أبحاثإلحادكتب

دروس من الجينوم البشري – فرانسيس كولينز

دروس من الجينوم البشري - فرانسيس كولينز

دروس من الجينوم البشري – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

دروس من الجينوم البشري - كتاب لغة الله - فرانسيس كولينز PDF
دروس من الجينوم البشري – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

فك رموز كتاب تعليمات الإله دروس من الجينوم البشري – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

كتاب لغة الإله PDF – فرانسيس كولينز – للتحميل

فك رموز كتاب تعليمات الإله دروس من الجينوم البشري

عندما كنت زميل أبحاث في مجال علم الوراثة في جامعة ييل في وقت مبكر من ثمانينات القرن الماضي، كان تحديد تسلسل عدة مئات من شيفرة الحمض النووي مهمة شاقة. الوسائل كانت صعبة، وتتطلب العديد من الخطوات التحضيرية، وكانت تتطلب أيضاً استخدام كواشف خطرة باهظة الثمن مثل المواد الكيميائية المشعة، ودليل لصب المواد الهلامية التي كانت دائما ما تعاني من فقاعات وعيوب أخرى. التفاصيل غير مهمة؛ النقطة المهمة هنا أن العمل استغرق وقتا طويلاً جداً وكثير من محاولات التجربة والخطأ، فقط لفرز بضع مئات من حروف الحمض النووي البشري.

على الرغم من كل هذه الصعوبات، إلا أن أول ورقة بحثية قمت بنشرها كانت عن علم الوراثة البشرية على أساس تسلسل الحمض النووي. لقد كنت أبحث في إنتاج نوع واحد فقط من البروتين، وهو الموجود في كريات الدم الحمراء للجنين البشري في رحم الأم، والذي عادة ما يختفي بعد الولادة عندما يصبح الطفل قادراً على التنفس بواسطة رئتيه. البروتين يسمى الهيموغلوبين الجنيني.

الهيموغلوبين هو البروتين الذي يسمح لخلايا الدم الحمراء بتوفير الأكسجين من الرئتين إلى جميع أنحاء الجسم. يستخدم البشر وبعض القردة نوع خاص من الهيموجلوبين قبل الولادة يساعد على استخراج الأكسجين من دم الأم لتغذية الجنين أثناء نموه خلال السنة الأولى من عمر الإنسان، ويتناقص هذا الهيموغلوبين الجنيني تدريجياً، ويقوم البالغين بإنتاج نوع أخر بدلاً من ذلك. ولكن في الأسرة الجامايكية التي كنت أقوم بإجراء التجارب عليها استمرت كميات كبيرة من الهيموغلوبين الجنيني في الظهور في مرحلة البلوغ.

سبب “استمرار الهيموغلوبين الجنيني الوراثي” كان من مثيراً للاهتمام، لأنه إذا تعرفنا على كيفية تحفيز إنتاجه لغرض معين عند أي شخص، فإننا نستطيع تقليل كثير من سلبيات فقر الدم المنجلي. يكفي 20% من الهيموغلوبين الجنيني في خلايا الدم الحمراء من شخص يعاني من مرض فقر الدم المنجلي للتخلص من المشاكل الصحية المؤلمة وتفاقم الأذى الذي يلحق بالأعضاء.

لن أنسى أبدا ذلك اليوم، عندما كشفت محاولتي لفهم تسلسل الحمض النووي عن وجود القاعدة G بدلا من القاعدة C في حالة معينة لأحد الجينات مما أدى إلى إنتاج الهيموغلوبين الجنيني. تغير هذا الحرف الوحيد كشف أنه هو المسؤول عن توقف البرنامج الحيوي عند البالغين. شعرت بسعادة غامرة ولكنني كنت منهكاً، لقد استغرق ذلك مني ثمانية عشر شهراً من الجهد المتعب الاكتشاف حرف واحد متغير في شفرة الحمض النووي البشري.

لقد أثار دهشتي أنني علمت بعد ذلك بثلاث سنوات أن بعض العلماء أصحاب الرؤية الثاقبة قد بدأ بمناقشة إمكانية تحديد تسلسل الحمض النووي لكامل الجينوم البشري، والتي تشير التقديرات إلى أن طوله يصل إلى نحو 3 مليارات زوج من القواعد. وهذا هدف بالتأكيد لا يمكن أن أحققه خلال حياتي.

كنا نعرف نسبياُ القليل حول ما يحتويه الجينوم. لم يكن أحد قد شاهد واقعية القواعد الكيميائية للجينات البشرية تحت المجهر (لقد كانت صغيرة جداً). لقد تم التعرف على بضعة مئات من الجينات، وكانت التوقعات حول العدد الكلي للجينات محل الاختلاف كبير. بل حتى تعريف الجين كان محل اختلاف. اهتزت التعريفات البسيطة التي تعتبر أن الجين يشكل امتداداً لحمض نووي يحمل رموزاً لبروتين معين بعد اكتشاف أن مناطق تشفير البروتين في الجينات يتم التأثير عليها من شرائح في الحمض النووي تسمى انترونات.

اعتماداً على الطريقة التي تقسم مناطق الترميز في نسخة الحمض النووي الريبي، يمكن لجين واحد في بعض الأحيان أن يرمز لعدة بروتينات ذات صلة. وعلاوة على ذلك، كما يمكن أن يركز إلى أماكن في الحمض النووي بين الجينات التي لا يبدو أن مهمة محددة؛ حتى أن البعض كان يشير إلى هذه الأماكن بـ “نفاية الحمض النووي”، على الرغم من القول بأن جزء من الحمض النووي “نفاية” هو نوع من الغطرسة نظراً لجهلنا بذلك.

على الرغم من كل هذه الشكوك، لم يكن هناك شك في أهمية تسلسل الجينوم الكامل. يختبئ بين ثنايا كتيب التعليمات الكثيرة قائمة بالعناصر اللازمة لحياة الإنسان، ونحن نفتقر إلى معرفة عنها وليس باستطاعتنا التعامل معها بشكل فعال. بالنسبة لي كطبيب، تعتبر إمكانية فتح صفحات أكثر الكتيبات الطبية فعالية (الجينوم) أمراً مثير للغاية.

كمبتدئ في الأوساط الأكاديمية وقليل الدراية بالحقائق العملية لهذه المشروع الجريء، انضممت إلى المؤيدين للشروع ببرنامج منظم للتعرف على تسلسل الجينوم البشري، والذي سرعان ما أصبح يعرف باسم مشروع الجينوم البشري. في السنوات اللاحقة ازداد شوقي بشكل كبير لرؤية الجينوم البشري. ومن خلال قيادتي لمختبر بحثي وليد مكون من طلبة الماجستير والدكتوراه الجادين، قررت أن أبحث في أسس أمراض معينة استعصت على العلاج. وأكثر مرض كنت أود التعرف على أسسه هو مرض التليف الكيسي cystic fibrosis الذي يعد أكثر الأمراض الوراثية المميتة في دول شمال أوربا.

هذا المرض عادة ما يكتشف في الطفال حديثي الولادة الذين لا تزيد أوزانهم، والذين يعانون بشكل مستمر من التهابات الجهاز التنفسي. وبعد جمع معلومات من أمهات هؤلاء الأطفال اللاتي كن يقلن إنهن يشعرن بمذاق مالح عند تقبيل أطفالهن، توصل الأطباء إلى تشخيص يشير إلى وجود تركيز عالي من الكلوريد في عرق هؤلاء الأطفال. كنا نعرف أيضا أن لدى مرضى التليف الكيسي إفرازات سميكة ولزجة في الرئتين والبنكرياس، ولكن لم يكن لدينا أية فكرة عن الجين المحتمل المسبب لذلك.

لقد تعرفت لأول مرة على مرض التليف الكيسي عندما كنت طبيباً متدرباً في أواخر السبعينات. في الخمسينات كان الأطفال المصابين بالمرض نادراً ما يظلون على قيد الحياة لسن العاشرة. ومع التطور الذي حصل في التعامل مع أعراض المرض واستبدال الأنزيمات في البنكرياس وعلاج التهابات الرئة والتقدم في مجال التغذية والعلاج الطبيعي تمكن المصابين بالمرض في السبعينات من الوصول إلى مرحلة الجامعة والزواج والعمل.

ولكن على المدى البعيد كانت فرص الشفاء من المرض قائمة. من دون فهم أساسي للخلل الجيني المسبب للمرض كان الباحثون يبدون وكأنهم يتحسسون طريقهم في الظلام. كل ما نعرفه أنه من بين الثلاثة ملايين حرف من شيفرة الحمض النووي هناك حرف واحد تحرك من مكانه.

العثور على هذا الخطأ أمر خارج عن القدرة، ولكن الشيء الأخر الذي نعرفه عن مرض التليف الكيسي هو أنه يتخذ النمط المتنحي في الوراثة. لفهم ذلك، من المهم أن نعرف أن كل جين في أجسامنا له نسختين، الأولى نأخذها من الأب والأخرى نأخذها من الأم. في الأمراض المتنحية مثل التليف الكيسي يصاب الطفل بالمرض فقط إذا كانت كلتا نسختي الجين تالفة.

لكي يحدث ذلك، يجب أن يكون كلا الوالدين حاملا لنسخة تالفة، ولذلك فإن الأفراد الذين يحملون نسخة سليمة وأخرى تالفة لا يشعرون بذلك، هذه الناقلات بشكل عام علم وضعهم (حوالي واحد من كل ثلاثين شخص من أصول شمال أوروبية يكون حامل التليف الكيسي، ومعظمهم ليس لديهم تاريخ عائلي للمرض).

سمح الأساس الجيني لتليف الكيسي بعملية تجسس للحمض النووي مثيرة للانتباه: حتى من دون معرفة أي شيء عن الجين المسؤول، يمكن للباحثين تتبع عملية توريث مئات من جزيئات الحمض النووي من جينوم جميع الأسر ذات الأقرباء المتعددين المصابين بالتليف الكيسي، بحيث عبر هذه العملية يمكن توقع جزيئات الحمض النووي المصابة بالتليف الكيسي وتلك غير المصابة. هذه الجزيئات يجب أن تكون بالضرورة قريبة من جين التليف الكيسي.

بالتأكيد لا يمكننا قراءة الثلاثة ملايين زوج من الأحرف، ولكن بإمكاننا تسليط الضوء على بضعة ملايين منها هنا، وبضعة ملايين هناك، لنرى ما إذا كان لها علاقة بالمرض. كان علينا أن نقوم بذلك مئات ومئات المرات، ولكن الجينوم هو مجموعة محدودة من المعلومات، وإذا أبقينا عليها كذلك فسنكون واثقين من تحديد الجوار المطلوب.

لقد تم التوصل إلى ذلك مما أثار سرور العلماء والعوائل معا وكان ذلك في عام 1985، وتم الكشف عن أن جين التليف الكيسي موجود في مكان ما بين مليوني قاعدة من أزواج الحمض النووي الموجودة في الكروموسوم السابع. ولكن الجانب الأصعب للموضوع للتو بدأ. ولتقريب تصور مدى صعوبة المهمة أشبه ذلك بالبحث عن مصباح تالف في سرداب أحد البيوت في الولايات المتحدة.

كانت الدراسات العائلية بداية ممتازة لأنها مكنتنا من تحديد الولاية والمدينة. ولكن ما زلنا كأننا ننظر من ارتفاع 2000 قدم، وهو ما يعني أن بحثنا قد لا يقود إلى شيء. ما كان مطلوباً هو البحث في البيوت بيتاً بيتاً والبحث بين المصابيح التالفة مصباحاً مصباحاً.

 لا يوجد لدينا حتى الآن خريطة للمنطقة نسير عليها. الكروموسوم رقم 7 مثل بقية الجينات لم يكن معروفة في عام 1985. ولإكمال التشبيه، أقول إنه لم يكن لدينا خريطة لشوارع البلدات والقرى، ولا دليل للمباني ولا أي مؤشر لمخازن مصابيح الإنارة. لقد كان العمل قاسي جداً. اخترعت أنا وزملائي في الفريق طريقة تسمى “قفز الكروموسوم”، وهي الطريقة التي سمحت لنا بالتحرك عبر 2000000 قاعدة من الأزواج المستهدفة على شكل قفزات، بدلا من الزحف البطيء على الطريقة التقليدية. وساعدنا ذلك في تفتيش المنازل على شكل دفعات بدلاً من تفتيشها بيتاً بيتاً.

ولكن التحدي لا يزال كبيراً جداً، بحيث اعتقد كثيرون في الحقل العلمي أن هذا النهج غير عملي، وأنه لن يصل مطلقاً لفهم أي مرض بشري. في عام 1987، واجهنا نقصاً في التمويل وكثير من الإحباط، وقام مختبرنا بتوحيد جهوده مع مختبر Chee Tsui وهو باحث مميز حاصل على الدكتوراه في مستشفى لعلاج الأطفال في تورنتو. اندماج المختبرين منحنا طاقة جديدة. البحث كان أشبه بالقصص البوليسية، فنحن نعرف أنه سيتم الكشف عن الغموض في الصفحة الأخيرة، ولكننا لا نعلم كم سيستغرق من الوقت للوصول إليها.

كانت هناك مؤشرات، وكانت هناك أيضا فجوات غامضة. بعد أن تشعر بالأمل لثالث أو رابع مرة لإمكانية الوصول إلى النتيجة تفاجأ باليوم التالي بتلاشي هذا الأمل لظهور بيانات جديدة، ولذلك توقفنا عن التفاؤل بالوصول إلى أي شيء. وجدنا من الصعوبة أن نشرح لزملائنا عدم قدرتنا على العثور على الجين أو التوقف عن البحث. ولكي أبين صعوبة المهمة بطريقة تشبيهية ذهبت إلى مزرعة في ولاية ميتشغان ليتم التقاط صورة لي وأن أمسك بإبرة وأنا جالس فوق كومة من القش.

ولكن في ليلة ممطرة من شهر مايو 1989، جاء الجواب في نهاية المطاف. بدأ جهاز الفاكس الخاص بمختبري ومختبر تشي الذي وضعناه في سكن الطلاب بجامعة ييل حيث كنا نعقد اجتماعاً هناك، بدأ بإرسال بيانات عن العمل الذي قمنا به في الأيام السابقة، حيث تبين بشكل لا لبس فيه أن حذف ثلاثة حروف فقط من شفرة الحمض النووي في الجزء الخاص بتشفير البروتين في الجين الذي لم يكن معروفة من قبل هو سبب التليف الكيسي في معظم المرضى.

بعد فترة وجيزة، كنا وآخرون قادرين على إظهار أن هذه الطفرة بالإضافة إلى أخطاء برمجية في الجين نفسه، أصبحت تسمى CFTR، هي المسؤولة عن جميع حالات هذا المرض. من خلال ذلك تمكنا أن نبين أن العثور على المصباح التالف الذي يسبب المرض يتم من خلال الاقتراب بشكل متواصل من مكان الكروموسوم. لقد كانت لحظة عظيمة. لقد كان الطريق طويلاً وشاقاً، ولكن ارتفعت درجة التفاؤل بأن البحث للوصول إلى علاج المرض أصبح في متناول اليد.

في التجمع اللاحق لألاف من الباحثين في مرض التليف الكيسي وعوائل المرضى والعاملين بالعيادات كتبت نص أغنية للاحتفال باكتشاف الجين. دائما ما تساعدني الموسيقى في التعبير عن أشياء لا أستطيع التعبير عنها بالكلمات. وعلى الرغم من مستواي في عزف الغيتار متوسط إلا أنني شعرت بسعادة عظيمة في تلك الدقائق عندما كان جميع الحضور يرددون كلمات الأغنية بصوت عال. هذه التجربة كانت أقرب للروح منها للعلم. لم أستطع منع دموعي وأنا أرى هذه الشخصيات المميزة تنهض من مقاعدها وتغني مع فرقة الإنشاد:

تجرأ على الحلم تجرأ على الحلم

كل أخوتنا وأخواتنا يتنفسون الحرية

بدون خوف وقلوبنا لا تهتز

حتى تنتهي قصص التليف الكيسي

تبين أن الخطوة التالية أصعب مما كنا نتوقع، وأن قصة مرض التليف الكيسي لم تنته بعد. ومع ذلك فإن اكتشاف الجين كان في الحقيقة أمراً ممتعاً، وبدأ فصل جديد من البحث في المرض التحقيق نصر كامل عليه. إذا أردنا حساب تكلفة 24 فريق عالمي حول العالم يعمل لاكتشاف الجين، فإن ذلك سوف يكون عشر سنوات من الجهد وخمسين مليون دولار لاكتشاف جين واحد المرض واحد. فضلاً عن أن التليف الكيسي كان من الأمراض السهلة لأنه كان من الأمراض الشائعة تقريباً التي تتبع بدقة قوانین مندل الوراثية.

كيف لنا أن نتصور التوسع في العمل لاكتشاف مئات جينات الأمراض النادرة التي تحتاج للكشف عنها بشكل عاجل. والأكثر تحدياً، كيف يمكننا تصور تطبيق نفس الطريقة على أمراض مثل مرض السكري، وانفصام الشخصية، وأمراض القلب، والسرطانات الشائعة، وغيرها من الأمراض التي نعلم أن عوامل الوراثة فيها تلعب دورا مهما، في حين أن الأدلة تشير إلى تأثير عدة جينات في الموضوع، وكل من هذه الجينات لا يلعب دوراً حاسماً في المرض.

في هذه الحالة علينا أن نبحث عن عشرات المصابيح التالفة، وبعضها قد لا يكون تالفاً تماماً، بل قد يكون قد خفتت إضاءته عما يجب أن يكون عليه. إذا كان لنا نأمل بالمضي في ظروف أكثر صعوبة فإنه يجب علينا الحصول على معلومات مفصلة ودقيقة عن كل زاوية وركن في الجينوم البشري. نحتاج لخريطة مفصلة لكل بيت في البلد.

تصاعد الجدل بحدة أواخر 1980 حول الحكمة من المشروع، ففي حين أن معظم العلماء يتفقون على أن المعلومات في الواقع مفيدة، ولكن ضخامة المشروع تجعله يبدو بعيد المنال تقريباً. زيادة على ذلك، أصبح من المعلوم أن جزءًا صغيراً من الجينوم يتبع برمجة البروتين، في حين أن تطبيق ذلك على بقية الأجزاء محل نقاش. أحد العلماء المعروفين جيدا كتب يقول: “أن تسلسل الجينوم قد يكون مفيدا بنفس فائدة ترجمة الأعمال الكاملة لشكسبير إلى اللغة المسمارية، ولكن ليس بالإمكان تفسيرها”. وكتب أخر “ليس من العقل أن يخوض علماء الوراثة في بحر من الهراء للوصول إلى حذاء جاف في جزيرة صغيرة”.

أغلب المخاوف من المشروع تستند إلى فكرة أن التكلفة المحتملة لمثل هذا المشروع قد تسحب التمويل من مشاريع حيوية أخرى. أفضل رد على هذه المخاوف هو في تكبير الكعكة، والبحث عن تمويل جديد للمشروع. تم ذلك في الولايات المتحدة من خلال تعيين مدير جديد للمشروع هو جيم واتسون Jim Watson الباحث المشارك في اكتشاف الحمض النووي الحلزوني المزدوج. كان واتسن في ذلك الوقت النجم الذي لا يضاهي في علم الأحياء، وقد استطاع إقناع الكونغرس للمضي في المغامرة الجديدة.

أشرف جيم واتسون خلال العامين الأولين باقتدار على مشروع الجينوم البشري في أمريكا، وأنشأ مراكز الجينوم ووظف مجموعة من أفضل وألمع علماء الجيل الحالي للعمل في المشروع. ولكن الشكوك حول المشروع ظلت كما هي، وخاصة فيما يتعلق بقدرة المشروع على إنجاز شيء خلال مدته المقدرة بخمسة عشر سنة، وخاصة أن التكنولوجيا المطلوبة لم يكن قد تم ابتكارها.

وحدثت أزمة في عام 1992 عندما ترك واتسن منصبه فجاءةً على أثر خلاف علني مع مدير المراكز الصحية حول جدوى تسجيل براءات الاختراع الخاصة بجزيئات الحمض النووي (والتي كان واتسن معارضاً لها بشدة).

تبع ذلك بحث مكثف لاختيار مدير جديد للمشروع. ولم يكن أحد أكثر مني دهشة عندما توجهت الأنظار لي. عطفاً على كوني كنت مستمتعاً بالوقت الذي كنت أقود فيه مركز الجينوم بجامعة ميتشغان، ولم أكن أتخيل أن أصبح موظفاً فدرالياً، ولذلك أعربت في البداية عن عدم رغبتي بذلك، ولكن في الأخير تم اتخاذ القرار باختياري. لقد كان هناك مشروع واحد للجينوم. سوف يكون مشروع واحد للجينوم في التاريخ، وإذا نجح ستكون تبعاته في الطب غير مسبوقة.

كمؤمن بالله، سألت نفسي ما إذا كانت هذه اللحظة هي من ضمن اللحظات حيث طلب مني أن ألعب دوراً أكبر في مشروع سوف يكون له دور كبير في فهم أنفسنا؟ في هذه اللحظة سنحت الفرصة لقراءة لغة الله، ولفهم تفاصيل الطريقة التي جاء بها البشر إلى الوجود. هل أستطيع أن أهرب من ذلك؟ لقد كنت دائما أشكك في الذين يقولون إنهم أصغوا إلى رغبة الإله في حالات مشابهة، ولكن الأهمية القصوى لهذه المغامرة والتبعات المحتملة على علاقة الجنس البشري بالخالق جعلت من الصعب تجاهل ذلك.

وعندما قمت بزيارة لابنتي في ولاية نورث كارولاينا، أمضيت فترة بعد الظهر في الصلاة في كنيسة صغيرة داعياً الله أن يرشدني للقرار الصحيح. في الحقيقة لم أسمع الله يتكلم، ولم أمر بهذه التجربة. ولكن في هذه الساعات شعرت بأن السكينة حلت داخلي، وبعد عدة أيام قبلت بالعرض المقدم لي. العشر السنوات التالية كانت عبارة عن سلسلة من الخبرات. الأهداف الرئيسية لمشروع الجينوم البشري كانت طموحة جداً، ولكننا وضعنا أهدافاً مرحلية وألزمنا أنفسنا تحقيقها.

لقد كانت هناك لحظات من الإحباط الشديد عندما كنا نعول في التجارب الأولى على طرق تبدو واعدة ثم تبين أنها فاشلة عند تطبيقها على نطاق أوسع. كانت تنشأ بعض الاحتكاكات بين أعضاء الفريق، وكان من واجبي أن أعمل كوسيط لحلها. بعض المختبرات لم تف بوعودها وكان لابد من استبعادها، وكان اللوم يقع على مدراء هذه المختبرات. ولكن كان هناك أيضا لحظات من الانتصار، عندما كنا نصل إلى مبتغانا، وعندما بدأت الأفكار الطبية تتراكم. وفي عام 1996، كنا قد بدأنا تجارب على مستوى واسع على تسلسل الجينوم البشري باستخدام عملية كانت معقدة من الناحية الفنية ومكلفة في الوقت الذي كنا نعمل فيه على جين التليف الكيسي.

في لحظة حاسمة، قررنا نحن المسؤولين على الناحية الإعلامية للمشروع جعل الوصول إلى بيانات المشروع متاحة للجميع شرطاً للمشاركة فيه، واتفقنا على أن لا براءات الاختراع من أي نوع سيتم تقديمها لتسلسل الحمض النووي. لم نكن نملك تبرير ولو ليوم واحد في عدم إتاحة الفرصة للباحثين في جميع أنحاء العالم، الذين يهدفون إلى فهم مشاكل طبية مهمة، أن لا يكون لهم إمكانية الوصول الحر والمفتوح للبيانات التي يتم إنتاجها.

السنوات الثلاثة التالية كانت مثمرة، ومع بدء عام 1999 كنا جاهزين لتسريع العمل. ولكن لاحت بالأفق مشكلة جديدة. لم يكن التعرف على تسلسل الجينوم دفعة واحدة مشجعاً من الناحية التجارية، ولكن قيمة المعلومات التي أصبحت متوفرة بدت أكثر وضوحاً، وبدأت تكلفة التسلسل تنخفض، ولكن المشكلة التي واجهت مشروع الجينوم البشري كانت مع الشركة الخاصة. أعلن کریغ فنتر Craig Venter وهو رئيس الشركة التي سميت فيما بعد Celera أنه سوف يقوم بعملية واسعة لتسلسل الجينوم البشري، وأنه سوف يسجل براءة الاختراع للعديد من الجينات، وسيودع نسخة من التسلسل في قاعدة بيانات للمشتركين مقابل رسوم مرتفعة للاطلاع عليها.

لقد كانت فكرة أن يصبح تسلسل الجينوم البشري ملكية خاصة فكرة مزعجة للغاية. كان التخوف الأكبر منذ بدء طرح الأسئلة ما إذا كان من الحكمة الاستمرار في إنفاق أموال دافعي الضرائب في المشروع، في حين أن من الأفضل أن ينفذه القطاع الخاص – على الرغم من فريق شركة سيليرا لم يوفر أية بيانات حقيقية، وكما أن المنهجية التي أتبعها لم يكن من المرجح أن تصل إلى التسلسل الدقيق. ومع ذلك استمرت الآلة الإعلامية لشركة سيليرا بالادعاء بتحقيق منجزات، وللإيحاء بأن المشروع العام بطيء وبيروقراطي.

وبالنظر إلى أن مشروع الجينوم البشري يجري العمل به في بعض أرقى الجامعات في العالم، من قبل بعض من أكثر العلماء إبداعاً وتخصصاً على سطح الأرض فإنه كان من الصعب القبول بهذه الادعاءات. ومع ذلك، فإن الصحافة تحب الجدل. لقد كتبت الكثير من المقالات عن السباق للوصول إلى تسلسل الجينوم البشري، وعن يخت فنتر ودراجتي النارية. ما هذا الهراء. ما كان يجهله غالبية المراقبين أن النقاش لم يكن حول من ينجز العمل بطريقة أسرع وأرخص. على عكس ذلك، كان صراع المبادئ، هل سيكون الجينوم البشري والذي هو أرث مشترك سلعة تجارية أم فائدة عامة؟

لم يدخر فريق عملي أي جهد. كانت مختبراتنا العشرين الموجودة في ستة بلدان تعمل على مدار الساعة. وخلال 18 شهراً وبعد إنتاج الآلاف الأزواج كل ثانية طوال 24 ساعة وطوال أيام الأسبوع، أصبح 90% من تسلسل الجينوم البشري في متناول اليد. واستمرت البيانات في الوصول طوال الأربع وعشرين ساعة. ومن جانبها أنتجت شركة سيليرا قدرة كبيرة من البيانات، ولكن هذه البيانات ظلت في قواعد البيانات الخاصة بها بعيدة عن متناول الناس.

وعندما أدركت سليرا أنها يمكن أن تستفيد من البيانات العامة توقفت عند نصف كمية الإنتاج الذي كانت تخطط له. وفي النهاية انتقل أكثر من نصف إنتاج سيليرا ليصبح جزءًا من البيانات المتاحة للجميع.

الاهتمام بالسباق أصبح غير لائق، وهدد بتشويه أهمية الهدف. وفي أواخر عام 2000، وعندما كنا وشركة سيليرا على وشك الإعلان عن التوصل إلى نسخة أولية من الجينوم البشري طلبت من صديق مشترك لي ولفنتر أن يرتب لنا لقاءً سرياً. وعلى طاولة من البيتزا وكؤوس البيرة في منزل الصديق المشترك ناقشت مع فنتر القيام بإعلان مشترك عن التوصل لهذا الإنجاز.

وهذا ما حصل بالفعل، وكما أوضحت في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، وجدت نفسي واقفاً بجانب رئيس الولايات المتحدة في الغرفة الشرقية من البيت الأبيض يوم 26 يونيو عام 2000، معلنا أنه تم التوصل إلى أول نسخة من كتيب تعليمات الإنسان، وأنه تم الكشف عن لغة الإله.

على مدى السنوات الثلاث التالية، كان لي شرف الاستمرار في قيادة المشروع العام لصقل نسخة التسلسل هذه، وسد الفجوات المتبقية، والارتفاع بدقة المعلومات إلى أعلى مستوى، والاستمرار في إيداع كافة البيانات في قواعد البيانات العامة بشكل يومي. في نيسان من عام 2003، وهو شهر الذكرى الخمسين لنشر واتسون وكريك بحثهم عن الحلزون المزدوج، أعلنا عن الانتهاء من جميع أهداف مشروع الجينوم البشري. كمدير للمشروع، كنت فخورة جداً بالإنجاز الذي حققه أكثر من ألفي عالم، وهو الإنجاز الذي أعتقد أنه سوف ينظر إليه بعد ألف سنة على أنه أحد المنجزات الهامة للبشرية.

وفي الاحتفال الذي تلى نجاح المشروع والذي قامت بتنظيمه مؤسسة تعنى بدعم عوائل المرضى المصابين بأمراض وراثية، قمت بإعادة كتابة الأغنية الشعبية المعروفة ” All the Good People” لتلائم المناسبة، وشارك الجميع بالإنشاد:

هذه الأغنية لجميع الناس الجيدين

جميع الناس الجيدين الأعضاء في هذه العائلة

هذه الأغنية لجميع الناس الجيدين

جمعينا نشترك في خيط واحد

قمت بكتابة نص مشابه عن الظروف التي كانت تمر بها العديد من عوائل المرضى أثناء معاناتهم أو معاناة أطفالهم. هذه الأغنية لأولئك الذين يعانون،

قوتكم وروحكم أثرت في الجميع

استمراركم يمنحنا العزيمة

لأن شجاعتكم تساعدنا على الصمود

وأخيرا أضفت فقرة عن الجينوم

إنه كتيب التعليمات، وسجل التاريخ

وهو كتاب الطب، إنه جميع ذلك

إنه من الناس وإلى الناس

أنه ملكك وملكي

بالنسبة لي كشخص مؤمن كان لاكتشاف الجينوم البشري أهمية إضافية. هذا الكتيب الذي كتب بلغة الحمض النووي بالطريقة التي تحدث فيها الله لإيجاد الحياة. لقد شعرت بالسعادة الغامرة وأنا أقرأ هذا الكتاب الذي هو أهم الكتب الحياتية. نعم، لقد كتب بطريقة يصعب علينا فهمها، وسوف يتطلب فهم أوامرها عقود أو ربما قرون، ولكننا عبرنا الجسر إلى الضفة الأخرى.

مفاجآت من القراءة الأولى للجينوم

لقد كتبت كتب كثيرة عن مشروع الجينوم البشري، وربما أقوم أنا أيضا بتأليف كتاب عن ذلك. وبالطبع ليس هدف هذا الكتاب الغوص في هذه التجربة المميزة، وإنما الهدف هو تسليط الضوء على طرق الفهم الجديدة يمكنها التوفيق بين العلم والدين. وفي هذا المجال، من المشوق التدقيق بالجينوم البشري ومقارنته مع جينوم كائنات أخرى تم تحديد الجينوم لها. عندما نتأمل في الحجم الهائل للجينوم البشري المكون من 3,1 بليون حرف لبرمجة الحمض النووي موزعة على 24 کروموسوم تظهر لنا العديد من المفاجآت.

إحدى هذه المفاجآت هي الكمية القليلة من الجينوم المستخدمة لتشفير البروتين. وعلى الرغم من محدودية طرقنا التجريبية والحسابية فإن هناك ما بين 20000-25000 من الجينات المشفرة البروتين في الجينوم البشري. تصل كمية الحمض النووي المستخدمة في تشفير البروتين إلى 1,5٪ من الكمية الكلية. وبعد عقد من الزمن على توقع اكتشاف ما لا يقل عن 100000 جين سوف يصاب البعض منا بالدهشة من اكتشاف أن الله كتب قصص قصيرة عن الجنس البشري. وهذا بالخصوص سبب للدهشة في إطار حقيقة أن الجين المسؤول عن الكائنات الأخرى مثل الديدان والذباب والنباتات البسيطة له نفس الحجم تقريبا، أي ما يقرب من 20000.

اعتبر بعض المراقبين ذلك فرصة للهجوم على تعقيد الإنسان. هل خدعنا أنفسنا بشأن الوضعية الخاصة لنا في مملكة الحيوانات؟ حسنا، ليس الأمر كذلك، فالقصة ليست كلها مجرد عدد جينات. بكل الاعتبارات، التعقيد الحيوي للبشر أكبر بكثير من الديدان التي تحتوي على 959 خلية، على الرغم من أن عدد الجينات في الحالتين متشابه، وأيضا لعدم وجود كائن أخر تم تحديد تسلسله الجيني. تعقيد تكويننا لا يأتي من عدد حزم التعليمات فحسب، وإنما في طريقة توظيفها. ولعل أجزاءنا قد تعلمت على منهجية العمليات المتعددة Multitask.

لفهم الأمر بطريقة أخرى دعوني استخدم تشبيها لغوية. معدل الكلمات التي يعرفها الشخص المتعلم الناطق باللغة الإنجليزية هو 20000 كلمة. وهذه الكلمات تستخدم في تكوين نصوص مبسطة (مثل كتيب تعليمات السيارة)، أو في أعمال أدبية أكثر تعقيداً مثل James Joyce ‘ s Ulysses. بنفس المعنى، تحتاج الديدان والحشرات والأسماك والطيور إلى عدد 20000 من الجينات لتمارس نشاطها، مع أنها تستخدم هذه المصادر بطريقة أقل تطوراً مما نقوم به.

الميزة الأخرى الملفتة للجينوم البشري تأتي من المقارنة بين مختلف أعضاء النوع البشري. على مستوى الحمض النووي، نجد أن 99٪ من البشر متطابقين. وهذا التشابه ينطبق على أي شخصين في العالم نريد مقارنتهما. ولذلك فالحمض النووي للبشر هو عضو في عائلة واحدة. هذا التمايز الوراثي البسيط يميزنا عن بقية الكائنات على الأرض، حيث التفاوت بينها في الحمض النووي يصل إلى 10 أو ربما 15 ضعف التفاوت الموجود في الحمض النووي البشري. إذا أرسل كائن غريب إلى الأرض لفحص أشكال الحياة فإنه سيجد العديد من الأمور الملفتة للنظر عن الجنس البشري، ولكن بالتأكيد فإن أبرز هذه الأمور سوف يكون في التفاوت البسيط بين أفراد الجنس البشري.

ينظر علماء الوراثة السكانية الذين يختصون باستخدام أدوات الحسابية لإعادة بناء التجمعات السكانية في التاريخ من حيوانات ونباتات، أو البكتيريا، إلى هذه الحقائق عن الجينوم البشري ويستدلون على أنها تشير إلى أن جميع أفراد جنسنا البشري متحدرين من مجموعة مشتركة من المؤسسين، مكونة من ما يقرب من عشرة الآلاف شخص، عاشوا قبل حوالي 100-150 ألف سنة. هذه المعلومات تتناسب تماماً مع السجل الأحفوري، وهو ما يشير إلى أن الموطن الأصلي لهؤلاء المؤسسين كان شرق أفريقيا.

نتيجة أخرى مثيرة للاهتمام العميق ظهرت بعد دراسة جينومات متعددة، ألا وهي القدرة على القيام بمقارنات تفصيلية بين تسلسل الحمض النووي الخاص بنا مع تلك الموجودة في الكائنات الحية الأخرى. باستخدام الكمبيوتر، يستطيع الشخص أخذ مقطع من الحمض النووي الخاص بالإنسان وتقييم ما أذا كان يتشابه مع تسلسل الحمض النووي لكائنات أخرى. إذا أخذنا القسم الخاص بالتشفير في الجين البشري (وهو القسم الخاص بالتعليمات الموجودة بالبروتين) وأجرينا أبحاثاً عليه، فإننا سوف نجد تشابهاً كبيراً مع جينوم بقية الكائنات. بعض الجينات قابل للتمييز، ولكنه لا يتطابق مع الموجود في الأسماك.

البعض الأخر سوف يكون فيه تشابه بين الجينوم البشري وبين كائنات أكثر بساطة مثل ذباب الفاكهة والديدان. وفي بعض الحالات الصادمة قد يصل التشابه إلى جينات الخميرة، بل وحتى إلى البكتيريا.

على الطرف الأخر، إذا أخذنا جزء من الحمض النووي الموجودة بين الجينات فإن إمكانية العثور على تسلسل مشابه في جينوم كائنات مختلفة عنا كثيرة تقل. بالطبع هذه الإمكانية لا تختفي تماماً، فبمساعدة الكمبيوتر يمكن مقارنة هذا الجينوم مع جينوم بقية الثدييات، وتقريباً جميع هذه الكائنات بما فيها الكائنات غير الثدية ينتظم فيها الحمض النووي بشكل جميل.

الشكل التالي يوضح نسب النجاح في العثور على تشابه حسب الأنواع المختلفة. ماذا يعني كل ذلك؟ على مستويين، يمثل ذلك تأييداً قوياً لنظرية داروين في التطور، تأييد لفكرة أننا جئنا من أسلاف مشتركين من خلال عملية انتخاب طبيعي بطريقة عشوائية متغيرة. النتيجة مبينة في الشكل 5.1.

احتمالية وجود تشابه مع الحمض النووي لكائنات أخرى
احتمالية وجود تشابه مع الحمض النووي لكائنات أخرى

 جدول 5,1: احتمالية وجود تشابه مع الحمض النووي لكائنات أخرى.

 

تسلسل الجين

الحمض النووي بين الجينات

الشمبانزي

100٪

98٪

الكلب

99٪

52٪

الفأر

99٪

40٪

الدجاج

75٪

ذباب الفاكهة

60٪

الديدان

35٪

 

ضع في اعتبارك أن هذا التحليل لا يستخدم أي معلومات من السجل الأحفوري أو من الملاحظات التشريحية لأشكال الحياة الحالية. ومع ذلك تتشابه الاستنتاجات المستخلصة من الدراسات المقارنة لعلم التشريح، وكلاهما من الكائنات الحية الموجودة والبقايا المتحجرة.

ثانياً، داخل الجينوم، يمكن لنظرية داروين توقع الطفرات التي لا تؤثر على الوظيفة التي يقوم بها العضو (وهي تلك المناطق التي تقع في نفايات الحمض النووي) سوف تتراكم بشكل مستمر مع مرور الوقت. ومع ذلك، فمن المتوقع حدوث طفرات في منطقة ترميز الجينات مع أنها أقل حدوثاً، لأن معظم هذه الطفرات سوف تكون ضارة، وفي حالات نادرة توفر هذه الطفرات ميزة انتقائية ويتم المحافظة عليها خلال عملية التطور. هذا هو بالضبط ما لوحظ.

الظاهرة الأخيرة هذه تنطبق حتى في التفاصيل الدقيقة المناطق ترميز الجينات. لعلك تتذكر مما مر في الفصل السابق أن الشفرة الوراثية تتناقص: على سبيل المثال، GAA وGAA كلاهما رمز الحمض الجلوتاميك. وهذا يعني أنه من الممكن لبعض الطفرات في منطقة الترميز أن تكون “صامتة”، حيث لا يتم تبديل الأحماض الأمينية المشفرة من خلال التغيير.

عندما نقارن الحمض النووي للكائنات المتقاربة نجد أن الاختلافات الصامتة أكثر شيوعاً في مناطق التشفير من المناطق التي يتغير فيها الحمض الأميني. وهذا بالضبط ما توقعته نظرية داروين. إذا كان هناك من يقول إن هذه الجينومات قد تم خلقها بفعل كائن بكيفية خاصة، فلماذا ظهرت هذه الخاصية؟

 

داروين والحمض النووي

لم يكن داروين واثقاً تماماً من نظرية التطور. وهذا ما يفسر السنوات الخمس والعشرين التي فصلت بين تطويره لهذه الفكرة وبين نشره لكتاب “أصل الأنواع”. لابد أن داروين تمنى أن يعود ملايين السنين ليتابع كل الأحداث التي توقعتها نظريته. بالطبع لا يستطيع أن يفعل ذلك، ولا نحن كذلك. ولكن ما كان لداروين أن يكون أكثر اقتناعاً بنظريته مثل هذه الأيام التي توصلنا بها إلى دراسة الحمض النووي لعدة كائنات.

في منتصف القرن التاسع عشر لم يكن داروين قادراً على معرفة ما يمكن أن تكون عليه آلية التطور عبر الانتخاب الطبيعي. يمكننا الآن أن نرى التفاوت الذي افترضه داروين وذلك في التطور الذي يحدث في الحمض النووي بشكل طبيعي. هذه التفاوت يمكن أن يحدث بمعدل خطأ واحد في كل 100 مليون زوج في كل جيل (وبما أننا جميعا لدينا 3 بلايين زوج من هذه الأزواج من الأب وأخرى من الأم، فإن لدى كل واحد منا 60 زوج تقريباً قابل للطفرة لم تكن موجودة لا في الأب ولا في الأم).

معظم هذه الطفرات تحدث في أجزاء الجينوم غير الرئيسية وبالتالي فهي قليلة أو عديمة التأثير. أما تلك الأجزاء التي تقع في المناطق الأكثر أهمية للجينوم فإن الطفرات تكون ضارة بشكل عام، لأنها تقلل من اللياقة الإنتاجية. لكن في حالات نادرة، تظهر طفرة من قبيل المصادفة بحيث يمكن أن تحدث درجة طفيفة من الميزة الانتقائية. وعندها ترتفع احتمالية انتقال هذا النوع من التشفير الجديد للحمض النووي إلى النسل المستقبلي.

على مدى فترة طويلة جداً من الزمن، يمكن لمثل هذه الأحداث النادرة المفيدة أن تنتشر على نطاق واسع في جميع أفراد هذه الأنواع، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغييرات كبيرة في الوظيفة البيولوجية. في بعض الحالات، يلاحظ العلماء التطور في الفعل، والآن أصبح لدينا الأدوات اللازمة لتتبع مثل هذه الأحداث. بعض منتقدي النظرية الداروينية مثل من يقول إنه لا يوجد دليل على “التطور الكبير” (أي، التغيير الكبير في الأنواع) في السجل الأحفوري، وإنما هب مجرد “تطورات أو طفرات صغيرة” (التغيير التدريجي في إطار الأنواع).

لقد رأينا تغيراً في شكل منقار العصفور على مر الزمن، ولكن كما يقولون، ذلك يعتمد على تغير مصادر الغذاء، لكننا لم نر أنواع جديدة من العصافير تظهر.

ينظر إلى هذا التغير على نحو متزايد على كونه تغيراً مصطنعاً. فمثلا، تسعى مجموعة من الباحثين في جامعة ستانفورد بشكل حثيث في محاولة لفهم التنوع الكبير في الدروع الواقية للبدن في سمكة ذات الشوكة fish Stickleback والتي تعيش في المياه المالحة، وعادة ما يكون لها صف من 36 صفيحة مدرعة تمتد من الرأس إلى الذيل، ولكن في الجزء الذي يعيش في المياه العذبة في العديد من أنحاء العالم، حيث تقل الحيوانات المفترسة تفقد معظم هذه الأسماك الدروع الواقية.

يبدو أن الأسماك ذات الشركة التي تعيش في المياه العذبة وصلت إلى وضعها الحالي بدءًا من قبل 10-20 ألف سنة بعد ذوبان الأنهار الجليدية على نطاق واسع في نهاية العصر الجليدي الأخير. المتابعة الدقيقة لجينومات لهذه الأسماك التي تعيش في المياه العذبة مكن من التعرف على جين معين EDA، وهو الجين الذي تغير بشكل مستمر في حالات الأسماك التي تعيش في المياه العذبة، مما أدى إلى فقدان الصفائح لديها.

المثير أن الإنسان لديه أيضا جين EDA والتطور في هذا الجين أدى إلى خلل في الشعر والأسنان والغدة العرقية والعظام. ليس من الصعب أن نرى كيف أنه يمكن تعميم الاختلاف بين الأسماك التي تعيش في المياه المالحة وتلك التي تعيش في المياه العذبة تعميمه على جميع أنواع الأسماك. لذلك يبدو التمييز بين التطور الكبير والتطور الصغير تعسفياً إلى حد ما؛ فالتغييرات الكبيرة التي تنتج في الأنواع الجديدة هي نتيجة لتغيرات تدريجية على شكل خطوات أصغر.

يمكن ملاحظة التطور في تجاربنا اليومية وذلك في التغير السريع للفيروسات والبكتريا والطفيليات المسببة للأمراض، والتي يمكن أن تتسبب في حدوث مشاكل صحية عامة. لقد أصبت بالملاريا في أفريقيا الوسطى في عام 1989 رغم تناولي لعقار prophylaxis المضاد للملاريا. أدت التغيرات الطبيعية التي تحدث عشوائيا في الجينوم الطفيلي الملاريا، نتيجة للانتخاب الطبيعي السنوات طويلة من الاستخدام المكثف للالكلوروكين في مناطق من العالم، في نهاية المطاف إلى ظهور المرض الذي أصبح مقاوما للدواء، وبالتالي أصبح قادرة على الانتشار بسرعة.

وبالمثل فإن التطور السريع في فيروس HIV قد تسبب في تحدي كبير لتطوير لقاح مضاد له، وهو السبب الرئيسي في الانتكاس الكلي للذين يتم معالجتهم بالأدوية ضد مرض الإيدز. وهناك مثال أخر يعرفه عامة، الناس، ويتمثل في المخاوف من حدوث وباء نتيجة لانتشار إنفلونزا من سلالة H5N1 من فيروس أنفلونزا الطيور استناداً إلى وجود احتمال كبير في أن السلالة الحالية، قد تكون مدمرة كما هو الحال بالفعل بالنسبة إلى الدجاج وقليل من البشر المخالطين لها، إذ أنها سوف تتطور إلى شكل يمكن أن ينتشر بسهولة من شخص إلى آخر. يمكن القول إنه ليس علم الأحياء فقط يصبح من الصعب فهمه من دون نظرية التطور، بل حتى علم الطب يصبح صعب الفهم.

ماذا يعني ذلك بالنسبة لتطور الإنسان؟

تطبيق علم الوراثة على الأسماك الشوكية شيء، ولكن ماذا عنا نحن البشر؟ منذ زمن داروين تحمس الكثيرون في أنحاء متفرقة من العالم لفهم كيف تحدث الإيحاءات الخاصة بالأحياء والتطور الذي يجعل من الممكن أن لهذه الإيحاءات أن تنطبق على جنس معين من الحيوانات، ألا وهو الإنسان. أدت دراسة الجينوم إلى الاستنتاج بشكل قاطع أننا نحن البشر نشترك مع بقية الكائنات في سلف مشترك.

ويتضح بعض من تلك الأدلة في الجدول 5,1 حيث يتشابه الجينوم البشري مع غيره من الكائنات. هذا الدليل لوحده لا يعد بالتأكيد برهاناً على وجود سلف مشترك، فمن وجهة النظر التي تؤمن بالخلق هذا التشابه يدل على أن الإله استخدم مبادئ هذا التصميم الناجح مرات ومرات. كما سنرى فيما بعد، أنه وعلى الرغم من أن مناقشة طفرات «صامتة» في مناطق تشفير البروتين قد طغت على النقاش، إلا أن الدراسة المفصلة للجينوم جعلت من الصعب الدفاع عن هذا التفسير، ليس فقط بالنسبة الكل الكائنات الحية الأخرى، وإنما أيضا بالنسبة لنا.

وكمثال أول، دعونا نلقي نظرة على مقارنة بين الجينومات البشرية والفأر، وكلاهما تم تحديدها بدقة عالية. الحجم الكلي لكلا الجينومات متقارب، ومكان تخزين شفرة البروتين في الجين متشابه بشكل ملحوظ. لكن العلامات الواضحة الأخرى التي تدل على سلف مشترك تظهر بسرعة عندما ينظر المرء في التفاصيل. على سبيل المثال، ترتيب الجينات في الإنسان والفأر بشكل عام يمتد على طول الحمض النووي.

ولذلك، فإذا وجدت ترتيب الجينات في الإنسان على النحو التالي  A,B,Cفإن من المرجح أن أجد ترتيب الجينات في الفأر بنفس الترتيب، وإن كانت الفراغات الموجودة فيما بينها قد تختلف بعض الشيء (الشكل 5.2).

في بعض الحالات، هذه العلاقة تمتد لمسافات كبيرة تقريباً، لتشمل كل الجينات على الكروموسوم البشري رقم 17، وعلى سبيل المثال، هو نفس الجين الذي تم العثور عليه في الكروموسوم رقم 11 في الفأر.

بينما يمكن لشخص أن يقول إن ترتيب الجينات أمر بالغ الأهمية من أجل القيام بوظيفتها بشكل صحيح، وبالتالي فإن المصمم قد حافظ على هذا الترتيب في خلقه لهذا الكائن الخاص، إلا أنه لا يوجد دليل في الفهم الحالي للبيولوجيا الجزيئية يدل على أننا نحتاج لتطبيق هذا الإجراء على مسافات طويلة في الكروموسوم. هناك أدلة أخرى مقنعة على وجود سلف مشترك أتت من دراسة العناصر القديمة المتكررة (AREs).

 

الشكل 5,2: مقارنة بين تركيب الجينات في الإنسان والفأر
الشكل 5,2: مقارنة بين تركيب الجينات في الإنسان والفأر

هذه العناصر تنشأ من قفزات جينية قادرة على نسخ وإدخال نفسها في مواقع مختلفة من الجينوم من دون أن يكون لها أي دور وظيفي.

يحتوي جينوم الثدييات على العناصر المتكررة، وما يقرب من 45٪ من الجينوم البشري مكون من هذه الجزيئات الهامشية. عندما نقارن أقسام الجينوم البشري مع أقسام جينوم الفأر سوف نجد أن هذه الأجسام في العادة موجودة في نفس المواقع في الحالتين (الشكل 5,2). ربما فقد بعض هذه الجزئيات موقعه في هذا الكائن أو غيره، ولكن الكثير ظل في الموقع الذي ورثه عن أسلافه وظل يحمله منذ ذلك الحين.

قد يجادل أحدهم بالقول إن الخالق هو من وضع هذه العناصر في هذا المكان لسبب مقنع، وأن التقليل من شأن هذه العناصر عطفاً على جهلنا الحالي يعتبر أمرا مضلاً. وفي الحقيقة، أن جزءًا صغيراً منها يلعب أدواراً تنظيمية، ولكن بعض الأمثلة لا تتوافق إطلاقاً مع ذلك. وفي الغالب تلحق عملية التبديل الضرر بالقفزة الجينية. تنتشر هذه الأجسام في جميع أجزاء الجينوم البشري وجينوم الفأر، ولكن لا يبدو أن لها أي دور وظيفي. وفي كثير من الحالات يمكن ملاحظة مثل هذه الأجسام ميتة في كل من الجينوم البشري وجينوم الفأر (الشكل 5,2).

ما لم يكن أحد يريد أن يأخذ دور الإله الذي وضع هذه الأجسام في مكانها الدقيق هذا وافتراض إنه يريد أن يضللنا، فإن النتيجة هي أن الإنسان والفأر يشتركان في سلف واحد. هذا النوع من المعلومات عن الجينوم تشكل تحدياً كبيراً للذين يعتقدون أن جميع الكائنات خلقت من العدم. تموضع الإنسان في شجرة الحياة التطورية يتوثق بمقارنة الإنسان مع أقرب الكائنات إليه وهو القرد. لقد تم الكشف عن تسلسل جينوم القرد، وتبين أنه متطابق بدرجة 96٪ على مستوى الحمض النووي.

وهناك مثال آخر لهذا العلاقة الوثيقة ينبع من فحص تشريح کروموسومات البشر والشمبانزي. الكروموسومات هي الشكل الظاهر من الحمض النووي للجينوم، وهي تظهر في المجهر الضوئي في وقت انقسام الخلية. يحتوي كل کروموسوم على مئات الجينات. الشكل 5,3 يوضح المقارنة بين کروموسومات البشر وكروموسومات الشمبانزي. الإنسان لديه 23 زوج من الكروموسومات، بينما الشمبانزي لديه 24 زوج من الكروموسومات.

يبدو أن الاختلاف في زوج من الكروموسومات بين الإنسان والشمبانزي يعود إلى انصهار اثنين من الكروموسومات البشرية مما كون الكروموسوم رقم 2. فرضية الانصهار يدعمها أنه تبين من دراسة الغوريلا وإنسان الغاب أن لكليهما 24 زوجا من الكروموسومات مشابهة جدا للشمبانزي.

في الآونة الأخيرة، ومع التحديد الكامل لتسلسل الجينوم البشري، أصبح من الممكن أن نحدد الموقع الدقيق الذي حدث فيه انصهار هذه الكروموسومات. التسلسل الموجود وطول الكروموسوم رقم 2 ملفت للنظر. دون الحصول على معلومات إضافية، دعوني أقول إن تسلسلاً خاصاً حدث على حافة الكروموسومات الرئيسية. وهذا التسلسل لا يحدث في العادة. وإنما يحدث عندما نتوقع وجود طفرات، وبالتحديد في الكرموسوم رقم 2. الانصهار الذي حدث أثناء تطورنا من قرد ترك بصمة الحمض النووي في المكان نفسه.

إنه من الصعب فهم هذه الملاحظة من دون افتراض سلف مشترك. هناك حجة أخرى تؤيد وجود سلف مشترك بين الإنسان والشمبانزي من ملاحظة غريبة تسمى “الجين المستعار”. تلك هي الجينات التي لديها ما يقرب من جميع خصائص حزمة تعليمات الحمض النووي الوظيفية، ولكنها من جانب أو أكثر تعاني من مواطن الخلل التي تحول نصها إلى كلام غامض. عندما نقارن بين الشمبانزي والإنسان، يظهر في بعض الأحيان جينات يبدو أنها تعمل وظيفية في نوع ما، ولكنها لا تعمل في أنواع أخرى، وذلك يتطلب حصول طفرات ضارة.

تعرض الجين البشري المعروف باسم 12-caspase على سبيل المثال للعديد من الضربات، ومع ذلك نجده في موقع متشابه نسبية في الشمبانزي. يعمل جين الشمبانزي 12-caspase بشكل جيد، كما هو الحال مع بقية الثدييات بما فيها الفأر. إذا كان البشر وجدوا عبر عملية خلق خاصة من قبل القوة الخارقة فلماذا أتعب الإله نفسه بإدخال جين غير فعال في هذا الموقع؟

يمكننا أيضاً أن نبدأ الآن شرح التفاصيل الدقيقة من الناحية الميكانيكية لنا ولأقرب الكائنات لنا، والبعض من هذه الكائنات قد تلعب دوراً حاسماً بالنسبة للإنسانية. في مثال على ذلك، يوجد جين لبروتين عضلات الفك (MYH16) يبدو أنه قد تحول إلى جين مزيف في البشر. ومع ذلك لا يزال هذا الجين يلعب دوراً هاماً في تطوير وقوة عضلات الفك في الكائنات الأخرى. من الممكن أن يكون تطور الفك الأضعف سمح لجمجمتنا أن تتوسع نحو الأعلى، وتستوعب المخ. من الواضح أن هذا نوع من التخمين، وبطبيعة الحال فإن التغيرات الجينية الأخرى مسؤولة بالضرورة عن كبر القشرة الخارجية للدماغ والتي تمثل عنصراً رئيسياً في الفرق بين البشر والشمبانزي.

وفي مثال أخر، يوجد حاليا اهتمام كبير بجين يسمى FOXP2 لاحتمال أن يكون له دور في عملية تطور اللغة عند الإنسان. بدأت قصة هذا الجين بعد التعرف على عائلة في بريطانيا عانى ثلاثة أجيال منها من صعوبات في النطق. كان هؤلاء يعانون من صعوبة في ترتيب الكلمات وفقا لقواعد النحو أو صعوبة في فهم تركيب الجملة المركبة أو في تحريك عضلات أفواههم ووجوههم ومراكز النطق لإخراج أصوات معينة. في مختبر التجسس الوراثي، وجد أن أفراد هذه العائلة يعانون من خلل في أحد حروف شيفرة الحمض النووي لهذا الجين الموجود في الكروموسوم رقم 7.

هذا يظهر حقيقة أن خطأ بسيط في شيفرة الجين قد تتسبب في قصور لغوي شديد دون أن يكون هناك تأثير آخر، وهذا كان مثيرة للدهشة. ازدادت الدهشة عندما تم الكشف عن أن تسلسل الجين FOXP موجود بشكل لافت في كل الثدييات تقريباً. والاستثناء المثير كان الإنسان، حيث وجد أن تغييرين مؤثرين طرأ على منطقة التشفير في الجين قبل ما يزيد على الألاف السنين على أقرب تقدير. هذه الفرضية دفعت للاعتقاد أن هذه التغيرات التي طرأت على الجين أثرت بشكل ما على تطور اللغة لدى البشر.

في هذه اللحظة، قد يشعر الماديين الملحدين بالفرحة. إذا كان الإنسان وجد من خلال التطور والانتخاب الطبيعي، فلماذا نحتاج إلى الإله ليشرح لنا كيف تكونا؟ هنا أجيب بالقول نعم نحتاج الإله. مقارنة تسلسل كل من الإنسان والشمبانزي لا تجيب على السؤال ماذا يعني أن نكون بشر. إعفاء الإله من مسؤولية الخلق الخاص لا يعني عزله عن أن يكون مصدر في كون الإنسان كائن مميز بالنسبة للكون ككل. هذه الآلية تدلنا نوعا ما على الطريقة التي يتصرف بها.

التطور: حقيقة أم نظرية؟

الأمثلة التي ذكرت هنا من دراسة الجينوم، بالإضافة إلى غيرها من الأمثلة يمكن أن تملأ مئات الكتب وتوفر نوع من الدعم الجزئي النظرية التطور، والتي استطاعت إقناع غالبية علماء الأحياء بأن إطار عمل داروين المبني على التغير والانتقاء الطبيعي مما لا شك فيه صحيح. في الواقع، بالنسبة لأولئك الذين عملوا مثلي في مجال علم الوراثة، يكاد يكون من المستحيل تصور الربط بين كميات هائلة من البيانات الآتية من دراسات الجينوم من دون الاستناد إلى أسس نظرية داروين. وكما قال عالم الأحياء ثيودوسيوس دوبجانسکی Theodosius Dobzhansky في أوائل القرن العشرين “لا شيء في علم الأحياء له معنى إلا على أساس التطور”.

في المقابل من الواضح أن نظرية التطور كانت مصدر عدم ارتياح للمجتمع الديني خلال المئة والخمسين سنة الماضية، ولا يبدو أن هناك أي علامات للتراجع عن هذا الرفض. ولهذا فإننا ننصح المؤمنين بالله بمراجعة الحجم الهائل من المعلومات التي تؤكد على وجهة النظر القائلة بوجود علاقة بين جميع الكائنات الحية بما فيها البشر. وعطفا على قوة الأدلة المقدمة فإنه من المحير جداً أن قدراً قليلاً من القبول لدى الرأي العام قد تحقق في الولايات المتحدة. ولعل جزء من المشكلة يعود إلى سوء فهم لمعنى مصطلح “نظرية”. النقاد مغرمون فقط بالإشارة إلى أن التطور مجرد نظرية، وهي العبارة التي تربك العلماء التي يستخدمون كلمة “نظرية” بعدة معاني.

قاموس Funk & Wagnalls يقدم تعريفين مختلفين لكلمة “نظرية”: (1) وجهة نظر تخمينية أو حدسية لبعض الأشياء؛ (2) المبادئ الأساسية التي يقوم عليها العلم، والفن، وما إلى ذلك: مثل نظرية الموسيقى، نظرية المعادلات”. المعنى الثاني هو الذي يستخدمه العلماء عندما يتحدثون عن نظرية التطور، بالضبط كما يفعلون عندما يتحدثون عن نظرية التطور ونظرية الجرثومة للأمراض المعدية. في هذا السياق، لا تقصد كلمة “نظرية” أن تحمل معنى عدم التحديد، ولذلك فإن العلماء يستخدمون كلمة “فرضية” للأغراض العلمية.

أما في الاستخدام اليومي فإن كلمة “نظرية” تفهم في إطار العلاقة السببية كما هو مذكور في التعريف الأول في معجم & Funk Wagnalls مثل قول أحدهم: “ليندا لديها نظرية بأن بتلر هو من فعل ذلك”. إن من المؤسف جداً أن لغتنا تفتقر إلى الدقة اللازمة للتمييز في مثل هذه الحالات، كما هو واضح من أن الاختلاف البسيط لمعنى كلمة جعل الأمور أسوأ في حوار مثير للجدل بين العلم والإيمان حول كيفية ارتباط الكائنات الحية.

إذا كان التطور حقيقة، فهل بقي شيء للإله؟ كتب آرثر بيكوك Arthur Peacock، وهو عالم بريطاني في البيولوجيا الجزيئية وأصبح في وقت لاحق كاهن الكنيسة الأنغليكانية كتب بشكل مسهب حول التفاعل بين علم الأحياء والإيمان، وقد نشر مؤخرا كتاباً بعنوان التطور: صديق الإيمان المتنكر؟ The Disguised Friend of Faith؟ العنوان الجميل للكتاب يمثل تناولا جديداً للموضوع، ولكن هل هذا سوف يعلن وقف إطلاق النار بين وجهتي النظر غير المتوافقتين؟

أو هل إن عرضنا الآن الحجج التي تؤيد إمكانية وجود الله من جهة، والبيانات المتعلقة بأصل الكون والحياة على الأرض من جهة أخرى، يستطيع التوصل إلى تركيب توافقي سعيد؟

إلى الفصل السابق: أصل الكون

إلى الفصل التالي: أخلاقيات ممارسة العلم والطب

دروس من الجينوم البشري – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF