العظة الثالثة عشرة آبار إسحق – عظات أوريجانوس على سفر التكوين
العظة الثالثة عشرة آبار إسحق – عظات أوريجانوس على سفر التكوين
العظة الثالثة عشرة آبار إسحق – عظات أوريجانوس على سفر التكوين
الآبار التي حفرها اسحق وطمرها الفلسطينيون
إسحق والفلسطينيون
1 ونستمر في ذكر أعمال البطاركة المعتادة فيما يتعلق بالآبار[1]. ها هو إسحق، وفقا للكتاب، بعد أن “باركه الرب وصار عظيماً جداً[2]“، قد شرع في عمل هام: “فأخذ يحفر آباراً، هذه الآبار التي حفرها عبيده في أيام إبراهيم أبيه، ولكن سدها الفلسطينيون وملأوها تراباً.[3]” لقد سكن أو “عند بئر الرؤيا[4]“، وإذ استنار ببئر الرؤيا، حاول أن يحفر آباراً أخرى، لا آباراً جديدة أولاً، ولكن الآبار التي حفرها أباه إبراهيم.
وبعد أن حفر البئر الأولى يقول الكتاب “حسده الفلسطينيون[5]“، إلا أنه لم يدع نفسه يخاف من غيرتهم ولم يستسلم أمام حسدهم: “لقد حفر من جديد الآبار التي حفرها عبيد إبراهيم أبيه، والتي سدها الفلسطينيون بعد موت إبراهيم أبيه، ودعاها بنفس الأسماء التي دعاها بها أبوه.[6]” وهكذا فقد حفر الآبار التي كان قد حفرها أبوه والتي ملأها الفلسطينيون بالتراب بسوء نية.
وحفر أيضاً آباراً جديدة في وادي جرار، لا هو بل عبيده، ويقول الكتاب المقدس: “فوجد هناك بئر ماء حي، ولكن خاصم رعاة جرار رعاة إسحق قائلين إن الماء كان لهم. فدعا اسم البئر ظلم لأنهم تصرفوا بظلم معه.[7]” ولكن رحل إسحق أمام شرهم “وحفر من جديد بئراً أخرى وتخاصموا عليها أيضاً، فدعا اسمها عداوة. ثم رحل وحفر أيضاً بئراً أخرى لم يتخاصموا عليها، فدعا اسمها رحبة، لأنه قال: الآن قد أرحب لنا الله وأثمرنا في الأرض”[8].
الأسرار الكامنة في هذا النص
يقول الرسول القديس بحق معتبراً عظمة الأسرار: “ومن يستطيع إذن أن يدركها؟[9]” وبنفس الطريقة. أو بالحري بطريقة مختلفة طالما أننا أدنى منه. إذ نلاحظ نحن أيضاً هذا المقدار من العمق في أسرار الآبار، نقول: “ومن يستطيع إذن أن يدركها؟ نعم، من ذا الذي يقدر أن يشرح كما ينبغي أسرار هذه الآبار التي بهذا القدر من العمق، والأعمال المتعلقة بها؟ لنتضرع إذن إلى آب الكلمة الحي لكي يتفضل بوضع كلامه في فمنا[10] حتى نستطيع أن نقدم لعطشكم القليل من الماء الحي[11] المستقي من هذه الآبار الفنية والكثيرة.
إسحق الجديد
2 هناك إذن الآبار التي قد حفرها عبيد إبراهيم ولكن الفلسطينيون قد ملأوها تراباً، وقد شرع إسحق برفع ردم هذه الآبار أولاً. إن الفلسطينيين يكرهون المياه ويحبون التراب، أما إسحق فيحب المياه وهو يبحث دائماً عن آبار ويزيل ردم الآبار القديمة كما أنه يحفر آباراً جديدة.
انظر إلى “إسحقنا” الذي تقدم نفسه ذبيحة لأجلنا[12]“. لقد جاء إلى وادي جرار الذي يعني اسمه “حائط السياج” أو “حاجز، وقد جاء لينقض الحائط الفاصل أي العداوة، “في جسده[13]“، جاء ليرفع حائط السياج أي الخطية التي تفصل بيننا وبين الله، حائط السياج الذي يرتفع بيننا وبين الفضائل السمائية، جاء “ليجعل من الاثنين واحداً[14]، والخروف الذي ضل أرجعه على منكبيه إلى الجبل وأعاده إلى “التسعة والتسعين الآخرين الذين لم يضلوا.[15]” فيريد إسحق هذا إذن، أي مخلصنا، بعدما أصبح في وادي جرار، وقبل كل شيء، أن يزيل ردم الآبار التي كان قد حفرها عبيد أبيه، يريد أن يجدد آبار الناموس والأنبياء التي سدها الفلسطينيون.
الفلسطينيون الجدد
لكن من هم هؤلاء الذين يملأون الآبار تراباً؟ إنهم بلا شك هؤلاء الذين يعطون الناموس معنى أرضياً جسدانياً، وينكرون أن له مدلولاً روحياً ومستيكياً، بحيث لا يرتوون منه ولا يدعون الآخرين يرتوون. اسمع إسحق، أي ربنا يسوع متحدثا في الأناجيل: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون لأنكم خطفتم مفتاح المعرفة، فما دخلتم أنتم والذين يريدون أن يدخلوا منعتموهم[16].” هؤلاء هم إذن الذين ملأوا “الآبار التي حفرها خدام إبراهيم تراباً، هم يعلمون الناموس بشكل جسدي ويلوثون مياه الروح القدس[17]، فهؤلاء يملكون أباراً لا ليخرجوا منها ماء ولكن ليلقوا فيها تراباً. هذه هي الآبار التي يحاول إسحق أن يحفرها. لنر كيف شرع في ذلك.
طريقة إسحق الجديدة
ومثل خدام إسحق، استمعوا إلى رسل ربنا الذين يقول الكتاب إنهم كانوا يجتازون بين الزروع يوم السبت ويقطفون السنابل ويأكلونها وهم يفركونها في أيديهم[18].” ويوجد هنا انعكاس لهؤلاء الذين قد سدوا آبار أبيه[19]، [حيث قالوا]: “هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبت[20].” ولكنه، حتى يفرغ عقلهم المملوء تراباً، يقول لهم: “أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه، كيف دخل عند أبياثار رئيس الكهنة وأكل هو وخدامه خبز التقدمة، الذي لم يحل أكله إلا للكهنة فقط[21]؟”، ويضيف: “فلو فهمتم هذا القول: إني أريد رحمة لا ذبيحة، لما حكمتم على الأبرياء[22]“.
أما هم، فبماذا أجابوه؟ لقد أخذوا يتشاجرون مع خدامه وقالوا: “هذا الإنسان ليس من الله؛ إذ إنه لا يحفظ السبت.[23]” هذه إذا هي الطريقة التي حفر بها إسحق الآبار التي كان قد حفرها خدام أبيه[24].
الآبار التي حفرها إبراهيم ترمز إلى العهد القديم
وموسى الذي حفر بئر الشريعة هو خادم أبيه، وداود وسليمان والأنبياء وكل الذين كتبوا أسفار العهد القديم، التي ردمها التفسير الأرضي والبدائي لليهود، هم أيضاً خدام أبيه. وإذ أراد “إسحقنا” الجديد أن ينقي هذا التفسير[25] ويثبت أن جميع ما قاله “الناموس والأنبياء[26]” كان عنه، خاصمه الفلسطينيون. ولكنه رحل، فهو لا يمكنه أن يبقى مع الذين لا يريدون مياها في آبارهم، بل تراباً، ويقول لهم: “هوذا بيتكم يترك لكم خراباً.[27]“
بئر إسحق يرمز إلى العهد الجديد
حفر إسحق إذا أو بالحري خدامه آباراً جديدة. خدام إسحق، متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبطرس ويعقوب ويهوذا وبولس الرسول: الكل سقاة من العهد الجديد[28]. ولكن بالنسبة لهذه الآبار أيضاً يتشاجر “الذين لا يقدرون إلا الأرضيات[29]“، والذين لا يحتملون لا أن نكتشف بئراً جديدة ولا أن ننقي البئر القديمة. هؤلاء هم من يقاومون الآبار الإنجيلية وهم أعداء الآبار الرسولية، ولأنهم يعترضون على كل شيء ويتنازعون بصدد كل شيء لذلك قيل لهم: “بما أنكم حكمتم أنكم غير مستحقين لنعمة الله، هوذا من الآن نتوجه إلى الأمم.[30]“
فهم سر الثالوث
3 وبعد ذلك حفر إسحق بئرا ثالثة دعاها “رحبة”، قائلاً: “إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض.[31]” حقا لقد وضع إسحق في الرحب في وقتنا هذا وتعاظم اسمه على الأرض كلها حين أوصل من أجلنا معرفة الثالوث إلى كمال أثرها[32].
