العظة الثامنة ذبيحة إبراهيم – عظات أوريجانوس على سفر التكوين
العظة الثامنة ذبيحة إبراهيم – عظات أوريجانوس على سفر التكوين
العظة الثامنة ذبيحة إبراهيم – عظات أوريجانوس على سفر التكوين
إبراهيم يقدم ابنه اسحق
اختبار إيمان المؤمنين
1 افتحوا آذانكم هنا، أنتم يا من اقتربتم من الله، ويا من تفتخرون بكونكم مؤمنين، وتأملوا بعناية أكبر كيف يتم، في القصة التي قرأت لنا تواً، اختبار إيمان المؤمنين. ويقول الكتاب: “وحدث بعد هذا الكلام أن الله امتحن إبراهيم وقال له: إبراهيم، إبراهيم. فقال: هأنذا[1].” لاحظوا كل تفصيل من الكتاب، ففي كل تفصيل هناك كنز وذلك لمن يعرف أن يحفر عميقاً، وربما أيضاً في الأماكن التي لا نظن أن جواهر الأسرار النفيسة تختبئ فيها[2].
اسم إبراهيم ووعد الله له
الرجل الذي نتحدث عنه كان يدعى أولاً أبرآم، ولا نقرأ في أي موضع أن الله قد دعاه بهذا الاسم أو أنه قال له: أبرآم، أبرآم. فلم يكن من الممكن أن يدعوه الله بالاسم الذي كان سوف ينتزعه منه، ولكنه دعاه بالاسم الذي أعطاه له بنفسه. ولم يكتف بدعوته مرة واحدة بهذا الاسم بل قام بتكراره. وحين أجاب إبراهيم: “هأنذا”، قال له: “خذ ابنك العزيز، الذي تحبه، إسحق، وقدمه لي. واذهب إلى المنطقة المرتفعة وقربه هناك محرقة على أحد الجبال الذي أريك[3]” وقد فسر الله لماذا أعطاه اسماً ودعاه إبراهيم، فيقول الكتاب: “لأني أجعلك أبا لجمهور من الشعوب[4]” وقد أعطاه الله هذا الوعد في الوقت الذي كان لديه فيه إسماعيل ابناً، ولكنه أكد له أن الوعد سيتحقق في ابن سيولد من سارة. لقد أيقظ في قلبه إذا محبة ابنه ليس فقط بدافع النسل ولكن أيضاً برجاء الوعود.
إيمان إبراهيم
وها أن هذا الابن الذي بالنسبة له [أي لإبراهيم] تستند عليه هذه المواعيد العظيمة والعجيبة، هذا الابن الذي بسببه أخذ اسم إبراهيم، أن “الرب يأمر بأن يقدمه له محرقة على أحد الجبال” فماذا تقول عن هذا، يا إبراهيم؟ أي نوع من الأفكار يختلج في قلبك؟ لقد تكلم صوت الله ليزعزع إيمانك ويختبره. فماذا تقول عن هذا الأمر؟ وما رأيك فيه؟ هل تقاوم؟ هل تجتر أفكارك وتحسب في قلبك هكذا: إذا كان الوعد قد أعطي لي في إسحق، وإذا قدمته محرقة، فلن يكون لي بعد وعد لأنتظره؟ ألن تقف بالحري على هذا الاستدلال الآخر وتقول إن من أعطاك الوعد لا يمكن أن يكذب[5] وإنه مهما حدث سيبقى الوعد؟
في الحقيقة ولأنني “الأصغر[6]“، فأنا لا أستطيع استبطان أفكار بطريرك بهذه العظمة، ولا أن أعرف ما هي الأفكار التي تولدت بداخله وأية مشاعر أثارها صوت الله الذي جاء ليجربه بأمره أن يذبح ابنه الوحيد. ولكن بما أن “أرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء[7]“، فأعتقد أن بولس الرسول الذي كان قد عرف بالروح مشاعر إبراهيم وأفكاره قد أعلمنا بها قائلاً: “لم يتعثر إبراهيم في إيمانه حين قدم ابنه الوحيد الذي تستند عليه المواعيد، وحسب أن الله قادر بما يكفي حتى يقيمه من الأموات[8]“. لقد سلمنا الرسول إذاً أفكار رجل أمين، حاسباً أن الإيمان بالقيامة قد بدأ يظهر حينئذ بالفعل من جهة إسحق. فقد كان إبراهيم إذا يتوقع أن يقوم إسحق وكان يعتقد أن ما لم يكن قد حدث أبداً من قبل سوف يتحقق. فكيف إذن يمكن أن يكونوا “أبناء إبراهيم[9]“، من لا يؤمنون بأن ما قد آمن إبراهيم بتحقيقه المستقبلي في إسحق قد حدث بالفعل في المسيح؟ بل لنتحدث بوضوح أكثر، كان إبراهيم يعلم أنه كان رمزاً للحقيقة الآتية وكان يعلم أن السيد المسيح سيولد من نسله ليقدم ذبيحة، أكثر حقيقة، عن العالم كله ويقوم من الأموات.
