العلامة أوريجانوس – حياته وتعاليمه وخلافه – الأنبا مقار أسقف الشرقية
العلامة أوريجانوس- حياته وتعاليمه وخلافه – الأنبا مقار أسقف الشرقية
العلامة أوريجانوس هو بلا شك أحد أعظم الشخصيات الدراسية في التاريخ المسيحي. وهو الشخصية الأكثر إثارة للجدل، فهو الأغزر إنتاجاً والأكثر فقداً، الأقوى تأثيراً والأكثر تعرضاً للهجوم، الأكثر تطرفاً في الرمزية، وهو أيضا نموذج للتطبيق الحرفي للوصية. هو الفيلسوف والكاتب الكنسي والناسك والمعلم، وهو أيضا المغضوب عليه من قبل البعض والمحبوب من البعض الآخر.
ولد أوريجانوس – والذي يعني اسمه “الذي ولد في الجبل” -في بيت مسيحي بالإسكندرية سنة 185م. وأعتني والده ليونيديس Leonides بتعليمه الكتب المقدسة ومبادئ العلوم المدنية. وفي أثناء اضطهاد الإمبراطور ساويرس سنة ۲۰۲م مات والده شهيداً، وكان أوريجانوس يريد أن يلحق بوالده ليموت شهيداً، ولما لم يتمكن من تحقيق شهوة الاستشهاد كتب إلى والده يحثه على الثبات ويقول: “لا تأخذ طريقا آخر من أجلنا”. وصودرت حينها ممتلكات العائلة فتولى أوريجانوس إعالة أمه وأخوته عن طريق الاشتغال بالتعليم.
ورغم الظروف المادية الصعبة إلا أنه حصل -بفضل جلده واجتهاده وولعه الشديد بالعلم -على أفضل تعليم متاح سواء على المستوى اللغوي أو الفلسفي أو الكنسي. وصار تلميذاً نجيباً لإكليمندس السكندري الذي خلفه في رئاسة مدرسة الإسكندرية.
فبعد أن تعطلت مدرسة الإسكندرية فترة بسبب ترك مديرها إكليمندس لها بسبب الاضطهاد، أقام ديمتريوس أسقف الإسكندرية أوريجانوس مسئولاً عن مدرسة الموعوظين وهو لا يزال في الثامنة عشرة (حوالي ۲۰۳م)، فعلم وتعلم في آن واحد، وعاش عيشة الفلاسفة على حد تعبير يوسبيوس القيصري (3:6) “فهذب نفسه بالصوم وتحديد ساعات النوم ولم يتخذ لنفسه سريرا بل نام على الأرض. واكتفي برداء واحد ومشي حافي القدمين”.
وعلى يده وصلت مدرسة الإسكندرية إلى قمة الأهمية والتأثير؛ حيث كان له الفضل في وضع نظم للدراسة تراعي البعد الأكاديمي والبعد الاختباري للتعاليم المسيحية. وبفضل جهده وتنظيمه ازدادت أعداد المتقدمين من الطلبة الأمر الذي اضطره أن يقسم الدراسة إلى مستويات. وقد ساعده في هذا تلميذه ياروكلاس والذي صار مديراً للمدرسة بعد أوريجانوس وبعدها صار بطريركاً.
سار أوريجانوس على خطى معلمه إكليمندس في توجهه لتبشير الوثنيين وخصوصاً طبقة المثقفين منهم. كما ذاع صيته كشارح ومفسر للكتاب المقدس. وقد ركز في شرحه على إظهار البعد الروحي والجوانب اللاهوتية العميقة للنصوص المقدسة، كما شرح العهد القديم على أنه المدخل لفهم سر المسيح الذي فيه تحققت كل وعود العهد القديم.
وقد أخذ في الوقت نفسه عن أمونيوس سكاس Ammonios Sakkas الأفلاطونية الحديثة وتأثر بها بشدة في علم الكونيات وعلم النفس. وكان لها أثر كبير في كتاباته وأفكاره فيما بعد. وكان أوريجانوس يعتقد أن الفلاسفة سعوا لمعرفة حقيقة ذواتهم ولمعرفة الأشياء الجيدة والتي يجب الاجتهاد لنوالها والأشياء الشريرة والتي يجب الهرب منها. ولم يكن يأكل اللحم مطلقاً، وكان يكتفي بالقليل من الخبز، وكان بسيطاً في عاداته. ولم يكن يهتم حتى برعاية جسده.
