الكائن واجب الوجود (دراسة لاهوتية لتصريحات “أنا هو” فى الإنجيل الرابع) يوحنا 8: 58| فادى أليكساندر
الأب متى المسكين
أيها الكائن واجب الوجود،
إله إبراهيم و إسحق و يعقوب،
اله إسرائيل السرمدى،
يسوع المسيح الناصرى،
أنت هو منذ الأزل و إلى الأبد،
لا إله قبلك ولا إله بعدك،
الآب و الإبن و الروح القدس،
ثالوث قدوس، إله واحد،
له الكرامة و المجد و السجود،
آمين.
مقدمة
سجَّل القديس يوحنا البشير فى الإنجيل الرابع حوار عنيف بين الرب يسوع و اليهود، و فى نهاية هذا السِجال قال الرب لليهود:”الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ” (يو 8 : 58). و نحن نؤمن أن هذا تصريح مباشر ليسوع حول لاهوته المُطلق الذى لله الآب. لقد كتب أكبر عالمين متخصصين فى ترجمة العهد الجديد فى القرن العشرين، باركلى نيومان و أوجين نيدا، قائلين:”مرة ثانيةً، نجد “أنا كائن” I Am أُستخدِمت فى المعنى المُطلق بحيث أنها تطابق بين يسوع و الله الآب”[1]. و هذه هى شهادتنا أمام كل جاحد، أن فى هذا النص قد أعترف يسوع بشكل مباشر أنه له نفس جوهر الآب. و قد كتبت عن هذا الموضوع سابقاً، و لكن أريد هنا أن ألقى الضوء على النص من عدة زوايا مختلفة. و كما أعتدنا، فلا يوجد إنسان يُنكر لاهوت المسيح فى النص سوى الفرقتين المعتادتين: المسلمين و شهود يهوه[2]. لكن لا يوجد عالم واحد متخصص فى أى فرع من فروع البحث العلمى فى العهد الجديد، قال أن هذا النص لا يشهد للاهوت المسيح. على العكس من ذلك، و كما سنرى لاحقاً، فأشد و أقسى بل و أعنف و أشرس نُقاد العهد الجديد، يعترفون بكل صراحة أن هذا النص هو شهادة مباشرة للاهوت المسيح. و قديماً، أجمع الآباء بشكل غريب على أن هذا النص هو دلالة قوية على لاهوت المسيح. و حينما نرى هذا الإجماع المدهش، يجب أن نفهم شيئاً واضحاً: أن الإجماع يعنى أن النتيجة النهائية لم تتأثر بأى نزعة معينة. فأنا مسيحى مؤمن تماماً أن يسوع المسيح هو الله، و إذا أجتمع معى المسيحى الليبرالى، و المسيحى الأصولى، و اللادينى، و اللاأدرى، و التنويرى، و الملحد، و كافة أطياف الفكر، فهذا يعنى أن نزعتى للمسيحية المحافظة لم تطغى على منهجيتى و آليتى فى البحث، و بالتالى نتيجتى التى توصلت لها هى نتيجة البحث النقدى فعلاً و ليس ما أردت أن أصل له من البداية!
إن نموذجى فى هذه الدراسة هو هذا النص المعروض، و لكن فى إطار أوسع، و هو دراسة المعانى الممكنة لعبارة ἐγώ εἰμι (إيجو “أنا” إيمى “هو، كائن”). و لأجل فِهم مستقيم لهذه المعانى، سألجأ إلى عدة إتجاهات فى الشرح، و هى: الجانب اللغوى، الخلفية اليهودية، و اللاهوت اليوحناوى. و الدعامتين الرئيسيتين لإتجاهاتى فى شرح العبارة هى نفس نظرة اليوم و الأمس: الآباء قديماً و العلماء حديثاً.
هذه الدراسة أكتبها و أهديها لصديقى العزيز و التى تحمل هذه الدراسة إسمه. إنها لحظة توقف للنظر إلى الخلف، كيف كنا و ماذا أصبحنا، رفقاء فى مطبخ الفكر منذ أكثر من خمس سنوات…إيجو إيمى egoemi، أنا هو، الكائن واجب الوجود. هذه الدراسة مُستوحاه منه، بسببه، لأجله، و مما أعطانى من محبة و وقت و بال طويل. فهو اللاهوتى الأول على شبكة الإنترنت، و الفاحص أصول اللاهوت المسيحى من منابعه الأولى. لا يوجد من يضاهيه فى إحترافه لاهوت المسيح، فصار المدافع الأول عن لاهوت المسيح فى زمان أقسى و أشرس و أعنف من زمان آريوس!
الجانب اللغوى
قبل أن نبدأ فى تقصى معنى قول المسيح ἐγώ εἰμι “أنا هو، أنا كائن”، فى النص محل النقاش، نحتاج أن نعرف أولاً أن هناك خلفيتين لابد أن ندرسهما قبل الدخول فيما عناه الرب فى هذا النص. الخلفيتين هما: كيفية إستخدام العبارة فى العهد الجديد بشكل عام و انجيل يوحنا بشكل خاص، و تفاصيل الحوار العنيف بين المسيح و اليهود فى الإصحاح الثامن إنجيل يوحنا البشير. العامل المشترك بين الخلفيتين، هو العهد القديم، كشاهد على الفكر اليهودى فى المرحلة النقدية المتعلقة بالقرن الأول الميلادى و القرنين السابقين له.
المعنى البسيط لهذه العبارة يتضح من فِهم الكلمتين المكونتين لها: ἐγώ هى الضمير “أنا”، و εἰμι هى الفعل المضارع البسيط من المصدر “كون”، و لا يُوجد ترجمة فى أى لغة أدق من المعنى الذى تعطيه العبارة الإنجليزية I Am. هذه العبارة الإنجليزية تُفهم بحسب سياق النص، فلو سألنى أحدهم: هل أنت فادى؟ Are you Fadie? سأجيبه قائلاً نعم أنا هو Yes, I am. هذا الجواب فى معناه المجرد هو: نعم أنا أكون، أى نعم أنا أكون فادى، أو نعم أنا أكون هو. و لكن الجواب بهذا الشكل ركيك، فيُقال: أنا هو. و هذه الجملة حينما تُستخدم بهذا الشكل، هى جملة عادية جداً، و قد وردت آلاف المرات فى العهد الجديد و الترجمة السبعينية بهذا الإستخدام المجرد لها. فحينما يأتى جندى ليسأل بطرس:”هَلْ سِمْعَانُ الْمُلَقَّبُ بُطْرُسَ نَازِلٌ هُنَاكَ؟” فيجيب بطرس قائلاً:”هَا أَنَا ἐγώ εἰμι الَّذِي تَطْلُبُونَهُ” (أع 10: 18، 21)، فهو يستخدم الجملة بإستخدامها المجرد، قائلاً لهم “أنا هو”، أى أنا بطرس، أنا الذى تطلبونه. بهذا المعنى، لا يوجد أى دلالة أبداً للعبارة فى هذا السياق. لكن السؤال الذى يطرح نفسه: هل هناك أشكال أخرى لإستخدام العبارة، قد يترتب عليها دلالات معينة؟ هذا يُحتِم علينا أن نفهم الإستخدامات اللغوية لهذه العبارة، و خاصةً فى إنجيل يوحنا. و كجواب على هذا السؤال، يُقدم لنا العالمان نيومان و أوجينا، و هما أكبر علماء الترجمة عن اليونانية فى القرن العشرين، مُختصر غير مُخِل لهذه الإستخدامات فى إنجيل يوحنا، كما يلى:
“فى إنجيل يوحنا، أستخدم يسوع جملة “انا هو” بثلاث طرق مختلفة. أولاً، كتعبير بسيط عن الهوية فى يو 4 : 26، 6 : 20، 18 : 5. ثانياً: فى غالبية الحالات يتبعها الإسم المرفوع فى يو 6 : 35 و 51، 8 : 12، 10 : 7 و 9 و 11 و 14، 11 : 25، 14 : 6، 15 : 1 و 5. ثالثاً، فى أماكن متعددة، أُستُخدِمت بصيغة مُطلقة فى يو 8 : 24 و 28 و 58، 13 : 19. و من الضرورى أن ننظر عن قرب للإستخدام المُطلق لعبارة “أنا هو”. رغم أن هناك ادلة على وجود إستخدام مشابه لهذا المُصطلح فى الأدب الدينى خارج العهد القديم، فالعهد القديم نفسه يوفر أفضل خلفية لفِهم إستخدام المصطلح فى الإنجيل. فى خروج 3 : 14، و فى المقطع الذى يعلن الله فيه عن إسمه لموسى، ترجمت السبعينية اليونانية الجملة العبرية إلى “أنا الموجود”. هذه الترجمة للإسم الإلهى فى اليونانية موجودة أيضاً فى أماكن أخرى فى العهد القديم. فى أماكن متعددة، أُستُخدِمت “انا هو” I am، و هى فى العبرية حرفياً “أنا هو” I he، كالإسم الإلهى. أشعياء 43 : 25 مثال منضبط لهذا الأمر. فى هذا النص يقرأ النص العبرى “أنا، أنا هو، الذى يمحو الخطية”. السبعينية تترجم الجزء الأول من هذه العبارة بإستخدام التعبير اليونانى “أنا هو” مرتين. و تقرأ السبعينية النص:”أنا هو، أنا هو، الذى يمحو الخطية”، و “انا هو” الثانية فى النص هى المساوى للإسم الإلهى. و المترجمين اليونانيين لنص أشعياء 51 : 12 أتبعوا نفس الطريقة فى الترجمة. و لاحقاً فى العقيدة اليهودية، أُستُخدِم التعبير “انا هو” بشكل واضح كإسم الله. و هكذا، فإن فى هذه النصوص فى إنجيل يوحنا، حينما يستخدم يسوع “أنا هو” بشكل مُطلق، فهو يطابق نفسه بالله”[3].
من هذا الشرح نستنتج أن هناك ثلاثة إستخدامات لعبارة “أنا هو”، و هم:
1- الإستخدام الطبيعى فى تعريف الشخصية أو الهوية، و هو الإستخدام العادى للعبارة حينما يعرف شخص ما بنفسه. و هذا الإستخدام هو نفس الذى أستخدمه بطرس، حينما أراد أن يعرف الجنود بنفسه، قائلاً لهم أنه هو الذى يطلبونه.
2- الإستخدام فى حالات الإسم المرفوع، و هو يكون حينما يريد شخص ما أن يلصق بنفسه إسم معين. مثل أن يقول يسوع:”أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ” (يو 6 : 35)، فهو فى هذه الحالة يقول أنه خبز الحياة، و قد إستخدم نفس العبارة مع الإسم المرفوع “خبز”.
3- الإستخدام المُطلق، و هو إستخدام العبارة دون أى معنى خاص، كأن يقول يسوع:”أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ” (يو 13 : 19). و فى هذا الإستخدام لم يحدد يسوع يؤمنون أنه هو من بالضبط، فهو إستخدم العبارة بشكل مُطلق.
هذا الإستخدام المُطلق لم يستخدمه سوى إثنان فى الكتاب المقدس: الآب، و الإبن[4]!
فقد قال الآب فى العهد القديم:
“فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: اهْيَهْارْسَلَنِي الَيْكُمْ»” (خر 3 : 14).
و ورد النص فى الترجمة السبعينية كالتالى:
καὶ εἶπεν ὁ θεὸς πρὸς Μωυσῆν Ἐγώ εἰμι ὁ ὤν· καὶ εἶπεν Οὕτως ἐρεῖς τοῖς υἱοῖς Ισραηλ Ὁ ὢν ἀπέσταλκέν με πρὸς ὑμᾶς
و قال الآب أيضاً فى العهد القديم:
“أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي وَخَطَايَاكَ لاَ أَذْكُرُهَا” (أش 43 : 25).
و ورد النص فى السبعينية كالتالى:
ἐγώ εἰμι ἐγώ εἰμι ὁ ἐξαλείφων τὰς ἀνομίας σου καὶ οὐ μὴ μνησθήσομαι
حيث وردت عبارة “أنا هو” مرتين فى النص، و ليس مرة واحدة كما فى النص العبرى، و الذى يقرأ كما فى العربية حرفياً. و نفس الأمر يتككر بالضبط فى مكان آخر فى سفر أشعياء، حيث نقرأ أن الآب يقول:
“أَنَا أَنَا هُوَ مُعَزِّيكُمْ. مَنْ أَنْتِ حَتَّى تَخَافِي مِنْ إِنْسَانٍ يَمُوتُ وَمِنِ ابْنِ الإِنْسَانِ الَّذِي يُجْعَلُ كَالْعُشْبِ؟” (أش 51 : 12).
و قد ورد النص فى السبعينية كما يلى:
ἐγώ εἰμι ἐγώ εἰμι ὁ παρακαλῶν σε· γνῶθι τίνα εὐλαβηθεῖσα ἐφοβήθης ἀπὸ ἀνθρώπου θνητοῦ καὶ ἀπὸ υἱοῦ ἀνθρώπου, οἳ ὡσεὶ χόρτος ἐξηράνθησαν
و نلاحظ أيضاً فى هذا المثال تكرار نفس الأمر، فالنص العبرى يقرأ حرفياً:”אנכי אנכי הוא”، أى:”أنا، أنا هو”، بينما يقرأ النص اليونانى:”أنا هو، أنا هو”. أشكال الترجمة المتعددة فى صورة التعبير ἐγώ εἰμι، تأتى كالترجمة الطبيعية لإسم يهوه الذى أطلقه على نفسه אֲנִי־הוּא “أنا هو” فى كتب الأنبياء.
و فى العهد الجديد، يسوع فقط هو الذى يتكلم مُستخدماً التعبير بشكله المُطلق فى عدة أماكن:
1- “إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ” (يو 8 : 24).
2- “مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي” (يو 8 : 28).
3- “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ ἐγώ εἰμι” (يو 8 : 58).
4- “أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι” (يو 13 : 19).
لقد قال يسوع العبارة فى أماكن أخرى متعددة، و لكن هذه الأماكن الأربعة، هى الوحيدة التى نطق فيها يسوع العبارة بالإستخدام المُطلق. و أكرر مرة أخرى، أنه لا يوجد من إستخدم هذا التعبير فى الكتاب المقدس بأكمله، سوى اثنان فقط، و هما الآب و الإبن. حسناً، ليس فى الكتاب المقدس فقط، بل الإستخدام المُطلق للعبارة لم يرد فى الأدب اليونانى الكلاسيكى أبداً[5]. بكلمات أخرى، لا يوجد سوى يهوه و يسوع اللذين إستخدما هذا التعبير بهذا الشكل المُطلق فقط!
و قبل دراسة هذا الموضوع لاهوتياً، نحن بحاجة لأن نعرف أولاً: من هو إله اسرائيل؟
الخلفية اليهودية
كان يسوع يهودياً اسرائيلياً عاش متنقلاً بين اليهودية و الجليل فى القرن الأول، و لكى نفهمه فى سياق صحيح، يجب أن نفهم اللاهوت اليهودى بشكل عام و فى القرن الأول خاصةً. هناك قاعدتين رئيسيتين يرتكز عليهما لاهوت العهد القديم: أن الرب الإله خالق السماء و الأرض و ما فيهما، كان فى اتصال حيوى و مباشر مع خليقته التى جبلها، و ثانيهما أنه أختار شعب اسرائيل بالتحديد ليكون شعبه هو الخاص. و أحد أركان هذا اللاهوت هو محاربة الآلهة الوثنية، و هى صفة عامة فى العهد القديم. لذلك فإننا كثيراً ما نقرأ فى العهد القديم، عن دعوة الله لاسرائيل أن يؤمن به هو وحده فقط، و نرى تحذيرات قاسية من الآلهة الوثنية. فى الكثير من هذه النصوص التى يدعو فيها الله إلى التمسك به كالإله الحقيقى الوحيد، نقرأ العبارة “انا هو” بشكلها المُطلق. فيما يلى سأعرض أربعة من هذه النصوص (كمقابلة مع الأربعة النصوص المذكورين ليسوع بالأعلى)، التى تستعرض وحدانية الإلوهية من خلال العبارة “أنا هو” و تشتمل على تحذيرات قاسية من الآلهة الوثنية، و هو ذلك المفهوم الذى ينغرس فى جذور اللاهوت التوحيدى فى العهد القديم:
1- “اُنْظُرُوا الآنَ! أَنَا أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι وَليْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي. سَحَقْتُ وَإِنِّي أَشْفِي وَليْسَ مِنْ يَدِي مُخَلِّصٌ” (تث32 : 39).
2- “مَنْ فَعَلَ وَصَنَعَ دَاعِياً الأَجْيَالَ مِنَ الْبَدْءِ؟ أَنَا الرَّبُّ الأَوَّلُ وَمَعَ الآخِرِينَ أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι” (أش 41 : 4).
3- “اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ الَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι. أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ” (أش 48 : 12).
4- “أَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ وَعَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι. قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلَهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ. أَنَا أَخْبَرْتُ وَخَلَّصْتُ وَأَعْلَمْتُ وَلَيْسَ بَيْنَكُمْ غَرِيبٌ. وَأَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَنَا اللَّهُ. أَيْضاً مِنَ الْيَوْمِ أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِي ” (أش 43 :10 – 13).
فى هذه النصوص نلاحظ أن إستخدام العبارة “أنا هو”، مرتبط بشكل مباشر بالتحذير من آلهة غريبة لم يعرفها شعب اسرائيل. هذا لا يعنى سوى أن إله اسرائيل، ربط نفسه بهذا التعبير، و جعل هذا التعبير هو صيغته المفضلة فى تسمية نفسه و الإشارة إلى نفسه. و اسرائيل يعرف إلهه الحقيقى بإسمه الذى أسمى نفسه به، “أنا هو”. من خلال هذه النصوص رأينا كيف أن الآب لصقّ عبارة “انا هو” بنفسه، كإسمه الدال عليه من بين آخرين، و لكن لدينا حالة فريدة تُرِجم فيها إسم إله اسرائيل “يهوه” إلى “انا هو” مباشرةً:
“لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللَّهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا. أَنَا الرَّبُّ (يهوه – יהוה – ἐγώ εἰμι) وَلَيْسَ آخَرُ” (أش 45 : 18).