لأنه قديماً “لم يكن الله معروفاً إلا في يهوذا ولم يكن اسمه يدعى إلا في إسرائيل[33]“، في حين الآن فقد ذاع عبر كل الأرض صوتهم وإلى أقصى المسكونة أقوالهم[34]؛ وإذ انتشروا في العالم أجمع، حفر خدام إسحق فيه آباراً وأظهروا للجميع “الماء الحي[35]“، “معمدين جميع الأمم باسم الأب والابن والروح القدس[36]“، لأن “للرب الأرض وكل ملئها[37].”
المعنى الروحي للنص الكتابي
وبالتالي فإن أي واحد منكم يقدم كلمة الله، يحفر بذلك بئراً ويبحث عن الماء الحي” الذي يستطيع أن يعزي به مستمعيه. وإن شرعت أنا أيضاً في شرح أقوال القدامى، وإن بحثت عن معنى روحي لها، إن حاولت أن أرفع البرقع عن الناموس وأن أثبت أن المكتوب له معنى رمزياً[38]، فأنا من جهتي بذلك أحفر آباراً. ولكن سوف يثير الحال محبي “الحرف” افتراءات ضدي وينصبون فخاخاً، وسوف يدبرون فوراً إجراءات عدائية وملاحقات[39]، منكرين أن الحقيقة من الممكن أن تبقى في مكان آخر غير الأرض[40].
أما نحن، فإن كنا خداماً لإسحق، فلنحب آبار الماء الحي والمنابع، لنبتعد عن هؤلاء المزعجين والكذابين، ولنتركهم في الأرض التي يحبونها، ولنصر، شارحين تارة من القديم وطوراً من الجديد، مشابهين لكاتب الإنجيل هذا، الذي قال الرب عنه إنه يخرج من كنزه جدا وعتقاء.[41]“
عجز العلوم الوثنية
وإن كان بين من يسمعني أخطب الآن أحد المنكبين على الآداب الدنيوية، فربما يفكر هكذا أو يقول: “أنت تقتبس منا ما تقوله وهذا علم مهنتنا، وهذه البلاغة التي تتكلم وتعلم بها تخصنا”، ويخاصمني مثل الفلسطيني الذي يقول: “لقد حفرت بئرك في أرضي” متخيلاً أنه يطالب بحق ما هو خاص به.
وأجيب على ذلك بأن كل الأراضي تحتوي على مياه، ولكن من كان فلسطينياً “ولا يقدر إلا الأرضيات[42]“، لا يعرف أن يكتشف ماء في أي أرض، ولا يعرف أن يكتشف الحكمة وصورة الله في كل نفس، ولا يدرك أنه من الممكن أن يكون عند الجميع إيمان وتقوى ووازع ديني. فماذا يجديك التعلم إن لم تعرف كيف تستخدمه، وبماذا تفيدك الكلمة إن لم تستطع الكلام؟
هنا تحديداً يكمن عمل خدام إسحق: فهم يحفرون “آبار ماء حي” في كل أرض، أي أنهم يبشرون بـ “كلمة الله” لكل نفس ويجتنون ثمراً.
بولس خادم إسحق الجديد
هل تريد أن ترى في النهاية أية آبار كبيرة حفرها خادم واحد من خدام إسحق في أرض غريبة؟ انظر إلى بولس الرسول الذي “من أورشليم وما حولها إلى إليريكون، قد أوصل إنجيل الله إلى كل موضع.[43]” ولكنه تعرض لاضطهادات الفلسطينيين عند كل بئر من هذه الآبار، اسمعه حين يقول: “أية مضايقات في إيقونية ولسترة[44]“، أية مضايقات في أفسس[45]! كم مرة ضرب وكم مرة رُجم[46]؟ كم مرة صارع الوحوش؟ إلا أنه ثابر إلى أن وصل إلى السعة[47]” أي إلى أن أقام كنائس على امتداد الأرض كلها.
الظمأ الروحي قبل مجيء إسحق الحقيقي
هكذا إذا فإن الآبار التي حفرها إبراهيم، أي كتابات العهد القديم، قد امتلأت ترابا بواسطة الفلسطينيين، الذين نعتبرهم معلمين الأردياء أو كتبة وفريسيين أو أيضاً القوى المعادية، وشدت قنواتهم لكي لا تتمكن من إعطاء أبناء إبراهيم للشرب منها. نعم، هذا الشعب لا يستطيع أن يشرب من هذه الكتابات، يؤلمه “العطش لكلمة الله[48]“، حتى مجيء إسحق الذي يفتح الآبار التي سيشرب منها خدامه.
فلنشكر المسيح ابن إبراهيم المكتوب عنه: “كتاب سلسلة نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم[49]“، الذي جاء وفتح لنا الآبار لأن هذه هي الآبار التي فتحها للذين كانوا يقولون: “أ لم يكن قلبنا ملتهبا فينا حين كان يكشف لنا الكتب[50]؟ وهكذا فتح هذه الآبار، ويقول الكتاب إنه “دعاها بأسماء كالأسماء التي دعاها بها إبراهيم أبوه[51]“، فهو في الواقع لم يغير أسماء الآبار.
يسوع المسيح يعطي معنى جديدا للشريعة
قد نتعجب من أن موسي لا يزال يسمى عندنا موسى وكذلك كل نبي من الأنبياء، وفي الواقع، لم يغير المسيح أسماءهم ولكنه غير طريقة فهمها. لقد غيرها المسيح بحيث أصبحنا لا نهتم بعد “بالخرافات اليهودية[52]” وبالأنساب التي لا حد لها[53]“، لأن هذه الأمور “تُصرف المسامع عن الحق، وتحولها إلى الخرافات.[54]“
لقد فتح الآبار إذاً وعلمنا ألا نبحث عن الله في مكان محدد، ولكن أن نعرف أنه “على كل الأرض تقرب لاسمه ذبيحة[55]“، فالآن هو الوقت الذي فيه “الساجدون الحقيقيون يعبدون الآب”، وليس في أورشليم، ولا على جبل جرزيم، بل بالروح والحق[56]. ” فالله لا يسكن إذن في مكان محدد على الأرض، ولكنه يسكن في القلب. هل تبحث عن مسكن الله؟ قلب نقي، هذا هو مسكنه. لأنه يقول إنه سيقيم في هذا المسكن حين يقول: “إني سأسكن وأسير بينهم، وهم يكونون شعبي وأنا أكون إلههم، يقول الرب.[57]“
الروح، بئر الماء الحي
ويتفق أن كل نفس منا تحتوي على بئر ماء حي، وأنه مخبأ بداخلها شيء من الحس السماوي وصورة الله. هذه هي البئر التي سدها الفلسطينيون، أي القوى المعادية، بالتراب. وبأي تراب؟ بالمشاعر الجسدية والأفكار الأرضية ولذلك قد لبسنا صورة الترابي[58]“
وإذن فحين كنا نلبس صورة الترابي، قام الفلسطينيون بسد آبارنا، ولكن الآن وقد جاء إسحق الجديد (إسحقنا)، فلنستقبل مجيئه ونحفر آبارنا، لنرفع التراب منها، ولننقها من كل القاذورات ومن كل فكر موحل وأرضي، وسنجد فيها الماء الحي، هذا الماء الذي يقول عنه الرب: “من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي[59]. لاحظ كم أن الرب كريم: لقد طمر الفلسطينيون الآبار وتشاجروا معنا على مجار مائية شحيحة وهزيلة، فرد لنا الرب مكانها منابع وأنهاراً.
صورة الله داخل الروح
4 أنتم إذا، يا من تنصتون إليّ اليوم، إذا قبلتم بإيمان ما تسمعون، فيعمل إسحق بداخلكم أنتم أيضاً ويطهر قلوبكم من المشاعر الأرضية. وإذ ترون أن مثل هذه الأسرار العميقة مخبأة في الكتاب المقدس، فإنكم تتقدمون في الفهم، وترتقون في المشاعر الروحية وتصيرون بدوركم معلمين وتنبع منكم أنهار ماء حي.[60]“
بيد أن كلمة الله هو هناك وفعله الحالي هو أن يزيح التراب من كل نفس من نفوسكم، وأن يفتح ينبوعك[61]“، فهو في الواقع بداخلك ولا يأتي من الخارج كما أن “ملكوت الله بداخلك[62].” والمرأة التي أضاعت درهمها، فإنها لم تجده خارجاً ولكن في بيتها: لقد “أوقدت سراجها وكنست بيتها[63]” من القاذورات والأوساخ التي تراكمت فيه زماناً طويلاً بواسطة الكسل والغباء، وهناك وجدت درهمها.
أما أنت، فإذا أضأت سراجك، إذا التجأت لإنارة الروح القدس، ورأيت “النور في نوره[64]“، فستجد الدرهم بداخلك، لأنه قد وضعت فيك صورة الملك السماوي. ففي البداية عندما خلق الله الإنسان “عمله على صورته وشبهه[65]“، ولم يضع هذه الصورة بالخارج ولكنه بداخله. وهي لا يمكن أن تظهر فيك طالما كان بيتك ممتلئاً بالقاذورات والأوساخ.
نبع المعرفة هذا كان بداخلك لكن لم يكن من الممكن أن يتدفق لأن الفلسطينيين كانوا قد ملأوه بالتراب وعملوا فيك “صورة الترابي[66]“، وهكذا لبست قديما صورة الترابي، لكن الآن بعد ما سمعته للتو؛ وإذ تخلصت بواسطة كلمة الله من كتلة التراب الكبيرة هذه التي كانت تضايقك، فلتجعل “صورة الله تنبلج فيك.
صورة الله والخطية
هذه إذاً هي الصورة التي قال الأب للابن عنها: “لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا[67]“. إن رسام تلك الصورة هو ابن الله[68]، وهو رسام بهذه الجودة وهذه القدرة بحيث لصورته أن تظلم بفعل الإهمال ولكنها لا تتلف بفعل المكر. تبقى صورة الله دائما فيك[69] حتى وإن وضعت عليها “صورة الترابي”
أنت رسام تلك الصورة [لصورة الترابي]. فهل أكمدتك الشهوة؟ فها أنت قد وضعت لوناً أرضياً. هل يلهبك الطمع؟ فها قد مزجت لونا آخر. هل صيرك الغضب قاسياً؟ ها إنك تضيف لوناً ثالثاً. والكبرياء أيضاً يضيف لونا آخر، وكذلك العقوق. وهكذا فإنك ترسم أنت بنفسك من خلال كل نوع من أنواع المكر، ومن خلال تجميع الألوان المختلفة، “صورة الترابية التي لم يضعها الله فيك.
ولذا يجب علينا أن نتضرع إلى من يقول بالنبي ها أنا أمحو كغيم ذنوبك وكدخان خطاياك[70]“، وحين يكون قد محى فيك كل هذه الألوان المأخوذة من الخبث، فحينئذ تسطع فيك “الصورة التي خلقها الله. أنت ترى إذا كيف أن الكتاب المقدس يعمد إلى أساليب في التعبير وإلى رموز ليعلم النفس أن تعرف ذاتها وأن تتطهر.
كتابة الخطية وكتابة الروح القدس
هل تريد أن ترى أيضاً شكلاً آخر لهذه الصورة؟ إذن، فهناك الصك الذي يكتبه الله والصك التي نكتبه نحن. أما نحن فنكتب صك الخطية. اسمع الرسول: “إذ محا الصك المكتوب ضدنا مع أحكامه، والذي كان ضداً لنا، قد أزاله مسمراً إياه بالصليب[71].” هذا الصك الذي يتحدث عنه كان “وثيقة بخطايانا، لأن كل واحد منا يعتبر مدينا بخطاياه ويكتب صك (الإقرار) بخطيئته[72]. وفي محكمة الله التي يصف دانيال النبي جلستها، يقول إن هناك “أسفاراً مفتوحة”[73] تحتوي دون أدنى شك على خطايا البشر.
فنحن قد كتبناها إذاً بخطايانا. وفي الإنجيل، ويمثل ذلك في المثل الإنجيلي الذي لوكيل الظلم[74] الذي يقول لكل مدين: “خذ صكك واجلس واكتب: ثمانين[75]“، وما يليه. أنت ترى إذا أنه قد قيل لكل مدين “خذ صكك”، ويبرز من هنا أن صكنا هو صك خطايا. أما الله فيكتب صك العدل لأن الرسول يقول ذلك: “إنكم رسالة مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي، لا في ألواح حجرية بل في ألواح لحمية، في قلوبكم[76].”
فلديك إذا بداخلك صك الله، صك الروح القدس، ولكن إذا أخطأت، فإنك توقع إقراراً بالخطية. لاحظ أنك حين أتيت إلى صليب السيد المسيح وإلى نعمة المعمودية، فإن إقرارك بالدين قد سُمر على الصليب[77] ومحي في ماء المعمودية، فلا تُعد كتابة ما تم محوه ولا تعد ما تم إبطاله: لا تحتفظ بداخلك سوى برسالة الله، وكتابة الروح القدس وحدها هي التي ينبغي أن تبقى بداخلك.
لنحفر آبارنا مع إسحق الجديد
لكن لنرجع إلى إسحق ونحفر معه آبار ماء حي. يمكن للفلسطينيين أن يثيروا اعتراضات ونزاعات، فعلينا ألا نتوقف عن المثابرة مع إسحق في حفر الآبار حتى يقال لنا نحن أيضاً: “اشرب مياها من آنيتك ومن آبارك[78]” ولنحفر حتى تفيض مياه البئر على ساحاتنا[79]“، لكي لا يكفي علم الكتاب لنا نحن فقط ولكن لكي نعلم الآخرين ونثقفهم، لكي ما يشرب البشر والبهائم أيضاً.
اسمعوا أيها الحكماء واسمعوا أيها البسطاء: “معلم الكنيسة مدين للحكماء كما للجهلاء[80]“، فيجب عليه أن يسقي البشر وأن يسقي البهائم[81] لأن النبي قال: “يا رب أنت تخلص الناس والبهائم[82].” من أجل هذا، فليتفضل الرب نفسه، يسوع المسيح مخلصنا وينيرنا ويطهر قلوبنا له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين[83].”
[1] لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها أوريجينيس عن رمزية الآبار، فهذا الموضوع من الموضوعات المحببة لديه، والذي تناوله كثيرا بالتفسير الرمزي. ونجد الملاحظات الأولى لهذا الموضوع في التعليق على إنجيل يوحنا (آبار السامرية)، وأيضاً في بعض التلميحات السريعة في التعليق على سفر نشيد الأنشاد، ولكنه تناول هذا الموضوع بتعمق أكثر في عظاته على سفر التكوين (۷: 5؛ ۲:۱۰؛ ۳ :۱۱؛ ۱۲: 5؛ ۱۳)
كما نجد الحديث عن هذا الموضوع أيضاً في العظة ۱۲ من عظات أوريجينيس على سفر الخروج، التي تتناول جميع نصوص الكتاب المقدس التي ورد فيها ذكر الآبار لكي يوضح الاستمرارية الموجودة بين مياه العهد القديم ومياه العهد الجديد. ونلاحظ أن الأفكار المعبر عنها من خلال هذا الموضوع هي ذاتها دائما، فالآبار عنده ترمز إلى الكتاب المقدس وإلى النفس التي تثابر على تعاليم الكتاب وأن الكمال الروحي يعتمد على المواظبة على حفرها.
[2] انظر: تك 26: 12، 13.
[3] انظر: تك 26: 18.
[4] انظر: تك 24: 62.
[5] انظر: تك 26: 14.
[6] انظر: تك 26: 18.
[7] انظر: تك 26: 19-20.
[8] انظر: تك 26: 21-22.
[9] انظر: 2كو 2: 16.
[10] انظر: أف 6: 19.
[11] انظر: تك 26: 19؛ يو 4: 10.
[12] انظر: أف 5: ۲.
[13] انظر: أف ۲: 14.
[14] انظر: أف ۲: 14.
[15] انظر: مت 18: 12؛ لو 6:15.
[16] انظر: لو ۱۱: 52 ومت ۲۳: ۱۳.
[17] نفس التعبير ورد في العظة 10: 2.
[18] انظر: لو 6: ۱.
[19] إذا كان إسحق هو رمز للمسيح فإن أبيه هو رمز للأب.