“خذ ابنك”
۲ يقول الكتاب كان الله يمتحن إبراهيم وقال له: خذ ابنك العزيز، الذي تحبه[10]“، كما لو كان لم يكتف بقول “ابنك فأضاف قائلا: “العزيز. فليكن! و[لكن] لماذا أضاف أيضاً: “الذي تحبه؟ أنت ترى أن الامتحان صعب: فتعبيرات الحنان والمحبة التي تكررت عدة مرات إنما تؤجج المشاعر الأبوية، حتى عند تذكر حبه الحي تتردد يد الأب في ذبح الابن وتثور كل جيوش الجسد ضد إيمان الروح. يقول: “خذ إذن ابنك العزيز، الذي تحبه، إسحق[11].” لا بأس، يا رب، أن تذكر أباً بابنه، ولكن أن تضيف “العزيز لذاك الذي تأمر بذبحه، فهذا وحده ما يكفي لعذاب الأب؛ ولكنك تضيف من جديد: “الذي تحبه، وها هي ثلاثة أمثال أكثر من العذابات للأب؛ فلماذا ينبغي أيضاً أن تذكر باسم إسحق؟ ألم يكن إبراهيم يعلم إذا أن ابنه، ابنه العزيز، ابنه الذي يحبه، كان يدعى إسحق ولكن لماذا يضيف ذلك في هذا الوقت؟ ذلك حتى يتذكر إبراهيم أنك سبق وقلت له: “في إسحق يكون النسل الذي سيحمل اسمك، وفي إسحق تتحقق لك المواعيد.[12]” إذا كان الاسم مذكوراً فهذا ليوحي له بالارتياب في الوعود التي أعطيت له في هذا الاسم. ولكن كل ذلك لأنه كان يمتحن إبراهيم. يمتحن إبراهيم.
“اذهب للمكان الذي أريك إياه”
3 وماذا حدث بعد ذلك يقول الكتاب: “اذهب إلى المنطقة المرتفعة، على أحد الجبال الذي أريك، وقدمه هناك محرقة[13]” لاحظوا في هذا التفصيل كيف تزداد التجربة. “اذهب إلى المرتفعة، ألم يكن ممكناً أن يقاد إبراهيم مع ابنه أولاً إلى هذه المرتفعة، ويؤتى به أولاً على الجبل الذي كان الرب قد اختاره ثم يسمع هناك القول بتقديم ابنه؟ فقد قال له أولاً إنه يجب أن يقدم ابنه ثم أخذ بعد ذلك الأمر بالذهاب إلى المرتفعة وأن يصعد الجبل. فبأي قصد كان ذلك؟ ذلك حتى يتمزق إبراهيم بأفكاره وهو متقدم على الطريق وطوال المسير، وحتى يتعذب بالتناوب بالوصية التي تحصره وبحب ابنه الوحيد الذي يثور[14]. فمن أجل هذا إذا ألزمه أيضاً بالطريق وبصعود الجبل أيضاً حتى يفسح الوقت، أثناء كل هذه الأفعال، للمواجهة بين مشاعر الحنان الأبوي والإيمان، بين محبة الله ومحبة الجسد، بين إغراء الخيرات الحاضرة وانتظار الخيرات الآتية. لقد أرسل إبراهيم إذا إلى “المرتفعة، إلا أن “المرتفعة” لا تكفي بالنسبة لبطريرك سيتمم من أجل الرب عملاً عظيماً بهذا المقدار، فأمره بالصعود إلى الجبل أيضاً، أي أن يترك الأمور الأرضية؛ إذ يرتفع بالإيمان، ويصعد نحو الأمور العلوية.
