بيته شخصيًا بالتوبة، وأن يدعو الجميع للتوبة، بينما البرج لا يزال في طور البناء، لأن عملية بنيان الكنيسة معلقة بإعطاء الخاطئ فرصة للتوبة [من انتزع نفسًا من العذاب يوقظ في داخله عالم من السرور، افعلوا الخير أنتم الذين أعطاكم الله خيراته.. بناء البرج توقف بسببكم! إذا لم تسرعوا في عمل الخير، فسيتم بناء البرج وستبقون أنتم خارجه!]. كما يقول هرماس أن الملاك وعده بأن الذي يتوب ويحفظ الوصايا ينعم بمشاعر الفرح والبهجة طول العمر وينال حياة في ذاته..
ثالثًا: الأفكار الرئيسية:
1 ـ التوبة:
في الرؤيا الثانية وفى الوصية الرابعة نرى أن للتوبة حدودًا وهو الفكر الذي كان سائدًا في الكنيسة في ذلك الوقت. ويبدو أنه كان هناك خلطًا بين المعمودية الواحدة والتوبة الواحدة، ولكن سرعان ما عدلت الكنيسة عن فكرة رفض التائبين بعد المعمودية، على أساس أن الله غافر للآثام طالما أن الخاطئ يُقدم توبة صادقة من كل القلب، لأن التائب حسب الظاهر لا يقدم أثمارًا تليق بالتوبة.
ودور الكنيسة هو الأخذ بيد التائبين والترفق بهم وإعانتهم على بلوغ الكمال… وهي مبنية من أحجار حية هم المؤمنون التائبون. وعلى التائبين ألاّ يتشبهوا بحاملي العقاقير الشافية في صناديق معلقة من خارج.. بل يجب أن يحملوا ثمار التوبة في داخلهم.
أما بالنسبة للتوبة وأثرها الشخصي والجماعي، فنرى أن التوبة تجدد شبابنا الروحي والجسدي، بل وشباب الكنيسة أيضًا. وهذا ما تظهر به (الكنيسة) المرأة في الرؤيا الثالثة حيث تبدو صبية صغيرة جميلة بلا ضعف. وهذا ما تشرحه لنا بقولها إن أبنائها إن تابوا توبة كاملة بلا استهانة بمراحم الرب، فإن تلك التوبة تجددهم شخصيًا كما تجدد الكنيسة أيضًا وتزيد نضارتهم أيّ نضارتها…
أ ـ التوبة والحكمة: مع التوبة يعطى الله فهمًا وحكمة إذ يدرك الخاطئ حين يتوب أنه قد ارتكب حماقات كثيرة… وحين يبدأ في التوبة تظهر الأثمار اللائقة بالتوبة، ومنها عطايا الروح كالحكمة والفهم حتى لايعود التائب يخطئ ثانية.
ب ـ ثمار التوبة: يعدد هرماس بعض ثمار التوبة وأهمها إعانة الأرامل واليتامى والمعوزين، واستضافة الغرباء، والهدوء في التصرف، وحفظ رباط الإخوة، وتشجيع صغار النفوس، والترفق بالساقطين وعدم إغاظتهم..
جـ ـ آفة حياة التوبة: هيّ في نظر هرماس الشك في عطايا الله، لأن الشك ضعف من الشيطان، بينما الإيمان قوة من السماء، الذي يؤمن يطلب من الله بلجاجة دون شك، لأن الله ليس مثل باقي البشر يتذكر خطايانا، والإنسان الذي يخضع لروح الله يحزن على خطاياه فيتركها ويتوب، وهكذا يخلص الأبرار بتوبتهم.
2ـ الوصية ومخافة الرب:
نرى في الكتاب الثاني تشديد هرماس على ضرورة اقتران الوصية بمخافة الرب، ويبدو أن البعض كان يستهتر بالوصايا وبإنذارات الرعاة ولم يعد يخشى الله. ففي الوصية السابعة يوضح ارتباط مخافة الرب بالقوة الروحية التي يهبها لنا الروح إذ ” نصير أقوياء في كل فعل “، كما أن “مخافة الرب تجعلنا نصنع كل شيء حسنًا، وبمخافة الرب نخلص “، بل إن الذين يحفظون وصايا الله ” لهم حياة في ذواتهم “… وهذه كلها جوانب عملية تدعونا إلى مراجعتها في النصوص.
3 ـ الكنيسة:
إن اعتبرنا كتاب الراعي دعوة حارة موجهة لنا جميعًا للتوبة والرجوع إلى أحضان الله فهو في نفس الوقت دعوة للدخول إلى العضوية الكنسية الحية، حيث جماعة القديسين والأبرار التائبين المتمتعين بنعمة الله وعمله الخلاصي. إذ نجد في المثل التاسع تشبيهًا رائعًا يتناول أسرار بناء الكنيسة (البرج)، إذ أن ابن الله يُشبه بالصخرة القديمة (أزلية الابن)، يتوسطها باب جديد (التجسد).
وكيف نزع ابن الله صاحب البرج الحجارة غير اللائقة من كنيسته ولم يقبل عودتها بدون التوبة العملية كما أكد على وحدة الكنيسة فيما بين أعضاءها ووحدتها مع مسيحها، إذ ظهرت برجًا عاليًا كما لو كانت حجرًا واحدًا، كما أنها والصخرة المبنية عليها كتلة واحدة.
4 ـ المعمودية:
لقد أفاض هرماس في شرح المعمودية كما أورد تشبيهات كثيرة ليوضح أهميتها، نوجز بعضها. فالمعمودية أساس العضوية بالكنيسة
[سألتها: لماذا يُبنى هذا البرج فوق الماء يا سيدتي؟ فقالت: إن حياتنا خلصت وتخلص بالماء. للبرج أساس، وأساسه كلمة اسم الله العظيم الممجد، قائم بقوة السيد غير المنظور] (الرؤيا الثالثة).
والمعمودية ختم الحياة عنده [الذين لا يحملون اسم ابن الله هم أموات، إلاّ أنهم عندما ينالون الختم يخلعون الموت ويلبسون الحياة. الختم هو ماء المعمودية، ينزلون في الماء أمواتًا ويخرجون منه أحياء] (الوصية 9).
المراجع (رسالة الراعي لهرماس – د. وهيب قزمان)
+ الآباء الرسوليون ـ سلسلة آباء الكنيسة ـ ـ ترجمة البطريرك إلياس الرابع ـ 1970
+ الآباء الرسوليون ـ المدخل في علم الباترولوجي ـ القمص تادرس يعقوب 1991.
+ أباء الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى ـ د./ أسد رستم 1983.
+ The Church of the Fathers, Fr. L. Poullan, London 1925.
+ History of Dogma, A. Harnak, vol. 1, New York,1961.
+ Manual of Patrology and History of Theology, F. Cayre.
+ A.N.Fathers , vol. I , Michigan, 1980.
+ Patrology, vol. I, J. Quasten, Mary Land, 1962.
+ The History of The Primitive Church, J. lebreton, London, 1944.
+ The Early Christian Fathers, F.L. Cross, London, 1960.
+ The Apostolic Fathers, J.P. Lightfoot, Michogan, 1974.