هناك أمرين مدهشين نلاحظهما فى هذا النص: أن لفظ “يهوه” العبرى تُرجِم فى اليونانية مباشرةً إلى “انا هو”، و أن هذا النص أيضاً يُشير إلى الإلوهية الحقيقية. فهو يقرر عن الرب أنه هو الخالق الحقيقى للسماوات و الأرض[6]. و:”هذا التقديم الذاتى كان ضرورياً فى العالم الشِركى فى المشرق القديم، و يُراد بها (أى “أنا هو”) تأكيد ضمان ثقة المُستلم بأن المعلن هو الله وحده. يهوه هو الواحد العامل فى التاريخ”[7].
هذه القرائن تذهب بنا إلى أن اله اسرائيل أفرد لنفسه اسماً هو الخاصة الوحيدة به. فرغم وجود الصورة الإلهية فى الإنسان بشكل نسبى، و رغم أن الإنسان اكتسب الخلود بقيامة الرب يسوع من الموت، غير أن الأزلية هى الصفة الوحيدة التى لا يشترك فيها الإنسان مع الله بأى شكل. لهذا فقد أفرد اله اسرائيل لنفسه اسمه الخاص، لسبب هادف، و هو بيان أنه هو الوحيد الذى كان منذ الأزل، و الكائن، و الذى سيكون إلى الأبد. يوحنا شدد على هذه النقطة ليس فى انجيل يوحنا فقط، كما سنرى، بل أيضاً فى سفر الرؤيا حينما قال:”أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبَِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ” (رؤ 1 : 8).
اللاهوت اليوحناوى
لا يرتبط اللاهوت اليوحناوى بتصريحات “انا هو” المطلقة فقط، بل أيضاً بالمتبوعة بالإسم المرفوع. و هذه سمة عامة فى بيان يسوع لسلطته، إذ نجدها منتشرة فى الأربعة أناجيل و ليس الأنجيل الرابع فقط. و بشكل عام، لا يوجد من ينكر أن إنجيل يوحنا كُتِب للشهادة للاهوت المسيح. الأنجيل نفسه يشهد بهذا:”وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ” (يو 20 : 30 – 31). و يظهر ترتيب تصريحات “انا هو” التى يتبعها الإسم المرفوع فى انجيل يوحنا كما يلى:
1- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً” (6 : 35).
2- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ” (6 : 41)
3- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι خُبْزُ الْحَيَاةِ” (6 : 48).
4- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ” (6 : 51).
5- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ” (8 : 12).
6- “إِنِّي أَنَا ἐγώ εἰμι بَابُ الْخِرَافِ” (10 : 7).
7- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى” (10 : 9).
8- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ” (10 : 11).
9- “أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ἐγώ εἰμι الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي” (10 : 14).
10- “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا” (11 : 25).
11 – “أَنَا هُوَ ἐγώ εἰμι الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” (14 : 6).
12- “أَنَا ἐγώ εἰμι الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ” (15 : 1).
13- “أَنَا ἐγώ εἰμι الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ” (15 : 5).
ما نلاحظه فى هذه النصوص هو ارتباط العبارة “انا هو” بصفات لا يمكن لمجرد انسان أن ينسبها لنفسه: خبز الحياة، نور العالم، باب الخراف، الراعى الصالح، القيامة، الحياة، الطريق، الحق، الكرمة. و هذه الصفات فى سياقها التاريخى اليهودى، هى صفات رجاء اسرائيل نفسه، و مخلص اسرائيل كما وردت فى العهد القديم! و حينما استخدم “انا هو” للإشارة إلى هويته، نراه استخدامه يصاحبه اعجاز: فتارة ينقذ التلاميذ من الغرق (يو 6 : 20)، و تارة يسقط أمامه قادة اليهود (يو 18 : 5)، و لكن الأعظم هو خروج المدينة إليه، و كأنهم يلهثون وراء ذاك المسيا الذى أعلنته زانية (يو 4 : 26). بروس ميتزجر يعلق على إستخدامات “أنا هو” فى انجيل يوحنا كالآتى:”يقوم يسوع بإستخدام سلسلة من التصريحات التى لا مثيل لها، مثل:”أنا هو خبز الحياة” (يو 6 : 35)، “أنا هو نور العالم” (يو 8 : 12)، “و “أنا هو القيامة و الحياة” (يو 11 : 25)، فيظهر على أنه يستخدم نفس الصياغة الثيؤفانية الموجودة فى العهد القديم الخاصة فقط بالطريقة التى تظهر بها أوصاف يهوه الممجدة (أنظر خروج 3 : 14). فلا عجب إذن أن ينتهى هذا الإنجيل بسرد القصة التى لا يقبل فيها يسوع عبادة توما فقط، حينما قال:”ربى و إلهى!”، و لكن أيضاً ينطق بمباركة كل من يعترف به مثل توما (يو 20 : 28 – 29)”[8].
ولا تقتصر شهادة انجيل يوحنا فى هذا المجال فقط على تصريحات “أنا هو”، بل هذه الشهادة المُخلِصة تقدم يسوع على أن له نفس جوهر الله المُطلق ( 1 : 1، 20 : 28)، و هو الإله الوحيد الجنس الذى فى حضن الآب (1 : 18) و أنه الواحد مع الآب ( 10 : 30)، و أن يستطيع أن يعمل كل ما يعمله الآب (5 : 19)، و أنه يستطيع أن يُحى من يشاء (5 : 21)، و هو ديان العالمين (5 : 22)، و أنه فى الآب و الآب فيه (يو 14 : 11)، و أن الآب حال فيه (14 : 10)، و فوق كل ذلك أنه هو إبن الله الوحيد (3 : 16).
هذا اللاهوت اليوحناوى يلخصه العالم القدير المتخصص فى كريستولوجية القرن الأول، جيمس دن، فيقول:” أحد خواص خطابات يسوع فى الإنجيل الرابع هى حديثه بدقة عن الله كأبيه، و عن نفسه كإبن الله، فهو يدعو الله “أبيه” أكثر من مئة مرة، و عن نفسه “الإبن” 22 أو 23 مرة. و لأول مرة نجد المصطلحات الدلالية فى قوانين الإيمان اللاحقة المُستخدمة عن يسوع، مثل “مونوجينيس – وحيد الجنس”، ليس فقط فى المقدمة، و لكن واحد من خطابات يسوع نفسه (يو 1 : 14، 18 – 3 : 16، 18). و بخلاف السياق العام الذى يضم الآب و الإبن معاً، فهو دائماً يعبر عن قناعته بوجوده المُسبق، وجود سابق فى السماء مع الآب (6 : 62، 8 : 38، 10 : 36، 17 : 5)، و نزوله من السماء (3 : 13، 6 : 33، 38، 41، 50، 58)، و خروجه من الله (3 : 31، 8 : 42، 13 : 3، 16 : 27، 17 : 8)، ثم مجيئه إلى العالم (3 : 19، 9 : 39، 10 : 36، 12 : 46، 16 : 28، 18 : 37). ثم نصل إلى الذروة فى واحدة من أقوى تعبيرات “أنا هو”، حينما يكون زعم يسوع عن وجوده المُسبق يصل إلى التعبير المُطلق: قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن”[9]. و تصريحات “أنا هو”، واحدة من الخصائص الأولية جداً فى لاهوت يوحنا، فيقول أحد كبار العلماء فى لاهوت العهد الجديد، و هو جورج لاد:” ربما أكثر المصطلحات اليوحناوية المميزة، هى أقوال “أنا هو”، مثل:”أنا هو خبز الحياة” (يو 6 : 35)، “نور العالم” (يو 8 : 12)، “الباب” (يو 10 : 7)، “الراعى الصالح” (يو 10 : 11)، “القيامة و الحياة” (يو 11 : 25)، “الطريق و الحق و الحياة” (يو 14 : 6)، “الكرمة الحقيقية” (يو 15 : 1). و كل هذه التصريحات هى أنعكاسات للوعى المُطلق:”قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن” (يو 8 : 58)”[10].
لا يوجد باحث واحد جاد يجرؤ على نفى لاهوت المسيح فى انجيل يوحنا، فهو بمثابة القلعة الشامخة التى تحطم كل هجوم على لاهوت ابن الله. و لهذا السبب فقط، كان انجيل يوحنا هو أكثر كتب العهد الجديد تعرضاً لأقسى و أشرس أنواع النقد الأعلى. فكل دارس لتاريخ مدرسة توبينجين، يعرف أن شغلها الشاغل كان انجيل يوحنا. و ها قد تحطمت كل ادعاءاتها بمجىء ادولف هارناك، و هو الليبرالى لاهوتياً (!!)، و بقى انجيل يوحنا يشهد للاهوت يسوع الناصرى. و ليس انجيل يوحنا فقط، بل حتى فى رؤياه يشهد مراراً للاهوت المسيح و كثيراً ما يساوى بين أسماء إله اسرائيل و يسوع، و فى الرسائل أيضاً.
شرح النص
تفسير النص الصحيح و الدقيق، هو التفسير الذى يجب أن يشرح كل المعطيات و القرائن و الدلائل المتوفرة. و كل شرح لا يقدم تفسيراً معقولاً لكافة البراهين المتوفرة، هو شرح ساقط بحسب آليات المنهج الإستقراءى. و هذا منهجى فى شرح النص؛ تفسير كافة المعطيات المتوفرة فى ضوء لاهوت انجيل يوحنا بشكل عام.
لا يمكن فِهم هذا النص، بفصله عن الإصحاح السابع و الثامن[11]. فمن يتابع السياق، يلاحظ أن حوار المسيح فى هذين الإصحاحين منسجم بشكل كبير، فى توازى مع إحتفال اليهود بعيد المظال. عيد المظال كان ثالث أكبر أعياد اليهود فى ذلك الوقت، بعد الفصح و العنصرة. و كان هذا العيد تذكاراً لتيه شعب اسرائيل فى البرية طيلة أربعين عاماً حيث قاد عمود السحاب الشعب فى الظلام، حينما نصبوا الخيام فى الصحراء، و لذلك سُمى المظال. و يستمر هذا العيد لمدة ثمانى أيام، و يشتمل على تقديم عدة أنواع من الذبائح و إقامة إحتفالات عديدة (لا 23 : 33 – 43)، (2 مك 10 : 5 – 10). و لاحقاً، كان اليهود يستخدمون مصابيح إضاءة تُوضع حول القطاع الخارجى من الهيكل، كإشارة إلى كيفية قيادة الله لهم فى عمود السحاب فى البرية بعد خروجهم من مصر. و فى هذا السياق الأوسع، بدأ يسوع خطاب لاهوتى عالى المستوى مع اليهود. و هذا الخطاب بدأ و إنتهى بتصريحات غاية فى الأهمية يعلن فيها يسوع ما خفى عن أعين اليهود.
بدأ يسوع حواره مع اليهود قائلاً:”أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ” (يو 8 : 12). و بهذه الإفتتاحية التى لا تُفهم إلا فى السياق الأكبر الخاص بعيد المظال، أعلن يسوع أنه هو الذى قاد اليهود قديماً، و هو المستعد أن يقود اليهود و كل الأمم الآن. فكان رد فعل اليهود:”أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً” (ع 13)، أو بكلمات أخرى، أراد اليهود أن يقولوا له: نحن لا يمكننا أن نصدق ما تقول، إعتماداً على شهادتك المجردة. فرد يسوع عليهم قائلاً:”وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ” (ع 14)، و هو بذلك يتحدى القاعدة الناموسية، فيقول لهم أنه لا يشهد لنفسه، و لكن حتى لو كان وحيداً يشهد لنفسه، فما يقوله هو حق، و شهادته وحده كافية لهم، و لا ينبغى أن يحتاجوا لشهادة أخرى. كان يسوع واضحاً معهم و أخبرهم السبب قائلاً:”لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ”. بهذه العبارة بدأ يسوع التعمق أكبر فى الإتيان بمتضادات، فيأتى بالشىء و ضده فى نفس الوقت. فهو لا يقول أنه يشهد لنفسه، و رغم ذلك يقول أنه حتى لو شهد لنفسه فهو حق. و السبب فى ذلك أن المسيح يعرف من أين أتى و إلى أين سيذهب، فهو عالِم بمن أرسله و إلى أين سيذهب بعد إتمام المهمة. و هو نفسه قد شرح لهم كثيراً أنه هو الوحيد الذى خرج من الله، فهو المولود الوحيد منه بحسب جنسه، و هو نفسه الذى شدد على وجود على يمين الآب، كإبن الله الوحيد. فهو يريد أن يقول عن نفسه أنه يعلم من هو جيداً، حتى و إن كانت عقولهم هى لا تستطيع إستيعاب ما يقوله، فهذا لا يغير من حقيقته فى نظر نفسه شيئاً. ثم يقابل المسيح معرفته بمعرفة اليهود قائلاً:”وَأَمَّا أَنْتُمْ فلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ”. فهم لا يمكنهم الرؤية، لأنهم يعيشون فى الظلام، و لكى يروا و يعرفوا من أين آتى و إلى أين سيذهب يسوع، عليهم أن يقتنوا البصيرة الروحية، ليعرفوا أصل و مصير يسوع. و تأتى المقابلة بين حالة يسوع و حالة اليهود، كتأكيد واضح من يسوع على إدراكه ماهيته، و إستحالة تأثير أى مؤثرات خارجية على حالة فِهمه و إدراكه لنفسه. ثم يستمر يسوع فى المقابلة البديعة بين الإنسان و الإله، فيقول:”أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً” (ع 15). و هذه هى سقطة البر الذاتى الذى لليهود، فكيف و هم بنو الإنسان يدينون بعضهم بعض؟ لا يُمكنهم أن يدينوا كلامه، قائلين أنه ليس حقاً، أو أنه كذب، لأنه ليس للإنسان أن يدين غيره. و يسوع أوضح هذا بتطبيقه الخاص جداً على نفسه، فهو أيضاً لا يمكنه كإنسان أن يدين أحداً. رغم هذا، فلم يعطى الفرصة أن يصل هذا المفهوم القاصر عنه، سواء للمستمع أو القارىء، فقال مباشرةً:”وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي” (ع 16). و هنا تأتى المقابلة الثالثة، فهو و إن كان حسب الجسد لا يدين أحداً، و لكن حسب الروح هو الديان الحق نفسه. و هذا ما كان قد أوضحه يسوع قبلاُ كثيراً، فالآب قد أعطاه كل الدينونة. و حق دينونته ليس تمجيداً لذاته، و ليس مدحاً لا يستحقه، بل عن إستحقاق كامل لكل ما يدعى، فشهادته أيضاً مؤيدة بالذى أرسله. و شهادة الآب له لا تقتصر فقط على حق دينونته، إذ أن هذا التصريح جاء فى السياق الخاص بكونه نور العالم أولاً، ثم حق دينونته ثانياً. و لذلك أكمل يسوع قائلاً:”وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي” (ع 17، 18). و فى إعلانه تحديه للناموس، إذ ينسبه لهم و ليس له، يُقر بحق إعلانه، أنه هو نور العالم و الديان الحق، بشهادة الناموس الذى يتمسك به اليهود. و هذا الناموس يشهد بأن شهادة إثنين تؤخذ أنها حق. و هنا قدَّم يسوع شهادة الإثنين: شهادة الآب و شهادته هو نفسه. و لم يكن يسوع محتاجاً لدعم الناموس له، فهو الذى قال صراحةً سابقاً أن شهادته وحده هى الحق نفسه، ولا تحتاج لمساعدة من إنسان فى دعمها. فجاء سؤال اليهود الذى يحمل دلالة قوية:”أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟” (ع 19). كان يجب أن يكون السؤال الطبيعى هو: من هو أبوك؟ و لكن اليهود كانوا قد فهموا أنه يتحدث عن الله بالفعل، و أرادوا التهكم عليه و السخرية منه. فيسوع يربط نفسه بالآب الذى أرسله فى وحدة فكرية متطابقة، و هذا قد أوضح لهم أنه لا يتكلم إلا عن الله. و لأن اليهود أعتبروه مجنون بهذا الشكل من السؤال التهكمى، فقد كان رد يسوع عليهم موبخاً جهلهم:”لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً” (ع 19). فاليهود فى داخلهم كانوا يعتقدون أنهم يعرفون الآب، و لذلك تهكموا على يسوع. و لكن رد يسوع جاء صادماً لهم، فهم لا يعرفون الله. و لو كانوا يعرفون الله لكانوا عرفوه هو أيضاً. ثم يقابل يسوع بينه و بين نفسه فى الشق الثانى من جوابه، فيعكس احتجاجه بأنهم لو كانوا عرفوه لعرفوا الآب على حقيقته. ليس بحسب ما تخيل اليهود، و ليس بحسب الصورة المشوهة التى رسموها عنه و ورثوها لأبنائهم، و لكن بحسب الحق نفسه، كانوا سيعرفون الآب حينما يشرق نور العالم، فلا يعرف الآب أحداً من السالكين فى الظلمة. و لو كانوا عرفوا النور، لكانوا عرفوا أصل النور. و لكن لأن الظلمة تخيم أمام عيونهم، لم يستطيعوا سوى رؤية الإنسان الذى يخاطبهم.
يقتطع يوحنا الحوار ليعطينا إشارة هامة، و هى أن:”هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ” (ع 20). و الخزانة هى المكان المُخصص لجمع الأموال، و هو مكان خاص فى قطاع النساء فى الهيكل، و هو المواجه للسنهدريم مباشرةً[12]. و من الشق الثانى من ملاحظة يوحنا:”وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ”، يتبين لنا أن يوحنا أراد أن يعرَّف القارىء بأن يسوع كان يعلَّم فى موضع خطر. كان حواره مع اليهود يدور فى مكان من الممكن أن يودى بحياته. و بهذه القرائن يتبين لنا أن يسوع كان متعمداً تعميق الخطاب اللاهوتى فى حضرة السلطة اليهودية الأعلى، السنهدريم. و أعتقد أن هذه الملاحظة لم تكن تُشير إلى خطورة ما سبق أن قاله يسوع، بقدر ما أنها تُشير إلى خطورة ما كان سيخرج من فمه بعد ذلك. بمعنى أنها ملاحظة تقديمية، و ليست ملاحظة ختامية. و السبب فى ذلك، هو أن الجزء الثانى من الحوار هو الأكثر خطورة و الأكثر تحدياً للعصبية اليهودية. فى نفس الوقت، فالجزء الثانى من الحوار، هو الأخطر و الأعمق فى لاهوته، من حيث صراحتهِ و مباشرتهِ. و بالتالى، فيوحنا يخبرنا بمدى الخطر الذى كاد أن يحيق بيسوع بسبب الكلام الذى قاله، و تحذير للقارىء بأن ما سيأتى عليه المسيح الآن هو أعمق و أخطر.
لا يسجل لنا القديس يوحنا رداً من اليهود على توبيخ يسوع لهم، و كأن هذا يُشير ضمناً إلى خجل و حمرة وجه من كلمات يسوع. فأحبار اليهود العارفين و الملمين بأمور الشريعة، لا يعرفون الله حق المعرفة. و هذا ما قاله الله قديماً:”هَذَا الشَّعْبَ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي” (أش 29 : 13)، و هو نفس ما أعاده المسيح ثانيةً:”يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً” (مت 15 : 8، و أنظر أيضاً مر 7 : 6). فما كان من يسوع سوى أن يكمل مفصلاً بأكثر عمق الخطة الإلهية:”أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا” (ع 21). أى أنهم جميعهم هالكين بدونه هو، و ستقتلهم الخطية رغم أنهم هم كبار علماء اليهود، و لكن الخطية أقوى منهم، و كل قتلاها أقوياء (أم 7 : 26). و بسبب هذه الخطية، و هى رفضه و إنكار إعلانه الإلهى، لن يستطيعوا أن يكونوا حيث يكون؛ أى لن يستطيعوا أن ينالوا خلاصهم الأبدى عن طريقه، بالحياة معه حيثما يكون، فى ملكوته. و رغم هذا الإعلان، لم يفهموا عما يتكلم، بسبب الظلام الذى يعيشون فيه، ففكروا فى الأمر بمقاييسهم البشرية قائلين:”أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟” (ع 22). لأن الجسد لا يفهم إلا ما للجسد، ولا يمكنه التخطى لرؤية الإلهيات، تعجبوا فى أنفسهم عما سيفعل فى نفسه: فهل سيقتل نفسه و ينتهى وجوده بحيث لا يمكنهم ان يكونوا معه مرة أخرى فى المكان الذى يُوجد فيه المُنتحر؟ ففى كبريائهم داخل أنفسهم، إعتقدوا أنهم خلصوا من جهنم.
من هذه النقطة، يبدأ المسيح فى التعمق أكثر ناحية لاهوته، و يشرح لليهود المظلمين أكثر حول الخطة المسيانية الصحيحة التى أعدها الله. لا يهدف المسيح هنا سوى بيان الإستعلان الإلهى لهم، و عليهم أن يقرروا و يختاروا ماذا هم فاعلون. فكان جواب المسيح:
“أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ” (ع 23، 24).
و بهذا الإعلان الصارخ، عاد يسوع مرة أخرى ليقابل بين الإنسان و الإله. فهم، أى اليهود، من هذا العالم. هم مرتبطين به و يعيشون فيه و يعيش فيهم. تخيلوا أن الوصول إلى الله يكون بقدراتهم الذاتية، و بإمكانيتهم إصلاح الإنقطاع الذى حدث بين الله و الإنسان. تماماً مثل أى فكر دينى آخر، يتخيل أن العمل الصالح كفيل بخلاص الإنسان من عبوديته للخطية. و هذه كانت مشكلة اليهود دائماً، البر الذاتى، أى تبريرهم فى أعين أنفسهم النابع من داخلهم. و لكن هذا البر الداخلى لا يُخلص الإنسان. لأن السماء تفرح بالخاطىء الذى يعرف طريق الحياة الأبدية الحقيقى، أكثر من تسعة و تسعين باراً ذاتياً. هذا لا تفرح به السماء، لأنه يسلك فى طريق عاقبته الهلاك. و لكن يسوع من فوق، فهو إبن الإنسان الكائن على الأرض و الموجود فى السماء دائماً. و هم مرتبطين بالأسفل الجسدى، و لكنه فى إتحاد كامل مع الروح، لذا فهو من فوق. هذه المقابلة هى إمتداد للمقابلة الأولى بين طبيعة وجود اليهود، أى الإنسان، و طبيعة وجود يسوع، أى الإله. فالأول لا يعرف من هو و إلى أين سيمضى، أما الثانى فيعرف جيداً طبيعته و وجوده و لماذا جاء إلى الأرض و متى و إلى أين سيرحل منها. هم محكومين بقوانين العالم، أما هو فمُجرد مُرسل لهم، أصله فوق، غير محكوم بقوانين هذا العالم. و لكن هؤلاء اليهود سيموتون بخطيتهم، إلا بشرط واحد: أن يؤمنوا أن يسوع هو “أنا هو”. فالشرط الوحيد لخلاص الإنسان من الخطية، هو أن يؤمن بعمل الله الكفارى، بعمل “أنا هو” اله اسرائيل، ليخلص الإنسان من عبوديته للخطية. هذا هو إعلان المسيح لهم، و شرط خلاصهم من الخطية، أن يؤمنوا أن يسوع هو نفسه “أنا هو”، الذى تجسد ليتمم مشيئة الله الآب. و لم يستوعب اليهود رده، فكان بمثابة صدمة أولية لهم. أرادوا أن يتأكدوا من أنه يقصد ما فهموه بالفعل، فسألوه:”مَنْ أَنْتَ؟” (ع 25). لم يكن هذا السؤال رغبةً فى المعرفة الحقيقية، بل كان إندهاشاً و إستعداداً و تأهباً لما سيكرره يسوع مرة أخرى، فلا يكون هناك عتب لما سيفعلوه. و قد عبَّر أحد العلماء على تركيز اليهود على كلمة “أنت”، بأنهم كانوا يريدون أن يقولوا له:”من تظن نفسك بالضبط؟”[13]. و هنا رد يسوع قائلاً:
“أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ” (ع 25، 26).
أدرك يسوع تلاعبهم، فقال لهم أنه هو الذى كلمهم به من البداية، فهو “نور العالم”، الذى إفتتح هذا الحوار بإعلانه لهم. و يسوع لديه من المنطق ما يدحض منطقهم، و لديه ما يستطيع أن يحكم به على منطقهم البشرى الساقط، و لكن ليس هذا هو ما يحقق مسيانيته. ليس قوة منطقه، ولا بلاغة أو فصاحة أو حتى صحة كلامه، بل حق إرساليته من الآب. كان برهان يسوع الدائم و المستمر على مسيانيته، هو إرسالية الآب له. و هذا هو نفس برهانه هنا، رغم وجود إستدلالات بشرية يستطيع إستخدامها فى منطقهم المغلوط، و خطأ إستدلالهم. و لأن إرسالية الآب له حقيقية، فكلامه الذى سمعه منه و ينقله للعالم، هو كلام حقيقى، و ليس مجرد إدعاء كاذب، أو مجد ذاتى، أو إستعلاء فارغ. بكلمات أخرى، يسوع كان يريد أن يقول لهم، أن حقيقة وجوده و إعلانه الإلهى ليس محل نقاش، حتى لو كان النقاش المنطقى لصالحه، فهو يرفض حتى أن يطرح القضية للنقاش. و هذه هى ميزة الحق المُطلق، فهو غير قابل للنقاش، و غير قابل للأخذ و الرد. و كان إعلان يسوع عن نفسه حق مُطلق، فهو “أنا هو”، و هذا أمر لا يحتمل الصحة أو الخطأ فى نظر يسوع. لم يفهم اليهود أنه كان يتحدث عن الآب، فيخبرنا يوحنا أنهم:”لَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ” (ع 27). و بهذا لم يستطيعوا أن يفهموا كيف أنه لا يريد طرح القضية للنقاش، فلا يخرج من الآب زيف أبداً، لأنه هو الحق، و فى نفس الوقت هو الذى أرسل يسوع “نور العالم”.
ثم يأخذ يسوع منعطفاً أكثر وضوحاً فى خطابه، ليبلغ القمة فى عرضه لأهداف التجسد. و هذا المُنعطف يسير بقوة ناحية الإعلان الأخير و النهائى فى الخطاب، و أعتقد أن صورة هذا الخطاب كانت نغماتها مرتفعة، و دقاتها سريعة، فلا يكاد يخرج من يسوع رداً، حتى يأتى رد اليهود عليه. فهذا الشق الحيوى من الحوار يبلغ فيه المسيح الحد الأعلى للإتحاد بين الله و الإنسان، و يشرح لهم كيف أن الحرية هى نعمة من الله، و ليست نابعة من قدرة الإنسان الذاتية. و ذلك يأتى بعدما فقد المسيح الأمل فى فِهمهم و إدراكهم له و للصورة الحقيقية للآب. فيستطرد يسوع قائلاً:
“مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ” (ع 28، 29).
و فى هذا التصريح، يعلن يسوع الإتحاد الذى لا يقبل الإنفصال بين إبن الإنسان و إبن الله. فهو نفسه إبن الإنسان الذى سيرفعه اليهود على الصليب، و لكنه هو نفسه إبن الله الموجود مع الآب فى كل حين. و فى هذا الوقت بالتحديد، أى حينما يدركون عمل الفداء، سيفهمون أنه “أنا هو”، إلههم الكائن معهم منذ البداية، رغم أنه هو الإنسان الذى من طبيعتهم أيضاً. منهم من فهم إعلانه قبل الصليب، و هذا ما يعرضه يوحنا فى العدد التالى، حيث يقول:”وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ”. و منهم من آمن وقت الصليب، مثل قائد المئة الذى أعترف قائلاً:”حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ” (مر 15 : 39). و منهم أيضاً من آمن بعد الصليب فى كرازة الرسل المنثورة فى سفر أعمال الرسل. و هؤلاء الذين آمنوا به، دعاهم يسوع قائلاً:”إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ” (ع 31، 32). فمن يثبت فى الإيمان بالمسيح، يكون تلميذاً للمسيح، و يعرف الإله الحق، و هذا الإله الحق سوف يحرره من كل قيد و خطية. ليس كل من يؤمن بالمسيح يكون تلميذاً له، لأن المعرفة النظرية لا تُخلص الإنسان. و لكن كل من يثبت فى حياة المسيح، فيحيا لا هو بل المسيح يحيا فيه (غل 2 : 20)، هذا هو تلميذ المسيح الحقيقى.
لم يسترح اليهود المعاندين لكلام المسيح، أو بالأحرى لم يفهموا معنى الحرية التى يتكلم عنها المسيح. و هنا يبدأ فصل جديد من الحوار، حينما يدخل أب الآباء، و أبو الأنبياء، ليصير حجة اليهود، متخيلين أنه أعظم من المسيح، أو بحسب فكر المسيح: متخيلين أنه أعظم من “أنا هو” نفسه!
رد اليهود قائلين:”إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟” (ع 33). هذا الرد يظهر بوضوح، كيف أن اليهود كانوا مستمرين فى التفكير بحسب الجسد، و بحسب الحياة فى العالم، و بحسب مقاييس الفكر البشرى. لم يكونوا قادرين على تخطى ذلك الحاجز، لينفتحوا على “نور العالم”، فيتخلصوا من ظلام عقولهم البشرية. و بهذا تفاخروا أنهم أبناء إبراهيم، متخيلين أن هذه الميزة ترفع من شأنهم. فلما رآهم يسوع لم يفهموا ماذا قصد، شرح لهم فى أطول رد تفصيلى قدمه لهم فى هذا الحوار، ما الذى خفى عن عيونهم التى تمكث فى الظلام، قائلاً:
“الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أَمَّا الاِبْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً. أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأَنَّ كلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ” (ع 34، 38).
إن أول ما نلاحظه فى رد يسوع، هو أنه مازال مُصِراً على عدم وضع الحق الإلهى الذى يعلنه محل نقاش بحسب المنطق البشرى. فنعم، أبناء إبراهيم قد أُستُعبِدوا كثيراً فى العهد القديم[14]، و ذاقوا مرارة الذل و المهانة فى السبى البابلى و الأشورى. و يسوع كان يعلم هذا كله، و لكنه كان مُصِراً أن يسمو فوق المنطق البشرى، لأن ما يعرضه هو حق مُطلق لا يمكن أن يخضع حتى لحكم العقل البشرى فيه. ثم قدم يسوع رده بعبارته التقديسية “الحق الحق”، و التى هى فى الأصل اليونانى “آمين آمين”. و إستخدام هذه العبارة، فى كافة مواضعها فى كلام يسوع، هى تقديس لما يتبعها على أنه حقيقة مُطلقة لا تقبل جدال. و هذه هى الحقيقة المُطلقة التى قدمها يسوع لليهود: كل من يفعل الخطية، هو عبد للخطية. لأن الخطية تتسلط على الإنسان، و تتحكم فيه، فيصبح مثل الدمية فى يديها. و بذلك فإن اليهود عبيد حقاً، و هذه الكلمات لا تخاطب اليهود فقط، بل “كل من يعمل الخطية”، بحسب كلمات المسيح. و لأن اليهود خطاة، فهم عبيد. و عبد الخطية لن يعيش للأبد، و لن يكتسب الخلود فى المسيح. على العكس من ذلك، فالذى يقبل “أنا هو” سيصير إبناً وارثاً مع المسيح (رو 8 : 17)، و بهذا سيحيا للأبد. و لا يوجد آخر يستطيع أن يمنح حرية حقيقية من الخطية سوى المسيح، و هو الوحيد القادر على خلاص الإنسان من قيودها. لذا فكل من يحرره الإبن، يكون حراً حقيقياً، و ليس مجرد حرية وهمية يتخيلها فى عقله بمجده أو إجتهاده الذاتى. و بالرغم من أن اليهود هم أولاد إبراهيم، لكنهم يريدون إرتكاب الخطية و كسر حتى الناموس، إرادتهم قتل يسوع، رغم أن يسوع لم يكلمهم سوى بالحق، و لم يكذب عليهم، و لم يخدعهم، فأعلن لهم ما أخبره الآب به. و قتل يسوع رغم أنه لم يرتكب أى جريمة، ليس فقط خطية فى قتل نفس بلا إستحقاق، بل أيضاً فى الحقد الدفين و شهوة قتله بداخلهم. شرح يسوع السبب فى وجود تلك الشهوة بداخلهم، و هو أن كلامه لا يسكن فيهم. فهم لا يعيشون بحسب الروح، و لكن بحسب الجسد. و لأجل هذا يسيطر عليهم الجسد و أعماله، و فكر العالم المظلم هو قائدهم. و لكن كلٍ يتكلم بحسب ما تعلم: يسوع يتكلم بحسب طبيعة الآب الحال فيه، و هم يتكلمون بحسب أبيهم، و لكنه ليس إبراهيم! فرد اليهود عليه قائلين:”أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ” (ع 39). فبردهم هذا فهموا ما أراد يسوع أن يوصله لهم، من مقابلته بينه و بينهم، فلا يمكن أن يخرج من إبراهيم هذا الشر. فتشددوا قائلين أنهم نسل إبراهيم، و كأن هذا يجعلهم أبراراً فى عينى الله. و هنا أوضح يسوع قائلاً:”لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ” (ع 39 – 41). فهؤلاء يريدون قتل برىء، و إبراهيم لا يمكن أن يعمل ذلك، و لهذا هم ليسوا أبناء إبراهيم، لأنهم لا يحملون طبيعته. فيسوع لم يعلن سوى حق الآب، و مع هذا يريدون قتله. و إبراهيم من المستحيل أن يفعل ذلك، فهم أبناء أب آخر غير شرعى، لأنهم إنحرفوا عن عبادة الله الحق. فبدأوا فى الدفاع عن أنفسهم:”إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ”. فبحسب تخيلهم، هم يعبدون الله بالحق، و لهذا الله هو أبيهم لأن أبيهم هو إبراهيم الذى عبد الله بأمانة، و ليسوا أبناء زنا، أى أبناء عبدة الأصنام. و لكن الحقيقة غير ذلك، فهم أبناء إبراهيم بحسب النسل الجسدى، و لكنهم لم يسلكوا كما سلك إبراهيم، و لم يعبدوا الله كما عبد إبراهيم الله، حتى أنه تسمى “خليل الله”.
فى هذه اللحظة حمى يسوع و أعلن لهم الحق دفعة واحدة، مما أخل بثباتهم الفكرى، فقال:
“لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلاَمَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ” (ع 42 – 47).
هذا الرد مُطول يشتمل على عدة نقاط لاهوتية أعلنها يسوع. فأولاً، يعلن يسوع أنه خرج “من الله” εκ του Θεου فى بيان واضح عن تجسده[15]، و إذا كانوا هم يعرفون الآب معرفة حقيقية، كانوا سيفهمون يسوع، و يفهمون مجيئه و تجسده. و لكن هذا لم يحدث، رغم أن الذى أرسله هو الآب، الذين يدعون معرفته و أنهم يعبدونه بالحق. و هم لا يستطيعون لا أن يفهموا كلامه، لأنهم لم يقبلوه. و السمع هنا المقصود به قبول كلامه، و ليس أنهم لا يسمعون. و هم غير قادرين على قبول كلامه، لأنهم من أبليس، هو أبيهم الحقيقى، و ليس الله. و لأن أبليس يبغض النور، فكذلك أبناؤه يبغضون النور و الحق، فلا يستطيعون قبول يسوع، لأنه يكشف أعمالهم السيئة، و منطقهم المُعوج. لا يريدون تحمل المسئولية، لأن القبول، ثم الفِهم، ثم الحياة، مسئولية و ليسوا قراراً سهلاً. و هم يحبون أن يعيشوا بحسب شهواتهم. و هذا ليس مُستغرباً، فإبليس نفسه هو الكذاب و أبو الكذاب، و لا حق فيه. و كما يريدون أن يعيشوا بحسب الظلمة، يرفضون النور نفسه ولا يؤمنون به. هذا النور هو الحق، ولا خطية فيه. لأن هذا كان منذ القديم، حينما أُختِير الحمل بلا عيب. و لأنهم يرفضون الحق، فهم ليسوا من الله، و ليسوا بأبناء الله، لأن الذى من الله يعيش بحسب كلام الله، ولا يتردد فى قبوله و هو عكس ما كانوا يفعلوا.
هنا ثار إبليس، ليُسقِط على يسوع ما به، فقال اليهود ليسوع:”أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟” (ع 48). و هذا الإتهام بأنه سامرى و به شيطان، بسبب مشابهة إسلوب يسوع لإسلوب السامريين فى تعنيف اليهود. فما كان من يسوع سوى أن يجيبهم ببساطة:” أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ” (ع 49 – 51). فهذه هى الحقيقة، أن ليس يسوع هو الذى به شيطان، بل هذا الشيطان هو أبيهم هم. و يسوع لا يفعل سوى رد إكرام الآب له، لأن نسب اليهود بأفعالهم له هو إزدراء بالآب و إهانة له. و أن يُقال على من يكرم الآب أن به شيطان، فهذه إهانة له. و فى هذا الحوار بأكمله، لم يطلب يسوع من اليهود سوى أن يكونوا للآب بحسب الحق، ولا يأخذ شيئاً عن غير إستحقاق لمجرد تمجيد نفسه. و لكن الذى يطلب المجد حقاً هو الآب، و هو نفسه الذى سيدين الإهانة و الإزدراء. فلو أراد شخصاً أن يحيا للأبد، و ينال ملكوت الله، فيجب أن يثبت فى المسيح، و يحفظ حياته بحسب إنجيل المسيح. هذا لن يرى الموت أبداً. و هنا كرر اليهود نفس الإهانة قائلين:”الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وَأَنْتَ تَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟” (ع 52، 53). و بهذا الفكر المنغلق، مازالوا مستمرين فى التفكير البشرى المحدود، الذى لا يستطيع فِهم السمو الإلهى الذى يتحدث به المسيح. فيسوع أعلن لهم أن من يعيش بحسبه، لن يموت، فهو “أنا هو” القادر أن يحى من يشاء و يميت من يشاء، و لكنهم أخذوا كلامه بشكل مادى زمنى، و قارنوه بموت الأنبياء. هذا الفكر جعلهم يفكرون أن يسوع يعظم نفسه كإنسان فوق إبراهيم، و أصبحوا فى قمة الحيرة: من يكون هذا؟ من يجعل نفسه؟ لكن يسوع بالفعل أعظم من إبراهيم، فهو الذى قال عن نفسه سابقاً أنه أعظم من مجرد نبى:”مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ” (مت 11 : 9, لو 7 : 26).
و برد يسوع على هذا الفِهم القاصر، تبدأ النهاية. فهم لم يفهموا كيف سيحيا يسوع للأبد، و لم يفهموا كيف سيجعل من يؤمن به يحيا للأبد، و عادوا ليكرروا عظمة إبراهيم مرة أخرى، و كأنهم يحقرون منه، و ينزلون من مكانته، فى محاولة منهم ليجعلوه يدرك حجمه الطبيعى الذى يتخيلونه. و فى كل هذا، كان يسوع يؤكد لهم أنه لا يأخذ ما لا يستحق، فهو ليس من هذا العالم، و ليس من أسفل، و هو الذى خرج من الآب. و حاول أن يشرح لهم أن وجوده البشرى ليس سوى لأنه مُرسل، و ليس لأن هذا أصله. كان هذا فى مقابلاته الكثيرة بين وضعه و وضعهم. و مع رد يسوع، بدأ الفصل الختامى فى هذه المعركة اللاهوتية. رد يسوع قائلاً:
“إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً لَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ. أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ” (ع 54 – 56).
مرة أخرى، أوضح يسوع لليهود أن مجده ليس مزيفاً أو وهمياً، بل هو مجد حقيقى لأنه نابع من الآب، الذى يعتقد اليهود أنهم يعبدونه. هذا المجد مجد أزلى، كان للمسيح قبل تأسيس العالم. و لكن هذا المجد ليس شيئاً الآن بحسب الجسد لأنه قد أخلاه آخذاً صورة عبد (فى 2 : 7). و هذا المجد الأزلى أسترده المسيح مرة أخرى بعد قيامته من الموت. و حينما يقول يسوع أنه يعرف الآب و اليهود لا يعرفونه، فالسبب فى هذا أنه منه (يو 7 : 29). و هو يعرفه و يحفظ قوله لأنه منه. و هنا يستعلن المسيح الخطة الإلهية الموضوعة منذ القديم، فإبراهيم نفسه الذين ينظرون له على أنه القامة و يتفاخرون طوال الوقت على أنه هو أبيهم بل و كانوا يتكبرون به على يسوع نفسه، أصبح الآن فى كلمات يسوع يتهلل، أى أنه أبتهج ηγαλλιάσατο، لكى يرى يوم الرب، يوم المسيح نفسه[16]. هذا اليوم رآه إبراهيم، و ليس المسيح هو الذى رأى يوم إبراهيم. هذا هو يوم الفداء العظيم، الذى فرح به إبراهيم، كى يتحقق خلاصاً له و لشعبه و فيه تتبارك كل أمم الأرض. هذا هو نسل إبراهيم الذى قِيلت فيه المواعيد. و لكن أصر اليهود على فِهم يسوع بحسب المعايير البشرية، قائلين:”لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟” (ع 57). فالمسيح لم يكن قد أكمل الخمسين سنة، و هو تعبير للمبالغة على ما يبدو، فكيف يقول لهم أن إبراهيم رآه.
و فى رده العظيم هذا، أنهى يسوع هذا النقاش، إذ قد شرح لهم كل الإلهيات، و لم يفهموا، و أولاً لم يقبلوا لأن إبليس أعماهم. كان هذا الرد يحمل من القوة ما يجعلنا لا نستغرب رد فعل اليهود. قال يسوع:
“الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ αμὴν αμὴν λέγω υμιν, πρὶν Αβραὰμ γενέσθαι εγὼ ειμί” (ع 58).
قدمَّ يسوع رده النهائى بنفس الصيغة التقديسية “الحق الحق”، و التى تتضمن أن ما سيتبعها هو حق مُطلق لا مساس به، ولا يخضع لمناقشات المنطق العقلى و البرهنة البشرية. و قال لهم قبل أن يأتى إبراهيم للوجود “أنا هو”، “أنا كائن” εγὼ ειμί. و هذا هو نفس إسم الله فى العهد القديم، أخذه لنفسه، و أعلنه لهم، ليس بتجنى منه، و لكن عن إستحقاق كامل، إذ أنه واحد مع الآب فى الجوهر و الطبيعة و الذات. و لم يقل المسيح “أنا كنت”، لأن هذا ليس إسم إله اسرائيل، فكما رأينا، الكينونة السرمدية الدائمة هى الصفة الوحيدة التى تفرد بها أله اسرائيل، فلم يشاركه فيها الإنسان أبداً بأى شكل و لا حتى بشكل نسبى. لذلك كان المسيح حريصاً فى إستخدامه للإسم، أن يكون صحيحاً. و لأن هذا هو إسم أله اسرائيل، فبالتأكيد وصف المسيح نفسه بالكينونة الدائمة. فهو لم يختر إبراهيم لأنه خُلِق قبل إبراهيم و لكن ليس قبل آدم، و ليس قبل العالم، ولا حتى أنه خُلِق أصلاً. بل المسيح إختار إبراهيم لأنه هو موضع النقاش و الحوار، و ليس آخر. بكلمات أخرى، لم يكن إختيار إبراهيم إقصاء لأى آخر، بل إختياره كان بسبب وضعه الوحيد فى سياق الحوار بين المسيح و اليهود. و هنا يجب أن ننتبه إلى أن المسيح فى هذا النص كان مازال مستمراً فى المقابلة بين الإله و الإنسان، بين الذى من أسفل و الذى من فوق، بين ظلمة العالم و نور العالم؛ فها هو يقارن بين المخلوق، الزمنى، المحدود، و الخالق، الغير خاضع للزمن، الغير محدود. و هذه المقابلة كانت هامة، حتى ينهى المسيح بإعلانه هذا الحوار الذى وصل إلى نهايته الفكرية مع اليهود. فقد بلغ معهم أقصى ما يمكن من الشرح، و لكن إنغلقوا على التفكير المادى المحسوس، و رفضوا أن يصعد بهم لمستويات أعلى. ففى المرة الأولى حينما أعلن لهم أنه “أنا هو”، إرتبكوا و لم يفهموا هل هو يقصدها فعلاً، أم انه يقصد أمر آخر، و لذلك سألوه: من أنت؟ و لكن الآن كان كلام المسيح صريحاً واضحاً، لا يخضع لأى فِهم خاطىء، و لا يوجد تبرير آخر له. لقد قالها صريحة: أنا هو الكائن قبل أن يأتى إبراهيم للوجود. و لهذا السبب، كان رد فعلهم أن:”رَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ” (ع 59). فقد كانوا واثقين أنه جدف على الله، و أخذ إسم الله، مدعياً انه هو إله اسرائيل نفسه، فرفعوا الحجارة ليرجموه.
لقد إنتهى الحوار، و حكموا على أنفسهم بالرفض. فحقاً قال الروح على فم يوحنا:”إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ” (يو 1 : 11). رغم إعلانه لهم بطريق الخلاص، لكنهم لم يقبلوا لأن الشر يسيطر على فكرهم.
كانت هذه هى المعالجة التى أزعم أنها أدق معالجة فى تفسير النص، حيث تتناول كافة المعطيات و الأدلة و القرائن المطروحة. كل تفسير آخر للنص لا يفسر كافة المعطيات، هو تفسير ساقط علمياً لا قيمة له. و يأتى الوقت الآن، لإختبار هذه المعالجة فى ضوء شقى التفسير الكتابى المستقيم: الآباء و العلماء.
يهوه و يسوع: الآباء
بعد هذه الخلفيات المستفيضة لموضوع “انا هو” و دراسة الإصحاح كاملاً، يتوجب علينا أن ندرس آراء آباء الكنيسة فى النص محل النقاش. أجمع آباء الكنيسة، و علماء العهد الجديد، على أن استخدام يسوع لصيغة “انا هو” المُطلقة، أى أن يسوع يقول عن نفسه “انا هو” هكذا بدون أى اضافات اسمية أو شخصانية، هو استخدام مباشر و صريح لإسم اله اسرائيل. فحينما قال الرب:”الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ” (8 : 58)، و ترجمتى الشخصية للنص لأدق معنى له هو:”قبل أن يأتى ابراهيم للوجود، أنا هو (كائن)”. فأدق معنى للفعل γενεσθαι هو “يأتى للوجود” أو “يأتى للكينونة” come into being. و بهذا فإن يسوع المسيح أخذ مما للآب؛ فنسب ما للآب لنفسه. لم يكن استخدام يسوع لإسم الآب هو استخدام عادى، بل انه اختار أقدس أسماء الآب، ليقول كما قال الآب قديماً أنه لا يوجد إله غيره. استخدم إسم الآب الخاص الذى يسمو به فوق كل آلهة البشر الوثنية. كل آلهة الأمم نجاسة، و كل أله غير يهوه هو صنم وثنى. و يسوع المسيح قال أنه هو اله اسرائيل، الكائن واجب الوجود، و كل إله غيره هو صنم وثنى.
الآن سنستعرض معاً آراء آباء الكنيسة الأولى حول هذا النص، و كيف فهمه الأولون. و هذا مجرد جزء من تفاسير آباء الكنيسة للنص من وجهة نظر لاهوتية[17]:
يقول القديس ايريناؤس:”حينما يُسمى تلاميذه “أصدقاء الله”، فهو يعلن بوضوح أنه هو كلمة الله، الذى تبعه ابراهيم طوعاً دون أن يكون مضطراً لأجل إيمانه النبيل، و لذلك أصبح “صديق الله”. و لكن كلمة الله لم يقبل صداقة ابراهيم لأنه كان محتاجاً لها، لكنه كان كاملاً منذ البداية، فهو يقول “قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن”، و لكنه فى صلاحه سكب حياته الأبدية على ابراهيم نفسه”[18].
و أيضاً يقول:” تُقِر الكتب المقدسة بالنسبة للمسيح أنه كان إبن الإنسان، من نفس طبيعته و لكن ليس مجرد إنسان، فرغم أنه فى الجسد، هو أيضاً فى الروح، كلمة الله و هو الله. و كما وُلِد من مريم فى الأيام الأخيرة، كذلك قد خرج من الله كالمولود الأول من كل خليقة، و كما جاع، فقد أشبع آخرين، و كما عطش، فهو الذى أعطى لليهود أن يشربوا، لأن الصخرة كانت المسيح نفسه، و هكذا يفعل يسوع الآن مع شعبه المؤمن فيعطيهم القوة ليشربوا الماء الروحى الذى ينبع من الحياة الأبدية. فكما كان إبن داود، هو أيضاً رب داود. و كما وُلِد من ابراهيم، فهو كان كائناً من قبل أن يأتى ابراهيم للوجود. و كما كان هو خادم الله، فهو أيضاً ابن الله، و سيد العالم”[19].
و يقول العلامة أوريجانيوس:” نحن نعبد إله واحد، الآب و الإبن، و لهذا كما شرحنا، فإن احتجاجنا ضد عبادة آلهة أخرى مازال مستمراً فى فاعليته. و نحن لا نوقر شخصاً ما ظهر مؤخراً، و كأنه لم يكن موجوداً قبل ذلك، لأننا نؤمن به حينما قال:”قبل أبراهيم، انا كائن”. و أيضاً يقول مرة أخرى:”أنا هو الحق”، و بالتأكيد لا يوجد أحد منا ساذج لدرجة الإعتقاد بأن الحق لم يكن موجوداً قبل أن زمن ظهور المسيح. و لذلك نحن نعبد آب الحق، و الإبن، الذى هو الحق”[20].
و يقول القديس غريغوريوس صانع العجائب، تلميذ اوريجانيوس:” إذا كان هناك من يؤمن أن إبن الله الكائن قبل الأزمنة هو شخص، و ذاك الذى ظهر فى الأيام الأخيرة هو شخص آخر، و يرفض أن يعترف بأن الكائن قبل الأزمنة هو نفسه الذى ظهر فى الأيام الأخيرة، رغم أنه مكتوب، فليكن محروماً. فكيف يُمكن أن يُقال بأن ابن الله السابق على العصور كلها، و ذاك الذى ظهر فى الأيام الأخيرة، مختلفين، حينما يقول الرب نفسه:”قبل أن يكون ابراهيم، انا كائن” و “خرجت من الله و أتيت، و سأرجع مرة أخرى لأبى”؟”[21].
و يقول القديس أغسطينوس:” قبل أجداد أمه كان هو كائناً. جد أمه هو أبراهيم، و الرب يقول:”قبل أبراهيم، أنا كائن”. هل نحن البشر قبل ابراهيم؟ و لكن السماء و الأرض صُنِعت قبل الإنسان. و لكن حتى قبلهم كان الرب موجوداً. فحقاً قد قال أنه كائن قبل ابراهيم، و ليس “كان” قبل ابراهيم. فهو لا يوجد عنده “كان”، ولا عنده “سيكون”، لا يوجد عنده سوى أنه كائن. و كالله، فهو يعرف جيداً الفرق بين “كائن” و بين “كان” و “سيكون”. بالنسبة له هو يوم واحد، و لكنه يوم يطول للآبدين. و هذا اليوم لا يوجد به الأمس و غداً، لأنه حينما ينتهى الأمس، يبدأ اليوم، وينتهى بمجىء الغد. أنه يوم بلا ظلام، بلا ليل، بلا مكان، بلا قياس، بلا ساعات. سمها ما تشاء، إذا أردت فهى يوم، و إذا أردت فهى سنة، و إذا أردت فهى سنين. و لكن متى تسمى هذا اليوم بـ “اليوم”؟ حينما قال الرب:”أنا اليوم ولدتك”. وُلِد من الآب الأبدى، وُلِد من الأبدية، و فى الأبدية وُلِد: بلا بداية، بل ألم، بلا مكان، لأنه هو الكائن، لأنه هو نفسه الذى يكون. هذا هو اسمه الذى أعلنه لموسى:”أنت تقول لهم: هو الذى يكون أرسلنى إليكم”. لماذا يقول إذن “قبل ابراهيم”؟ لماذا لا يقول قبل نوح؟ ولا قبل آدم؟ أسمع ماذا تقول الكتب المقدسة:”قبل نجمة السماء ولدتك”. هذه هى، قبل أن تكون السماء و الأرض. لماذا؟ لأن:”كل الأشياء خُلِصت بواسطته، و بدونه لما خُلِق شيئاً”. و بهذا تستطيع أن تعرف من هم “الآباء”، لأنهم أصبحوا آباء بإعترافهم أن هذا هو ما كان منذ البدء”[22].
و أيضاً يقول:”و بالنسبة للاهوت ربنا يسوع المسيح، و مساواته للآب، فهو ليس فقط كائن قبل اليهود، بل أيضاً كائن قبل ابراهيم نفسه، و ليس فقط قبل أبراهيم، و لكن أيضاً قبل آدم، و ليس قبل آدم فقط، و لكن قبل حتى خلق السماء و الأرض، و قبل كل العصور. لأن كل شىء خُلِق بواسطته، و بدونه لما خُلِق أى شىء”[23].
و يقول القديس يوحنا ذهبى الفم:”هل ترون كيف أثبت انه كان أعظم من إبراهيم؟ إذ حيث أن إبراهيم تهلل بأن يرى يومه و اعتبر رؤيته شيئاً جديراً بأن يُشتهى، فمن الواضح أنه اعتبره سيؤول إلى منفعته، و أنه يوم ينتمى لمن هو أعظم منه. علاوة على ذلك، حيث أنهم كانوا يدعونه “ابن النجار”، و لم يظنوا فيه شيئاً أعظم من هذا، فإنه بالتدريج أحضرهم إلى رأى أكثر سمواً عنه. عندما سمعوه يقول لهم عن الله:”لستم تعرفونه”، لم يستاءوا، و لكن عندما سمعوه يقول:”قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن”، صاروا مغتاظين جداً و رفعوا حجارة ليرجموه كما لو كان أصلهم النبيل قد نال التحقير. إن المسيح هنا أظهر أنه سيذهب إلى آلامه عن طيب خاطر إن كان بالحق يُثنى على من تخلل برؤية الصليب. هذا بالحق كان خلاصاً للعالم، و اليهود على العكس رفعوا حجارة ليرجموه، و كانوا مهيأين لاقتراف القتل و تصرفوا بهذه الطريقة بالإجماع دون وجود أحد يأمبرهم بالتصرف هكذا. و لكن لماذا لم يقل:”قبل أن يكون ابراهيم أنا كنت (موجود)”؟. إنه تصرف هكذا بالطريقة التى بها استخدم أبوه تعبير “أنا كائن” لأنها تعنى أنه دائماً موجود لأنه خالٍ من كل تحديات الزمن، و بذلك بدت هذه العبارة على أنها تجديف”[24].
و يقول المؤرخ ثيؤدوريت:”يجب أن نهتم بإتفاق الإنجيليين، فبينما يكرز واحد منهم بالخصائص الإلهية التى للإبن الوحيد، الرب يسوع المسيح، يكتب الآخر عن قدراته الإنسانية. هذا هو ربنا يسوع المسيح، الذى علمنا بنفسه أنه يدعو نفسه تارةً ابن الله، و تارة إبن الإنسان، و فى مرة يكرم أمه بصفتها أمه التى ولدته، و فى مرة أخرى يعنفها بإعتباره ربها. فى أوقات لا يوبخ أحد ممن يدعونه ابن داود، و فى اوقات أخرى يوبخهم على جهلهم أنه ليس مجرد ابن داود، بل هو نفسه رب داود أيضاً. و هو يقول أن الناصرة هى مدينته، و لكنه يقول مرة أخرى:”قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن” و ستجد الكتب المقدسة الإلهية ممتلئة بنصوص مشابهة”[25].
و يقول القديس أثناسيوس:”إذن فإن الكلمات “خَلَق” و”جَبَل” و”أَقَام” لها نفس المعنى ولا تعنى وجود الابن ولا أن جوهره مخلوق، بل تعنى التجديد الذى صار لأجلنا كعمل خير منه. وبينما كان يقول هذه الكلمات، فإنه كان يعلّم فى نفس الوقت أنه كان كائنًا قبل هذه الأشياء وذلك عندما قال:” قبل أن يكون ابرهيم أنا كائن”. وأيضًا:”هيأ السموات كنت أنا موجودًا هناك معه”. و:”كنت عنده أقوم بتربيتها”. وكما كان هو كائن قبل ابراهيم وجاء اسرائيل بعد ابرهيم، فيتضح أنه رغم أنه كان من قبل فإنه جُبل بعد ذلك. والجَبْل لا يعنى بداية وجوده، بل يشير إلى تأنسه الذى فيه يجمع أسباط إسرائيل. وهكذا أذن حيث إنه كائن دائمًا مع الآب، فإنه هو خالق الخليقة”[26].
و أيضاً يقول:”فبينما حاول اليهود أن يقتلوا الرب لأنه قال إن الله أبوه، وجعل نفسه معادلاً لله، وإنه يعمل الأعمال التي يعملها الآب؛ فإن الآريوسيين أيضًا ليس فقط تعلّموا أن ينكروا أن الكلمة مساوي لله وأن الله هو الآب الطبيعي للكلمة، بل هم أيضًا يحاولون أن يقتلوا مَن يؤمنون بهذا. وبينما يقول اليهود:”أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه”؟ فكيف يقول إذًا:”قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” و:” أني نزلت من السماء”؟، فالآريوسيون بدورهم يجيبون بنفس الأقوال ويقولون:[ كيف يمكن أن الذي ينام ويبكي ويطلب أن يعرف كإنسان، يكون هو الكلمة أو هو الله ]؟ ولهذا فالفريقان فقدا صوابهما وأنكرا أزلية الكلمة وألوهيته متعلّلين بتلك الصفات البشريّة التي نسبها المخلّص لنفسه بسبب الجسد الذي لبسه”[27].
و يقول القديس كيرلس السكندرى:”ومرة أخرى يسير المسيح نحو وسيلته المعتادة والمفضلة، لأنه فى بعض الأوقات يتحدث بغموض شديد، ويحجب قصده بحجب متنوعة لكى لا يكون القصد واضحاً أو مكشوفاً. ولكن حينما يرى أن السامعين لم يفهموا أى شئ بالمرة، فعندئذ يجرد حديثه من كل غموض ويضعه أمامهم مكشوفاً وواضحاً. وهذا ما يحاول أن يفعله فى هذه المناسبة الحاضرة. فحيث إنه وجد أنهم لم يفهموا شيئاً (بالرغم من حديثه الطويل، الذى كان قد قدمه) كما أنهم لم يكونوا قادرين أن يدركوا أنه أزلى لكونه من أب أزلى، وأنه أعظم من إبراهيم بما لا يقاس لكونه إلهاً؛ لذلك فهو الآن يتحدث علناً، ويستعمل عبارة “الحق الحق” على أنها قسم لتثبيت الأمور التى تُقال، ثم (يكمل):”قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن”. ونحن لن نفكر بأى حال أن الابن الوحيد يفتخر بكونه قبل إبراهيم فقط، لأنه (المسيح) هو قبل كل زمان وولادته أزلية، إذ هو فى الآب بلا بداية. ولكن حيث أن مجال المقارنة بإبراهيم مفتوح أمامه الآن فهو يقول إنه أكبر منه تماماً مثلما يقول الرقم 100 مثلاً، أنا أكبر من رقم 10. وبالتأكيد لن يقول هذا على أنه يشغل الرقم الأعلى مباشرة من رقم 10، لكن الرقم 100 يقول هذا لأنه أكثر بكثير جداً من رقم 10. لذلك فهو لا يجرى مقارنة بينه وبين زمن إبراهيم، كما أنه لا يؤكد أنه يسبق زمن إبراهيم بوقت قليل، بل حيث إنه فوق كل زمان ويتجاوز رقم كل عصر، فهو يقول إنه قبل إبراهيم. بهذا فهو ينطق بالحق. وإذ هو يقول الحق تماماً عندما يتحدث عن إبراهيم، قائلاً عن نفسه:”إنى كائن” قبل أن يكون إبراهيم، فإنه يبين أنه بالنسبة لمن هو مخلوق من العدم فبالضرورة يصير إلى الاضمحلال، أما بالنسبة لذلك الذى هو كائن دائماً فهو بعيد تماماً عن الاضمحلال. إذن فهو أعظم وأعلا من إبراهيم، أعظم لأنه أزلى وأعلا لأنه لا ينحل كما ينحل إبراهيم”[28].
و يقول القديس كيرلس الأورشاليمى:”لا تفكر إذن فيه على أنه أتى من بيت لحم فقط، بل اعبده، فهو الذى وُلِد من الآب منذ الأزل. لا تسمح لأحد أن يتكلم على الإبن بأن له بداية زمنية، بل هى بداية غير زمنية كما قال الآب. لأن الآب هو أصل الإبن (القديس كيرلس يتكلم هنا عن مونارشية الآب فقط ليس أكثر)، و هو السرمدى، غير المُبهم ولا يُوجد له أصل. فإن نافورة نهر الصلاح، حتى للإبن الوحيد، هو الآب الذى ولده بالطريقة التى يعرفها هو وحده. و لكن هل تريد أن تعرفأن الرب يسوع المسيح هو الملك الأبدى؟ اسمعه ثانيةً حينما يقول:”أبوكم ابراهيم تهلل ليرى يومى، و قد رآه و فَرِح”. و حينما رأى اليهود كلامه هذا صعباً، قال لهم ما أعتبروه أصعب و أصعب:”قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن”. و مرة أخرى قال لهم:”والآن مجدنى أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم”. و مرة ثانيةً قال بوضوح:”بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم”. و مرة أخرى حينما يقول:”لأنك أحببتنى قبل إنشاء العالم”، فإنه يعلن بوضوح المجد الذى له منذ الأزل”[29].
و يقول القديس امبروسيوس:”هذه الرموز تعلن عن طبيعة الإبن، و عن طريقهم تستطيع أن تعرف أن الآب أبدى، و أن الإبن لا يختلف عنه، لأن أصل ولادة الإبن هو الكائن الذى يكون، و بكونه مولوداً من الأزلى، فهو الله، الخارج من الآب، و هو الإبن الذى من الله، و هو الكلمة، و هو اشعاع مجد الآب، و رسم جوهره، مرآة الله، صورة مجده، و هو نعمة ذاك الذى هو مصدر النعمة، و هو حكمة ذاك الحكيم، و قوة ذاك الأعظم فى القوة، حقيقة ذاك الذى هو الحق نفسه، و حياة ذاك الحى نفسه”[30].
و أيضاً يقول:”و بعدما قال:”الرب قنانى” مباشرةً، قال:”سأخبر بأمور الأبدية”، و قبل أن يقول:”وُلِدت”، قال:”منذ البدء، قبل أن يخلق الأرض، و قبل أن يضع الجبال”. و هذه الكلمة “قبل”، تصل إلى الوراء فى الماضى حيث لا يوجد بداية أو حدود. و بالمثل حينما قال:”قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن”، فهو لا يعنى أبداً أنه وُجِد “بعد آدم”، تماماً كما قِيل عنه:”قبل نجمة الصبح”، فإنها لا تعنى أنه وُجِد بعد خلق الملائكة. و لكن حينما يقول “قبل”، فهو لم يقصد أن يشمل نفسه فى وجود أى خليقة، بل أن كل الأشياء موجودة فى حضوره، لأنها هذه هى عادة الكتب المقدسة فى بيان أزلية الله”[31].
و يقول القديس يوحنا كاسيان:” قد بيّن بوضوح أنه هو الله و الإنسان، فهو إنسان لأنه قال ذلك، و هو الله لأنه أكد على أن الله أرسله. لأنه بالتأكيد كان مع ذاك الذى خرج من عنده. حينما أتى إليه اليهود و سألوه:”ليس لك خمسون سنة بعد و تقول أنك رأيت ابراهيم؟” أجابهم بكلمات تتناسب تماماً مع أزليته و مجده، قائلاً:”الحق الحق أقول لكم، قبل أن يأتى ابراهيم للوجود، انا كائن”. و أنا اسأل الآن: من هو الذى يقول ذلك؟ بالتأكيد و بلا شك، أنه المسيح. فكيف إذن للذى وُلِد حديثاً، يقول أنه موجود قبل ابراهيم؟ أنه ببساطة يُشير إلى كلمة الله المتحد بناسوته، حتى يفهم الجميع اتحاد الله الآب بالمسيح: فمهما قال الله عن طريق المسيح، فهذا بكامله هو اتحاد الإلوهية الذى نسبه لنفسه”[32].
ليس آباء الكنيسة فقط الذين فهموا النص بهذا الشكل المُوحد، بل حتى الهراطقة منهم. فمثلاً، نقرأ شرح نوفاتيان حيث يقول:
“فليقرأوا إذن، اولئك الذين يقرأون أن يسوع المسيح إبن الإنسان هو إنسان، أن يسوع هذا نفسه هو الله و إبن الله. فبنفس الطريقة التى هو بها ابناً لإبراهيم، فهو تماماً كالله كائناً قبل ابراهيم. و بنفس الطريقة التى هو بها إبناً لداود كإنسان، تماماً هو كالله رب داود الذى يُكرز به. و بنفس الطريقة التى هو بها كإنسان تحت الناموس، تماماً أيضاً هو كالله رباً للسبت. و كما أنه يتألم كإنسان، فإنه هو نفسه كالله سيدين الأحياء و الأموات. و مثلما وُلِد كإنسان بعدما خُلِق العالم، فإنه هو نفسه كالله أظهر أنه كائن قبل وجود العالم”[33].
و انجيل متى الأبوكريفى، يجعل من النص أكثر صدمةً، مما يعكس فِهم كاتبه الغنوسى، فنقرأ فيه:” و أنتم تتعجبون لأنى قلت لكم أننى أعرف متى ولدتم كلكم. سأخبركم إذن بأمور أعظم ستتعجبون لها أكثر. لقد رأيت ابراهيم، الذين تدعونه أبيكم، و تكلمت معه، و هو قد رآنى”[34].
إذن، و بإختصار بسيط جداً: آمن آباء الكنيسة على أن هذا النص هو دليل على أزلية المسيح و كينونته الموجودة المستمرة منذ الأزل. ليس آباء الكنيسة فقط، بل من الهراطقة من أتفق معهم. و لا يسجل لنا التاريخ رداً يُذكر من الآريوسيين على استخدام القديس اثناسيوس للنص فى احتجاجه لقضيته حول لاهوت المسيح.
يهوه و يسوع: العلماء
كما فحصنا كتابات الآباء قديماً، سنفحص معاً الآن كتابات علماء العهد الجديد، سواء المحافظين أو الليبراليين منهم. و الغرض من هذا العرض، هو أنه كما جعلت اللاهوت المسيحى يتكلم من أصوله، أى الآباء، أن أجعل العلم النقدى يتكلم أيضاً من أصوله، العلماء. و كما أتخذت كتابات الآباء بشكل تدريجى، الأقدم فالأحدث، فسأتناول أيضاً كتابات العلماء بنفس الشكل.
يقول متى هنرى:”قدم مخلصنا إجابة شافية على هذه المماحكة، بتأكيد واثق على أقدميته حتى بالنسبة لإبراهيم نفسه:”الحق الحق أقول لكم” – أقوله فى وجوهكم، و خذوا كلامى كما شئتم – “قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن”. قبل أن يُخلق أو يُولد ابراهيم، أنا كائن. و تغيير الكلمة لم يأتِ إعتباطاً، و تُوحِى بأن ابراهيم مخلوق، و أنه هو (أى المسيح) الخالق. كان قبل ابراهيم لأنه الله، و “أنا كائن” هو اسم الله؛ فلم يقل أنا كنت، بل “أنا كائن” لأنه هو الأول و الآخر. كان هو المسيح الموعود به قبل ابراهيم بأزمنة طويلة. هذه الكلمة العظيمة أنهت الجدال بطريقة مفاجئة، فلم يعودوا يتحملون سماع أية كلمة أخرى عنه، و لم يكن هو فى حاجة لأن يقول لهم المزيد”[35].
و يقول وليام باركلى: “يسوع يجاوبهم بأروع شهادة صريحة نطق بها عن نفسه:”قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن”. إن السيد رب المجد الأزلى لا يقول هنا “قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت”، بل ينادى “أنا كائن” إشارة إلى أزليته، و أبديته، و عدم تقيده بحساب الزمن. فالزمن لا يحده، لا نعلم أنه وُجِد وقت لم يكن هو فيه، و لن يُوجد زمان ينقطع هو فيه عن الوجود. لا ينبغى أن يُقال عن يسوع: لقد كان، ينبغى أن نقول عنه هو الكائن. تُرى، ماذا يعنى يسوع بقوله هذا؟ إنه لا يعنى بالطبع أن الناسوت قد وُجد منذ الأزل. فنحن نؤمن أن يسوع بالجسد مُقيد ببدء. فهو قد وُلِد فى بيت لحم. و لكن المقصود أعمق من هذا، لا يوجد فى الوجود كله إلا واحد لا يتقيد بالزمن. لا يُوجد إلا واحد هو أسمى من مقاييس الزمن، و أعمق من أن تصل إليه حدود الوقت، إنه وحده الذى يستطيع أن يقول عن نفسه: أنا الكائن الكائن..أهيه الذى أهيه. و هذا الواحد هو الله. لقد كان يسوع يقول لليهود: إن وجودى ليس أقل من وجود الله، و حياتى ليست أقل من حياة الله، و فى كيانى يمتزج الأزل بالأبد، بصورة تسمو على مقاييس الزمن المادى. أو كما عبر عن ذلك كاتب العبرانيين بصورة أكثر بساطة:”أمساً، و اليوم، و إلى الأبد”. فى يسوع نرى ليس فقط ابن الإنسان الذى جاء إلى عالمنا، و جال بين الناس يصنع خيراً، و انتهت حياته بالصليب، لكن فيه نرى الإله غير المحدود بالزمن، إله إبراهيم و اسحق و يعقوب، الذى كان قبل أن يكون الزمن، و الذى يكون بعد أن يُبتلع الزمن فى الأبد، هو الكائن على الدوام. فى يسوع، أعلن الإله السرمدى ذاته للبشر”[36].
و يقول وليام ماكدونالد:”و هنا أيضاً، اعتبر الرب يسوع نفسه بوضوح أنه الله. فهو لم يقل:”قبل أن يكون ابراهيم، أنا كنت”. كان ذلك سيعنى ببساطة أنه جاء للوجود قبل إبراهيم. لكنه استخدم بالحرى اسم الجلالة: أنا كائن. فالرب يسوع كان مقيماً مع الله الآب منذ الأزل. فما من وقت لم يكن فيه الرب يسوع موجوداً. لذا، صرح بالقول:”قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن”[37].
و يقول جون جيل:”هذا النص يُشِير إلى لاهوت، أزلية، و ثبات المسيح، و هو يُشير إلى المقطع الموجود فى الخروج 3 : 14:”الكائن الذى يكون، الكائن أرسلنى إليكم”، يهوه الحقيقى؛ و بهذا كان المسيح قبل أن يأتى ابراهيم للوجود، الكائن للأبد، و الإله الأزلى، الذى كان و الكائن و الذى يأتى: ظهر فى شكل إنسانى لآبائنا الأوائل قبل أن يأتى ابراهيم للوجود، و ظهر لهم على أنه هو الوسيط، المُخلص، و الفادى الحى، الذى فتش عنه كل الآباء قبل ابراهيم، و الذى عن طريقه نالوا خلاصهم. كان هو الخالق الذى خلق من لاشىء، و هو العلة الكافية للخليقة كلها، و كان قائماً منذ الأزل كالوسيط، و هو الذى قام بعهد النعمة، و بركات و وعود هذا العهد كانت بين يديه قبل أن يكون العالم، و الإختيار الأزلى للمُختارين للحياة الأبدية قام به هو قبل تأسيس العالم، و كان له المجد مع الآب قبل أن يُوجد العالم، منذ الأزل و هو إبن الله، من نفس طبيعته، و مساوى له، و كونه من نفس الطبيعة يثبت أزليته، و يثبت إلوهيته، فهو الله منذ الأزل و إلى الأبد، و هو الآن مثلما كان، و سيكون مثلما هو الآن: فهو القائم بثبات، هو هو اليوم، و الأمس، و إلى الأبد: فى طبيعته، فى محبته، فى نعمته، و فى كماله. أنه هو الكائن الثابت على الدوام الغير متغير”[38].
و يقول ويستكوت:”لا يوجد هناك أى شك حول معنى الإجابة النهائية و التى تمثل نقطة الذروة الطبيعية لما قِيل سابقاً. لقد مات ابراهيم، و لكن المسيح هو واهب الحياة، ابراهيم كان أبو اليهود، و لكن المسيح كان هو مركز ما يأمله ابراهيم. ابراهيم جاء للوجود كإنسان عادى، و لكن المسيح هو الله. و هذا الإعلان الختامى تقدمته العبارة التقديسية التى تأتى كتأكيد على جوهرها:”الحق، الحق، أقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم، أو قبل أن يُولد، أو أن يأتى للوجود، أنا كائن”. و تُشير عبارة “أنا كائن” للوجود الغير محدود بزمن. و فى هذا السياق، لو كان قد قال “أنا كنت”، كان سيعنى فقط أنه سابق على ابراهيم. هكذا يوجد فى العبارة مقابلة بين المخلوق و غير المخلوق، الوقتى و الأزلى”[39].
و يقول كوستنبرجر:”عبارة قبل أن يأتى ابراهيم للوجود، أنا كائن، تعكس مقابلة بين مولد ابراهيم و وجود يسوع الأزلى، و تحمل تركيز على تجسده. و لغة يسوع هنا تعكس تسمية الله لنفسه مع موسى فى خروج 3 : 14. هكذا، يسوع لا يدعى فقط الوجود المُسبق، و إلا لكان قد قال”قبل أن يكون إبراهيم، أنا كنت”، و لكنه يدعى الإلوهية. عبارة ἐγώ εἰμι (أنا كائن) تبلغ نقطة الذروة المذهلة بعد الإعلانات السابقة عن هذا التعبير فى هذا الإصحاح”[40].
و يقول بويس:”طريقة تفكيرنا المعاصرة، أو على الأقل للنظرة الأولى، فإنه من الصعب تخيل السبب الذى يجعل هذه الجملة تثير مثل رد الفعل العنيف هذا. لقد كان الرجم هو عقوبة التجديف، أن يجعل شخص ما نفسه إلهاً. فهذا ما فهموه من كلامه إذن. و لكن كيف فهموا أنه يجعل نفسه إلهاً من هذه الكلمات؟ و بأى معنى كان يقصد أن يقولها؟ واضح من النص نفسه أن يسوع كان يدعى أنه كان موجوداً قبل أن يُولد إبراهيم. و واضح أيضاً من زمن الفعل، قبل أن يكون إبراهيم، “أنا كائن”، أنه كان يدعى وجود مُسبق أزلى. و لكننا قد نعتقد أن هذا وحده سبب غير كافى للرجم. إن السبب الحقيقى لرد فعلهم العنيف هو أن يسوع حينما قال “أنا كائن”، كان يستخدم بالفعل الإسم الإلهى الذى أعلنه الله لموسى عن نفسه فى العليقة المحترقة, حينما سأل موسى:”لو ذهبت للإسرائيليين و قلت لهم: إله آبائكم أرسلنى إليكم. ثم سألونى: ما هو إسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: الكائن الذى يكون. هذا ما تقوله للإسرائيليين: الكائن أرسلنى إليكم” (خر 3 : 13 – 14). فى اللغة العبرية، هذه الكلمة هى “يهوه”، و هى نفس الكلمة التى يقولها يسوع عن نفسه ببساطة فى هذه الجملة. لقد إدعى أنه هو يهوه، مستخدماً ذات الكلمة “يهوه”. و لأجل هذا، أراد اليهود الذين فهموا ادعاؤه هذا أن يقتلوه”[41].
و يقول ايرنست هانسين:”قال يسوع: قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن، كإشارة منه إلى وجوده الأزلى. و قد أخذ اليهود قوله كتجديف، و لهذا رفعوا الحجارة ليقوموا برجمه”[42].
و يقول براون، فيتزمير، و مورفى:”لقد كان سوء الفهم هذا من جانب اليهود، هو الذى أدى إلى تأجج هذا الإعلان الكريستولوجى الأخير فى هذا المقطع. فيسوع بالفعل أعظم من إبراهيم، فهو يحمل الإسم الإلهى: أنا هو”[43].
و يقول روبيرت بومان و إد كوموسيزويسكى:”بدون أى شك معقول، فإن يسوع هنا يدعى أنه موجود قبل أن يُولد إبراهيم. الترجمات الإنجليزية الموضوعة لتوفر ترجمات إنجليزية تُقرأ بسهولة و يسر، غالباً تترجم عبارة يسوع فى عدد 58 لتعبر عن هذه النقطة الغير قابلة للجدال بشكل واضح جداً:”الحقيقة هى أننى موجود قبل أن يُولد إبراهيم!”. و عدد قليل من العلماء الكتابيين احتجوا لدقة هذه الترجمة. ك. ل. ماكاى، عالم فى النحو اليونانى، قال أن الترجمة الطبيعية للنص هى:”لقد كنت موجوداً، قبل أن يُولد إبراهيم”. و قد لاحظ ماكاى بشكل صحيح أن:”الزعم بأنه كان موجوداً هكذا، هو فى حد ذاته مذهل”. لكن غالبية علماء الكتاب المقدس يذهبون لما أبعد من ذلك: تعبير يسوع فى يوحنا 8 : 58 لا يعبر فقط عن وجود يسوع قبل إبراهيم، بل أيضاً نوع آخر من الوجود المختلف عن إبراهيم. بمعنى أن هؤلاء العلماء يفهمون أن يسوع يؤكد على أن وجوده السابق على إبراهيم، هو فى الحقيقة الوجود المُسبق الأزلى الذى للألوهية. نص يوحنا 8 : 58 يقابل بين إبراهيم “الذى أتى للوجود” و يسوع الذى ببساطة “كائن”. هذه العبارة تستحضر تأكيد كلاسيكى لوجود الله الأزلى فى العهد القديم:”قبل أن تأتى الجبال للوجود، و قبل أن تتكون الأرض و العالم، و قبل كل العصور، أنت كائن” (مز 90 : 2 سبعينية). الجملة اليونانية هنا تعكس نفس التكوين النحوى فى يوحنا 8 : 58، و تستخدم نفس الأفعال لعمل نفس المقابلة بين المخلوق و الزمنى و بين ذاك الأزلى الغير مخلوق. و رد فعل نُقاد يسوع لعبارته هذه – أنهم حاولوا رجمه – يؤكد أنهم اعتقدوا أنه يزعم نفسه إلهياً. فلو كان يسوع قال أنه يعيش أطول من إبراهيم، لكانوا اعتبروا هذا الزعم على أنه جنون بحت، و ليس مثل هذه الإساءة التى تستحق الرجم”[44].
و يقول كريج كينر:”إذا كان يسوع يرغب فى القول إنه موجود قبل إبراهيم، لكان قد قال:”قبل إبراهيم، أنا كنت”. و لكنه يقول “أنا كائن” و هو لقب الله (خر 3 : 14)، و الذى يقترح أن يسوع يدعَّى مكانة أعظم من مجرد وجوده قبل إبراهيم”[45].
و يقول مولونيى:”يسوع لا يقول أنه رأى إبراهيم، بل أن إبراهيم هو الذى تهلل ليرى يوم يسوع. ثم قَّدم يسوع كلماته بكلمة “آمين” مرتين، فختم المناقشة بكلماته التقديسية، متكلماً لليهود فى بطريقة مُبهمة بالنسبة لهم، و لكن حقيقية لكل من يقرأ و يقبل مقدمة الإنجيل (1 : 1 – 18):”آمين، آمين، أقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن”. و هنا يتكلم يسوع عن وجوده المُسبق كاللوجوس، الموجود فى إتحاد محبة مع الله من قبل البدء. و إبراهيم بكل عظمته، ينتمى لأحداث متتابعة، مختومة بالزمن. لقد إنتهت قصته: جاء ثم مضى. و لكن ليس هذا هو الحال مع يسوع”[46].
و يقول ف. ف. بروس:”كرر يسوع فى رده على شكواهم تأكيده على “أنا هو” ego eimi، و التى استخدمها مرتين فى هذا الإصحاح (الأعداد 24، 28) و قد فعل هذا بطريقة تؤكد على أهمية الزعم الذى قال به. فهو يردد لغة إله اسرائيل، و الذى هو هو منذ الأزل و إلى الأبد:”أنا، الرب، الأول و الآخر، أنا هو” (أش 41 : 4). كيف لرجل ليس له خمسين سنة بعد يتكلم بهذا الشكل؟ فقط إذا كان يتكلم بصفته الكلمة الذى كان عند الله منذ البدء و الآن هو متجسد على الأرض. لقد إنتظر إبراهيم يوم تجسده، و لكنه هو نفسه كان موجوداً قبل تجسده، قبل أن يُولد إبراهيم، و قبل أن تُكون العالمين. كلمة الله الأبدى لا يمكن أن يكون سوى أبدياً. و بهذا الشكل تُفهم ايجو إيمى فى السياق. و لو فكرنا أن الحوار كان بالآرامية أو العبرية، فيسوع يكون قد قال هذه الكلمات بالحرف “آنى هو” و هو يصف نفسه بها”[47].
و يقول كارسون:”لو كان يريد أن يقول أنه وُجِد قبل إبراهيم، لكان من الأبسط عليه أن يقول:”قبل أن يكون إبراهيم، أنا كنت”. و لكن بدلاً من أن يقول ذلك، فقد إستخدم إيجو إيمى مرة أخرى كما فى الأعداد 24 و 28، حيث يقول يسوع:”قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن”. فرغم أى شكوك قد تحوم حول هل إيجو إيمى مُطلقة فى العددين 24 ، 28، فهنا لا يُوجد أى شك حول الإستخدام المُطلق. و أكثر من ذلك، فهناك روابط لغوية قوية مع أشعياء 40 – 55، و يمكن دعمها بروابط مفاهيمية واضحة (قارن أش 41 : 4، 43 : 13، مز 90 : 2). و أخذ اليهود الحجارة ليرجموه، يفترض أنهم فهموا من هذه الكلمات نوع من التجديف، فى إدعاء الإلوهية…و فى انسجام تام مع مقدمة إنجيل يوحنا، يأخذ يسوع لنفسه واحد من أقدس أسماء الله الذى يسمى نفسه به، و يقول بأن هذا التعبير هو الدليل على سيادته فوق إبراهيم”[48].
و يقول موريس ليون:”هنا نصل لنقطة الذروة القصوى فى هذا الإصحاح مع تصريح يسوع المهم:”قبل أن يُولد إبراهيم، أنا كائن!”. لقد بدأ يوحنا إنجيله بكلامه عن الوجود المُسبق للكلمة. و هذه العبارة لا تذهب أبعد من ذلك. فلا يمكنها لأنه لا يوجد ما أبعد من ذلك. و لكنها تظهر معنى الوجود المُسبق بإسلوب صريح. فقبل أن يكون الأب العظيم، و الذى عاش قبل ذلك بقرون، كان وجود يسوع قائماً. و قوله:”الحق الحق أقول لكم”، تُشير إلى الأهمية و التركيز على العبارة. و سواء يجب أن نترجمها “قبل أن يكون إبراهيم” أو “يُولد”، فالمعنى هو “قبل أن يأتى للوجود”، كما يعنى الفعل فى زمن الماضى البسيط. و هذا الإسلوب يقابل بين من له بداية، و من هو أزلى. و قوله :”أنا كائن” له الأهمية الكاملة التى يحملها. فهذا التعبير هو إسلوب إعلان الإلوهية، و تعبير عن كينونته الأزلية. ليس من السهل ترجمة النصوص العبرية ذات الدلالة لليونانية، مثل الخروج 3 : 14، و لكن مترجمى السبعينية فعلوا هذا بشكل النص الذى لدينا هنا. هذا الإسلوب هو شكل تشديدى للخطاب و هو نوع لا يمكن أن يُستخدم بشكل طبيعى فى لغة الحديث العام. و لهذا كان إستخدامه يعنى تبنى اللغة الإلهية. فى الأعداد 24 و 28 هذه اللغة واضحة، و لكن فى هذا النص لا يمكن أن نخطأ فى أن يسوع قد إستخدمها. و حينما يشدد يسوع على وجود فى زمن إبراهيم، فلا يوجد أى طريقة أخرى لفهم كلامه إلا بهذه اللغة. و يجب أيضاً ملاحظة أنه قال “أنا كائن” و ليس “أنا كنت”. إنها كينونة أزلية و ليست مجرد كينونة عادية”[49].
و يقول وايتاكر:”يسوع هنا لا يتكلم عن عمره، و إلا لكان قال:”قبل أن يُولد إبراهيم، أنا كنت”. على العكس من ذلك، فهو الآن يستخدم الإسم الألهى “أنا هو (أنا كائن)” بطريقة لا يوجد فيها أى لبس. الإسم “أنا هو” كان هو إسم الله الذى أعلنه لموسى، رغم أن التعبير اليونانى “إيجو إيمى” غير مُستخدم فى السبعينية فى خروج 3 : 14، بل “هو أون”. العبارة “إيجو إيمى” أُستُخدِمت كالإسم الإلهى فى أشعياء (41 : 4، 43 : 10 – 25، 45 : 18، 46 : 4، 47 : 8 – 10، 51 : 12، 52 : 6). و نص أشعياء 43 : 10 هو مقطع هام بشكل خاص، حيث تحتوى إشارة لخادم الرب المُختار الذى يشهد له:”حتى تعرفون و تؤمنون و تفهمون أنى أنا هو. لم يكن إله قبلى، ولا سيكون إله بعدى”. هذا التصريح القوى الخاص بالإيمان التوحيدى، هو ذاته الذى يعتقد معارضى يسوع أنه يسوع يزعم رفضه. و بإستخدام “أنا كائن”، يسوع يدعى أنه موجوداً ليس قبل إبراهيم فقط، و لكن من الأزل. و هذا ليس تصريحاً خاصاً حول عمله الخلاصى، رغم أنه مُتضمن هنا لأن الله شمله فى تعريفه لنفسه فى العليقة المشتعلة. و لكن، يسوع يقول أن كلماته و أفعاله ليست عن الله، و لكن فى الحقيقة أنها هى نفسها كلمات الله الخاصة و أفعاله. يسوع يتكلم بلغة تفيد الوحدانية، رغم أنه كان يتكلم سابقاً مباشرةً عن التمايز. يسوع هو الله، و لكن ليس ببساطة التطابق التام مع يهوه، لأنه يوجد تمايز بينهما. و يسوع ليس مجرد إنسان أخذ مكانة سامية فى الأمور الإلهية و أصبح عاملاً هاماً لله ليس مثله آخر، و هو أيضاً ليس الله الذى أخذ مظهر الجسد. على العكس من كل ذلك، يسوع هو إله كامل و إنسان كامل، كما أوضحت المجامع الكنسية لاحقاً. هذه الصياغات المجمعية تأسست على الإعلان الإلهى فى مثل هذا النص”[50].
و يقول ماك آرثر:”رد يسوع الذروى “الحق الحق أقول لكم، قبل أن يُولد إبراهيم، أنا كائن”، لم يكن أقل من الإعلان التام للإلوهية الكاملة. فها هو الرب يأخذ لنفسه إسم الله المقدس. فمن الواضح أنه كالله الأزلى، كان موجوداً قبل زمن إبراهيم. هومير كينت يشرح ذلك قائلاً: بإستخدامه الإسم الغير زمنى “انا كائن” بدلاً من “أنا كنت”، فيسوع لم ينسب لنفسه مجرد فكرة الوجود السابق على إبراهيم، و لكن ينسب لنفسه اللازمن، طبيعة الله نفسه (خر 3 : 14)”[51].
و يقول لاد:”الوجود المُسبق ليسوع ينعكس فى مكان آخر فى تعليم يسوع الخاص، حينما قال:”قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن” (يو 8 : 58). هذا الإعلان المذهل هو إشارة للغة العهد القديم. لقد أعلن الله نفسه لموسى على أنه “الكائن الذى يكون” (خر 3 : 14)، “أنظروا الآن فهذا أنا، أنا هو، ولا يوجد إله آخر بجوارى” (تث 32 : 39)”[52]. ثم يشرح قائلاً:”وعى يسوع بإلوهيته عبر عنه فى أقواله عن وحدته مع الآب، و لكن بالأكثر فى تصريحات “أنا هو”. هذه التصريحات تظهر فى شكلين، “انا هو” مع الإسم المرفوع، و “أنا هو” بالشكل المُطلق”. مثل:”أنا هو خبز الحياة” (6 : 35، 48)، “أنا هو نور العالم” (8 : 12)، “أنا هو باب الخراف” (10 : 7)، “أنا هو الراعى الصالح” (10 : 11)، “أنا هو القيامة و الحياة” (11 : 25)، “أنا هو الطريق و الحق و الحياة” (14 : 6)، “أنا هو الكرمة الحقيقية” (15 : 1). بالإضافة إلى هذه الأقوال، فهناك عدة أقوال عديدة يصف يسوع بها نفسه ببساطة بالكلمات:”أنا هو” (إيجو إيمى: قارن 4 : 26، 6 : 20، 8 : 24 – 24 – 58، 13 : 19، 18 : 5 – 6 – 8). و هذه العبارة المطلقة “أنا هو” من المستحيل ترجمتها حرفياً، ففى غالبية سياقات النصوص، العبارة البسيطة “أنا هو” ليس لها معنى فى الإنجليزية. و لكن فى يو 8 : 58، وضعت الترجمة القياسية المُنقحة النص كالتالى:”قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن”. اللغة أقوى بكثير فى اليونانية أكثر من الإنجليزية. “قبل أن يُولد (جينسيثى) إبراهيم أنا كائن (إيجو إيمى)”. و هذا هو المقطع الوحيد فى العهد الجديد الذى لدينا فيه مقابلة بين الفعل “إيمى” و الفعل “جينثيسى”. لهذا ألتقط اليهود الحجارة ليرجموه بسبب عبارته التجديفية الواضحة، و لكنه تركهم و مضى. ففى إنجيل يوحنا، هناك عداء و معارضة من اليهود بسبب المزاعم الضمنية فى لغة يسوع و التى تجعل منه مساوياً لله (5 : 18)، و بالفعل، يدعى أنه هو الله نفسه (10 : 33). و يسوع لم يعارض أبداً هذه الإتهامات. و الخلفية لتصريحات “أنا هو”، و خاصةً فى شكلها المُطلق، لا نجدها فى العالم الهيلينى، إنما فى العهد القديم. فقد أعلن الله نفسه لموسى على أنه هو “الكائن الذى يكون” (خر 3 : 14)، و فى أشعياء عرف الله نفسه على أنه “أنا هو” (أش 41 : 4، 43 : 10، 46 : 4). و قد قال ستوفير أن هذا التعبير هو الأكثر أصالة، الأكثر جرأة، و الإثبات الأكثر عمقاً عن ماهية يسوع. و بهذا الإعلان، رفع يسوع نفسه فوق كل الآمال المسيانية، و إدعى أنه فى حياته يتجلى الظهور التاريخى لله. الله نفسه أصبح إنساناً، و هى إنسانية أكثر من أى للتى لأى آخر فى التاريخ. غالبية العلماء يعتقدون أن ستوفير يدافع عن موقف متشدد، و لكن لا يوجد أى شك أنه بإستخدام إيجو إيمى بشكل مُطلق، فإن يسوع يساوى نفسه بإله العهد القديم بشكل واقعى جداً”[53].
و يقول جونسون:”أنه تصريح رسمى مقدس تقدمه قوله “الحق الحق”. فما نطق به كان أمراً هاماً، لأنه لا يقول فقط أنه وُجِد قبل إبراهيم، و لكن قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن. و هذا التصريح يساوى بينه و بين الكائن فى العهد القديم. لأن الإلوهية لا يوجد فيها زمن ماضى، ولا زمن مستقبل، و لكن دائماً فى الحاضر. الله ليس هو نفسه الأزلية أو اللانهاية، لكنه هو الأزلى و اللانهائى، و يديه مبسوطتين على الماضى مثل المستقبل”[54].
و يقول هوارد مارشال:”هنا و فى عدة أماكن أخرى، تحمل هذه العبارة صدى إسم الله الذى عرف نفسه به: أنا هو الكائن (تث 32 : 39، أش 41 : 4، 43 : 10 – 13)، و تحمل زعماً بمعادلة يسوع لله”[55].
و يقول ماك جراث:”يجب ملاحظة أن يسوع يقول بوضوح فى الإنجيل الرابع أنه يحمل الإسم الإلهى، و أن محاولة رجمه بعدما صرح بأنه هو “أنا هو”، هو ردة فعل تقترح بأن يسوع فى نظر اليهود، لم يقم فقط بقول جملة غير مناسبة أو حتى حمقاء عن نفسه، بل أنه قد جدف أيضاً. فقد كان اليهود وصلوا بالفعل لقناعة أن يسوع مجنون، و لكنهم لم يحاولوا رجمه. و السبب واضح أن الناموس اليهودى لم يكن يحاسب على الجنون، بينما كان يحاسب على التجديف. و فى أنجيل يوحنا، تأتى محاولات رجم يسوع مرتبطة بكل وثيق حينما يدعى وحدته مع الله، أو حينما يدعى سلطته الإلهية، و التى كان ينظر لها اليهود على أنها تجديف. و من الجدير بالإنتباه إلى أن ذروة الإعتراضات فى يو 10 : 33، له معنى أفضل بعد مناقشة ما إذا كان يسوع “معادلاً لله” (5 : 18)، و لكن أيضاً بعدما إدعى يسوع أنه “أنا هو”. و هناك أيضاً عدد من العوامل التقليدية الموجودة فى القصة، و التى ترتبط فى أماكن أخرى فى العهد الجديد بمنح الإسم الإلهى للمسيح المُمجد، كما سنرى بالأسفل. و كل هذا يعنى أن الإستخدام المُطلق لـ “أنا هو” فى هذا النص، هو إشارة للإسم الإلهى”[56].
و يقول برنارد:”بفحص المقاطع فى الترجمة السبعينية حينما تأتى ἐγώ εἰμι بشكل مطلق، يتبين أنه بشكل عام هى ترجمة لـ אֲנִי־הוּא و التى تعنى حرفياً “انا هو”، و هذه العبارة العبرية تظهر فى النص فقط حينما يكون الله هو المتكلم”[57].
و أيضاً:”فى يو 8 : 24، 58 ، و أيضاً فى 13 : 19، أُستخدِمت ἐγώ εἰμι بشكل مُطلق، و يجب علينا أن نستنتج من ذلك أن فى هذه النصوص و على أى مستوى، تأتى ἐγώ εἰμι كترجمة الإعلان الإلهى אֲנִי־הוּא و الذى عزاه الأنبياء ليهوه”[58].
و أخيراً يتفق معه العالم البريطانى الأكاديمى المتخصص لارى هرتادو قائلاً عن “انا هو” ما يلى:”فى الحقيقة، تظهر التعبيرات العبرية و التعبيرات اليونانية التى تترجمها فى العهد القديم على أنها إسم الله نفسه”[59].
هكذا، رأينا إجماع العلماء على أن يسوع أعلن صراحةً لليهود، أنه هو الكائن منذ الأزل و إلى الأبد[60]. لم يكن هذا الإجماع ناجم عن مجرد نزعات شخصية، فالعديد من هؤلاء العلماء ملحدين و غير مؤمنين بوجود الله. و لم يكن هذا الإجماع بهدف تأليه يسوع بدون وجه حق، أو نسب ما ليس له لشخصه. لقد كان يسوع صريحاً و واضحاً مع اليهود، و هم فهموا كلامه تماماً و لذلك أرادوا رجمه.
و الحقيقة هى أن حتى شهود يهوه لا ينكرون دلالة هذا النص على إلوهية المسيح، لولا قناعتهم بإحتجاج لغوى هش للغاية. يقول والاس:”يقرأ النص πρὶν Αβραὰμ γενέσθαι εγὼ ειμί “قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن”. كتب دينس لايت مقال دفاعاً عن ترجمة العالم الجديد فى مجلة “المُجمَّع الكتابى”. فى مقاله هذا يناقش εγὼ ειμί، و التى تترجمها ترجمة العالم الجديد:”أنا كنت موجود”. و يدافع لايت عن هذه الترجمة بقوله:”الفعل اليونانى (إيمى) الذى هو فى زمن المضارع البسيط حرفياً، يجب أن يُنظر له على أنه “مضارع تاريخى”، نظراً لأنه سبقه عبارة فى المصدر، فى الزمن الماضى التام، تُشير إلى الماضى مع إبراهيم. و هذا الإحتجاج به عدة سقطات: أولاً حقيقة أن زمن المضارع التام يتبع مصدر فى الماضى التام لا يوجد له أى علاقة بكيفية ترجمة الفعل. فى الحقيقة، المضارع التاريخى عادةً يكون موجود فى الماضى التام أو غير التام الدلالى و ليس فى المصدر. ثانياً، لو أن الفعل هنا فى المضارع التاريخى، فإنه سيكون الفعل المضارع التاريخى الوحيد فى العهد الجديد بالكامل، الذى يستخدم الفعل ειμί. ثالثاً، لو أن هذا الفعل مضارع تاريخى، فستكون هذه هى المرة الوحيدة التى يُستخدم فيها الفعل فى المضارع التاريخى بأى ضمير غير الضمير الثالث (هو – هى). مترجمى ترجمة العالم الجديد يعرفون جيداً ما تتضمنه عبارة εγὼ ειμί هنا، لأنهم يكتبون فى ملاحظة هامشية لهذا النص فى الترجمة، السبب الذى جعلهم يعتبرون الفعل مضارع تاريخى:”هذا الفعل ليس مثل Ὁ ὢν (هو أون، و يعنى “الكائن” أو “أنا هو”) فى الخروج 3 : 14 بحسب الترجمة السبعينية”. و بهذا الشكل، فهم يضعون إعتراف سلبى أن εγὼ ειμί لو لم تكن فى المضارع التاريخى، إذن فيسوع هنا يدعى بأنه هو الذى كلم موسى فى الشجرة المشتعلة، الكائن، الواحد الموجود منذ الأزل، يهوه نفسه”[61].
بكلمات أخرى، شهود يهوه يزعمون أن الفعل ειμί هو بالفعل فى المضارع البسيط حرفياً، و لكنه يجب أن يُفهم على أنه فى زمن المضارع التاريخى، أى المضارع التام. بمعنى أن يسوع يقول أنه “كان موجود” have been قبل إبراهيم. و كافة علماء اللغة اليونانية يتفقون مع والاس فى نقده الثلاثى لهذا الإحتجاج الضعيف جداً.
اعتراضات
فيما يلى سأناقش بعض الإعتراضات التى تُوجه للنص:
أولاً، الوجود المجازى: يقول الكثيرين فى الشرق أن يسوع كان يقصد أنه موجود فى عقل الله أو بإختيار الله له بشكل مجازى. هذا الزعم لا يستقيم لعدة أسباب، فيسوع لا يتكلم عن وجود إختيارى فى عقل الله، بل وجود حقيقى، و الدليل على ذلك هو أنه يقابل بين نوعية وجود إبراهيم و نوعية وجوده. وجود إبراهيم كان حقيقى، و يسوع يقابل بين وجوده و وجود إبراهيم، إذن يسوع يتكلم عن وجود حقيقى و ليس وجود مجازى. النقطة الثانية أنه كان سيستخدم الفعل الماضى و ليس الفعل المضارع، لأنه لم يكن ليكون أزلياً لو كان فكرة فى عقل الله. و الأزلية لا مفر منها من إستخدام الفعل المضارع “كائن”. دليل آخر على أن يسوع كان يتكلم عن وجود حقيقى، هو أنه لم يصحح فِهم خاطىء مُفترض لدى اليهود حينما هموا برجمه. فلو كان يسوع يقصد وجوده فى عقل الله قبل ولادته، لكان قد صحح لليهود الإنطباع الذى سيكون خاطئاً وقتها. كون يسوع لم يفعل ذلك، ينفى تماماً فكرة أن يسوع قصد حديث رمزى. بالإضافة إلى هذه الأسباب، فهناك ملاحظتين غاية فى الخطورة: أن يسوع إدعى بقوله أمرين و هما الكينونة الأزلية كصفة، و الكينونة الأزلية كإسم إله اسرائيل، و الثانية أنه لا يوجد عالم واحد قال بمثل هذا الهراء!
ثانياً، سبب الرجم: لأن سبب الرجم واضح جداً، ولا يوجد سوى إعلان يسوع عن إلوهيته، فقد حاول أحد الباحثين المسلمين أن يجد سبب آخر و تحدانى شخصياً أن أجيب عليه. يقول الإدعاء بأن اليهود آرادوا رجم يسوع لأنه كان به شيطاناً، أو هكذا إعتقدوا، و أن شريعة العهد القديم تقول:”وَاذَا كَانَ فِي رَجُلٍ اوِ امْرَاةٍ جَانٌّ اوْ تَابِعَةٌ فَانَّهُ يُقْتَلُ. بِالْحِجَارَةِ يَرْجُمُونَهُ. دَمُهُ عَلَيْهِ” (لا 20 : 27). إذن، من شريعة العهد القديم من يُوجد به شيطان يُقتل بالرجم، هكذا هو الإدعاء. و هذا التحدى ليس سوى تسرع أو تهور أو عدم فِهم للنص. ففى الحقيقة، النص المذكور لا يتكلم بالمرة عن الإنسان الذى به شيطان أو أرواح شريرة، بل يتكلم عن العرَّافين و مستحضرى الأرواح. لذلك لا نجد أى ترجمة إنجليزية أبداً ترجمت أى من الإسمين لشيطان. بل إن عشرات الترجمات الإنجليزية وضعت النص بشكل واضح على أنه إستحضار الأرواح، السحر، الإتصال بأرواح الأموات…إلخ. و هناك ترجمات عربية أخرى وضعت النص بشكل أوضح و مباشر، مثل ترجمة الآباء اليسوعيين (الكاثوليكية)، الترجمة العربية المشتركة، ترجمة الأخبار السارة، و ترجمة الحياة. ثانياً، هل كانت هذه هى المرة الوحيدة التى إتهم فيها اليهود يسوع أن به شيطان؟ لا، بل كثيراً ما إتهموه بذلك، فأنظر مثلاً (مر 3 : 22)، (يو 7 : 20)، (يو 10 : 20)، و لكن هذه هى المرة الوحيدة التى حاولوا رجمه فيها. بالإضافة إلى ذلك، فلم يحاول أحد رجم يوحنا المعمدان، رغم أنهم قالوا أن به شيطاناً أيضاً (مت 11 : 18). إذن، فهذا إحتجاج باطل و ساقط علمياً، و مازال لا يوجد سبب واحد يدعو للرجم إلا إعلان يسوع عن نفسه كيهوه، إله اسرائيل. هذا السبب لا يُوجد عليه أى خلاف بين علماء العهد الجديد، و كافة الكتب المدرسية الصادرة عن كبرى جامعات العالم تُقره، بينما السبب المذكور أعلاه، ما هو إلا خلط متهور للبحث عن أى سبب، فقط لسد ثغرة ما فى نقد النص.
ثالثاً، بطرس و آخرين: يقول الإدعاء أن بطرس الرسول و المولود أعمى و الملاك جبرائيل و غيرهم فى العهد الجديد، قالوا نفس التعبير εγὼ ειμί، و بالتالى لا يوجد أى دلالة حينما ينطق المسيح به. هذا الإدعاء خاطىء بكل المقاييس العلمية و اللغوية، فيسوع المسيح و الله الآب، هما الوحيدان فى العهد الجديد، اللذين إستخدما التعبير بالصيغة المُطلقة. بطرس و المولود أعمى و الملاك جبرائيل و فادى أليكساندر حينما يستخدمون التعبير لا يستخدمونه أبداً بالصيغة المُطلقة، و إنما يستخدمونه ليقولوا أنا هو الذى تطلبونه، أنا هو فادى. و لكن يسوع المسيح هو الوحيد الذى إستخدم النص بصيغته المُطلقة فى العهد الجديد. و فى العهد القديم، كان الله فقط هو الذى إستخدم التعبير بصيغته المُطلقة. و فى الأدب اليونانى الكلاسيكى، نادراً ما يُستخدم التعبير مع الإسم المرفوع، و لم يُستخدم فى صيغته المُطلقة أبداً. و بالتالى المساواة بين ما قاله المسيح و ما قاله غيره من البشر، هو أمر ساقط لغوياً و علمياً. بكلمات أخرى، فإن:”أنا هو، هو إسم الإلوهية”[62]، بمعنى أن تعبير “أنا هو” المُطلق، هو إسم إله اسرائيل. و أقول لكل من يقول بهذا الإدعاء، لو أن هناك واحداً إستخدم التعبير بشكله المُطلق، فإحتجاجى الكامل فى هذا المقال يكون باطلاً.
الخاتمة: المسيح و يوحنا
لا يُنكر لاهوت المسيح الصريح و الواضح فى إنجيل يوحنا، سوى العقلية المُبرمجة فقط. تلك العقلية تنطلق من إحتجاج رئيسى مبدأى، و هو: يسوع المسيح ليس هو الله. بناء على هذه القاعدة، يتم تفسير أى نص فى العهد الجديد، و ليس فى الكتاب المقدس فقط، لإثبات أن يسوع المسيح ليس هو الله فعلاً. المشكلة التى يجب على كل شخص أن ينتبه لها هى: ماذا لو كان هو الله حقاً؟ إلى أين يشير الدليل بمجمله: إلى أن يسوع هو الله أم أنه ليس هو الله؟ يجب على كل باحث ينظر بإعتبار لأبديته، أن يسأل نفسه هذا السؤال. عليه أن يكون أميناً مع نفسه و تجاه الله و الحقيقة، و أخيراً المجتمع. لقد كتب يوحنا إنجيله لهدف واحد فقط، يقوله هو:”وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ” (يو 20 : 31). بكلمات أخرى، لقد كتب يوحنا إنجيله ليعلن قوة لاهوت الرب يسوع المسيح. فيوحنا هو الذى أعلن لنا أن يسوع المسيح هو الوحيد الجنس، لا يُوجد مثله من البشر، ولا يوجد من هو من جنسه من البشر. هو المولود الأول لله، بكر كل الخليقة، أى الأول فى الكرامة و المجد، و هو بكر الراقدين، أى الأول بين القائمين من الموت، و هو نفسه إبن الوحيد الوحيد.
أعلن الروح القدس ليوحنا الكثير مما يتصل بلاهوت الرب يسوع. هذا الإعلان لا يقف فقط عند الحدود الأولية التى وقفت عندها الأناجيل الإزائية، بل يخوض بشكل واسع فى أعماق اللاهوت، مكملاً لنا القطعة الأخيرة من الصورة الكاملة ليسوع المسيح كما عاش على الأرض فى القرن الأول. إنجيل يوحنا هو عرض أمين لتعاليم يسوع عن نفسه، و لكرازة يسوع المناهضة لعبودية الإنسان للناموس، و هو مقابلة جميلة مع حرية النعمة. فى إنجيل يوحنا نقرأ أكثر عن سلطة يسوع السيادية فى معجزاته، و هى المعجزات التى تظهر بشكل ما على أنها تمثل سمو يسوع و قدرته على الخليقة.
و نحن نعرف أنه كانت هناك علاقة قوية بين يسوع و يوحنا، فقد أحب الأول الأخير، و ربطتهما علاقة صداقة قوية. فكما كان يوحنا مميز بين التلاميذ جميعاً فى علاقته بيسوع، كذلك نرى إنجيل يوحنا له بريق خاص فى إعلانه عن شخصية يسوع. هذا الإعلان يعكس القرب و الصلة بين الإثنين، سواء فى وجود يسوع على الأرض، أو بعد صعوده و إتصاله بيوحنا عن طريق الروح القدس. و هكذا، ظهرت رسالة يوحنا عن يسوع بنفس المقدار من الحب و التكريس على جانب، و بنفس المقدار من قوة الكرازة و الإعلان المباشر على جانب آخر.
و لأن انجيل يوحنا هو الأقوى بين الأربعة أناجيل فى إعلان لاهوت المسيح، إذا كان هذا هو الهدف الرئيسى من وراء كتابة الإنجيل، فلم يُوجد عالم واحد ينكر الشهادة القوية التى يقدمها يوحنا عن لاهوت المسيح. بكلمات أخرى، لا يوجد عالم واحد يقول أن انجيل يوحنا لا يعلن لاهوت الرب يسوع. و لأجل هذا السبب، أحتل انجيل يوحنا مركز اهتمام علماء النقد الكتابى، خاصةً الليبراليين منهم، الجزء الأعظم فى الإهتمام. منذ القرن التاسع عشر، و حتى اليوم، تستطيع أن تجد تقسيم علمى بين “الأناجيل الإزائية” مجتمعة معاً، و بين “انجيل يوحنا” منفرداً، فى الدراسات العلمية للعهد الجديد. و قد كانت دراسات العلماء تتمركز حول نقطة رئيسية فاصلة فى دراسات التقليد اليوحناوى، و هى المجتمع الذى خرج منه هذا الإنجيل. على الجانب الآخر، كان محل إهتمام الليبراليين، هو نفى أصالة الإنجيل فى الجذور التاريخية للمسيحية. و يجب أن نتذكر دائماً أن هذا النقد كان لسبب واحد، أن يسوع أعلن صراحةً لاهوته فى هذا الإنجيل.