إبراهيم في الطريق
4 “فقام إبراهيم إذاً باكراً وشد على حماره وشقق حطبا للمحرقة، وأخذ ابنه إسحق واثنين من غلمانه، ووصل في اليوم الثالث إلى الموضع الذي حدده له الله[15]” قام إبراهيم باكراً. وربما أراد الكتاب بإضافة كلمة “باكراً” أن يظهر أنه كان هناك نور أولي يبرق بالفعل في قلبه. وشد على حماره وأعد الحطب وأخذ ابنه. فهو لم يتمهل ولم يتردد ولم يتحدث مع أي شخص عن نيته ولكنه انطلق على الفور في الطريق.
ويقول الكتاب “ووصل في اليوم الثالث إلى الموضع الذي حدده له الرب[16]“. أترك الآن المعنى المستيكي الذي يحتوي عليه هذا اليوم الثالث جانباً وأتطلع إلى حكمة وقصد من يمتحنه. وهكذا، ففي الوقت الذي كان يجب أن يتم فيه كل شيء على الجبال، لم تكن هناك أية جبال في المنطقة المحيطة، وامتد السفر لمدة ثلاثة أيام، مزق القلق المزعج خلالها أحشاء الأب. وفي أثناء مهلة امتدت بهذا المقدار لا بد وأن كان إبراهيم يتأمل ابنه، ويتناول الطعام معه، ولا بد وأن كان الصبي يحتضنه أثناء هذه الليالي كلها ويقترب إلى صدره ويرتاح على قلبه. أنت ترى أن التجربة في أوجها، ومع ذلك يتناسب اليوم الثالث دائما وبشكل خاص مع الأسرار: فعندما أخرج الشعب من أرض مصر، فإنه في اليوم الثالث قدم ذبيحة لله وفي اليوم الثالث تطهر[17]، وحدثت قيامة الرب في اليوم الثالث[18]، وكثير من الأسرار الأخرى محتواة في هذا اليوم الثالث.
الحوار مع الخدم
5 يقول الكتاب “أبصر إبراهيم الموضع؛ إذ نظر من بعيد وقال لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك، وبعدما نسجد نرجع إليكما[19].” صرف إبراهيم خادميه فلم يكن باستطاعتهما الصعود معه إلى المكان الذي عينه الله للمحرقة. ويقول: “اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك، وعندما نسجد نرجع إليكما[20].” قل لي، يا إبراهيم، هل تقول الحقيقة للغلامين بتأكيدك أنك ستسجد وبأنك سترجع مع الصبي، أم أنك تخدعهما؟ فإن كنت تقول الحقيقة، فإنك لن تقدم إذاً ابنك محرقة، ولكن إن كنت تخدعهما، فهذا لا يليق ببطريرك عظيم. فما هي إذن المشاعر التي تكشفها تلك الأقوال؟ يرد إبراهيم: أنا أقول الحقيقة وأقدم ابني محرقة، لذلك أنا أحمل من جهة الحطب معي وسأرجع إليكما من جهة أخرى مع الصبي لأني أؤمن وهذا هو إيماني “أن الله قادر بما يكفي ليقيمه من الأموات.[21]“
الإعداد للمحرقة
6 ويقول الكتاب بعد ذلك “فأخذ إبراهيم حطبا للمحرقة ووضعه على ابنه إسحق، وأخذ بيده النار والسيف. فذهبا كلاهما معا[22].” أن يحمل إسحق بنفسه الخشب للمحرقة فهذا رمز للمسيح الذي تحمل بنفسه صليبه[23]“، غير أن حمل الحطب للمحرقة هو عمل الكاهن، فقد صار إذا هو نفسه الذبيحة والكاهن في ذات الوقت، والقول الذي يلي ذلك يتعلق بهذا السر: “وذهبا كلاهما معا، ففي الوقت الذي كان إبراهيم يحمل فيه النار والسكين ليذبح، لم يكن إسحق يسير خلفه ولكن معه، مظهراً بذلك أنه يقوم معه بالمثل بالوظيفة الكهنوتية.
وماذا بعد؟ يكمل الكتاب “قال إسحق لأبيه إبراهيم: يا أبي[24].” ها هو فعلاً في تلك اللحظة وفي كلام الابن صوت التجربة. أتتصور إلى أي درجة يستطيع صوت الابن هذا الذي سيذبح أن يقلب الأحشاء الأبوية؟ لذلك فبالرغم من صلابة إيمانه، فقد رد لابنه كلمة محبة وأجاب: “ماذا يا ابني؟” فقال إسحق “هوذا النار والحطب، ولكن أين الشاة للمحرقة؟” فأجاب “سيتعهد الله بالشاة للمحرقة، يا ابني[25].” يذهلني هذا الرد السديد والحكيم بما يكفي الذي لإبراهيم. لست أعلم ما كان يراه إبراهيم بالروح لأنه لا يتحدث عن الحاضر بل عن المستقبل قائلا “سيتعهد الله بالشاة[26]” يرد على ابنه الذي كان يستعلم عن الحاضر بالمستقبل، ذلك أن الرب نفسه كان لا بد وأن يتعهد بالشاة في شخص المسيح، لأن “الحكمة نفسها بنت لها بيتا[27]” وهو ذاته “قد وضع نفسه حتى الموت.[28]” وكل ما ستقرأه عن المسيح ستكتشف أنه قد قام به طوعاً وليس إجباراً.
في مكان تقديم الذبيحة
۷ “فواصلا كلاهما طريقهما، وأتيا إلى الموضع الذي حدده له الله[29]“. حين أتى موسى إلى الموضع الذي أراه الله إياه لم يكن لديه إذن بالصعود لكن قيل له أولاً: “حل سيور نعلي قدميك[30].” أما بالنسبة لإبراهيم وإسحق فلا شيء من مثل هذا، لقد صعدا دون أن يتركا أحذيتهما. والسبب في ذلك هو على الأرجح أن موسى وعلى الرغم من أنه كان “عظيماً[31]” إلا أنه كان قادماً من مصر وكانت لديه رباطات مائتة معقودة عند رجليه. أما عند إبراهيم وإسحق، فليس هناك مثل هذه الرباطات، ولكنهما “أتيا إلى الموضع المحدد”.
وقد بني إبراهيم المذبح ووضع عليه الحطب وربط الصبي واستعد ليذبحه[32]. أنتم هنا في كنيسة الله عدد كبير من الآباء الذين يسمعونني. لنر؛ هل حصل أحد منكم، عند رواية القصة وحدها، ما يكفي من الحزم ومن قوة النفس ليتخذ. في حالة إذا ما أفقده الموت العام والذي لا يفلت منه أحد ابناً وحيداً ومحبوباً بحنو – إبراهيم كمثال ويضع عظمة النفس هذه نصب عينيه؛ فهو لا يلزمك بهذه الحركة البطولية بأن تقيد ابنك بنفسك وتقهره وتعد السيف وتذبح بنفسك ابنك الوحيد، فهو لا يطلب منك كل هذه الفروض، ولكن على الأقل كن موطد العزم بالروح، وإذ تكون ثابتاً بالإيمان قدم بفرح ابنك لله. لتكن كاهن حياة ابنك: لا يجب على الكاهن الذي يقوم بالذبح لله أن يبكي. فهل تريد أن ترى أن هذا مطلوب منك؟ يقول الرب في الإنجيل “لو كنتم أولاد إبراهيم، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم.[33]” وإذن! ها هو عمل الإبراهيم. اعملوا الأعمال التي عملها إبراهيم ولكن دون حزن “لأن الله يحب من يعطي بسرور.[34]” وإن كنتم مهيئين مثله لله، فسيقال لكم أنتم أيضاً “اصعد إلى المرتفعة وتسلق الجبل الذي أريك وهناك قدم لي ابنك[35].” “قدم ابنك” لا في أعماق الأرض ولا في “وادي الدموع[36]“، ولكن على قمم الجبال المرتفعة. أثبت أن إيمانك بالله أقوى من تعلقاتك الجسدية، لأن الكتاب يقول إن إبراهيم كان يحب ابنه إسحق، ولكنه جعل محبة الله قبل محبة الجسد، ووجد نفسه لا في أحشاء جسدية ولكن في أحشاء المسيح[37]“، أي في أحشاء الكلمة الإلهي والحقيقة والحكمة.
