يقول الكتاب المقدس أنه يمكننا أن نرى الله، وفي مواضع أخرى ينفي هذا، فهل هذا تناقض؟
لاحظت، وأنا أقرأ الكتاب المقدس، آيات تشدد أن الله لا يمكن أن يراه أو يعرفه أحد، وعلى العكس ثمة آيات أخرى تؤكد أن البشر يمكن – لا بل هو مدعون – أن يروا الله ويعرفوه، ويصيروا شركاء في طبيعته الإلهية، فهل الكتاب المقدس يناقض نفسه؟
يقول الكتاب المقدس أنه يمكننا أن نرى الله، وفي مواضع أخرى ينفي هذا، فهل هذا تناقض؟
ج 91 – فعلاً، توجد مثل هذه الآيات التي يبدو، ظاهراً، أنها تناقض بعضها بعضاً. ولكن، في الحقيقة ليس ثمة تناقض، وإنما تضاد. ولكي يقترب القارئ، أكثر، من الموضوع الذي طرحه السائل، نقدم له بعضاً من الآيات التي تشدد على أن الله لا يمكن أن يرى أو أن يعرف:
- «وقال لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش» (خر 33: 20).
- «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر» (يو 1: 18).
- «وليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له» (مت 11: 27).
بالمقابل، نقدم له بعضاً من الآيات الأخرى التي تؤكد إمكانية رؤية الله ومعرفته والشركة معه:
- «فدعا يعقوب اسم المكان فنئيل (وجه الله) قائلاً لأني نظرت الله وجهاً لوجه ونُجّيَتْ نفسي» (تك 32: 30).
- «طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله» (مت 5: 8).
- «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 17: 3).
- «الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 2-).
فيما يخص الآيات التي تشدد أن الله لا يمكن أن يرى أو أن يعرف أو أن يشارك، يتفق الآباء على أن المقصود منها هو عدم إمكانية رؤية الله أو معرفته أو مشاركته بحسب جوهره (أي عمق طبيعته الإلهية الخاصة). لأن الجوهر الإلهي هو قطعاً وبصورة مطلقة غير قابل لأن يرى أو يدرك أو يشارك من المخلوقات، بمن فيهم الملائكة والقديسون، سواء في هذه الحياة أو في الحياة الأخرى.
أما الآيات التي تؤكد أن الله يمكن أن يرى أو أن يعرف أو أن يشارك، فهي تشير إلى إمكانية رؤية الله أو معرفته أو مشاركته عن طريق ما اعتبره بعض الآباء تنازل الله إلى ضعف الذين رأوا، وظهوره لهم بما يتكيف مع إمكانياتهم للقبول، أو ما سمته غالبية الآباء انحدار قوى الله إلينا. وبالطبع، فهذا التعبير ليس غريباً عن تعابير الكتاب المقدس. فهذه القوى هي ذاتها ما سماه الكتاب المقدس: «وجه الله الذي يرى» (تك 32: 30؛ خر 33: 11؛ مت 5: 8؛ يو 6: 40… الخ)، أو «مجده الذي يعاين» (عدد 12: 7-؛ مز 17: 15؛ يو 1: 14؛ 2كو3: 18)، أو «نوره الذي يضيء» (مت 17: 2؛ مر 9: 3؛ لو 9: 29)، أو «ملكوته الذي يأتي» (لو 17: 20؛ 9: 27؛ مت 4: 17؛ مر 1: 15)، أو «حياته الأبدية التي تعرف» (يو 3: 15-؛ 17: 3)، أو «نعمته التي تعطى» (لو 3: 52؛ يو 1: 14، 16-؛ رو 12: 3، 6؛ أف 4: 7)، أو «موهبته التي توهب» (رو 12: 6؛ 1كو 12: 1، 4، 9، 30-؛ 14: 1)، أو حتى «قوته التي تخرج منه» (لو 6: 19؛ 8: 46؛ مر 5: 30)، أو «قوته التي تحل من الأعالي» (لو 24: 49؛ أع 1: 8)، أو «عطية الروح القدس التي تقبل» (أع 2: 28)…. الخ.
ومن الجدير بالذكر أن السؤال الذي طرحه السائل كان بين القضايا التي أثيرت خلال صراع القديس غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر، مع بعض الذين تعلموا في الغرب، وتعودوا أن ينظروا إلى اللاهوت من خلال معطيات فلسفية وعقلية. إذ هاجم هؤلاء طريقة الحياة الروحية لرهبان جبل أثوس، والتي تشدد على ممارسة صلاة يسوع والتنقية الداخلية، وإمكانية رؤية المجد الإلهي في هذه الحياة. فاضطر المتوحد غريغوريوس بالاماس، بناء على طلب رفقائه الرهبان، أن ينبري للدفاع عنهم شفاهاً وكتابة. كما عقدت عدة مجامع في القسطنطينية للنظر في الموضوع. وكان من نتائج تلك المعركة اللاهوتية الطويلة التي انتصر فيها القديس بعد جهادات وأسر واضطهادات، أن توضحت وجهة النظر الأرثوذكسية المتعلقة بمشكلة إمكانية الشركة مع الله، والمستندة إلى رأي الآباء القديسين منذ أقدم العصور، ولا سيما في القرن الرابع حيث وقفوا كلهم صفاً واحداً ضد ادعاء الهرطوقي أفنوميوس أنه يمكن معرفة جوهر الله. من الآباء الذين تكلموا عن انحدار قوى الله إلينا باسيليوس الكبير، وغريغوريوس النيصصي، وديونيسيوس المكنى بالأريوباغي، ومكسيموس المعترف، ويوحنا الدمشقي، وسمعان اللاهوتي الحديث…
ويتلخص الموقف الأرثوذكسي، بأن الله، عندما يصنع معنا علاقة، لا يشترك معنا بحسب جوهره ولا بحسب أقانيمه الثلاثة بحسب قواه (أو طاقاته energies) غير المخلوقة. فعلى سبيل المثال، نعمة الروح القدس التي تنحدر إلينا، ليست هي جوهر الله، ولا أقنوم الروح القدس، لكنها أيضاً – ولأنها صادرة عن الجوهر الإلهي للروح القدس الواحد مع الآب والابن، وغير منفصلة عنه – فهي ليست مخلوقة، ولا مادية، وغير متغيرة، بل هي قوة أو طاقة إلهية سرمدية غير قابلة للرؤية ولا للوصف ولا للإدراك، حاضرة في كل مكان، وقادرة على كل شيء. ومع هذا، فقد استطاع البطاركة والأنبياء والرسل والقديسون أن يروها، بعد وصولهم، بمساعدة هذه القوى نفسها، إلى درجة عالية من الحياة النقية والطاهرة من الأهواء، وبالتالي إلى الامتلاء من مواهب الروح القدس، أي من هذه القوى: «وبنورك نعاين النور» (مز 36: 8). «لأن الله الذي قال أن يشرق نور من الظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح» (2كو 4: 6). بتعبير آخر، هذه النعمة، كجميع القوى التي تصدر عن الله، هي مظاهر أو تجليات للوجود الذي يسمو على كل وجود، أو كما يسميها القديس بالاماس: «صلات الوجود الإلهي بكل ما هو ليس الله». وذلك لأن العالم الموجود لا يستطيع أن يرتفع إلى مستوى الجوهر الإلهي، بل فقط إلى الاستمداد من هذه القوى المنبعثة عنه. وطبيعي أن العالم نفسه قد خلق بحسب قوى الله، وليس بحسب جوهره، وإلا لكان أزلياً مثله. إذ الله يخلق يعمل بواسطتها فتتخلل الكل: «به نحيا ونتحرك ونوجد» (أع 17: 28).
إلى ذلك، فوظيفة هذه القوى ليست فقط في علاقتها مع الخلائق، لأن الله، بغض النظر عن وجود الخلائق التي كان يمكن أن لا توجد، تجلى دائماً وقبل الدهور بهذه القوى التي تشع أزلياً منه. من هنا نفهم معنى عبارة الرسول بولس: «الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يدنى منه» (1تيمو 6: 16). فهذا النور هو نفسه المجد الإلهي أو قوى الله، أو طاقاته المنبعثة من عمق وجوده، والتي بها ظهر يسوع متجلياً على الجبل أمام الرسل. إنه النور المنبعث من وجه الله والذي أضاء وجه موسى. إنه ملكوت السماوات الذي فيه يضيء الأبرار كالشمس، والذي يستمد منه الذين يحيون مع الله، ومنذ الآن، غبطتهم وحيويتهم وسلامهم. أما حياتهم الكاملة والمعاينة، باستمرار، المجد الإلهي فتحصل في الحياة الآتية. مع ذلك، يوجد تقدم مستمر إن كان في هذه الحياة أو ما بعد الموت، أو في الحياة المستقبلية، في اقتبال النور الإلهي، ولكن بدون أن تستطيع الخليقة ولا مرة واحدة رؤية أو مشاركة الجوهر الإلهي.
وهكذا نجد أن الرأي الأرثوذكسي المتسلم من الآباء، والذي أوضحه القديس غريغوريوس في تمييزه بين الجوهر والقوى الإلهية، هو الجواب على السؤال الذي طرحه السائل. إذ يُظهر أن ليس ثمة تناقص في الكتاب المقدس، وإنما تضاد يجمع بين استحالة رؤية الله ومشاركته بحسب جوهره أو طبيعته الإلهية، وبين إمكانية هذه الرؤية أو المشاركة بحسب قواه الصادرة عن هذا الجوهر أو الطبيعة الإلهية. وهو ما أشار إليه القديس بالاماس نفسه: «لقد تسلمنا من اللاهوتيين الموقرين كلا الأمرين معاً، وهو أن جوهر الله غير قابل للمساهمة وأنه إلى حد ما قابل. وبأننا نشارك في الطبيعة الإلهية ولا نشارك البتة. فيجب، إذاً، أن نحافظ على كلا الأمرين وأن نضعهما في مكانهما اللائق من العبادة الحسنة». (الأب د. جورج عطية).
+++++
«الآب هو الطبيعة غير المنظورة للابن، بينما الابن هو الطبيعة المنظورة للآب» (القديس إيريناوس أسقف ليون).
«قد نظرنا النور الحقيقي وأخذنا الروح السماوي، ووجدنا الإيمان الحق، فلنسجد للثالوث غير المنقسم لأنه خلصنا» (قداس الذهبي الفم)