ومن يتأمل حياة أوريجانوس يجده قد تأثر بمعاصريه مثل أفلوطين مؤسس الأفلاطونية المحدثة ليس على مستوى الفكر فقط ولكن حتى في سلوكه النسكي وطريقة المعيشة. ويبدو أن هذا الإعجاب كان متبادلاً حيث يذكر أنه حينما حضر أوريجانوس أحد دروسه أن أفلوطين قال في نهاية الدرس “إن حماس المعلم ينطفئ حينما يشعر أنه ليس لديه شيء آخر يمكن أن يضيفه لسامعيه”.
ومما رواه يوسبيوس أيضاً (8:6) أن أوريجانوس أخذ بالمعنى الحرفي للآية ۱۲ من الإصحاح 19 من إنجيل متى “فخصى نفسه من أجل ملكوت السموات”.
وذهب أوريجانوس في حوالي سنة 216 إلى فلسطين. وهناك طلب منه أساقفة قيصرية وأورشليم أن يعظ ويشرح الكتاب المقدس في إيبارشياتهم، فثارت ثائرة رئيسه البابا ديمتريوس السكندري وكتب إلى الإخوة الأساقفة في فلسطين يلومهم لأنهم سمحوا لعلماني أن يعظ في حضرتهم، وأمر أوريجانوس بالعودة إلى الإسكندرية فوراً ففعل كما أمر أسقفه.
وقد دعت “يولية مامية” والدة الإمبراطور ساويروس ألكسندروس، أوريجانوس إليها إلى إنطاكية لتسمع من فمه ما كان يقوله في الإيمان المسيحي، فذهب أوريجانوس إلى عاصمة الشرق وقابل الإمبراطورة الوالدة وشرح الإيمان المسيحي هناك وعاد إلى الإسكندرية مكرماً. وعلى الرغم من غضب البابا ديمتريوس عليه إلا أنه في سنة ۲۳۱ م وحينما انتشرت بعض البدع في الأوساط اليونانية في بلاد اليونان اهتم البابا ديمتريوس بالأمر وطلب من أوريجانوس أن يذهب إلى بلاد اليونان ليفحم المبدعين ويسكتهم. فمر في طريقه بفلسطين فسامه ألكسندروس أسقف أورشليم وثيوقتيستوس أسقف قيصرية كاهناً.
وهنا احتج البابا ديمتريوس السكندري على هذه السيامة لأنها تمت خارج الإسكندرية، ولكن الفلسطينيين رأوا في ذلك مظهراً من مظاهر الحسد، ونجد أن يوسبيوس القيصري يقول فيما بعد (6: 8) إن ديمتريوس انغلب من ضعف بشري حين رأي أوريجانوس قد صار عظيماً شهيراً عند الجميع. وعلى أثر هذا قام البابا ديمتريوس بإبعاد أوريجانوس عن الإسكندرية. فخرج أوريجانوس من الإسكندرية وأقام في قيصرية فلسطين، وهكذا بدأت الفترة الثانية من حياته. وتجاهل أسقف قيصرية قرارات الإسكندرية وطلب من أوريجانوس أن يؤسس مدرسة لاهوتية جديدة في قيصرية، فأنشأ اوريجانوس مدرسة جديدة هناك وأشرف عليها عشرين عاماً، ونظمها على غرار مدرسة الإسكندرية.
ثم عصف اضطهاد الإمبراطور داكيوس Decius 249م – 251م فذاق اوريجانوس ألواناً من العذاب؛ إذ يذكر يوسبيوس عنه: “أما مقدار البلايا التي حلت بأوريجانوس أثناء الاضطهاد، ومقدار شناعتها، وماذا كانت نتيجتها النهائية (فإن شيطان الشر جرد كل قواته، وحارب الرجل بكل حيلة وبأقصى جهده، هاجماً عليه بعنف أشد من سواه ممن هجم عليهم وقتئذ)، ومقدار ما تحمله من أجل كلمة المسيح، والقيود، والتعذيبات الجسدية، والتعذيبات بالطوق الحديدي وفي السجن.