ذبيحة الطاعة
۸ ويقول الكتاب “مد إبراهيم يده ليأخذ السيف ويذبح ابنه، وناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم، إبراهيم. فأجاب: هأنذا، فقال له الملاك: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك تخاف الله[38]” يؤاخذنا البعض عادة فيما يتعلق بهذه العبارة[39] على أن الله يقول إنه يعلم الآن أن إبراهيم يخاف الله، كما لو كان يجهله من قبل. كان الله يعلم هذا ولم يفته ذلك لأنه يعرف كل الأشياء قبل كونها[40]“، ولكن قد كتبت هذه الأشياء من أجلك أنت لأنك أنت أيضاً تؤمن بالله ولكن إذا لم تتمم “أعمال الإيمان[41]“، إذا لم تطع جميع الوصايا حتى وإن كانت أصعب، إذا لم تقدم ذبيحة وتثبت أنك لا تفضل “أباً أو أماً أو ابناً[42]” على الله، فلن يعترف بك كخائف الله ولن يقال عنك: “لأني الآن علمت أنك تخاف الله.[43]“
غير أنه لا بد أن نأخذ بالاعتبار أن الكتاب قد وضع هذا القول إلى إبراهيم في فم ملاك وأن ما يتبع يظهر بوضوح أن هذا الملاك هو الرب[44]. ونستنتج من ذلك أنه إذا كان قد تعرف كإنسان من خلال ما بدا منه[45] بيننا نحن البشر، فهو بالمثل بين الملائكة قد غرف من خلال ما بدا منه كملاك، وتفرح الملائكة في السماء اقتداء به الخاطئ واحد يتوب[46]“، ويفتخرون بتقدم البشر، لأنهم بمثابة مديري أنفسنا، هم الذين، “ما دمنا أولادا[47]“، وكلنا إليهم كما إلى أوصياء ووكلاء إلى الوقت المحدد من الآب[48]“. هم أنفسهم أيضاً إذاً؛ إذ يرون تقدم كل واحد منا يقولون “الآن علمت أنك تخاف الله[49]“. فلدي على سبيل المثال رغبة الاستشهاد[50]، لن يستطيع ملاك أن يقول لي من أجل ذلك: “إني الآن علمت أنك تخاف الله لأن شهوة الروح لا يعلمها إلا الله وحده. ولكن إذا خضت الحروب واعترفت الاعتراف الحسن[51]، واحتملت بقوة كل ما يصيبني، فحينئذ يستطيع ملاك أن يقول لي ليثبتني ويقويني: “إني الآن علمت أنك تخاف الله”.
لكن لنعتبر أن هذه الأقوال قد قيلت لإبراهيم وأنه قد أعلن أنه يخاف الله. لماذا؟ لأنه لم يمسك ابنه. أما نحن، فلنقارن هذا بكلمات الرسول “الذي لم يمسك ابنه، بل أسلمه لأجلنا أجمعين[52]“. انظر كيف أن الله يتعامل مع البشر بكرم عظيم: لقد قدم إبراهيم الله ابناً فانياً دون أن يموت، أما الله فقد سلم من أجل البشر ابناً أبدياً للموت. فماذا نقول نحن عن هذا؟ “ماذا نرد للرب من أجل كل حسناته؟[53]” الله الأب بسببنا “لم يمسك ابنه[54]“، فقولوا لي من منكم سيسمع يوما صوت الملاك يقول له: “أنا الآن علمت أنك خائف الله، لأنك لم تمسك ابنك[55]” أو ابنتك أو زوجتك، ولم تمسك مالك أو أمجاد هذا الدهر وطموحات هذا العالم، ولكنك احتقرت لكل ذلك، وحسبت كل الأشياء نفاية حتى تربح المسيح[56]“، وتبعت كل شيء وأعطيته الفقراء وتبعت كلمة الله؟[57]” نعم قولوا لي من منكم سيسمع من فم ملائكة قولا مثل هذا؟ لقد سمع إبراهيم هذا القول وقيل له: “من أجلي لم تمسك ابنك الحبيب”[58].
الكبش. رمز المسيح الكاهن والذبيحة
9 يقول الكتاب “وإذ التفت إلى الوراء، نظر إبراهيم وإذا كبش ممسكاً في الغابة بقرنيه[59].” أعتقد أننا قلنا سابقاً إن إسحق كان يرمز للمسيح[60]، ولكن هنا يبدو الكبش أيضاً أنه يرمز للمسيح. ومن المثير للاهتمام أن نعرف كيف أن هذين الرمزين، إسحق الذي لم يذبح قط والكبش المذبوح يتطابقان مع المسيح.
المسيح هو كلمة الله، ولكن “الكلمة صار جسداً[61]“، وبالتالي هناك في المسيح شيء يأتي من فوق وآخر أخذ من الطبيعة البشرية ومن الأحشاء البتولية. لقد تألم المسيح إذاً ولكن كان هذا في الجسد، لقد تحمل الموت ولكنه تحمله في الجسد[62] والذي الكبش هنا هو رمز له. وقد قال القديس يوحنا بالمثل أيضاً “هوذا حمل الله، هوذا من يرفع خطية العالم[63]. ” أما “الكلمة على العكس، والذي هو المسيح بحسب الروح[64]، والذي إسحق هو صورة له، فقد ظل في عدم الفساد[65].” لذلك هو ذبيحة ورئيس كهنة في ذات الوقت. فهو حسب الروح يقدم الذبيحة لأبيه، وحسب الجسد هو نفسه مقدم على مذبح الصليب، لأنه كما قيل عنه “هوذا حمل الله، هوذا من يرفع خطية العالم[66]“، فقد قيل عنه أيضاً “أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.[67]” وهكذا إذاً كان “الكبش ممسكا في الغابة بقرنيه”[68].
بركة تقديم الذبيحة
۱۰ يقول الكتاب فأخذ الكبش وقدمه محرقة عوضاً عن إسحق ابنه، فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع: الرب يرى”[69]. إن درب الفهم الروحي مفتوح علناً لمن يعرف أن يسمع، لأن كل هذه الأعمال تؤول إلى الرؤية. وقد قيل في الواقع إن “الرب يرى”، ولكن الرؤية التي يراها الله هي رؤية روحية، حتى تتأمل أنت أيضاً في أمور الكتاب بشكل روحي. وكما أنه لا يوجد في الله أي شيء مادي، هكذا لا ينبغي أن تجد أي شيء مادي في كل هذا. ولكنك تستطيع أن تلد روحياً أنت أيضاً إسحق كابن حين تحمل كثمر الروح “الفرح والسلام”[70].
هذا الابن لن تلده في النهاية. على غرار سارة، المكتوب عنها أنها ولدت إسحق بينما كانت عادة النساء قد انقطعت لديها[71]. إلا إذا انقطعت أيضاً في نفسك الإمكانيات النسائية[72] لدرجة ألا يكون لديك بعد الآن أي شيء نسائي ولا متأنث في نفسك، ولكن تسلك برجولة وبرجولة “تنطق حقويك”، وإلا إذا كان صدرك محمياً “بدرع البر، وإذا كنت مزوداً بخوذة الخلاص” وبسيف الروح[73].” فإذا انقطعت إذاً في نفسك الإمكانيات النسائية، فإنك تلد، مع امرأتك التي هي الفضيلة والحكمة، الفرح والتهليل. لكنك تلد الفرج حين تعتقد أن كل شيء يقع عليك في التجارب المتنوعة، هو فرح[74]“، وهذا الفرح تقدمه ذبيحة للرب.
وعندما تتقرب من الله في الفرح، يرد لك من جديد ما قدمته له ويقول لك: سترونني من جديد ويفرح قلبكم، ولن يسلب أحد فرحكم منكم.[75]” وهكذا إذاً ما تقدمه للرب يرد لك مرات عديدة[76]. هذا هو ما تشير إليه الأناجيل، وإن اختلف التشبيه، في المثل الذي تقول فيه أن رجلاً أخذ وزنة ليستثمرها ويعود لرب الأسرة بالمال. فإذا أتيت بعشر وزنات للخمسة التي تاجرت بها فيعطيك إياها ويتركها لك. اسمع ما يقوله الكتاب، تخذوا منه هذه الوزنة وأعطوها لمن له العشر وزنات[77]“. وهكذا يبدو إذا أننا نتاجر من أجل الرب ولكن الأرباح تعود إلينا، ويبدو أننا نقدم ذبائح للرب ولكن نحن الذين سنحصل بالمقابل على ما نقدمه. فالله في الواقع لا يحتاج إلى شيء ولكنه يريد أن نكون نحن أغنياء، كما يريد أن يكون تقدمنا في كل شيء.
