حقيقة ما يسمى بالأنجيل القديم – الدكتور أسعد صوما أسعد (متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم)
مقالة : الدكتور أسعد صوما أسعد
ستوكهولم / السويد
تردد مؤخراً بين الاوساط المهتمة بالشأن الثقافي السرياني حديث عن اكتشاف “انجيل” سرياني قديم جداً يبلغعمره اكثر من 1500 سنة. وقد شغل هذا “الخبر المفرح” الكثير من الناس وتحمس “كتّابنا الاعزاء” للكتابة عنه ونشرتْ بعض المواقع الالكترونية “خبر اكتشافه الهام” لتزف البشرى للجميع فخلقوا ضجيجاً صاخباً فتذكرت القول الانكليزي Much ado about nothing ،
لان هذا الكتاب الذي روّج له البعض وسمّوه “انجيل” هو كتاب “مزيّف” ولمعرفة الحقيقة تابع قراءة هذا المقال.
قصتي مع هذا الكتاب:
قبل عدة سنوات اتصل بي كاهن فاضل ليعلمني ويستشيرني بموضوع هام للغاية بان السفارة الفاتيكانية في ستوكهولم مقبلة على شراء انجيل سرياني قديم جداً، وطلبوا مني ان افحص هذا الانجيل السرياني قبل عملية الشراء لكوني “خبيراً” في اللغة السريانية وآدابها. وعلمتُ بان الاشخاص الذين يريدون ان يبيعوا هذا “الانجيل” هم من العراق، ويدعون بانهم اكتشفوه ضمن وعاء معدني قديم جداً في خرائب احدى القرى المهجورة في شمال العراق.
فطلبتُ من مندوب السفارة ان يجلب لي هذا “الانجيل” لاقوم بفحصه. فكان الجواب بان هذا غير ممكن.فطلبتُ ان احصل على صورة لبعض صفحات هذا الكتاب تؤخذ من مقدمته وبعضها من منتصفه وبعضها من نهايته. وبالفعل حصلتُ على صور حوالي عشر صفحات منه ارسلت بالطريقة الالكترونية.
وبالاعتماد على خبرتي الواسعة في مجال اللغة السريانية وتراثها، ومعرفتي بنشأة الكتاب المقدس السرياني بعهديه وبترجماته السريانية المختلفة وبمخطوطاته السريانية القديمة، وبعد دراسة عميقة لمضمون الصفحات المرسلة وتحليل لغتها السريانية حرفاً حرفاً، توصلت الى نتيجة وهي “ان هذا الكتاب ليس انجيلاً”. وللحال أخبرتُ السفارة الفاتيكانية عن نتيجية تحليلي للكتاب المذكور فرفعتْ السفارة يدها عنه وصرفتْ اصحابه بعد ان كانت قد قطعت معهم عدة اشواط والاتفاق على سعر الشراء الذي كان مبلغاً كبيراً جداً.
بعد كشف حقيقة “المخطوطة” ورفض السفارة شراء الكتاب انتهى امره عند هذا الحد ولم نسمع عنه شيئاً حينها.
لكن ما هو هذا الكتاب ان لم يكن انجيلاً؟
بالاستناد الى الصفحات التي قمتُ بتحليلها اقول ان الكتاب الذي نحن بصدده مدون باحرف سريانية لكن لا مضمون له. ان الذين صنعوه ليس لهم معرفة جيدة باللغة السريانية، ولا بخطوطها ولا بنظام التنقيطالمستعمل في المخطوطات السريانية القديمة للكتاب المقدس. وليس في هذا الكتاب جملة مفيدة صحيحة. لان كل جملة أو كلمة فيه تقريباَ لا علاقة لها بالكلمة التي بعدها. ان الذين كتبوه خلطوا الخط السرياني الشرقي مع شيء من الخط السرياني الغربي (السرطو) لكن بطريقة سيئة تكشف بانهم نقلوا كلاماته السريانية من كتبٍ اخرى قلدوها دون ان يتوفقوا في تقليدهم. اعتقد ان الذين كتبوا محتوى هذا الكتاب هم سريان مشارقة لان فيه اجزاء جمل من السريانية الشرقية (الفصحى) بالخط السرياني الشرقي الذي يستعمله السريان المشارقة من نساطرة وكلدان، مختلطة مع اجزاء جمل والفاظ من الارامية المحكية في العراق والمعروفة بالسورث. كما ان النظام الارثوغرافي المتبع فيه يميل الى الشرقي لكنه سيء يكشف عن ضعف ثقافة الكاتب بالنصوص والخطوط السريانية، أو انه تعمّد ان يكتب هكذا ليشوّش القارىء.
ان هذا الكتاب ليس لا “انجيل” ولا اي “كتاب آخر” وليس له مضمون خاص به. أما جمله فمتقطعة وفيه بعض الالفاظ الانجيلية لكن فيه عبارات على شكل طلاسم سحرية نراها في النقوش السريانية السحرية المتوفرة في الطاسات السحرية والتي نسميها بالانكليزية Bowls. ويبدو ان مؤلف الكتاب لا يتقن اللغةالسريانية (الفصحى) كما يجب فخلطها مع الارامية المحكية التي ربما تكون لغته المحكية الأم.