دعونا ننظر لشهادة بارت إيرمان حول تصريحات “أنا هو” فى الإنجيل الرابع، و بالتحديد النص محل النقاش، حيث يقول:”غالباً يلاحظ القراء أن يسوع يتكلم عن نفسه فى إنجيل يوحنا، أكثر من الأناجيل الإزائية. فيسوع يستخدم عبارة “أنا هو” ليشير إلى نفسه مرتين فقط فى إنجيلى مرقس و لوقا، و خمس مرات فقط فى إنجيل متى. و بالمقارنة مع إنجيل يوحنا، نجد أن يسوع يستخدم الفعل ليشير إلى نفسه ستة و أربعين مرة! و من بين إشارات يسوع لنفسه فى هذا الإنجيل، فهناك سبعة من تصريحات “أنا هو” و التى يتكلم فيها بشكل رمزى:”أنا هو خبز الحياة”، “أنا هو نور العالم”، “أنا هو الباب”، “أنا هو الراعى الصالح”، “أنا هو القيامة و الحياة”، “أنا هو الطريق و الحق و الحياة”، و “أنا هو الكرمة الحقيقية”. و كل هذه الصور الرمزية تبين أن يسوع هام بشكل أحادى، كالطريق الوحيد إلى الله و الحياة الأبدية. و فى أماكن أخرى متعددة فى الإنجيل الرابع، يقول يسوع عن نفسه ببساطة:”أنا هو”. و أكثر هذه الأماكن دقة هو يوحنا 8 : 58. فمعارضى يسوع إعترضوا على إشارته لأب اليهود، إبراهيم، حيث كان هدفه هو بيان أنه أعظم من إبراهيم، فيرد يسوع:”الحق الحق أقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن”. لا يبدو أن يسوع يقول فقط أنه يعيش لفترة طويلة جداً، حيث أن إبراهيم قد عاش قبل ذلك بـ 1800 سنة، و لكن بقوله “أنا كائن”، فهو يأخذ إسم الله بالفعل. ففى الكتاب المقدس عند اليهود، حينما أرسل الله موسى للإسرائيليين، طلب من الله أن يعرف إسمه. أجابه الله:”الكائن الذى يكون…هكذا تقول للإسرائيليين، الكائن أرسلنى إليكم”. فإذا كان إسم الله الذى أُعلِن لموسى هو “الكائن”، و يسوع فى إنجيل يوحنا يسمى نفسه “الكائن”، فهل هو يدعى إذن أنه هو الله؟ هذا هو ما فهمه السامعين بالفعل، فقد قاموا بإلتقاط الحجارة ليرجموه بسبب تجديفه”[63].
إذن، فلا يوجد أى مبرر علمى، أو سبب نقدى واحد، يجعلنا نرفض هذه الشهادة القوية الساحقة بإجماع كامل من علماء العهد الجديد. فلا يمكن الشك أبداً فى أن يسوع بقوله “أنا كائن” فى النص محل الدراسة، قد قال بشكل مباشر لليهود، أنه هو إلههم الذين يعبدوه. و بإجماع الآباء قديماً، و إجماع العلماء حديثاً، نملك برهان قوى، و أرضية صلبة، نبنى عليها عقيدتنا فى لاهوت الرب يسوع المسيح. و لقد أثبت يسوع إدعاؤه بأنه هو إله اسرائيل، بقيامته من الموت. فيسوع لم يدعى فقط أنه هو إله اسرائيل، الكائن واجب الوجود، بل قد أثبت ذلك فعلاً، و أنه يُصرح بحقيقة و ليس زعم فارغ[64].
أحب أن اختتم هذه الدراسة بما قاله العالم بويس:
“من هو يسوع؟ هذا هو السؤال الرئيسى فى إنجيل يوحنا. فى الحقيقة، فإن هذا الإنجيل قد كُتِب ليسجل الإجابة لهذا السؤال. يبدأ هذا الإنجيل بتصريح كامل عن إلوهية المسيح:”فى البدء كان الكلمة، و الكلمة كان عند الله، و كان الكلمة الله” (1 : 1). و ينتهى بقوله:”يسوع قام بمعجزات أخرى كثيرة فى حضور تلاميذه، و التى لم تُسجل فى هذا الكتاب. و لكن هذه كُتِبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح، إبن الله، و بهذا الإيمان يكون لكم حياة بإسمه” (20 : 30 – 31). و بين هذين العددين، هناك أدلة كثيرة دعمت إدعاء يسوع بإلوهيته. ما هو الموضوع الرئيسى فى هذا الجزء من انجيل يوحنا؟ هل هو الطبيعة المميزة لتعاليمه؟ هل يوم السبت هو الموضوع؟ هل أعمال يسوع الجميلة؟ ولا واحدة من هذه الأشياء، بل الموضوع الرئيسى هو: من هو يسوع المسيح؟ هل يسوع هو الله؟ إذا لم يكن يسوع هو الله، فليكن، و لكن ليس قبل دراسة البرهان. و إذا كان هو الله، فله علينا حق الولاء و الإخلاص. يجب علينا أن نتبعه. لا يمكنك أن تكون عادى بالنسبة ليسوع المسيح بأمانة. يسوع لم يترك لك الخيار. إذن، فعليك أن تختار، إما أن تتبعه كإلهك و ربك، أو أن تستأصل وجوده من حياتك، تماماً كما فعل القادة الدينيين فى عصره. ما هو إختيارك؟ هذا هو سؤال يوحنا العظيم. بل هو السؤال العظيم الذى فجرته المسيحية. إنه سؤال خاص لك. هل ستقبل المسيح، الله الظاهر فى الجسد؟ أم أنك ستكون إله نفسك؟”[65].
آمين، يا ربنا و مخلصنا يسوع المسيح، الإله الحقيقى، إله اسرائيل، إله إبراهيم و إسحق و يعقوب، إله بطرس و يوحنا و بولس، الإله الوحيد الحق بين آلهة الأمم الوثنية، الكائن واجب الوجود، أعنا و أرحمنا و ساعدنا على خلاص نفوسنا.
فادى أليكساندر
5 – 10 – 2009
[1] Barclay M. Newman & Eugene A. Nida, A Translator’s Handbook on The Gospel of John, UBS: New York 1980, P. 295
[2] فى الحقيقة، موقف شهود يهوه أكثر إعتدالاً من المسلمين، كما سنلاحظ فى هذه الدراسة تباعاً.
[3] Newman & Nida, Handbook, P. 124
[4] فى الحقيقة، و كما سنرى تباعاً، لم يستخدمه أى من كان غير الآب و الإبن فقط، سواء فى الكتاب المقدس او خارجه!
[5] Larry W. Hurtado, Lord Jesus Christ: Devotion to Jesus in Earliest Christianity, Eerdmans: Michigan-Cambridge 2003, P. 371
[6] أفرد الأب متى المسكين بحثاً طويلاً فى معالجة تصريحات “انا هو”، و عالج فيه الخلفية اليهودية بأكثر شمولية، فى كتابه، المدخل لشرح انجيل يوحنا: دراسة و تحليل، الطبعة الثالثة 2002، ص 218 – 246.
[7] فيرلين د. فيربروج، القاموس الموسوعى للعهد الجديد، ص 192
[8] Bruce M. Metzger, The New Testament: Its Background, Growth & Content, 3rd Edition, Abingdon Press: USA 2003, P. 179-180.
[9] James D. G. Dunn, Christology in The Making: An Inquiry Into The Origins of The Doctrine of The Incarnation, 2nd Edition, SCM Press: UK 1992, P. 29
[10] George E. Ladd, Theology of The New Testament, 2nd Revised Edition, Eerdmans: USA 1993, P. 252
[11] إعتمدت فى تفسيرى للنص على أكثر من تفسير، و لكن بالأكثر على تفسير الأب متى المسكين، المجلد الأول، ص 518 و ما يليها، و التفسير الأرثوذكسى الصادر عن أكاديمية القديس أثناسيوس فى اميركا:
The Orthodox Study Bible, P.1437-1441
[12] يوسيفوس، آثار اليهود 19 : 6 : 2
[13] و هو العالم بلامر، و أيضاً العالم ليون موريس.
[14] أى قراءة سريعة لسفر القضاة تثبت هذا الأمر.
[15] أرجو مراجعة تفسير الأب متى المسكين، الجزء الاول، ص 551 – 552، لشرح تركيب النص اليونانى.
[16] لن أتطرق للمشكلات التفسيرية لمعنى و كيفية و متى تحقق تهلل إبراهيم، إذ ان هذا الموضوع بالتعقيد البالغ الذى سيأخذ حيز كبير، و هو فى النهاية لا علاقة له بطريقة إقترابى من “أنا هو” فى هذه الدراسة. يمكن مراجعة تفسير الأب متى المسكين لدراسة هذه الموضوعات، أو أى تفسير نقدى بالإنجليزية، مثل رايموند براون، موريس ليون، س. ك. باريت، دونالد كارسون…إلخ. بالإضافة إلى ذلك، فهناك خلاف مخطوطى بسيط حول من رأى من، و لكنه محسوم لصالح القراءة التقليدية.
[17] لقد قمت بعمل مسح شامل للسبعة و ثلاثين مجلداً فى موسوعة العالم و المؤرخ فيليب شاف، و وجدت أن هناك ما يقرب من الثلاثين من آباء الكنيسة القديسين قد فسروا هذا النص. لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً، لذا فقد اختصرت العرض فى الآباء الأكثر شهرةً. تمت الترجمة عن طبعة عام 1995.
[18] ضد الهرطقات 3 : 13 : 4. موسوعة آباء ما قبل نيقية، المجلد الأول، ص 478.
[19] مقتطفات من الأعمال المفقودة، الفصل 52. المجلد الأول، ص 576.
[20] ضد كلسس 8 : 12. المجلد الرابع، ص 634. و أنظر أيضاً تعليق اوريجانيوس المُختصر فى شرحه لانجيل يوحنا 6 : 2. المجلد التاسع، ص 350.
[21] الحرومات الإثنى عشر، الحرم الخامس و تفسيره. المجلد السادس، ص 51.
[22] شرح رسالة يوحنا الأولى 2 : 5. موسوعة آباء نيقية و ما بعد نيقية، السلسلة الأولى، المجلد السابع، ص 471. و قد كرر القديس أغسطينوس نفس الشرح فى العظة رقم 71 ، الفصل الثانى، من عظاته على فصول منتخبة من العهد الجديد. السابق، المجلد السادس، ص 469.
[23] تفسير المزامير 76 : 1. السابق، المجلد الثامن، ص 355.
[24] شرح انجيل يوحنا، الجزء الثانى، ترجمة راهب من شيهيت، مكتبة المحبة 2008، ص94 – 95. و هو التأمل رقم 55 فى سلسلة آباء نيقية و ما بعد نيقية، السلسلة الأولى، المجلد الرابع عشر، ص 199.
[25] الحوار الثانى. السلسلة الثانية، المجلد الثالث، ص 194.
[26] ضد الآريوسيين (المقالة الثانية) 20 : 53، بحسب ترجمة المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، الطبعة الثالثة، ص 102. و أنظر أيضاً موسوعة آباء نيقية و ما بعد نيقية، السلسلة الثانية، المجلد الرابع، ص 314.
[27] ضد الآريوسيين (المقالة الثالثة) 26 : 27، بحسب ترجمة المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، الطبعة الثانية، ص 57 – 58. و أنظر أيضاً موسوعة آباء نيقية و ما بعد يقية، المجلد الرابع، ص 408.
[28] القديس كيرلس السكندرى، شرح انجيل يوحنا، الجزء الرابع (الإصحاح الثامن).، ترجمة د. موريس تاوضروس و د. نصحى عبد الشهيد، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية 2000، ص 157 – 158.
[29] المحاضرات العقيدية 11 : 20. السلسلة الثانية، المجلد السابع، ص 69 – 70.
[30] شرح الإيمان المسيحى 2 : 3. السلسلة الثانية، المجلد العاشر، ص 223.
[31] شرح الإيمان المسيحى 3 : 61. السابق، ص 251.
[32] فى التجسد (ضد نسطور) 5 : 8. المجلد الحادى عشر، ص 586.
[33] عن الثالوث، الفصل 11. موسوعة آباء ما قبل نيقية، المجلد الخامس، ص 620 –
[34] الفصل 30. السابق، المجلد الثامن، ص 379.
[35] متى هنرى، التفسير الكامل للكتاب المقدس: العهد الجديد، الجزء الأول، مطبوعات ايجلز 2002، ص 654.
[36] وليام باركلى، شرح انجيل يوحنا، الجزء الثانى، ترجمة د. عزت زكى، دار الثقافة 1983، ص 79 – 80.
[37] وليام ماكدونالد، تفسير الكتاب المقدس للمؤمن: العهد الجديد، الجزء الأول، دار الأخوة 2005، ص 456.
[38] John Gill, Exposition of The Entire Bible, online @http://www.e-sword.com/.
[39] B. F. Westcott, The Gospel According to St. John, John Murray: London 1882, P. 140
[40] Andreas J. Kostenberger, Baker Exegetical Commentary on The New Testament: John, Baker Academic: USA 2005, P. 273
[41] James M. Boice, The Gospel of John, Vol. 2, BakerBooks: USA 1999, P. 674
[42] Ernst Haenchen, A Commentary of The Gospel of John, Vol. 2, Hermeneia: Critical & Historical Commentary on The Bible, Translated By Robert W. Funk, Fortress Press: USA 1984, P. 30
[43]Raymond E. Brown, Joseph A. Fitzmyer & Roland E. Murphy, The New Jerome Biblical Commentary, Prentice-Hall: USA 1990, P. 967
[44] Robert M. Bowman & J. Ed Komoszeweski, Putting Jesus In His Place: The Case for The Deity of Christ, Kregel: USA 2007, P. 96-97.
[45] كريج س. كينر، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس: العهد الجديد، الجزء الأول، دار الثقافة 2003، ص 253.
[46] Francis J. Moloney, The Gospel of John, The Litrugical Press: USA 1998, P. 284
[47] F. F. Bruce, The Gospel of John, Eerdmans: USA 1994, P. 205-206
[48] D. A. Carson, The Gospel According to John, Eerdmans USA & Apollos UK: 1991, P. 358
[49] Leon Morris, The Gospel According To John, NICNT, Eerdmans: USA 1995, P. 419-420
[50] Rodney A. Whitacre, The IVP New Testament Commentary: John, IVP Press: USA 1999, P. 232
[51] John MacArthur, The MacArthur New Testament Commentary: John1-11, Moody Publishers: USA 2006, P. 388
[52] George E. Ladd, Theology of The New Testament, P. 277
[53] Ibid, P. 286-287
[54] B. W. Johnson, The New Testament Commentary, Vol. 8 (John), Christian Board of Publication: USA 2009, P. 146
[55] I. Howard Marshall, New Testament Theology: Many Witnesses, One Gospel, IVP Press: USA 2004, P. 502
[56] James F. McGrath, John’s Apologetic Christology: Legitimation & Development in Johannine Christology, Cambridge University Press 2004, P. 104-105
[57] J. H. Bernard, A Critical & Exegetical Commentary on The Gospel According To St. John, Vol. 1, T& T Clark: Edinburgh & New York, P. cxix
[58] Ibid, P. cxxi
[59] Hurtado, Lord Jesus Christ, P. 371
[60]أحب أن ألفت نظر القارىء، إلى أن إختيار العلماء المذكورين تم بعناية، بحيث شملوا جميع التيارات العلمية المتواجدة، فمنهم الأرثوذكسى و الكاثوليكى و الإنجيلى، منهم المحافظ و الليبرالى و الأصولى، منهم المسيحى و الملحد و كافة التيارات اللادينية. بقية العلماء الذين قمت بفحص كتاباتهم هم: دود، براون، سماليى، هارنر، بنكارو، فينيما، سشناكينبرج، مورجان وين، ليفينجستون، مولر، هار، سكوت ماكنايت، تالبيرت، بورج، تويلفترى، فوسام، د. م. سميث، بين ويزرنجتون، ديفيد بول، نيريى، أودبيرج، بيركنز، و سيتزر. و المجموع هو 50 عالماً، و هذا مجرد جزء من العلماء الذين أطلعت على كتاباتهم فقط!
[61] Daniel B. Wallace, Greek Grammar Beyond The Basics: An Exegetical Syntax of The New Testament, Zondervan: USA 1996, P. 530-531.
[62] John F. Walvoord & Roy B. Zuck, The Bible Knowledge Commentary, Vol. 2, Dallas Theological Seminary, P. 306
[63] Bart D. Ehrman, The New Testament: A Historical Introduction To The Early Christian Writings, 4th Edition, Oxford University Press: 2008, P. 170
[64] بجانب قيامة الرب من الموت كالبرهان الإلهى على صحة ما أدعاه، فقد أطلق سى. أس. لويس، اللاهوتى المعروف، أحتجاجاً فلسفياً فى منتصف القرن العشرين، مقتضاه كالتالى: إما أن يسوع كاذب، أو أنه مجنون، أو أنه فعلاً الله. و أكد لويس على أنه لا يُوجد خيار آخر، إذا ما سلمنا بأن يسوع إدعى الإلوهية فعلاً بحسب العهد الجديد. و من بعد لويس، سارت هذه الآلية الفلسفية منتشرة فى كافة كتب اللاهوت المسيحى فى الغرب. و يُلاحظ أن كافة العلماء المنكرين للاهوت المسيح، لا يبدأون بالكتاب المقدس، بل يسيرون بحسب منهجية يسوع التاريخى. هذا الموضوع سيتم معالجته فى الكتاب القادم حول المنهج التاريخى النقدى بنعمة الرب يسوع.
[65] Boice, John, P. 674