إلى أين يقود الدليل؟ – هناك إله – كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ – أنتوني فلو
إلى أين يقود الدليل؟ – هناك إله – كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ – أنتوني فلو
Where the Evidence Leads
عندما سرحت Alice بخيالها وهي تنظر في المرآة في رواية لويس كارول Lewis Carroll الشهيرة التقت بالملكة التي ادعت بأن عمرها 101 سنة وخمسة أشهر ويوم واحد.
قالت Alice: لا أستطيع تصديق ذلك.
قالت الملكة بصوت خافت: ألا تستطيعين؟ حاولي مرة أخرى، خذي نفساً عميقاً وأغمضي عينيك.
ضحكت أليس Alice وقالت: لا فائدة من ذلك، لأن الشخص لا يمكن أن يصدق أشياء مستحيلة.
قالت الملكة: أعتقد أنك لم تدرسي على ذلك بالقدر الكافي، فعندما كنت في عمرك كنت أقوم بذلك نصف ساعة يومياً (لأني كنت أعتقد بالكثير من المستحيلات بقدر الأشياء الست المستحيلة قبل تناول طعام الإفطار).
أحسب أن عليّ أن أتعاطف مع أليس Alice، وخاصة عندما أتذكر كيف تغير مسار حياتي ودراستي حتى بعد أن درست الفلسفة تحت إشراف غلبرت رايل. أنا واثق أن ما حصل لي لم يكن مرجحاً إن لم يكن مستحيلاً.
بالكاد يمكنني تخيل أنني عندما قمت بتأليف كتابي “اللاهوت والتكذيب” وخلال نصف القرن القادم سوف أنشر خمساً وثلاثين كتاباً في شتى مواضيع الفلسفة، ورغم شهرتي في الكتابة في موضوع وجود الإله، فإن ذلك لم يكن على الإطلاق مجال اهتمامي الوحيد.
على مر السنين كتبت في مواضيع تتراوح ما بين فلسفة اللغة إلى المنطق، من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية إلى فلسفة العلوم، ومن علم ما وراء النفس Parapsychology ومن التعليم إلى النقاش حول الجبر والاختيار وموضوع الحياة بعد الموت، وعلى الرغم من أنني أصبحت ملحداً في الخامسة عشرة من عمري وقيامي بتطوير اهتماماتي غير الفلسفية عندما كنت في مدرسة كنغزوود، فإن عملية إنضاج وترسيخ آرائي الفلسفية استغرقت سنوات، وفي ذلك الوقت توصلت إلى مبادئ إرشادية لم تتحكم في طريقة كتابتي وتفكيري فحسب، بل في الحقيقة قادتني في النهاية إلى عملية التحول الجذري من الإلحاد إلى الإيمان.
الاكتشافات المبكرة…. والمواقف المحرجة
Early Explorations…. And Embarrassment
بعض آرائي الفلسفية تشكلت حتى قبل أن أدخل إلى مدرسة كنغزوود، لقد كنت معتنقاً الشيوعية في فترة تسجيلي في المدرسة، وقد استمريت كاشتراكي يساري نشيط حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي عندما استقلت من حزب العمال Labour Party، وهو الحزب الذي يمثل تاريخياً الحركة اليسارية في بريطانية.
ما منعني من الاشتراك الواقعي في الحزب الشيوعي – كما كان حال بعض زملائي – هو سلوك الحزب الشيوعي البريطاني بعد المعاهدة الألمانية – السوفياتية عام 1939 حيث كنت مراهقاً آنذاك. هذا الحزب الذليل والغادر بدأ بإدانة الحرب ضد ألمانية الاشتراكية القومية (النازيين) باعتبارها حرباً “إمبريالية”، وكنتيجة لذلك لم يكن يعتقد بأن البريطانيون معنيين. استمرت هذه الإدانات حتى عام 1940 في الوقت الذي كانت البلاد تتعرض لخطر الغزو. لكن ما سمي بالحرب الإمبريالية أصبح فجأة “حرباً تقدمية، حرب الشعوب” (حسب وجهة النظر الشيوعية) وذلك عندما غزت ألمانيا الاتحاد السوفييتي، وفي السنوات التي تلت ذلك، أصبحت أشكك بصورة متزايدة بالنظرية والممارسة الشيوعية التي تقوم على فكرة أن التاريخ محكوم بقوانين شبيهة بقوانين العلوم الفيزيائية.
وفي هذه الفترة – وكما هو حال أقراني في مدرسة كنغزوود – تعرفت على الكتابات التفسيرية للكاتب جوود[1] Joad، وقد كان معروفاً في ذلك الوقت في الوسط البريطاني بنقاشاته الإعلامية في المواضيع الفلسفية ونمط كتاباته المميز (قام بتأليف أكثر من 75 كتاب). اكتشفت من خلال قراءة أكثر كتب جوود مبيعاً أن بعضها منع الأسف فاقد للمصداقية فيما يتعلق ببحث ما وراء علم النفس، وهو ما يعرف في الوقت الحالي بالباراسيكولوجي.
أنا أفترض أن كثيراً منا عندما يتقدم في العمر، ينظر إلى الوراء…. إلى فترة الشباب بمزيج من الحنين والخجل، أنا متأكد أن هذه المشاعر شائعة جداً، ومع ذلك ليس جميعنا لديهم سوء الحظ في توثيق ونشر بعض هذه الأمور المخجلة كما هو الحال معي.
إن اهتمامي بما وراء علم النفس (الباراسيكولوجي) قادني في عام 1953 إلى نشر أول كتاب لي كتب بطريقة سيئة لا تطاق، وفي عام 1951 قمت بكتابة وتوزيع اثنين من الحوارات التي تهاجم سوء الفهم المنتشر عن ظاهرة الخوارق المزعومة لما وراء علم النفس. نشر هذه الحوارات دفع أحد الناشرين للطلب مني تأليف كتاب في هذا الموضوع، والذي بدفع من الغطرسة الشبابية أسميته “النهج الجديد في البحوث النفسية” A New Approach to Psychical Research.
تناول الكتاب الحقائق المفترضة والمسائل الفلسفية المتعلقة بالباراسيكولوجي، ومما يشفع لي في ارتكاب بعض الإخطاء في أسلوب الكتابة في هذا الكتاب أن الناشر أراد أن يكون أسلوب الكتابة على شكل مقالات مبسطة. ومع ذلك كانت هناك أخطاء جوهرية، فعلى المستوى العملي اعتقدت بصحة عمل الباحث والرياضي في جامعة لندن سول Soal، وهو عمل تبين لي فيما بعد أنه فاقد للمصداقية، وعلى المستوى الفلسفي لم أكن قد استوعبت حينها أهمية الباراسيكولوجي في الحجة التي قدمها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم في القسم X من كتابه “التحقيق” Inquiry، ولكن بعد عقود من ذلك الوقت قمت بتجميع كتاب من مجموعة قراءات اعتبر أنها أفضل ما كتب قبل ذلك الوقت في هذه الموضوع، وأسميت الكتاب “قراءات في المشكلات الفلسفية للباراسيكولوجي”[2] Philosophical Problems of Parapsychology. وفي مقدمة الكتاب لخصت الحلول التي ظهرت في تلك السنوات لهذه المسائل.
استكشاف اهتمامات جديدة
Exploring New Interests
برز لدي اهتمامان فلسفيان عبر القراءات العلمية في مرحلة شبابي. الاهتمام الأول كان يتمثل في افتراض أن علم الأحياء التطوري Evolution Biology قادر على ضمان إحراز تقدم، وهذا الافتراض ظهر بقوة في كتاب جوليان هكسلي Julian Huxley “مقالات عالم أحياء” Essays of a Biologist، وهو المقترح الذي عمل على تطويره بإصرار بقية حياته في كتاب “الوقت، النهر المتجدد” Time, The Refreshing River وفي كتاب “التاريخ إلى جانبنا” History Is on our Side.
قام جوزيف نيدهام Joseph Needham بدمج هذا الافتراض مع فلسفة التاريخ الماركسية، وهو المذهب الذي يقوم على أن قوانين الطبيعة ناتجة عن تطورات تاريخية، فالماركسيون يعتقدون أن هناك قوانين عالمية – مثل حتمية الحروب الطبقية – تحكم تقدم المجتمعات، وكجزء من عملية دحض هذه الفكرة، قمت – عندما دعيت في منتصف 1960 للمشاركة في سلسلة “أفكار جديدة في الأخلاق” – بتأليف كتاب “الأخلاق التطورية” Evolutionary Ethics (وكان ذلك سبباً في تأليف كتاب “التطور الداروني” عندما طُلب مني المشاركة في توثيق سلسلة الحركات والأفكار في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وفي هذه الكتاب الأخير أردت أن أبين أن ما يستدعي احترام الدارونية أنها تجسد مثال للحفاظ على أفكار ومعتقدات تفتقر لأساس متين مثل أن الفكرة الدارونية هي ضمان للتطور البشري).
اهتمامي الفلسفي الثاني نتج عن قراءتي للأدبيات العلمية المشهورة هو محاولة رسم استنتاجات باركلية (نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي باركلي Berkeley) على ضوء تطور الفيزياء في القرن العشرين. تنتمي البيركلية الجديدة إلى مدرسة فلسفية تسمى المثالية Idealism، والمثاليون يعتقدون بأن الواقعية الفيزيائية هي حقيقة عقلية صرفة، وأن ما هو موجود إنما هو العقول ومحتوياتها.
المصدر الرئيسي لأفكار هذه المدرسة هو أعمال السير جيمس جينز Sir James Jeans والسير أرثر أدنغتون Sir Arthur Eddington. لقد كان كتاب “الفلسفة والفيزيائيون” Philosophy and the Physicists لمؤلفته سوزان ستبنغ Susan Stebbing هو ما ساعدني في شق طريق للخروج من هذه الغابة (المثالية).
بعد ذلك بسنوات، حاولت في كتابي “مدخل إلى الفلسفة الغربية” أن أبين أن المثالية قاتلة للعلم، وقد استشهدت في الكتاب بفقرة من كتاب “العقل، الشعور والعلم” Mind, Perception and Science لمؤلفه المميز عالم الأعصاب البريطاني اللورد رسل برايان Russell Brain، والذي أوضح أن أطباء الأعصاب عادة ما يكونون مثاليين يعتقدون بأن فعل الإحساس بموضوع ما هو ببساطة حدث يقع في دماغ المستقبل Subject’s brain، كما استشهدت بادعاء برتراند رسل بأن “الإحساس لا يقدم خبرة مباشرة بالموضوع الفيزيائي”، قلت: لو كان ذلك صحيحاً فإنه ليس هناك شيء اسمه إحساس، ولا يخفى أن نتيجة هذا التفكير المثالي هي التقليل من قيمة الاكتشافات العلمية، إذ يعتمد العلماء – ويجب عليهم ذلك – على الملاحظة المباشرة في تبرير اكتشافاتهم، فإسقاط تلك الملاحظات المباشرة عن الاعتبار يقتضي انتفاء قيمة مشاهداتهم. باختصار… إن هذا الرأي يزيل أسس كل الاستدلالات العلمية، وكرد على هذا الرأي قلت: إنه لا بد في الإحساس الواعي من تجربة حسية (مثال: صوت وصورة المطرقة أثناء عملية إدخال المسمار)، وإذا كان هناك ثمة معطى حسي صحيح فإن ذلك الشيء (المطرقة والمسمار) يجب أن يكونا جزءًا من اكتسابي لتلك الخبرة.
رؤية جديدة في الفلسفة
New insights in Philosophy
في الفترة التي قضيتها في أكسفورد 1946-1950، ظهر اتجاه جديد في الفلسفة يسمى بعض الأحيان “ثورة في الفلسفة”، وكان هذا الاتجاه في أوج ازدهاره. عندما كنت في أكسفورد قضيت سنتين في درجة البكالوريوس وسنتين أخريين في درجة الدراسات العليا وثمانية عشر شهراً كمدرس في الكنيسة المسيحية وخلال هذه الفترة تعمقت كثيراً في هذه “الفلسفة الجديدة”، والتي وصفها عدد من خصومها بأنها لغوية أو لغة دارجة.
كان أبرز الرموز الفلسفية في أكسفورد في ذلك الوقت غلبرت رايل وجون أوستن، وكما أشرت من قبل كان رايل المشرف على دراستي في الدكتوراة، أما أوستن فسنحت لي الفرصة للتعرف عليه بعد تعييني في الكنيسة المسيحية، حيث كنت قادراً على الحضور بشكل منتظم لما كان يعرف بنقاشات “صباح السبت”، والتي كانت تعقد في مكتب أوستن في أكسفورد صباح كل سبت لمناقشة التطورات العلمية.
هذه التجربة الفلسفية الأكسفوردية في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي قدمت لي مجموعة رؤى ذات قيمة – والتي ما زلت أعتقد بصحتها – ولكن من بين هذه الرؤى اعتبر أن أهمها هي الرؤية القائلة بأن علينا أن نكون على وعي دائم بأنه طالما أن الفلسفة هي بحث تصوري يجب أن تكون مهمته بالاستخدام اللغوي الصحيح، فنحن لا يمكننا الوصول إلى التصورات إلا من خلال دراسة الاستخدام اللغوي، ومن ثم استخدام هذه الكلمات لشرح وتوضيح التصورات. هذه الرؤية ذكرتني بالباحث الإنجيلي الذي ذكرته من قبل (وعبرت عنه بوصف أبي) والذي كان يدرس العهد القديم بطريقة مميزة من خلال تجميع وفحص أكبر قدر ممكن من النصوص التي يمكن أن يعثر عليها والتي يمكن أن تساعده في فهم النص العبري.
باعتباره تطوراً في توجهي الفلسفي في تلك الأيام فإن اتجاه “الفلسفة الجديدة” لم يكن جديداً جداً ولم يكن ضيقاً جداً كما قد يبدو في بعض الأحيان. “الثورة” كانت تتعلق بالتركيز على النحو التصوري Conceptual Gramma، أي استخدام التصورات باللغة الدارجة، وهي الدراسة التي تساعد في تجنب العديد من المشاكل في الفلسفة، وإحدى هذه المسائل تتعلق بما إذا كان بمقدورنا الوصول إلى المعرفة عن طريق التعرف على العالم الخارجي. تم صياغة هذه المسألة لأول مرة في القرن السابع عشر من قبل ديكارت، وتم قبولها بعد ذلك دون تساؤل من قبل فلاسفة عظماء أمثال لوك وباركلي وهيوم وكانت، ولكن اتجاه “الفلسفة الجديدة” رفض هذه المشكلة من الشك الديكارتي من خلال رفضه لنقطة البداية التي تقول أن الفرد كيان غير مادي وأنه لا يملك سوى تجربته الخاصة. هذا الاعتقاد كان يتعارض مع الافتراض المتضمن في خطاباتنا المتكررة والتي كانت تركز على أننا نحصل على المعرفة من خلال التعرف على العالم الفيزيائي وعلى بقية البشر، وكما قلت فلم يكن ذلك جديداً بشكل كامل، إذ لو كان أفلاطون[3] الذي كتب “محاورة ثياتيتوس” وأرسطو[4] الذي كتب “الأخلاق إلى نيفوماخوس” في ندوة يديرها رايل أوستن لشعرا أنهما في قمة الراحة وكأنهما في بيتهما.
تطورات في الفلسفة
Progress in Philosophy
قبل مغادرتي أكسفورد، سلمت للناشر مادة مجمعة للسلسلة الأولى لكتاب “المنطق واللغة”، وبعد ذلك بفترة قصيرة تبعتها السلسلة الثانية، وقد تم تحرير كلتا السلسلتين، وقد كتبت مقدمة قصيرة لكلتيهما، الأولى في عام 1951، والثانية عام 1953، بعد وقت قصير من تعييني كمحاضر في جامعة أبردين وجدت نفسي أتصرف كمتحدث رسمي غير معين في اسكتلندا لفلسفة “أكسفورد اللغوية”، وعندما قام نادي الكشافة الاسكتلندي الفلسفي – وهو تجمع لجميع من يقوم بتدريس الفلسفة في أسكتلندا – بإصدار مجلة جديدة بعنوان “الفلسفة الفصلية” احتوى عددها الأول على هجوم لاذع على المدرسة الأكسفوردية، وقد طلب مني محرر المجلة الرد على هذا الهجوم، وكان ردي هو مقال “الفلسفة واللغة”، وهو ما أصبح بعد التعديل الفصل التمهيدي لكتاب يتكون من مقالات مجمعة تحت عنوان “مقالات في التحليل التصوري” Essays in Conceptual Analysis.
تعرضت الحركة لنقد من الجانب الإنجليزي عبر مايكل دمت Michael Dummett الذي وصف الحركة بأنها “نتاج اللغة الدارجة”، وادعى بأن “عضوية هذه المدرسة الفكرية تعتمد على الترشيح من قبل البروفيسور فلو”[5].
بالتأكيد كانت أعمال بعض الممارسين للفلسفة الجديدة – حتى إن كان عددهم قليلاً جداً – تافهة ومكررة ولا طائل منها، وقد كان لي رد فعل على هذا التكرار وعدم الجدوى من خلال ورقة بحثية كتبتها وقدمتها في إحدى الأندية الثقافية وكانت بعنون “الأمور ذات الأهمية” Matter That Matters، جادلت خلالها أنه كان من الممكن ومن المحبذ التركيز على المشاكل التي يمكن أن يجدها المهتمون بالفلسفة – حتى الأشخاص العاديين غير الناضحين فلسفياً – مهمة وممتعة، بدلاً من إضاعة الوقت والجهد في أمور وهمية.
بدأت أقتنع – وهذا ما كتبته في كتاب “مدخل إلى الفلسفة الغربية” – بأنه يمكن إحراز تقدم في الفلسفة على الرغم من غياب التوافق العام، فعدم وجود التوافق في الفلسفة ليس برهاناً مستقلاً كافياً للقول بأن هذا الموضوع لا يمكن التقدم فيه. إظهار عدم وجود معرفة فلسفية بدعوى أنه سيظل هناك من لا يقتنع هي مغالطة شائعة صدرت حتى من فلاسفة معروفين مثل برتراند رسل، أما أنا فأسميها “ولكن سوف يظل هناك دوماً من لا يقتنع على الإطلاق”، إذاً هناك اتهام حاصله: إن من المستحيل في الفلسفة أن تبرهن لشخص أنك على حق وأنه على خطأ، ولكن الجزء المفقود في هذه الحجة هو التفريق بين إنتاج دليل وبين إقناع الشخص. فالشخص قد يقتنع بحجة باطلة، ويظل غير مقتنع بحجة ينبغي القبول بها.
يختلف التقدم في الفلسفة عن التقدم في العلم، ولكن ذلك لا يعني أنه مستحيل. في الفلسفة، أنت تسلط الضوء على الطبيعة الجوهرية للاستدلال الاستنباطي، أنت تميز بين الأسئلة حول الحجج الصحيحة وغير الصحيحة وبين الأسئلة المتعلقة بصدق وكذب مقدماتها أو نتائجها. أنت تبين الاستخدام الصارم لمصطلح المغالطة، أنت تحدد وتشرح مثل هذه المغالطات من قبيل “ولكن سوف يظل هناك دوماً من لا يقتنع على الإطلاق”. إلى الحد الذي تنجز فيه هذه الأمور… نجد أن هذه الأمور يتم الوصول لها عبر التفكير المنطقي، ويمكن رؤية التقدم الحاصل حتى لو ظل الإجماع والإقناع أمر غير متحقق وغير كامل.
إعطاء اهتمام أكثر للإلحاد
Paying More Attention to Atheism
كان النادي السقراطي الذي يرأسه في ذلك الوقت لويس فاعلاً خلال ذروة نشاط “الفلسفة الجديدة”، ووجدت المبدأ السقراطي القائل “اتبع الدليل أينما قادك” متجسداً هناك. وبشكل متزايد أصبح هذا المبدأ هو المبدأ الموجه في تطوير وتعديل بعض رؤاي الفلسفية، وخلال هذه التجمعات في النادي السقراطي أيضاً بدأ فلاسفة اللغة – الذين كانوا يُتهمون بتسفيه الالتزام بالضوابط التي كانت معتبرة في زمان سابق – باستكشاف ما صنفها الفيلسوف الألماني كانت على أنها أعظم ثلاثة أسئلة في الفلسفة: الإله، الحرية والخلود.
كانت مساهمتي في هذا المنتدى من خلال ورقة بحثية بعنوان “اللاهوت والتكذيب”، وكما ذكرت سابقاً فإن الأسس التي بنيت عليها اقتناعي بالإلحاد عندما كنت في الخامسة عشرة كانت ناقصة بوضوح.
لقد كانت مبنية على “عناد صغار السن”:
1 – مشكلة الشر كانت بالنسبة لي دحضاً حاسماً لوجود إله كامل الخير وكامل القدرة.
2 – الدفاع عن حرية الإرادة، لا يعفي الخالق من مسؤولية عدم إتقان الخلق. منذ أيام المدرسة، خصصت اهتماماً إضافياً للأسباب المؤدية والمضادة للوصول إلى النتائج الإلحادية، وتمثلت بدايتي في عملية البحث في هذا المجال في مقالة “اللاهوت والتكذيب”، وقد تم عرض مقالة “اللاهوت والتكذيب” لأول مرة في صيف عام 1950 في النادي السقراطي في أكسفورد، وتم بعد ذلك نشرها في مجلة لطلبة البكالوريوس، اسمها “الجامعة”.
إعادة طباعة المقالة لأول مرة كانت في عام 1955 في كتاب “مقالات جديدة في الفلسفة اللاهوتية”، وهو عبارة عن مقالات مجمعة قمت بتحريرها بمساعدة من ماكلنتير Alasdair MacIntyre، واحتوى الكتاب على مجموعة من الإسهامات القيمة في فلسفة الدين وفقاً لرؤية “الفلسفة الجديدة”، وقد وصفت مجلة Times Literary supplement هذا الكتاب بأنه إضافة جديدة بشكل جذري.
كان هدفي الأساسي من مقال “اللاهوت والتكذيب”، هو بيان طبيعة ادعاءات اللاهوتيين، وقد تساءلت هل إن تعدد القيود الذي يحيط بالكلام اللاهوتي ينتج عنه إماتة الميت[6] ولو بألف قيد؟ إذا أتيت بادعاء فإن عليك أن تستثني بعض الأشياء كي يكون ادعاؤك مقبولاً. على سبيل المثال الادعاء بأن الأرض كروية سوف يستبعد إمكانية أن تكون الأرض مسطحة، ورغم أنها تبدو مسطحة إلا أن هذا التناقض الواضح يمكن تفسيره عن طريق الحجم الهائل للأرض. الجهة التي ننظر منها إلى الأرض لها دور في ذلك، ولذلك فإن إضافة قيود للادعاء قد يجعل الادعاء متسقاً مع الظاهرة التي تبدو متناقضة معه[7]، ولكن إذا استمرت الظاهرة المتناقضة مع وجود هذا القيد فإن الادعاء نفسه يصبح مشكوكاً فيه.
إذا كنا ندعي بأن الإله يحبنا فإن علينا أن نتساءل عن الظواهر التي يستبعدها هذا الادعاء، ومن الواضح أن الألم والمعاناة تمثل تحدياً لهذا الادعاء.
يعتبر الموحدون أن إضافة القيود اللازمة يمكن أن يتوافق مع وجود الإله وحبه للبشر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا نفترض ببساطة أن الإله لا يحبنا؟ الموحدون كما يبدو لن يسمحوا بتسجيل أي تحفظ ضد الادعاء بأن الإله يحبنا، ولكن هذا يعني أنه لا يوجد ما يدعم هذا الادعاء، وعندها سيصبح فارغاً، ولذلك أقول: إن الفرضية الرائعة يمكن أن يقضى عليها بواسطة القيود الكثيرة.
رغم أن قصدي من وراء طرح هذه الأسئلة يبدو جلياً إلا أنني كثيراً ما أواجه بالادعاءات بأنني كنت أشرح وجهة نظري حول معنى أو غالباً عدم معنى اللغة الدينية، وكذلك الحال مع الادعاءات السائدة بأنني منجذب ومعتمد على مبدأ التحقق الذي تبنته جماعة فيينا، وهي التي تمثل مدرسة الوضعية المنطقية، والتي تتبنى الادعاء القائل بأن العبارات التي يمكن التحقق منها باستخدام مناهج العلوم هي وحدها التي لها معنى.
ولكن في الحقيقة لم أُكون قط أطروحة شاملة عن وجود أو عدم وجود لكل اللغة الدينية. لقد كان هدفي الأساسي في بحث “اللاهوت والتكذيب” وضع بعض “البهارات” على الحوار الدائر بين الوضعية المنطقية والدين المسيحي، وإقامة حوار أكثر فائدة بين الإيمان والكفر.
لم أكن أقدم مذهباً متكاملاً عن كل اللغة الدينية، وإنما كان هدفي الأساسي من مقال “اللاهوت والتكذيب” إثارة الجدل بين من يعتقد بالوضعية المنطقية وبين المسيحيين، وإقامة نقاش بين المؤمنين بإله وغير المؤمنين بإله. أنا لم أقل بأن عبارات الاعتقاد الدينية لا معنى لها. لقد كنت ببساطة أتحدى الموحدين لكي يشرحوا عباراتهم بشكل يمكن فهمه على ضوء المعطيات المتعارضة.
التعلم من عدم الاتفاق
Learning form Disagreement
نالت المقالة الكثير من الردود، ومن هذه الردود ما ظهر بعد عقود من نشر المقالة، وكثير منها ساعدني في تهذيب – وفي بعض الأحيان – تصحيح آرائي، لكن أكثر الردود حدة في الانتقاد ربما كان أولها، وجاء من قبل هير R. M. Hare والذي أصبح أستاذ الفلسفة الأخلاقية في أكسفورد.
دعا هير إلى عدم تفسر الكلام الديني باعتباره جملاً، بل باعتباره تعبيرات عن التوجه العام، وهذا التوجه كما وصفه البروفيسور هير عبارة عن تفسير لخبرتنا التي لا يمكن التحقق منها أو تكذيبها، وحسب علمي لم يطور هير هذه الفكرة بشكل مكتوب، ولكن لا أعتقد أن مقولة هير سوف ترضي المؤمنين طالما أنها تنكر أي أساس عقلاني للاعتقاد.
يقول باسل ميتشل Basil Mitchell وهو الذي خلف لويس في رئاسة النادي السقراطي “إن هناك خطأ في عرضي لوجهة النظر اللاهوتية، فالأفكار اللاهوتية يجب أن تكون أفكاراً مؤكدة، ولكي تكون كذلك، لا بد من أن يكون هناك ما يعتبر منافياً ومكذباً لما يدعون حقانيته، وأشار ميتشل إلى أن اللاهوتيين لا ينفون ذلك، فالواقع أن مشكلة الشر في النظرة اللاهوتية تظهر لأن وجود الألم يبدو أنه يحسب ضد حقيقة أن الإله يحب البشر، وكان رد اللاهوتيين بالتمسك بمقولة الإرادة الحرة، ولكن ميتشيل أكد على أن المعتقدين بالإله يقعون عادة في محذور تحويل توكيداتهم إلى صيغ فارغة من المعنى.
في كتاب ميتشيل “الإيمان والمنطق” Faith and Logic، قدم كوبي – وهو فيلسوف معروف بأعماله عن أفلاطون – معالجة أفضل بكثير لهذا الموضوع. يقول كوبي: “إن اللاهوتيين يعتقدون بغير يتجاوز التجربة”، ولكن كوبي يدعي أن يستطيع تتبع بصمات هذا الغيب في التجربة. يؤكد المؤمنون بالإله على أنهم عندما يعبرون عن اعتقادهم فإنهم مجبرون على استخدام لغة محكومة بالقوانين المتناقضة[8]، ولاحظ كوبي أنه يمكنك فهم العبارات اللاهوتية فقط عندما تكون منصفاً في ثلاث قضايا:
1 – المؤمنون بالإله يعتقدون بأن الإله كائن متعال، وأن العبارات التي تتحدث عنه تنطبق عليه ولا تنطبق على العالم الخارجي.
2 – المؤمنون بالإله يؤمنون بأن الإله كائن متعال تستلزم عدم القدرة على إدراكه.
3 – وبما أن الإله سر، فلكي نفهمه لا بد من أن نتحدث عنه بطريقة ذكية، فنحن يمكننا فقط أن نتحدث عن الإله من خلال صور، والعبارات اللاهوتية عبارة عن صور بشرية للحقيقة المقدسة التي يمكن التعبير عنها بالأمثال[9].
جاءت ردود أخرى على مقالة “اللاهوت والتكذيب”، ومن ضمنها رد ريبرنن هيمبك Raeburne Heimbeck وأريك مسكال Eric Mascall، في كتابه “اللاهوت والمعنى” Theology and Meaning، اتهم هيمبك وهو أستاذ الفلسفة والدراسات الدينية بجامعة واشنطن الوسطى المقالة بارتكاب ثلاثة أخطاء مهمة. الخطأ الأول أنها افترضت أن معنى أية جملة مرهون بإمكان التحقق التجريبي من مضمونها. الخطأ الثاني أنها تضمنت خطأ وهو أن الاعتراض على معتقد هو نفسه عدم التوافق معه[10]. أما الخطأ الثالث فهو أنها افترضت أن العبارات المتعلقة بتعبير الإله عنه حبه، أو عند وجود الإله عبارات لا يمكن تكذيبها من حيث المبدأ، ولكن الخطأ الرئيسي حسب وجهة نظره، أن المقالة حددت الأسس للحكم بصدق أو كذب القضايا بالشروط التي تجعلها صادقة أو كاذبة[11].
نبه ماسكال Mascall، مستعيناً بفكر فتجنشتين إلى أننا نستطيع اكتشاف إذا ما كان للعبارة معنى، فقط من خلال قدرة الناس على فهمها في السياق اللغوي والمكاني الذي تستخدم فيه[12].
استشهدت – بتوسع نوعاً ما – بهذه الردود لأوضح دور مقالة “اللاهوت والتكذيب” في تحفيز ظهور موجات جديدة من الأفكار التي ساعدت في تحريك المياه الراكدة للخطاب اللاهوتي، وقد استمر هذا النقاش حتى يومنا هذا، وفي الحقيقة صدر عن مجلة ريتشموند للفلسفة عدد في عام 2005 احتوى على مقال يناقش فائدة حججي التي قدمتها منذ عام 1950.
لقد كان لهذه الردود أثر عليّ وعلى آرائي الفلسفية، وكيف لا تؤثر هذه الردود إذا كنت متسقاً مع نفس في اتباع الدليل أينما قادني؟ في الطبعة البرونزية للمقالة اعترفت بصحة اثنين من الانتقادات الموجهة للمقالة. انتقاد ميتشيل قادني إلى التفكير في غرابة موقفي من اللاهوتيين، فقد بين ميتشيل أن اللاهوتيين لا ينفون حقيقة “أن مسألة الألم تسجل ضد الادعاء بأن الإله يحب البشر”، وهي المشكلة ذاتها في مسألة وجود الشرور في العالم، واعتقد أنه كان على صواب في ذلك، كما أدركت قوة نقد همبك واعترفت بأنني كنت على خطأ في عدم التمييز بين “اعتباره ضد” وبين القول “بأنه لا يتسق معه”. حجتي الأساسية تنصب بشكل مباشرة على الأمر الثاني لا الأول.
الإله والفلسفة
God and Philosophy
بعد إحدى عشرة سنة من نشر كتاب “مقالات جديدة” نشرة كتاب “الإله والفلسفة”. وكانت محاولة مني لتقديم واختبار التوحيد المسيحي. لم أجد أي عرض سابق كاف ومقبول لهذه المسألة. بما فيها العرض الذي كان مقبولاً على نطاق واسع من قبل المعاصرين المعتقدين بالإله. وقد طلبت من بعض الأصدقاء المسيحيين وبعض الزملاء أن يقدموا لي اقتراحات في هذا الموضوع، ولكني وجدت القليل من الذي يستحق الاهتمام به ضمن ما قدم أو لعدم وجود ترابط فيما بينهما. ولذلك قمت بتجميع أقوى الحجج من عدة مصادر، ودعوت الذين لم يكونوا راضين بذلك إلى تقديم ما لديهم حتى نستطيع إنتاج شيء يرضيهم ويرضى أمثالهم.
لقد تم نشر كتاب “الإله والفلسفة” لأول مرة في عام 1966، وأعيد نشر هذا الكتاب في عام 1984 بعنوان “الإله: دراسة نقدية” God A Critical Enquiry، أما النسخة الأخيرة من الكتاب مع تمهيد من قبل الناشر ومقدمة غير مقنعة من قبلي فصدرت عام 2005. في كتاب “الإله والفلسفة” عرضت طرحاً منهجياً للإلحاد، وبشكل عام دعوت إلى أن تكون نقطة البداية في السؤال عن مفهوم الإله في حدود تماسكه وقابليته للتطبيق ومشروعيته.
عرضت في الفصول الأولى من الكتاب لحجج اللاهوت الطبيعي[13] بالإضافة إلى عرض ادعاءات الوحي المقدس، وفي الوقت نفسه حللت فكرة التفسير، وفكرة النظام، وفكرة الغاية بالاعتماد على ديفيد هيوم وآخرين ممن يشاركون في ذلك الرأي، وقلت بأن الحجة الغائية، والحجة الكونية، والحجة الأخلاقية التي تستخدم لتأكيد وجود الإله حجج غير صحيحة، كما حاولت أن أبين أنه من المستحيل الوصول إلى نتيجة صحيحة من خبرة دينية خاصة.
لكن الإسهام الأهم في الكتاب هو الفصل الذي كان بعنوان “البداية من البداية”، والذي نبهت فيه إلى أن هناك ثلاثة مواضيع بالتحديد يجب الإجابة عليها فيما يخص مفهوم الإله: كيف يمكن تعريف مفهوم الإله؟ كيف يمكن تطبيق التعبيرات الإيجابية والسلبية فيما يخص الإله؟ كيف يمكننا أن نوفق ما بين تعريف صفات الإله مع الحقائق التي لا يمكن إنكارها؟ (كيف يمكن تفسير وجود الأمراض في العالم مع وجود إله قادر؟).
تم الرد على السؤالين الثاني والثالث من قبل المؤمنين بالإله، فقد تم الرد على السؤال الثاني من خلال نظرية التمثيل أو التشبيه، حيث تناولوا صفات الإله وحرية الإرادة لمعالجة مشكلة الشر. أما السؤال الثالث المتعلق بمسألة الشرور فتم الرد عليه بمبدأ الإرادة الحرة. ولكن السؤال الأول هو الذي لم يتم التطرق له بشكل كاف على الإطلاق.
التعريف والتحديد هي أمور يجب الاتفاق عليها وتوضيحها في موضوع الخطاب، ولكن لم يكن واضحاً كيف يمكن تعريف جوهر فرد مثل الإله الفسيفسائي [14](mosaic god) وتمييزه عن الكون “المخلوق”؟ بأي اعتبار يمكن أن نفهم أن هذا الوجود هو واحد لا يتغير على الدوام، وهو في نفس الوقت فاعل في الزمان أو – بشكل محير أكثر – على نحو ما خارج الزمان؟ ما لم يكن لدينا مفهوم أصيل متماسك، قابل للتطبيق (عن الإله)، لا يمكن إثارة السؤال حول وجود أو عدم وجود هذا الإله على نحو مناسب. وبعبارة أخرى: لا يمكننا البدء بنقاش الأسباب التي تجعلنا نقول: إن هناك إلهاً على نحو ما موجود قبل أن نقرر كيف يمكن تحديد الإله الذي نتحدث عنه، ولا يمكننا أن نفهم بشكل منطقي مقبول كيف يمكن أن يعاد ويتعدد تعريف نفس الكائن بمرور الزمن، وعلى سبيل المثال كيف يمكن لكائن “مجرد عن المادة والجسد وموجود في كل مكان” أن يعرف ويعاد تعريفه وأن يكون قابلاً كموضوع لعدة توصيفات؟
يرد المؤمنون بالإله على هذا النمط من التفكير بعد طرق، وأبرز هؤلاء ريشارد سوينبيرن Swinburn (خلفني في جامعة كييل كبروفيسور في فلسفة الدين المسيحي في أكسفورد) من خلال كتاب “تماسك عقيدة الإيمان” The Coherence of Theism. علل سوينبرن ذلك بأن العبارة “فقط س الذين رأيناهم في وقت سابق هم ص” لا تؤدي إلى عدم تماسك الفرضية بأن هناك “س ليس ص”.
ليس من حق أحد أن يحتج بأن ما اعتاد على رؤيته – ولنقل إنه س – يجب أن يكون ص، ولذلك فإن ص يجب أن تكون صفة أساسية لأي شيء يُصنف على أنه س. أما فيما يخص الهوية، فإن سوينبرن يقول إن هوية الشخص جوهرية، ولا يمكن تحليلها من خلال استمرارية الجسد أو الذاكرة أو الشخصية.
قبل ماكي J. L. Mackie – وهو فيلسوف ملحد – بتعريف سوينبيرن للإله على أنه روحاً وأنه حاضر في كل مكان. وأنه قادر على كل شيء، وعليم بكل شيء، وببساطة اعتبر ماكي أنه “لا مشكلة في ذلك” عندما يتعلق الأمر بالتعريف والتمييز[15].
أدرك مؤرخ الفلسفة فردرك كبلستون Frederick copleston قوة التساؤل الذي أثرته فيما يخص تماسك مفهوم الإله، ورد بجواب مختلف. يقول فرديرك “لا أعتقد أن من المبرر الطلب من العقل البشري أن يكون قادراً على تحديد إله مثل فراشة واقفة على صندوق زجاجي. الإله يصبح حقيقة واقعة للعقل البشري في حركة الإنسان نحو التعالي، حيث يظهر الإله باعتباره الهدف غير المرئي لهذه الحركة، وحيث إن المتعالي لا يمكن إدراك كنه ذاته، وإذا جاز التعبير فإنه لا بد – وفقاً لخلفيتنا التصورية أن ينشأ الشك ويظهر، ولكن داخل هذه الحركة من التعالي فإن الشك يعود للتوازن من خلال التوكيد (assertion – affirmation) المتضمن بالحركة في ذاتها، ضمن سياق هذه الحركة الشخصية للروح البشرية يصبح ذلك الإله حقيقة واقعة للشخص”[16].
ما الذي أعتقده اليوم عن الحجج المنصوص عليها في كتاب “الإله والفلسفة”؟ في رسالة عام 2004 إلى مجلة “الفلسفة الآن”، أوضحت أنني الآن أعتبر أن الإله والفلسفة بقايا تاريخية. لكن، بطبيعة الحال، لا يمكن للمرء أن يتبع الدليل حيثما يؤدي دون إعطاء الآخرين فرصة إبداء وجهات نظرهم في أمور لم تناقشها بشكل كامل، وآرائي الحالية في المواضيع التي تم التطرق فها هناك، تم عرضها في القسم الثاني من هذا الكتاب، “اكتشافي للمقدس”.
فرضية الإلحاد
The Presumption of Atheism
بعد مرور عقد من الزمن على نشر كتاب “الإله والفلسفة”، قمت بكتابة مقالة “فرضية الإلحاد” (نشرت في الولايات المتحدة تحت عنوان “الإله والحرية والخلود”)، في هذه المقالة جادلت بأن النقاش حول وجود الإله يجب أن يبدأ من فرضية الإلحاد، وأن عبء الإثبات يجب أن يكون على المؤمنين بالإله.
أشرت إلى أن هذا النهج الجديد يضع مسألة وجود الإله بشكل كامل في إطار منظور جديد، كما أنه يساعد في التخلص من المشاكل التصورية عن الإيمان التي قد لا يتم الاهتمام بها، مما يجبر اللاهوتيين على البدء من البداية المطلقة. استخدام المؤمنين بالإله لكلمة “الإله” يجب أن يوفر معناً يجعل من الممكن نظرياً وصف هذا الكائن. توصلت إلى نتيجة مفادها أنه مع هذا المنظور الجديد يظهر مشروع الإيمان بالإله بأكمله متزعزعاً أكثر مما كان عليه من قبل.
يمكن تبرير فرضية الإلحاد لعدم توفر المبررات الوجيهة للاعتقاد بوجود إله، ولكن إذا لم يكن لدينا مثل هذه المبررات فإنه لا يوجد هناك سبب كاف للإيمان بوجود إله، والموقف الوحيد المعقول هو أن يكون ملحداً سلبياً أو لا أدري Agnostic (قصدت بالملحد السلبي النمطي وغير الأخلاقي)، ولا بد لي من الإشارة هنا إلى ما لا تتضمنه “الفرضية”. هي ليست فرضية مسبقة الحكم على نتيجة يراد أن تثبت، وإنما هي مبدأ إجرائي لتحديد من سيقع عليه عبء الإثبات، مثل قاعدة “الأصل البراءة” – وهي القاعدة التي يستند إليها القانون العام الإنكليزي[17].
أجد أنه – في أي نظام منهجي سليم – على اللاهوتيين أن يبدأوا كما هو الحال في كل فرضية وجودية بتحديد المفهوم الخاص الذي سوف يستخدم لوصف الإله، وفقط بعد تلبية هاتين المهمتين بشكل مرضي يصبح مقبولاً البدء بتقديم البراهين المقصودة.
حفزت هذه الحجة العديد من الردود. باعتباره لا أدرياً، كتب الفيلسوف الإنجليزي أنتوني كيني Anthony Kenny، قائلاً بأنه قد يكون هناك فرضية لتبرير اللاأدرية (Agnostic)، ولكن هذا التبرير ليس تبريراً للإلحاد السلبي أو الإيجابي. لقد أكد كيني على أن إظهار أنك تعرف يتطلب جهداً أكبر من إظهار أنك لا تعرف (وهذا يشمل حتى الادعاء بأن تصور الإله غير متماسك)، لكنه قال: إن هذا لا يخلص اللاأدرية Agnostic من الورطة، فالمتقدم للاختبار يمكنه تبرير عدم معرفته بالإجابة على أحد الأسئلة، ولكن هذا لا يمنحه القدرة على اجتياز الاختبار[18].
كاي نيلسون Kai Nielsen وهو زميل ملحد زاملته سابقاً، قدم نقداً يزعم فيه أن الموقف الأخلاقي المتميز هو أن تبقى غير ملتزم تماماً حتى تتوفر أسباب كافية لذلك. يذهب نيلسون للقول بأن المعتقدين بالإله والمتشككين لديهم مفهوم مشترك للعقلانية مع المعايير المطلوبة لتقييم مزايا ما يدعونه، وأضاف بأن هناك “علامة استفهام كبيرة” على “فرضة الإلحاد”[19] إذا لم تكن قادرة على إنتاج تصور عالمي ممكن القبول للعقلانية.
أكبر تحدي للحجة جاء من أمريكا، حيث قدم أستاذ المنطق الجهاتي Modal Logic ألفن بلانتينغا Alvin Plantinga فكرة مفادها أن الاعتقاد بالإله اعتقاد أساسي، وأكد على أن الاعتقاد بالإله مشابه للاعتقاد بالحقائق الرئيسية مثل وجود عقول أخرى، أو الاعتقاد الحسي (رؤية شجرة)، أو الاعتقاد بوجود ذاكرة (الإيمان بوجود ماضي)، في جميع هذه الحالات، أنت تثق بقدراتك الإدراكية على الرغم من أنك لا تستطيع إثبات صدق الاعتقاد محل التساؤل. وبالمثل، فإن الناس يعتقدون ببعض القضايا (كوجود العالم مثلاُ) كأصل، في حين تشتق ما يترتب عليها من القضايا الأساسية هذه.
هذه الفرضية تقول: إن المعتقدون بالإله، قد يجادلون بأنهم يأخذون وجود الإله كقضية أساسية.
يعتبر الفيلسوف التوماوي (نسبة إلى الفيلسوف توما الأكويني) رالف ماكلينري Ralph Mclnerny إن من الطبيعي للإنسان أن يعتقد بالإله بسبب النظام، والترتيب، وقوانين الطبيعة التي تحكم الأحداث التي تقع في الطبيعة، ولذلك كثيراً ما يقول: إن فكرة وجود الإله فطرية وهي تبدو كمسلمة ضد الإلحاد. لذا فإنه في حين جادل بلانتينغا بأن الموحدين لا يتحملون عبء الإثبات، ذهب ماكينري أبعد من ذلك بالقول إن الملحدين هم من يتحلم عبء الإثبات.
ينبغي أن أشير هنا إلى أنه على خلاف حججي المضادة للاهوت، فإن فرضية الإلحاد يمكن قبولها من قبل الموحدين عند وجود أسس قوية للاعتقاد بوجود الإله، فإذا افترضنا وجود مبررات مناسبة للاعتقاد بالإله، فالموحدون لا يرتكبون أي خطأ فلسفي في مثل هذا الاعتقاد، لأن فرضية الإلحاد في أحسن الأحوال نقطة انطلاق منهجية، وليست نتيجة وجودية.
تغيير وجهة نظري
Changing My Mind
كفيلسوف محترف، قمت بتغيير وجهة نظري أكثر من مرة في المسائل المختلف عليها، وينبغي أن لا يكون ذلك مستغرباً بالطبع، مع الأخذ بالاعتبار قناعتي بإمكانية التطور في الفلسفة، وقناعتي بمبدأ اتباع الدليل أينما يقودني. عندما كنت أقوم بالتدريس في جامعة كييل في عام 1961، كتبت كتاباً حول كتاب هيوم “تحقيق بشأن الفهم الإنساني”. حتى ذلك الحين، كان يتم التعامل مع تحقيق هيوم (عادة يقال له “التحقيق الأول” لتمييزه عن كتابه اللاحق “تحقيق بشأن مبادئ الأخلاق”) على عكس ما جال في ذهن المؤلف بوصفها مجرد مقتطفات، أما الآن فهذه المقتطفات تعد أعظم أعمال هيوم.
وبخصوص كتابي عن هيوم، كتب جلبرت رايل قائلاً “أقدر عالياً ما جاء في الكتاب، فهو مملوء معرفة وحيوية”. في حين كتب جون باسمور John Passmore قائلاً “إن أي مناقشة لاحقة لعلمانية هيوم يجب أن تبدأ من فلو”. رغم هذه الإرشادات فإنني كنت دائماً أرغب بعمل تعديلات جوهرية في كتابي “فلسفة هيوم في الاعتقاد”. مسألة واحدة على الأقل كانت تحتاج إلى تصحيحات كبيرة. الفصول الثلاثة “فكرة الاتصال الضروري” و”الحرية والضرورة” و”المعجزات والمنهجية” جميعها كان بحاجة إلى إعادة صياغة، على ضوء إدراكي المبني حديثاً بأن هيوم كان مخطئاً تماماً بالقول أننا ليس لدينا خبرة، وبالتالي ليس لدينا أفكاراً أصيلة، وليس في قدرتنا جعل بعض الأشياء تحدث ومنع البعض الآخر من الحدوث، أي الضرورة الفيزيائية والاستحالة الفيزيائية.
ونتيجة لخطأ يهوم هذا، تم تضليل أجيال من أتباع هيوم بتقديم تحليل في غاية الضعف للسببية والقانون الطبيعي، لأنه لم يكن هناك أساس إما لقبول وجود السبب والنتيجة أو قبول وجود قوانين الطبيعة. وفي الوقت نفسه، فإن هيوم ذاته في كتاب “الحرية والضرورة” Of Liberty and Necessity وكتاب “من المعجزات” Of Miracls كان يسعى لإيجاد أفكار عن أسباب تأتي بنتائج أقوى من تلك التي كان هيوم مستعداً لاعتبارها مشروعة.
في كتابه “تحقيقات جديدة” نفى هيوم السببية وادعى أن كل ما يتضمنه العالم الخارجي هو مجرد ترابط دائم – أي: عبارة عن أحداث من هذا النوع يتبعها بانتظام أحداث من ذلك النوع – وعندما نلاحظ هذا الترابط الدائم يتكون لدينا ميل قوي في الربط بين أفكار عن هذا وأفكار عن ذلك، فنحن نرى الماء يغلي عندما يتم تسخينه فنربط بين تسخين الماء وبين غليانه فنعتقد أن هناك علاقة واقعية بين الاثنين، في حين أننا بذلك نسقط ترابطاتنا النفسية الداخلية. بمجرد أن ينتهي هيوم من البحث يتخلص من تشكيكه في السبب والنتيجة ولا أدريته بالنسبة للعالم الخارجي كما يدعي، وفي الحقيقة فإن هيوم يتخلى عن تشكيكه بالسببية وإنكاره للعالم الخارجي حتى قبل أن ينتهي من البحث، فليس هناك على سبيل المثال في فصل “في المعجزات” في كتابه “التحقيق الأول” أثر لأطروحته عن العلاقات السببية، وما كانت يقوله من أن الضرورات ليست سوى اسقاطات كاذبة على الطبيعة.
وفي كتابه “تاريخ إنكلترا”، لم يقدم هيوم أيه إشارة لشكه في السببية أو في العالم الخارجي، وبهذا يذكرنا هيوم ببعض المعاصرين الذين ينكرون لمبررات اجتماعية أو فلسفية إمكانية المعرفة الموضوعية، وهم بتخليهم عن الموضوعية الشاملة يتخلون عن الدقة في البحث العلمي، بل إنهم فوق كل ذلك يعبرون عن قناعتهم الخاصة بعدم وجود معرفة موضوعية!!!
الموضوع الآخر الذي غيرت رأيي فيه هو الإرادة الحرة وحرية الإنسان. هذا الموضوع مهم، لأن السؤال عما إذا كنا أحراراً أم لا، يقع في جوهر أغلب الأديان الرئيسية، وقد أشرت من قبل إلى تعارض وجود الشر في العالم الذي خلقه إله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وكان رد الموحدين على هذا التناقض المشاهد بالقول بأن الإله وهب الإنسان الإرادة الحرة، وأم كل أو معظم الشرور الصارخة في العالم ترجع بشكل رئيسي أو جزئي إلى سوء استخدام هذه الهدية الخطرة، إلا أن المحصلة النهائية ستكون بالتأكيد أن الخيرات المتحققة من هبة الحرية أعظم بكثير من سلبها.
كنت في الواقع أول من سمى هذه الحجة “دفاع الإرادة الحرة”، وبغض النظر عما يمكن تسمية هذه المناظرة “بين الإرادة الحرة وبين الجبرية”، أو بالتعبير العلماني “بين الإرادة الحرة وبين الحتمية” فإن السؤال عما إذا كنا أحراراً في أفعالنا أم لا له أهمية رئيسية.
ردي على وجهة نظر هيوم كان باتجاهين، أولاً: بعرض الرأي الذي أصبح يعرف بالتوافقية Compatibilism. يزعم غير التوافقيين أنه لا يوجد توافق بين الإرادة الحرة وبين الحتمية، وأما التوافقيون فلم يكتفوا بالقول بأن من الممكن التوفيق بين الإرادة الحرة وبين القول بأن إرادة شخص ما لا تتعارض مع كون مستقبله محتوم حتى قبل أن يقوم بالعمل، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك بالقول بأن الأفعال الإرادية يمكن أن تكون حرة حتى لو كان وقوعها حتمياً من الناحية الفيزيائية، وحتى لو كان وجودها محكوماً بقوانين الطبيعة.
ورغم استمراري بالاعتقاد بأن الناس يقومون باختيارات حرة، فإنني في الأعوام اللاحقة بدأت ألحظ أنه لا يمكن القول بأن هذه الاختيارات الإرادية لها أسبابها المحددة فيزيائياً. بعبارة أخرى، التوافقية لا تصح، فالتوافق لا يصح في هذه الأمور. قانون الطبيعة ليس مجرد عبارة يتم التعبير بها عن حدوث شيء ما، وعندما يحدث فإن حدثاً آخر يتبعه، بل الأحرى القول أن القانون هو ادعاء بأن حدوث شيء ما يحتم بالضرورة حدوث الشيء الآخر، مما يجعل عدم حدوثه أمراً مستحيلاً، وليس هذا هو الحال في الإرادة الحرة، نحن بحاجة أيضاً إلى تمييزات مطابقة بين معاني “الحتمية”.
أسباب الأفعال البشرية تختلف بشكل جوهري عن أسباب الأفعال غير البشرية، فعند توفر جميع أسباب حدوث انفجار ما فإنه يصبح من المستحيل على أية قوة في هذا العالم منع حدوث الانفجار، ولكن إذا أعطيتك أسباباً كافية لإظهار الفرح والابتهاج فإن هذا لا يعني أن إقامة الاحتفال أصبح ضرورياً. ويترتب على هذا أنه ليس كل حركة إنسانية يمكن إرجاعها بشكل كامل إلى أسباب فيزيائية. يمكن التمييز بين معنيين للغظ “السبب” من خلال استخدام مصطلح هيوم في الأسباب المادية والمعنوية، فعندما نتحدث بشكل كامل عن أحداث غير بشرية – الكسوف على سبيل المثال – فإننا نستخدم كلمة السبب بالمعنى الذي يتضمن الضرورة الفيزيائية والاستحالة الفيزيائية (أي: ما حدث كان يجب أن يحدث، وعدم حدوثه مستحيل)، ولكن هذا بالتأكيد ليس الحال عندما نتكلم عن الأسباب أو الدوافع في حالة الأفعال البشرية.
لنستخدم المثال السابق، افترض أنني أخبرتك بأخبار مفرحة، فإذا كان رد فعلك هو الابتهاج فإن من المحتمل جداً أن تصف إخباري لك بهذه الأخبار بأنه سبب لابتهاجك، ولكنني في الواقع لم أكن سبباً في ابتهاجك، فهو لم يكن ضرورياً وكان بالإمكان تجنبه، فقد تقرر أن لا تبتهج لأنك قد تكون حينها في المكتبة، وبعبارة أخرى: قد يكون نقلي لك أخباراً مفرحة دفعك للابتهاج، ولكنني أيضاً لم أمنعك من أن تبكي، ولنستخدم تعبير الفيلسوف الرياضي ليبنز Gottfried Leibniz “أسباب هذه اللحظة ترجح ولا تحتم”.
ربما رفض هيوم مفهوم الحتمية المادية لأنه لم يكن قادراً على التمييز بين النوعين اللذين أشرنا إليهما هنا، ومع ذلك فإن طريقة هيوم في التصنيفات تؤشر إلى الفرق الجوهري بين العلوم الطبيعية من جهة، وبين العلوم الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى.
اعتمادً على الفرق الجوهري في الاستخدامين للفظة “السبب”، يصبح من الواضح – على الأقل أننا عندما نتحدث عن السلوك البشري – فإننا نحتاج إلى التمييز المطابق بين معنيين مختلفين جوهرياً للحتمية: الحتمية الناتجة عن الأسباب الفيزيائية، والحتمية الناتجة عن الأسباب المعنوية. من المؤكد أنه إذا كان هناك سلوك ما يتحقق بنظام الأسباب الفيزيائية فإن فاعل السلوك لم يكن حراً في هذا السلوك، ولم يكن بمقدوره أن يمنعه من الحدوث. من المؤكد أن الفشل في تشخيص هذه التمييزات، سوف يضلل الكثير من الناس، وسوف يقودهم للاستنتاج بأن تفسير وقوع حدث ما بأسباب فيزيائية أو معنوية يؤيد مبداً الحتمية الكونية الفيزيائية[20]، وهذا يعني أنه كان من المستحيل على أي فاعل أن يسلك خلاف السلوك الذي صدر عنه.
ما نحتاجه لتجنب مثل هذه الأخطاء (كما فعلت في كتاب “الحياة الاجتماعية” و”الحكم الأخلاقي”) هو التحليل المنطقي لثلاثة ألفاظ: الفاعل، حرية الاختيار، والقدرة على اختيار غير ما اخترناه في الواقع. عندما نستطيع التمييز بين التحركات moving والحركات motions فإن يمكننا أن نفسر تصور الحركة. التحرك moving هو حركة يتم القيام بها اختيارياً، أما الحركة motion فهي حركة لا يمكن تجنب القيام بها، فالقدرة على التحرك هي خاصية للبشر فحسب، أما الكيانات التي لا تمتلك الإدراك والقصد فإن ما تقوم به هو مجرد حركة motion.
الفاعلون هم المخلوقات القادرة على حرية الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل، الاختيار بين عدة بدائل للفعل أو عدم الفعل وهي البدائل التي تتغير من وقت لآخر حسب الظروف، والفاعلون – من خلال دورهم كفاعلين – وليس بوسعهم تجنب الاختيار بين بديلين أو أكثر من البدائل المتاحة لهم في وقت الحدث.
التمييز الحاسم بين التحركات المتضمنة في الفعل، والحركات التي تشكل السلوك الضروري، وبين السلوك الذي يستلزم السلوك الحتمي. يترتب على ذلك استحالة القول بالحتمية الفيزيائية الحاكمة على الكون، بما في ذلك حركة جسد الإنسان، فالتحركات بالإضافة إلى الحركات هي محكومة بأسباب فيزيائية حتمية.
عطفاً على تراجعي عن القول بالتوافقية الكاملة، فإن الكثير مما كتبته عن الإرادة الحرة أو الاختيار في سياقه العلماني أو الديني يحتاج إلى تعديل وتصحيح، ولكون هذا الأمر يتعلق بالسؤال الثاني ضمن أسئلة كانت الفلسفية الأساسية: “الإله والحرية والخلود” فإن تغيير قناعتي بشكل جوهري في هذا الشأن يماثل التغيير الجوهري لوجهة نظري في السؤال الأول عن الإله.
[1] فيلسوف إنجليزي، عمل على نشر الفلسفة في المجتمع البريطاني في فترة الحرب العالمية الثانية.
[2] Parapsychology.
[3] فيلسوف يوناني كلاسيكي، رياضياتي، كتب عدد من الحوارات الفلسفية. ويعتبر مؤسس لأكاديمية أثينا التي هي أول معهد للتعليم العالي في العالم الغربي، معلمه سقراط وتلميذه أرسطو. وضع أفلاطون الأسس الأولى للفلسفة الغربية والعلوم، نبوغ أفلاطون وأسلوبه ككاتب واضح في محاوراته السقراطية (نحو ثلاثين محاورة) التي تتناول مواضيع فلسفية مختلفة: المعرفة، المنطق، اللغة، الرياضيات، الميتافيزيقيا، الأخلاق والسياسية.
[4] فيلسوف يوناني، تلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، وواحد من عظماء المفكرين، تغطي كتاباته مجالات عدة، منها الفيزياء والميتافيزيقيا والشعر والمسرح والموسيقى والمنطق والبلاغة واللغويات والسياسة والحكومة والأخلاقيات وعلم الأحياء وعلم الحيوان. وهو واحد من أهم مؤسسي الفلسفة الغربية.
[5] Michael Dummett, Truth and Other Enigmas (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1978), 431.
[6] كناية عن عدم تأثير إضافة القيود في حل المشكلة، إذ الميت لا يمكن إماتته.
[7] يريد المؤلف أن يبين أن إضافة قيد (كبيرة وهائلة) للكرة الأرضية يرفع التناقض الظاهري المتوهم بين النظرية العلمية المثبتة لكروية الأرض وإحساسنا بالوجداني بتسطح الأرض.
[8] I. M. Crombie, “The Possibility of Theological Statements” in Faith and Logic, ed Basil Mitchell (London: Allen & Unwin), 50.
[9] Crombie. “The Possibility of Theological Statements,” 72,73.
[10] يقصد هنا: هناك فرق بين القول بأن مشكلة الشر لا تتوافق مع الإيمان بقدرة الله المطلقة وحبه المطلق للبشر من ناحية، والقول بأن مشكلة الشر متعارضة تماماً وضد الاعتقاد بوجود إله. فالأول لا ينكره المؤمنون بالإله ويسعون لرفع عدم التوافق هذا. في حين أنهم ينكرون الثاني تماماً. وبالتالي مقالة فلو القديمة لم تفرق بين هذه الأمرين.
[11] Raeburne Heimbeck, Theology and Meaning (London: Allen & Unwin, 1969), 123, 163.
[12] Eric L. Mascall, The Openness of Being (Philadelphia: Westminster, 1971), 63.
[13] اللاهوت الطبيعي هو فرع من اللاهوت يعتمد على العقل والتجارب العادية. وبالتالي فهي تختلف عن الوحي الديني الذي يقوم على أساس الكتب المقدسة والتجارب الدينية من مختلف الأنواع.
[14] كناية عن تعدد تصورات الأديان للإله الكامل.
[15] J. L. Mackie, The Miracle of Theism (Oxford: Clarendon, 1982) ,1.
[16] Frederick C. Copleston, Philosophers and Philosophies (London: Search Press, 1976), 76.
[17] يقصد: أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته.
[18] Anthony Kenny, Faith and Reason (New York: Columbia University Press, 1983), 86.
[19] Kai Nielsen, review of The Presumption of Atheism by Antony Flew, Religious Studies Review 3 (July 1977), 147.
[20] يقصد بذلك حتمية جميع حوادث الكون الشاملة لأفعال الإنسان الاختيارية.