ويتضمن الكتاب الكثير من الصور والرموز منها كنسية ومنها لا علاقة لها بالرموز المسيحية.
اما الجلد المستعمل في المخطوطة فيبدو انه قديم، أو ان الذين صنعوه ربما صنعوه بهذه الطريقة ليعطوه سِمة العتق والقدم. لكن ان كان الجلد قديماً وكتبوا عليه فهذا يعني بان هناك طبقة من الكتابة تحت الكتابة الحاليةمُسحتْ، لكن بامكان العلماء وبوسائلهم العلمية قراءة تلك الطبقة التحتية الممحية إن وجدتْ.
كما ان الصندوق المعدني الذي يضم الكتاب يبدو بانه قديم ايضاً، لكن بامكان اصحاب الاختصاص ان يفحصوه ويكشفوا حقيقته ايضاً.
هذا ما اتذكره عن الكتاب حسبما تسعفني ذاكرتي بعد هذه السنوات التي مضت على تحليل حوالي عشر صفحات منه. واكيد اني نسيت اشياء كثيرة عنه.
وعلى العموم ان الخطوط السريانية الشرقية والغربية ليست قديمة جداً ولم تكن موجودة لتُستعمل في القرون الاولى من ازدهار الكنيسة في تدوين الكتب المقدسة. إذ حتى بعد انقسام السريان الى مشارقة ومغاربة بعدة قرون وظهور كل من الخط الشرقي والغربي، استمر الفريقان السريانيان يخطون الاناجيل بالخط السرياني القديم أي الاسطرنجيلي. وان كل المخطوطات السريانية التي يتراوح عمرها بين 1200-1500 سنة مدونة بالخط السرياني القديم المعروف بالاسطرنجلي Estrangelo. فاذا كان عمر هذا الكتاب 1500 سنة حسب ما يروج له في المواقع فكان ينبغي ان يكون بالخط السرياني الاسطرنجيلي، وهذا غير متوفر في الكتاب.
أما اللغة الآرامية المحكية في العراق والتي تسمى “سورث” Surath/Sureth فكان هناك محاولات أولية بسيطة لكتابتها منذ حوالي 500 سنة تقريبا، لكن ترجمة الكتاب المقدس الى هذه اللهجة الآرامية عام 1836 على يد الارسالية الامريكة في منطقة “أورميا” اعطاها قوة لتتحول تدريجياً الى لغة كتابية لدى البعض من السريان المشارقة في المئة سنة الأخيرة.
ولو افترضنا ان هذا الكتاب الذي نحن بصدده مدون بالآرامية المحكية “سورث” بشكل فاسد، أو دون فيها مع تخريب متعمد للغة والكتابة لإبعادها عن صيغتها المعروفة ولمنحها سمة مبهمة غريبة، فان عمر هذه المخطوطة في الحالتين لن يكون حينها اقدم من عمر تلك المحاولات الاولية التي جرت في القرون القليلة الماضية لتدوين هذه اللهجة الارامية.
ان اقدم مخطوطة سريانة للعهد القديم من الكتاب المقدس نعرفها تعود لعام 459 ميلادي وتتضمن سفر اشعيا ناقصاً، واخرى تعود لعام 463 الميلادي تتضمن سفر التكوين وسفر الخروج، وهي بالخط السرياني الاسطرنجيلي وموجودة في المكتبة البريطانية. وحتى مخطوطة العهد الجديد السريانية المعروفة باسم بوكنانفي جامعة كامبريدج، والعائدة للقرن الثاني عشر مدونة بالخط الاسطرنجيلي.
كما يوجد عدد كبير من المخطوطات السريانية القديمة التي تتضن بعض الاسفار من العهد القديم منها 27 مخطوطة سريانية تعود الى القرن السادس الميلادي وكذلك 32 مخطوطة من القرن السابع، وحوالي عشر مخطوطات من القرن الثامن الميلادي، و 12 مخطوطة من القرن التاسع، و 23 مخطوطة من القرن العاشر، الخ. ومعظمها في مكتبة الفاتيكان وفي المكتبة البريطانية.
لكن هناك مجموعة كبيرة جداً من المخطوطات السريانية للعهد الجديد بمختلف ترجماته السريانية. أما اقدم المخطوطات السريانية للعهد الجديد حسب ترجمته المعروفة “بالبسيطة” والتي هي النص الرسمي للكتاب المقدس المتدوال بين جميع الطوائف السريانية، فتعود الى القرن الخامس الميلادي، كما هناك مجموعة اخرى من مخطوطات العهد الجديد تعود الى بداية القرن السادس الميلادي منها مخطوطة “رابولا” الشهيرة والتي كتبت عام 586 ميلادي والمحفوظة في مكتبة فلورنسا، وتشتهر باحتوائها على العديد من الصور والنقوش تزين نص الكتاب المقدس.
وفي القرون المتأخرة برزت بلدة “القوش” في العراق كمركز ثقافي سرياني هام لتدوين المخطوطات السريانية، وبرز فيها عدد من كتاب المخطوطات السريانية منهم افراد عائلة اسرائيل الالقوشي الذين زاولوا هذا الفن ضمن العائلة لعدة قرون وكتبوا العديد من المخطوطات السريانية منذ القرن السادس عشر؛ ومنهم ايضاً عيسى بر اشعيا بر قرياقوس الالقوشي في القرن التاسع عشر الذي دوّن ايضاً عددا كبيراً من المخطوطات السريانية، وكذلك كبرئيل برحذبشابا الالقوشي الذي نسخ العديد من المخطوطات بين اعوام 1803-1829، وكذلك كيوركيس بر ياقو يوحنا الالقوشي في نهاية القرن الثامن عشر. وقد اطلعنا شخصياً على العديد من هذه المخطوطات السريانية التي دُونت في القوش.
الا ان “ملك” الخط السرياني الاسطرنجيلي الجميل كان صديقنا المرحوم الملفونو اسمر الخوري (1916-1992) حيث كتبَ بخطه الجميل عدداً كبيراً جداً من المخطوطات السريانية منها اناجيل ومنها كتب طقسيةموجودة في الكنائس السريانية. وكان قبل وفاته قد كتبَ مخطوطة سريانية من الكتاب المقدس مزوقة بالنقوش والتصاوير الجميلة حيث تعد آية في الجمال Masterpiece طُبعت بعد وفاته وهي متداولة في الكنائس وفي متناول الجميع.
الكتاب يظهر من جديد:
بعدما كشفنا امر الكتاب الذي نحن بصدده وتراجع سفارة الفاتيكان عن شرائه، اختفى بعدها امره ولم نسمع عنه شيئاً حينها.
لكن بعد ذلك بحوالي سنتين واذ بي اقرأ خبراً عن “اكتشاف انجيل سرياني قديم في جزيرة قبرس”، وهو من اقدم الاناجيل. وعندما شاهدتُ صورته في المواقع علمتُ للحال بانه نفس الكتاب الذي نحن بصدده. ويبدو ان اصحابه لم يتوفقوا ببيعه حتى في قبرس.
واليوم نقرأ من جديد خبر ظهور هذا الكتاب مجدداً في تركيا وانه موضوع في متحف في اسطنبول. الغريب في امر الاتراك بانهم في منتهى البساطة لانهم صدقوا امر الكتاب. يبدو ان المسؤلين الاتراك الذين اخذواالكتاب للمتحف لا يهمهم ان كان صحيحاً او مزوراً فهو بالنسبه لهم حدث هام يجلب السواح لزيارة المتحف.
ان بعض المواقع ومنها موقع عنكاوا كتبت عن هذا الكتاب ووضعته على صفحاتها الرئيسية ليتعرف عليه الجميع فانتشر الخبر بين كل القراء. انظر الرابط:
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,562571.0.html
كما قرأنا في موقع العربية خبراً بمنتهى الجهل نُشر في 26 فبراير/شباط عنوانه “العثور على إنجيل يحوي نبوءة عيسى بالنبي محمد تعود إلى ما قبل 1500 عام وتم إخفاؤها 12 عاماً وطلب بابا الفاتيكان معاينتها”. وهم يقصدون نفس المخطوطة، فضحكت من جهل الكاتب الذي لا يعلم شيئاً عن الكتاب. الخبر موجود على الرابط:
http://www.alarabiya.net/articles/2012/02/26/197120.html
وقد اطلق بعض الكتاب والمعلقين في موقع ايلاف العنان لخيالهم مدعين بان هذا الكتاب هو ما يسمى “انجيل برنابا” دون ان يشاهدوه او يعلموا شيئاً عن محتوياته، ولا نعلم من اين اتوا بهذا الكلام الذي لا علاقة له بالموضوع. لكن اذا كان اصحاب هذا الكتاب هم الذين اتوا بهذا الادعاء اي ان الكتاب هو “انجيل برنابا” فهدفهم بالتأكيد هو ان يتمكنوا من بيعه لبعض المسلمين الذين يصدقون هذه الخرافة. وهذا يعني انهم بعد انفشلوا في بيعه لأشخاص أو مؤسسات مسيحية خلقوا قصة سيصدقها البعض من المسلمين حالاً لانها “عزيزة على قلوبهم” وهي بان هذا الكتاب هو “انجيل برنابا” ليستطيعوا بيع الكتاب لهم وربما بمبلغ كبير.
نطلب من المسؤلين في مواقع عنكاوا والعربية وايلاف وغيرها من المواقع التي كتبت عنه سحب هذا الخبر لانها تضلل القرّاء.
للاسف ان الضجيج الذي اثير حول هذا “الكتاب” يشبه ضجيج المطحنة الفارغة من الطحين، حيث يدور دولابها ويولد صخباً عالياً يُسمع عن بعد، لكن دون انيطحن شيئاً.