ويبرز لنا ذلك أيضاً بشكل مجاني في ما حدث لأيوب. فهو، بينما كان غنياً، قد فقد هو أيضاً كل ممتلكاته من أجل الرب. ولكن من أجل أنه صمد ببسالة في معارك الصبر وأبدى خلقاً كريماً في كل آلامه وقال: “الرب أعطى، الرب أخذ، لقد حدث كما أراد الرب، فليكن اسم الرب مباركا[78]“، فانظر ما كتب عنه في النهاية: يقول الكتاب “وأخذ ضعف ما كان قد فقده.[79]” وهكذا أنت ترى أن فقدان شيء من أجل الله، هو استعادته مرات عديدة. وتضمن لك الأناجيل أكثر من ذلك أيضاً بما أنها تعدك “بمئة مثل وفوق ذلك “بالحياة الأبدية[80]” في المسيح يسوع ربنا “الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين. آمين”[81].
[1] انظر: تك 22: 1.
[2] هذه العظة الرائعة تنبض بالمشاعر العميقة وتقدم لنا بأسلوب بسيط، بدون مغالاة أدبية، الصراع المأسوي الذي دار في نفس إبراهيم بين مشاعر الأبوة من جهة وواجب طاعة الله من جهة أخرى. وتعتبر هذه العظة مستندا قيما يمكننا من خلاله التعرف على شخصية أوريجينيس، فهو لم يكن فقط إخصائيا في الجدال أو معلما لا يكل للدين أو رجلا متلهفا الرؤية الله، ولكنه له أيضاً قلب حساس ورحيم، و روح تكشف أصداؤها الرقيقة والمتحفظة في ذات الوقت عن الغني والكرم. وقد تأثرت بهذه العظة أجيال كثيرة من المفسرين والرجال الروحيين، ويكفي أن نذكر هنا بعض الكتاب الذين اقتبسوا منه. فقد استلهم القديس غريغريوس النيصي في GREGOIRE DE NYSSE Orat De detaite 568 – 573 46 Filii et Spiritus Sancti , PG من أوريجينيس وصف المخاوف الأبوية، ولكن أسلوبه كان أكثر تعقيدا من أسلوب أوريجينيس فانصرف، إذا صح القول، إلى تضخيم المشاعر؛ انظر على الأخص الوصف التمثيلي للحظات الأخيرة حين كان السيف معلقا على رأس إسحق. أما القديس يوحنا ذهبي الفم في Sur la Prov. De Dieu X, 8-18, SC 79, p. 154-163,CHRYSOSTOME، فقد عبر بنفس النبرة المنفعلة عما أطلق عليه “طغيان الطبيعة” عند إبراهيم. وأكد القديس كيرلس السكندري في CYRILLE D ‘ ALEXANDRIE , Hom , Pasch . V , 6 – 7 , PG 77, 489- 497 على طاعة إبراهيم التي سيمت على محبة الجسد، وقدم ثانية العديد من أجزاء عظتنا هذه (أرسل الله الامتحان الإبراهيم وهو يعلم منفذه، وكان إبراهيم يؤمن بالقيامة). ويسجل القديس أمبروسيوس في AMBROISE , De Abrah . I , 66 – 79, CSEL 32, I, ،التفاصيل التي تجعل الامتحان أكثر إيلاما. أما القديس أغسطينوس فيAUGUSTIN, Enarr. In Ps. 30, serm. 2, 9, PL 36, 244-245 ; Ciu. Dei, طريقة أوريجينيس41, 510-511 PL ,32 ,16 فلم يعلق على تقديم إسحق ذبيحة بنفس ولكنه ركز على إسحق بالأخص کرمز للمسيح.
[3] انظر: تك 22: 2.
[4] انظر: تك 17: 5.
[5] انظر: عب 6: 18.
[6] انظر: 1كو 15: 9.
[7] انظر: 1كو 14: 32.
[8] انظر: عب 11: 17، 19.
[9] انظر: تك 22: 1-2.
[10] انظر: تك 22: 1-2.
[11] انظر: تك ۲۲: ۲.
[12] انظر: تك ۲۱: ۱۲؛ رو۹: ۷، ۸؛ عب ۱۸:۱۱؛ غل ۳: 16، ۱۸؛ غل 4: ۲۳.
[13] انظر: تك ۲۲: ۲.
[14] المقصود هنا هو الحب وليس الابن الوحيد.
[15] انظر: تك 22: 3.
[16] انظر: تك 22: 3.
[17] انظر: خر 19: 11، 15، 16؛ 24: 5.
[18] انظر: مت 27: 63؛ مر 8: 31.
[19] انظر: تك 22: 4-5.
[20] انظر: تك 22: 5.
[21] انظر: عب 11: 19.
[22] انظر: تك 22: 6.
[23] انظر: يو 19: 17.
[24] انظر: تك 22: 7.
[25] انظر: تك 22: 7-8.
[26] انظر: تك 22: 8.
[27] انظر: أم ۹: ۱.
[28] انظر: في 2: 8.
[29] انظر: تك 22: 8-9.
[30] انظر: خر 3: 5.
[31] انظر: خر 11: 3.
[32] انظر: تك 22: 9، 10.
[33] انظر: يو ۸: ۳۹.
[34] انظر: ۲ کو ۹: ۷.
[35] انظر: تك 22: 2.
[36] انظر: مز ۷:۸۳ (حسب السبعينية).
[37] انظر: في 1: 8.
[38] انظر: تك 22: 10-12.
[39] المقصود هنا هو مرکیان. ارجع إلى العظة 4: 6.
[40] انظر: دا 13: 42.
[41] انظر: 2 تس 1: 11.
[42] انظر: مت 10: 37.
[43] انظر: تك 22: 12.
[44] هذه الفكرة ستتكرر لاحقاً في العظة 14: 1.
[45] انظر: في 2: 7.
[46] انظر: لو 15: 10.
[47] انظر: غل 4: 3.
[48] انظر: غل 4: 2.
[49] انظر: تك 22: 12.
[50] في هذا الوقت كانت فكرة الاستشهاد تسيطر على المجتمع المسيحي، انظر ما ورد سابقا في العظة ۷: ۳.
[51] انظر: 1 تي 6: ۱۲.
[52] انظر: رو ۸: ۳۲.
[53] انظر: مز 115: ۳ (بحسب السبعينية).
[54] انظر: رو ۸: ۳۲.
[55] انظر: تك ۲۲: ۱۲.
[56] انظر: في ۳: ۸.
[57] انظر: مت 19: 21.
[58] انظر: تك ۲۲: ۱۲.
[59] انظر: تك 22: 13.
[60] تلميحات سريعة إلى هذا الرمز وردت في نهاية رقم 1، وبداية رقم 6.
[61] انظر: يو 1: 14.
[62] يؤكد أوريجينيس أن السيد المسيح إله وانسان في نفس الوقت. والتعبير عن هذا التعليم، مهما كان بسيطا، إلا أنه لا يقود لا إلى الآريوسية ولا إلى الدوسيتية.
[63] انظر: يو ۱: ۲۹.
[64] المقصود هنا هو اللاهوت، لأن أوريجينيس كان يريد أن يميز في المسيح الواحد بين اللاهوت الذي لا يموت (والذي يرمز له إسحق والناسوت الذي مات (والذي يرمز له الكبش).
[65] انظر: 1كو 15: 42.
[66] انظر: يو۱: ۲۹.
[67] انظر: مز 4:۱۰۹ (حسب السبعينية).
[68] انظر: تك 22: 12.
[69] انظر: تك 22: 13-14.
[70] انظر: غل 5: ۲۲.
[71] انظر: تك 18: 11.
[72] انظر: تث ۳۱: 6.
[73] انظر: أف 6: 14، 17.
[74] انظر: يع 1: ۲.
[75] انظر: يو 16: ۲۲، ۱۷.
[76] ارجع إلى عظات أوريجينيس على سفر العدد 12: 3.
[77] انظر: مت ۲۰: 16 إلى باقي الإصحاح؛ لو 19: 24.
[78] انظر: أي 1: ۲۱.
[79] انظر: أي 42: 10.
[80] انظر: مت ۱۹: ۲۹.
[81] انظر: 1بط 4: 11؛ رؤ 1: 6.