افتح لي يارب أبواب خزائنك المملوءة حكمة ومعرفة لاستطيع أن أزيد معرفتي بسمو محبتك. أطلق لساني لأصف به عظمتك وحنانك ولأجعل من صوتي مذياعاً يمجِّدك، فأنا أضعف من أن أتولى ذلك بدون معونتك، لأنك أعظم من أن يدرك أسرارك عقل بشري. بإلهامك أتمكن من الكتابة وبه أستطيع أن أحدِّث الناس، فانفخ فيَّ روحك لأصبح قادراً على تفسير آياتك وما أغلق على البشر فهمه من غزير آلائك.
يا من بلبل الألسنة في أرض بابل، هبني لساناً ينطق بالحق ويتحَّدى الباطل. أيها الحاكم العادل الذي يكون حكمه دائماً لخير خليقته. يا من بلبل ألسنة الشعوب في بابل، أعطني لساناً ذلقاً أتمكن بواسطته إظهار الحق ومحاربة الأباطيل. تمرَّد البابليون فنوَّعت لغاتهم وكان ذلك خيراً ورحمة. كان قضاؤك وعقابك لا شراً وإنما نعمة على العالم. فقد أصبح لكل أمة لغتها يتفاهم أفرادها بواسطتها. قبائل وشعوب ولغات مختلفة، فالتأديب أضحى موهبة، لأن عطفك وحنانك جعلاه كذلك.
فيا أيها السامعون سبحوا الرب ومجدوه، عقابه رحمة وغضبه عطف. تمرَّد البابليون فجعلهم قبائل لكل منها لغة. عمَّ الخير الجميع. ازدادت اللغات واختلفت لهجاتها فأغنى البشرية بالعلوم. لو كان الخالق يريد بالبابلين شراً وضرراً لفرّق الرجال عن زوجاتهم والأبناء عن آبائهم، ولكنه أراد الخير لهم.
أراداهم أن ينتشروا في أرجاء المعمورة ويكونوا أمماً وشعوباً، وكل أمة وشعب موطناً ولغة. هكذا شاءت حكمته. بهذه البلبلة قسمَّ سكان الأرض ولولا ذلك لبقى الجميع في المنطقة التي أحبوها. فتنوّع اللغات كان وسيلة، بل نعمة لو يدركون، فبهذا التنوع تكوَّنت الأمم، وبه انتشرت تلك الأمم وعمَّ الرخاء.
الله وزع اللغات بين البشر، وهذه اللغات هي نفسها التي وهبها للرسل تلاميذه، بدون تعليم ولا ممارسة. بالروح نطق التلاميذ بكل اللغات. في عليَّة صهيون حدثت المعجزات. في العليَّة التي سماها بطرس الرسول بابل. من هذه العلية خرج التلاميذ وهم يتكلمون جميع لغات الأرض. لم تُخرِّجهم المدارس، ولكنهم أصبحوا يتقنون مختلف الألسنة.
صعد المعلم إلى الأعالي وبقي التلاميذ. ارتفع النسر الإلهي إلى العلى وبقيت فراخه. اجتمع التلاميذ في عليّة صهيون وهم خائفون. ذئاب اليهود كانت تحاول افتراس الخراف. كانوا بدون الراعي من الهلع يرتجفون. تجمعوا في العليّة ينتظرون العون. ينتظرون الروح التي بها وُعدوا. أمرهم الرب أن لا يغادروا أورشليم، أن لا يتفرقوا. كانوا خائفين من الجلاَّدين من القتلة والضالين. صعد الرب إلى السماء تاركاً تلاميذه كالأيتام الضعفاء. هكذا كانوا يشعرون، مع أنهم كانوا بقدرته واثقين ومن سلطانه متأكدين.
ألم يقهر الموت؟ ألم يصعد إلى السماء أمامهم؟ كانوا مؤمنين به إيماناً راسخاً لا يداخله شك. ولكنه الآن ليس بينهم، وخارج العليّة من يريد بهم شراً. من يتعقَّبهم. المعلم في صعوده واكبته أجناد السماء، وهم هنا في العليّة كالسجناء. لقد نفخ فيهم قبل صعوده ليقبلوا الروح منه. ووعدهم بأن يرسل لهم الروح القدس ليعلّمهم الحقائق. ألبسهم قوة الروح قبل أن يصعد، ووعدهم بالسلاح الذي به يجابهون العالم ، وها هم ينتظرون.
هبت رياح عاتية زعزعت أركان العليّة. رعدُّ وبرقُّ ونار. ألسنة من اللهيب اندلعت فوق رؤوسهم، وفي الحال شعروا انهم اصبحوا أقوياء. أقوياء جسداً وروحاً وحكمةً. نطقوا بلغات لم يكونوا يعرفونها. استنارت عقولهم ووضحت لهم حقائق الأمور. علموا أن الروح القدس حلَّ فيهم وأصبح لهم المعلم والمرشد. الضعفاء البسطاء أصبحوا أقوياء وحكماء. الصيادون غدوا معلمين وعلماء.
يا للأمر العجيب ..
عليَّة صهيون أصبحت بابل ثانية. أصبح التلاميذ يتكلمون مختلف اللغات. أصوات متعددة الألسنة كانت تسمع من العليَّة. يا للعليَّة المباركة الجامعة، منكِ خرجت أول دفعة من المبشرين الأبرار، وفيكِ حلَّ الروح القدس كألسنة من نار، وبك شعَّت أنوار الحق لتهزم ظلمات الباطل. أنتِ كاشفة الأسرار المليئة بالأنوار.
وبهذه الأنوار أضيئت أرجاء العالم الفسيح، ومنك انتشرت تعاليم المسيح، ومنك انتقل التمجيد والتسبيح إلى كنائس الأرض وأماكن العبادة، ليرتل بمختلف اللغات واللهجات، في كل يوم وكل ساعة. نهر الأردن لا يضاهيك فيوحنا عمَّد بمائه ورسلك عمدوا بالروح القدس الذي ظهر فيكِ. مباركة أنتِ، فقد أعترفت بفضلك الشعوب، فأنت بابل العهد الجديد، ومكان حلول الروح القدس الموعود.
إن اليهود الحاقدين قد أنكروا هذا الحدث العجيب الذي جرى في الصليب، وقالوا أن التلاميذ قد جنّوا بعد أن سكروا من الخمرة، وأخذوا يتكلمون بما لا يفقهون. أيها الظالمون الضالون أن الخمرة لا تُعلّم شاربيها اللغات. أن الخمرة تجعل من الفصيح عيّاً. الخمرة تشلّ اللسان وتفقد وعي الإنسان. ومتى كانت الخمرة توهب شاربيها معرفة اللسان؟ أيها الموتورون أن الخمرة تذهب بالعقل، وشارب الخمرة يتلعثم وينسى لغة الأهل. تأملوا كيف تصرَّف التلاميذ فتدركون الحقيقة:
خرجوا من العليَّة أقوياء.
كانوا بسطاء فأصبحوا علماء.
كانوا خائفين فأصبحوا بالروح لا يهابون.
إن الخمرة التي نزفت من جروح المصلوب على الجلجلة هي التي كانوا يشربون.
هذه الخمرة الجديدة هي التي غيَّرتهم، وهي التي علَّمتهم، وهي التي نَفخت فيهم روح الإيمان وشجعتهم.
إن خمرتكم أيها اليهود الضالون هي التي تسكرن أما خمرة ابن الله فهي السموّ والمعرفة والحياة. أيها اليهودي الضال المبغض للحق الذي أعماه التعصب والحسد والغيرة وأسكرته خمرة الانتقام. أنت محب للظلام. بهرت عينيك شمس الحقيقة فانتحيت ناحية الأعتام. أنكرت النبؤات وسلكت طريق الغواية والمتاهات. ألم يكفك ما شاهدت من عجائب ومعجزات؟ ألم تردعك عن غيّك ما سمعت من آيات؟ أتنكر وجود الشمس في رابعة النهار؟ ألم تؤمن بما جرى للبابليين وكيف أصبحوا يتكلمون مختلف اللغات؟ فلماذا إذن لا تصدِّق ما جرى في عليَّة صهيون؟
إن الابن هو مثل أبيه. علّم تلاميذه في العليّة ما تعلّمه البابليون في بابل، فالمعلم واحد، وما حدث في بابل حدث في العليّة، فلِمَ الأنكار ولِمَ الاصرار؟ إن ما حدث في العليَّة هو أكبر دليل على أن من بلبل ألسنة القوم في بابل هو نفسه الذي جعل التلاميذ يتكلمون بلغات عديدة جديدة. علّمهم اللغات ليبشروا أمم الأرض بنعمة السماء بالفداء. بالخلاص والانتماء بالرحمة والغفران والاخاء. ولتكون لهم آية لدى الشعوب وشهادة من الفادي المصلوب، الذي سوف يدين المخلوقات بنفس هذه اللغات.
عليّة صهيون هي مركز الاشعاع للإنسان.
منها نبتت كنائس الرب كالسوسن يسقيها الإيمان
من ينبوع الرجاء الذي لا ينضب.
العليّة أصبحت منابع المعرفة
ومنها تفرَّعت جداول وأنهار التقوى والفضيلة والنور
منها ينهل المؤمنون ماء الحياة وخمر المعرفة
صارت العليّة مملَّحة للعالم
بها يتذوق المؤمنون طعم الوجود
طعم الايمان بالإله المعبود، بالإله المتجسد بالابن الكلمة
من نرفع له ولأبيه وللروح المحيي
تسابيح الشكر والتمجيد إلى أبد الآبدين آمين.
المرجع: مختارات من قصائد مار يعقوب أسقف سروج الملفان، ترجمها من السريانية إلى العربية مار ملاطيوس برنابا متروبوليت حمص وحماة وتوابعها للسريان الأرثوذكس، نشر درا الرها حلب.