[20] انظر: مت 12: 2.
[21] انظر: مت 12: 3-4.
[22] انظر: مت 12: 7؛ هو 6: 6.
[23] انظر: يو 9: 16.
[24] نستطيع أن نلاحظ في هذا الجزء الطريقة التي يستشهد بها أوريجينيس بنصوص الكتاب المقدس. فقد قصت الأناجيل الثلاثة حادثة السنابل المفروكة، وقد حرص أوريجينيس على ذكر كل من الثلاثة، مقتبسا من كل واحدة تأملا مختلفا. ونراه يضيف نصا من إنجيل القديس يوحنا والذي يمكن أن يرجع معناه للواقعة. ومن الجدير بالذكر هنا أن الاستشهادات وإن كانت دقيقة إلا أنها ليست هي النص حرفيا كلمة بكلمة، لأن أوريجينيس يستشهد بلا شك اعتمادا على الذاكرة، دون أن يعتبر نفسه مطالبا بالحرفية.
[25] لا تكتمل حقيقة العهد القديم بالنسبة لأوريجينيس في التفسير الحرفي والتاريخي له، وإنما في إظهار اكتماله وإتمام نبواته ورموزه في المسيح. لذلك يعتبر الشرح (الرمزي أو المجازي أو الروحي) الذي قدمه أوريجينيس تفسيرا للأشياء القديمة بالأشياء الجديدة؛ للأشياء المرئية السابقة بالأشياء غير المرئية الحاضرة؛ ولعالم اليهود الجسدي بعالم المسيحيين الروحي. وهو يتمثل إجمالا في إيجاد تطابق بين العهدين.
[26] انظر: مت 7: 12؛ يو 5: 46.
[27] انظر: مت ۲۳: ۳۸.
[28] هناك قائمة شبيهة في عظات أوريجينيس على يشوع ۷: ۱.
[29] انظر: في ۳: ۱۹.
[30] انظر: أع ۱۳: 46؛ 18: 6.
[31] انظر: تك 26: 23.
[32] نرى نفس هذا الفكر في القداس المنسوب إلى القديس غريغوريوس الذي يخاطب المسيح إسحق الجديد الذي أعطانا معرفة الثالوث القدوس: “أيها الكائن السيد الرب، الإله الحق من الإله الحق. الذي أظهر لنا نور الأب. الذي أنعم علينا بمعرفة الروح القدس الحقيقية “
[33] انظر: مز 75: 2 (حسب السبعينية).
[34] انظر: مز 18: 5 (حسب السبعينية).
[35] انظر: تك 26: 19.
[36] انظر: مت 28: 19.
[37] انظر: مز 23: 1 (حسب السبعينية).
[38] انظر: غل 4: 24.
[39] يشكو أوريجينيس من أعدائه ومضايقاتهم المستمرة له (انظر أيضاً العظة 6: 3)، حيث قد عرضه تفضيله للتفسير الروحي لهجوم مزدوج من فريقين. الفريق الأول: المتمسكون بالحرف واليهود والإيبيونيون والمسيحيون المقاومين للتفسير الرمزي.
ويبدو، من خلال ملاحظة احتياطات وإعدادات أوريجينيس الخطابية للرد عليهم في عظاته، أن نسبة لا يستهان بها من الشعب كانت تنتمي لهذا الفريق. والفريق الثاني: المثقفون الوثنيون الذين كانوا يعتقدون أنهم يحتكرون الحق في استخدام الرمزية، وقد اتهموا أوريجينيس بانتحال أساليبهم، أو على الأقل باستخدامها بلا حق من أجل تفسير الكتاب المقدس.
[40] نكتشف من تلك الملاحظة، تأثر أوريجينيس بطريقة أفلاطون في التعبير عن أفكاره. فإن كان أفلاطون يقول إن الأشياء الأرضية هي ظل الأفكار الأبدية، هكذا أيضاً الأشياء المكتوبة في العهد القديم هي بالنسبة لأوريجينيس ظل الحقائق فوق الطبيعية التي عاشتها الكنيسة في العهد الجديد. ونلاحظ الاستخدام المتكرر لكلمة “أرضي” (terrenus) للإشارة إلى المعنى الضيق الذي يعطيه الفريسيون ومن يحاكيهم للكتاب المقدس.
[41] انظر: مت 13: 52.
[42] انظر: في 3: 19.
[43] انظر: رو 15: 19.
[44] انظر: 2تي 3: 11.
[45] انظر: ۱ کو 15: ۳۲.
[46] انظر: 1كو 15: 32.
[47] انظر: 2كو 11: 25.
[48] انظر: 2صم 22: 20؛ مز 17: 20 (حسب السبعينية).
[49] انظر: مت 1: 1.
[50] انظر: لو 24: 32.
[51] انظر: تك 26: 18.
[52] انظر: تي 1: 14.
[53] انظر: 1تي 1: 4.
[54] انظر: 2تي 4: 4.
[55] انظر: ملا 1: 11.
[56] انظر: يو 4: 20-23.
[57] انظر: 2كو 6: 16؛ لا 26: 12.
[58] انظر: 1كو 15: 49.
[59] انظر: يو 7: 38.
[60] انظر: يو 7: 38.
[61] لقد ذكر أوريجينيس سابقا أن الآبار تمثل الكتاب المقدس، ولكنه هنا يذكر أنها تمثل النفس. والفكرتان ليستا قريبتين، ولكنهما مرتبطتان ارتباطا وثيقا في فكر أوريجينيس. فالنفس والكتاب المقدس ينبضان بنفس الحياة ويسكنهما نفس اللوغوس الذي يبعث فيهما كنوزه في ظواهر محجوبة نوعا ما في حالة الكتاب المقدس، وفي عمق الحياة الداخلية في حالة النفس.
وفي كلتا الحالتين، تظهر نفس الحياة الروحية المتحدرة من حياة الله ذاتها، فالثالوث هو مستوى المياه العميق الذي لا ينضب والذي يتغذى منه هذان البئران. ولهذا يجب حتما أن يفسر الكتاب المقدس بمعنى روحي مثلما يجب للنفس أن تحمل فيها صورة إلهية.
[62] انظر: لو 17: 21.
[63] انظر: لو 15: 8.
[64] انظر: مز 35: 10 (حسب السبعينية).
[65] انظر: تك 1: 26؛ تك 5: 1.
[66] انظر: ۱ کو 15: 49.
[67] انظر: تك 1: 26.
[68] نجد صدى هذه الفكرة عند ق. أثناسيوس في كتاب تجسد الكلمة ۳: ۳.
[69] نرى هنا التعليم الآبائي الشرقي في أن الصورة الإلهية تظلم أو تتشوه ولكنها لا تنعدم من الإنسان.
[70] انظر: إش 44: ۲۲
[71] انظر: کو ۲: 14.
[72] لاحظ العلاقة بين الصك الذي نكتبه بخطايانا والصورة الإلهية التي خلقها الله فينا. وقد ذكر أوريجينيس أن الخطايا تغطي تلك الصورة ولا تجعلها تسطع فينا. فالصورة هي هبة من الله وبالخطية تتوارى تلك الصورة ونصبح مدينين “بسبب الخطايا” باستعادة إشراقها فينا.
[73] انظر: دا 7: 10.
[74] انظر: لو 16: 8.
[75] انظر: لو 16: 7.
[76] انظر: 2كو 3: 2-3.
[77] انظر: كو 2: 14.
[78] انظر: أم 5: 15.
[79] انظر: أم 5: 16.
[80] انظر: رو 1: 14.
[81] إن المستمعين إلى أوريجينيس لا يشعرون بالإهانة حين يتم تشبيه بعضهم بالبهائم، فهم يعلمون جيدا أن البعض “كامل” والبقية ليست كذلك كما جاء في الكتاب المقدس: لأن القديسو” العهد القديم .هم رمز “للكاملين” في حين ينطبق غالبا ما قيل عن الحيوانات، على المبتدئين”. والبهائم التي أدخلها نوح إلى الأجزاء السفلية من الفلك هي النفوس القاسية التي لم تسكنها بعد حلاوة الإيمان (العظة ۲: ۳)، أما الجمال التي كانت تصاحب خادم إسحق فهي النفوس غير المهذبة التي تبدو جاهلة وعنيدة أمام الأسرار المسيحية (العظة 10: 2).
[82] انظر: مز 35 : ۷ (بحسب السبعينية).
[83] انظر: 1 بط 4: 11؛ رؤ 1: 6.