وكيف مدت قدماه في المقطرة أياماً كثيرة، وكيف تحمل بصبر التهديد بالنار، وكل ما عذبه به الأعداء، وكيف وضع حد لآلامه نظراً لأن قاضيه بذل أقصى جهده لإنقاذ حياته، وما هي الكلمات التي تركها بعد هذه الأشياء مليئة بالتعزية لكل من يحتاج إلى العون . كل هذه تبينها كثير من رسائله بدقة وأمانة (تاريخ الكنيسة 6: ۳۹). وتوفي اوريجانوس سنة 253 وله من العمر 69 سنة بعد أن تدهورت صحته بسبب هذه العذابات.
طبيعة الخلاف بين أوريجانوس والبابا ديمتريوس:
حينما نتحدث عن الخلاف الذي حدث بين أوريجانوس والبابا دیمتریوس يجب أن نضع في الاعتبار عدة نقاط. أولاً: أن الكنيسة مثلما تحتاج إلى الموهبة الفذة والتي يمثلها أوريجانوس تحتاج أيضا إلى تنظيم كنسي والذي يمثله البابا ديمتريوس. ثانياً: يجب الأخذ في الاعتبار فارق السن الكبير بين اوريجانوس الذي كان في أوائل الأربعينيات والبابا ديمتريوس الذي كان في الثمانينيات من عمره.
وقد نشأ الخلاف حول بعض الأفكار التي ذكرها أوريجانوس في إطار تفسيره لسفر التكوين والتي كان يظن أنها آراء أفلاطونية، ومع زيادة شهرة اوريجانوس وسطوع نجمه وكذلك علاقته بالأغنياء مثل أمبروسيوس الغنوسي، تلك الأمور التي جعلت البعض ينظر له على أنه مركز قوة وخطر في نفس الوقت بجانب تأثره الواضح بالأفلاطونية. ورغم هذا ظلت نيران الخلاف كامنة تحت الرماد إلى أن ذهب أوريجانوس إلى قيصرية فلسطين وقيامه بالوعظ في الكنيسة، الأمر الذي اعتبره البابا ديمتريوس شيئاً غير مقبول. وحينها أرسل له شماسين وعاد معهما إلى الإسكندرية إلى حين.
ثم عاد الخلاف يشتعل أثناء زيارته الثانية إلى قيصرية فلسطين حيث سيم قساً هناك، حيث اعترض البابا ديمتريوس بشدة على تلك السيامة لأنها تمت دون تصريح منه، كما أرسل لأسقف قيصرية رسالة موضحاً فيها أفكار اوريجانوس غير المنضبطة ولا سيما مناداته بخلاص الشيطان. وقد دافع اوريجانوس عن نفسه دفاع شاملاً في خطاب صريح موضحاً رأيه. والجدير بالذكر أن أوريجانوس نفسه وصف خروجه الثاني من الإسكندرية إلى قيصرية فلسطين مثل خروج شعب بني إسرائيل من أرض مصر، فمن يا ترى كان المقصود بفرعون؟! وعلى الرغم من جلوس ياروكلاس تلميذ أوريجانوس النجيب على الكرسي السكندري خلفاً للبابا ديمتريوس إلا أن الوضع بقى على ما هو عليه.
وملخص الخلاف هو أن البابا ديمتريوس لم يحتمل عدم خضوع اوريجانوس وآراءه المثيرة للجدل، في حين لم يحتمل اوريجانوس أن يحد أحد من حريته الفكرية. والحقيقة أن الكنيسة كانت تحتاج في ذلك الوقت إلى من يواجه العالم الوثني مثل اوريجانوس وأيضاً من ينظم الروحيات والإداريات فيها مثل البابا ديمتريوس. وفي النهاية لا بد أن نؤكد على أن المنصب يجب أن يصحبه أبوة والموهبة يجب أن تتحلى بالخضوع.
والكنيسة لا ترفض كل ما كتبه وأيضاً لا تقبل كل ما كتب، بل إنها تنتقي من فكره ما تجده يتمشى مع إيمانها المسلم من القديسين.
الرب يجعل هذا الكتاب خطوة نحو فهم أعمق وإدراك لمعنى مختبئ وصورة أوضح لكتابه المقدس، بصلوات أمنا العذراء مريم والشهيد مارمينا العجائبي وطلبات أبينا البابا أنبا تواضروس الثاني وشريكه في الخدمة أبينا الأسقف أنبا إيسيذورس أسقف ورئيس دير البرموس.
أنبا مقار
خادم كرسي الشرقية ومدينة العاشر من رمضان
بدء صوم الميلاد نوفمبر 2015
العلامة أوريجانوس – حياته وتعاليمه وخلافه – الأنبا مقار أسقف الشرقية
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان