يسوع والعاصفة وجائحة كورونا – القس نصرالله زكريا
يسوع والعاصفة وجائحة كورونا – القس نصرالله زكريا
يذكُر لنا البشير مرقس حادثتين تعرض فيهما تلاميذ المسيح لعواصف وريح وأنواء كادت تُنهي حياتهم، والغريب في كلا الحدثين، أنهما جاء بعد يومٍ من أيام المسيح العادية، والهادئة، حيث كان يُعلِّم الجماهير ويصنع المعجزات، كان التلاميذ في غاية الفرح بما علَّمه وعمله يسوع، ولم يكن ذلك اليوم يُنذر بما انتهى إليه من عواصف وأنواء، وهكذا كانت سفينة عالمنا تسير في هدوء وتتبختر منتشيه بالعلم، وبالتقدم في مجالات كثيرة.
ولم يكن أحدًا من قادة العالم يتوقع أو يُدرك أنَّ عاصفة يمكن أن تهب وتضرب العالم كما هبَّت عاصفة وباء كورونا، والتي ضربت العالم فجأة وعلى غير توقعٍ، وأصابت ما يزيد عن المليون شخص حول العالم، وحصدت من الأرواح ما تخطى 40 ألف نسمة، وشعر العالم كله بالخوف، واُتخذت الإجراءات الاحترازية في غالبيّة دول العالم خوفًا من مزيدٍ من الإصابات أو مزيد من الموت، وتعالت الأصوات، هل هذه العاصفة، أو هذا الوباء عقابٌ أو غضبٌ إلهي، حلَّ على العالم؟
أو ربما خرج العالم عن إرادة الله، فناله ما يحدث الآن من وباءٍ ومرضٍ وموت؟ وأين صلاح الله ورحمته إذًا؟ وتتعدد الأسئلة، مَن مصدر هذه البليّة؟ هل هو الله أم الإنسان أم إبليس؟ مَن المُسيطر في عالم الله؟ لماذا يا رب؟ لماذا لا تفعل شيئًا؟ لماذا لا تأمر فيقف الوباء؟
أشجعك أن تقرأ ما سجلَّه البشير مرقس في (4: 35-41؛ 6: 45-52)؛ حيث يُمكنك أن ترى ماذا عمل يسوع لأجل تلاميذه خلال العاصفة، ومن ثم ما الذي يجب علينا أن نعمله ونتعلّمه خلال العاصفة التي نمر بها، والجائحة التي يجتازها عالمنا؟
ما الذي يعمله يسوع أثناء العاصفة؟
1) يوجه، ويدير شؤون حياتك
يخبرنا مرقس أن يسوع هو مَن كان يوجه تلاميذه، وحدَّد لهم وجهتهم: “وَقَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». وفي المرة الثانية يقول مرقس أنَّ يسوع: «أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ».
لم يذهب التلاميذ حسب رأيهم، أو إرادتهم، بل في الحالتين كان المسيح هو مَن وجههم للذهاب إلى مكانٍ يعلم أنهم قد يواجهون فيه خطرًا يهدد الحياة. لدينا فكرة خاطئة أنه إذا واجهنا عاصفة في حياتنا، فلابد وأن نكون فعلنا شيئًا خاطئًا ونستحقه. بينما نختبر العواصف نتيجة لعصياننا، تأتي تلك العواصف أحيانًا بتوجيه من الله. اِعلم أنَّه مهما كان السبب، أثناء وجودك في العاصفة، فإنَّ المسيح يدير شؤون حياتك.
2) يصلي، ويتشفع لأجلك
يذكر مرقس 6: 46، أنَّ يسوع “بَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ (التلاميذ) مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ”، كان يسوع مُرهقًا من يومٍ طويل في الخدمة، لكن إرهاقه لم يمنعه من الصلاة لأبيه السماوي، تُرى كان يُصلي من أجل مَن؟ بالقطع من أجل تلاميذه وهم في طريقهم للعاصفة، إنَّ الله صاحب السلطان، يستمع لابنه يُصلي ويتشفع لأجلك، يقول الرسول بولس: “مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ! مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟
الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً الَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ اللهِ الَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!” (رومية 8: 33، 34)، ويسوع في وسط العاصفة يُعلمنا أن نتحلى بالسلام، فقد كان في مؤخر السفينة نائمًا، هادئًا، السلام والقلق، يتعارضان مع بعضهما البعض، لا يمكن أن تكون في سلام وأنت خائف أو قلِق.
اطمئن، ولا تقلق، لأنّه عندما تواجهك العاصفة، فإنَّ يسوع الشفيع يضعك في عرش النعمة أمام الأب.
3) يراقب، وعينه عليك
إنَّ العاصفة في شدة قوتها، أو الليل في حلكة ظلمته، لا يمكن أن يحجبا رؤية المسيح لك، ربما تُحجب رؤيتك أنت، فلا تراه، لكن الكتاب يقول: “وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ”، كان الليل قد انتصف، والظلام يعُم المكان، والتلاميذ في قلب العاصفة في وسط البحر، كل هذا لم يمنع رؤية المسيح لتلاميذه، وهم يُعانون قوة العاصفة، ومرارة الوحدة، والشعور بالضعف.
عندما تظن أن أحدًا لا يراك، أو لا يشعر بما تمر به، اطمئن، إن عيون يسوع عليك، ويراقبك، ويلاحظك، ويُسرع دائمًا لنجدتك.
4) يتدخل وينقذك
في العاصفتين، نرى تدخل المسيح في الوقت المناسب لإنقاذ تلاميذه، في العاصفة الأولى، وعندما خارت قوى التلاميذ وطنوا أنهم هالكين لا محالة، صرخوا و “أَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اسْكُتْ. ابْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ”؛ أمَّا في العاصفة الثانية، حين رآهم معذبين في الجذف، “أَتَاهُمْ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً فَصَرَخُوا لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَهُمْ: «ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا».
لقد تدخل المسيح فهدأت العاصفة، وسكنت الريح، وصار هدوء عظيم، لم يكتب البشير مرقس أنَّ العاصفة بدأت تهدأ، وزمجرة الرياح بدأت تخفت، لكنَّ العاصفة كما هبّت فجأة، هكذا أيضًا هدأت وتوقفت فجأة، فقط عندما تدخل يسوع لتهدئة العاصفة، هدأت العاصفة.
إنَّ وقت تدخل المسيح لانتهاء العاصفة محسوبٌ بدقة، قد يُقرر الانتظار، أو يأتي سريعًا، لكنه لا يأتي إلا في الوقت المُحدد، وحينها ستنتهي العاصفة من حياتك.
ما يجب علينا عمله وتعلّمه خلال العاصفة
1) نُعيد توجيه بوصلة خوفنا
في العاصفتين، خاف التلاميذ، ونحن نعلم مهاراتهم في مواجهة البحر والعواصف والأنواء، لكنهم خافوا، وقلنا إنَّ الخوف أمرٌ طبيعي، إنه حق مشروع للإنسان أن يخاف، لقد كان التلاميذ أمام موقفٍ جلل، وعاصفة هوجاء، وموتٌ يُحيق بهم، لقد أدركوا أنهم هالكون لا محالة، لكنّ التلاميذ امتلكوا قدرة توجيه بوصلة خوفهم، إلى مَن يستطيع أن يُخلّصهم من هذه الظروف، ومن هذه العاصفة، ذهبوا لرب الطبيعة، وصرخوا و”أَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟
إنَّ الخوف هو ما يجعل الإيمان ممكنًا. الخوف الذي يقود إلى الإيمان؛ عندما نوجه بوصلة خوفنا يؤدي بنا إلى الإيمان، ليس الإيمان بمسيح المعجزات، أو مسيح التعليم فقط، بل بالمسيح الرب، صاحب السلطان، الذي له تخضع الطبيعة، وتسكن العواصف، وكما قال التلاميذ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!». ، ولأنَّه الرب المُخلِص، فهو قادر على غفران خطايانا، وضمان حياتنا حتى وسط العاصفة.
قَالَ لَهُمْ: «ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدّاً إِلَى الْغَايَةِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً”
2) نبحث عن يسوع ونطلب تدخله
كان المسيح موجودًا مع التلاميذ، لكنهم اعتمدوا على مهاراتهم، وخبرتهم، وحاولوا جهدهم أن يتحكموا في العاصفة أو يسيطروا عليها، لكنهم عندما خارت قواهم، وأصبح الموت طريقًا لهم، فتشوا عن يسوع، بحثوا عنه، و”أَيْقَظُوهُ” وطلبوا تدخله، قائلين لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟»؛ وهكذا في العاصفة الثانية، يقول: “وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً فَصَرَخُوا”؛
كانت صرخة خوف، لكنها صرخة طلب للتدخل، للإنقاذ، لقد تكلَّم يسوع، واستجابت له الخليقة، وسَمِعَ له البحر والريح، وأطاعاه، فهدأت العاصفة في الحال، وأنقذ التلاميذ، ومنحهم فرصة جديدة للحياة، وأضاف لحياتهم معنىً جديدًا. فهل تطلب تدخل يسوع في العاصفة، يقول المُرنم: “كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ وَمِنَ النَّوْءِ” (مزمور 55: 8)
3) نستمع إلى صوت الروح القدس
إنَّ قوة العاصفة، وزمجرة الرياح، وضجيج الظروف، يُضعف من قدرتنا على سماع صوت الرب، لكنه يتكلم، حتى في العاصفة، هكذا كلَّم أيوب قديمًا، حيث يُسجِل الوحي: “فَقَالَ الرَّبُّ لأَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَةِ: (أيوب 38: 1، 40: 6)؛ ولقد تكلَّم في يوم الخمسين، يقول: “وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ” (أعمال 2: 2)؛ إنه يتكلم، في العاصفة، كما في الهدوء، في كلمته المقدسة، وفي استخدامه لصديقٍ لك، إنه يتكلم ويقول لنا: «ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا».
ختامًا: ماذا يريدنا الرب أن نتعلَّم من العاصفة
بعض الملاحظات الهامة التي نستنتجها من هاتين العاصفتين اللتين اجتاز فيهما تلاميذ المسيح:
- إنَّ وجود يسوع في سفينة التلاميذ لم يمنع السفينة ولا التلاميذ من التعرض للعاصفة، والريح والأنواء.
- إنَّ وجود المسيح في السفينة لم يحمِها من أن تمتلئ من الماء أو من التعرض للغرق.
- إنَّ وجود المسيح في السفينة لم يمنع التلاميذ من الخوف، لأنَّ الخوف غريزة طبيعيّة في الإنسان، والخوف يحمي الإنسان من كثير من المخاطر.
- إنَّ وجود المسيح في السفينة، لم يمنح التلاميذ طُمأنينة صوفيّة خادعة.
- إنَّ طاعة التلاميذ للمسيح أخذتهم مباشرة إلى قلب العاصفة، إن اتباع المسيح لا يُغير هذه الحقيقة؛ فالحياة مليئة بالعواصف غير المتوقعة والتي ستواجهنا حتمًا ونحن نحيا في طاعة المسيح.
- دعوني أقول؛ إنَّ الوجود في إطار إرادة الله لا يعني عدم التعرض لعواصف الحياة، ففي الحالتين اللتين أمامنا نرى التلاميذ في قلب إرادة الله، قال لهم يسوع: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ»؛ وفي المرة الثانيّة يقول: «وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ».
- لم يكن المسيح غاضبًا من تلاميذه حتى يعاقبهم بالعاصفة، بل لأسبابٍ أخرى ليست مجال حديثنا اليوم.
- إنَّ المسيح لا يحكُم ولا يُقيّم إيمانك وردود فعلك أثناء العاصفة، لكنه أولًا، يُهدي العاصفة، ويُطمئنك، ثم يُعالج ما سببته لك من آلام، ويُقوِّم إيمانك ويمنحك الفرصة لتتعرف عليه أكثر.
لذا عليك أن:
- تثق؛ في أنَّ يسوع أكبر من أي عاصفة، لديه العين البصيرة واليد القديرة، يرى ويَقْدِر، هدَّأ العاصفة، وما علينا أن نثق فيه وسط العواصف التي نجتازها، ونحافظ على إيماننا وثباتنا به خلال صعوبات وعواصف الحياة؟
- تتذكر؛ أنَّ يسوع لم يعدنا بحياة هادئة، خاليّة من العواصف والأنواء، لكنه وعدنا أن يكون معنا حتى نهاية العمر، فهو القائل: “وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 28: 20).
- ما أروع ما كتبه الرسول بولس: “إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ” (رومية 14: 8)؛ إنَّ المسيح لم يتوقف عن محبتنا أبدًا. لم يتوقف عن الاهتمام بنا. حتى لو لم يهدئ العاصفة حولنا، سيهدئ العاصفة فينا ويأخذنا بأمان إلى حيث هو.