سمعت البعض يتحدثون عن ظهور ملاك للرب غير مخلوق في العهد القديم، فهل هذا الأمر صحيح؟ وإن كان صحيحاً فمن هو هذا الملاك، وبماذا يختلف عن الملائكة العاديين؟
الملاك غير المخلوق الذي ظهر في العهد القديم، من هو؟ وبماذا يختلف عن الملائكة الآخرين؟
الإجابة:
صحيح. فالعهد القديم حافل بظهورات لملاك خاص متميز عن الملائكة العاديين المخلوقين. لأنه كان يتكلم، لا كمجرد ناقل لكلام الله، بل بصفته الله نفسه. أكثر من ذلك، كان ثمة خوف وشعور عند من كان يظهر لهم بأنهم قد رأوا الله نفسه. لا بل، وأحياناً، كان ذلك الملاك يُعلن بوضوح عن صفته الإلهية، كما حدث مع موسى حين التقاه لأول مرة: «لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك. لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأن خاف أن ينظر إلى الله» (خر 3: 5-).
ولكي يقترب الموضوع أكثر من ذهن القارئ نُذّكر بأن كلمة ملاك، في كلتي اللغتين العبرانية واليونانية اللتين كُتب بهما الكتاب المقدس، تعني رسولاً أو مرسلاً. فإن كان الأمر كذلك، فهل من الممكن أن يرسل الله نفسه؟ ونجيب: إن كان الله ثالوثاً قدوساً، فلم لا؟ إن كان الله أرسل ابنه الوحيد، في العهد الجديد، كمتجسد، فلماذا نستبعد أن يكون قد أرسله في العهد القديم كغير متجسد، وهو “كلمته” (يو 1: 1)، «وبهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته» (عب 1: 3)؟ إن كان الملائكة العاديون يستطيعون أن يظهروا للناس، فهل يعجز خالق الملائكة والناس، عبر قواه الإلهية، أن يظهر بالهيئات المتنوعة، المناسبة لظروف الرؤى المختلفة؟ ولأن الثالوث القدوس هو إله واحد، فبديهي أن يكون كل ظهور إلهي ظهرواً للأقانيم الثلاثة معاً عبر مجدها أو قواها الثلاثية الواحدة. بكلمات أكثر تحديداً، إن كل ظهور إلهي للملاك (المرسل) غير المخلوق هو ظهور لمجد الابن، في مجد الآب، بمجد الروح القدس. لأن «الابن هو صورة الله غير المنظور» (كو 1: 5)، والابن هو في الآب، والآب في الابن، لذلك «من رأى الابن فقد رأى الآب» (يو 14: 9-)، «بالروح القدس الذي يمجد الابن» (يو 16: 14).
تؤيد هذه النظرة إلى الملاك غير المخلوق آيات كثيرة، في أسفار العهد القديم، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 – مناداة ملاك الرب لإبراهيم، أثر أخذه السكين ليذبح ابنه، حيث يظهر بوضوح من كلام الملاك أنه الله نفسه وليس مجرد مرسل مخلوق: «…. لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً. لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك الوحيد عني…. ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال بذاتي أقسمت يقول الرب. إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة وأكثر نسلك كثيراً كنجوم السماء….» (تك 22: 11-)
2 – مباركة إسرائيل (يعقوب) ليوسف، والتي فيها يتبادل تعبيرا الله والملاك، مما يدل بوضوح أن الاثنين بالنسبة لإسرائيل هما واحد: «الله الذي سار أمامه أبواي إبراهيم وإسحق، الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم. الملاك الذي خلصني من كل شر يبارك الغلامين» (تك 48: 15-).
3 – التبادل، في سفر الخروج، بين تعابير الملاك من جهة، والرب الإله، من جهة أخرى: «وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة…. فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال…» (خر 3: 2-). «وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلاً في عمود نار ليضيء لهم» (خر 13: 21). «فانتقل ملاك الرب السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم. وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم» (خر 14: 19). إلى ذلك تسمية الله للملاك، السائر أمام عسكر إسرائيل، بوجهه أو حضرته: «وقال موسى للرب انظر. أنت قائل لي اصعد هذا الشعب. وأنت لم تعرفني من ترسل معي… فقال وجهي (أو حضرتي) يسير فأريك. فقال له إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا» (خر 33: 12-). القديس أثناسيوس الكبير يعلق على هذا المقطع، في رسالته الأولى إلى سرابيون، فيقول: «لقد عرف موسى بيقين أن الملائكة مخلوقات، بينما الروح القدس متحد بالآب والابن. فإنه لما قال له الله: «اذهب واصعد من هنا أنت وشعبك الذي أصعدته من أرض مصر إلى الأرض التي حلفت لإبراهيم واسحق ويعقوب قائلاً لنسلكم سوف أعطيها، وأنا أرسل أمام وجهك ملاكي وأطرد الكنعانيين» (خر 33: 1-) استعفى موسى قائلاً: «إن لم تسر معنا أنت بنفسك فلا تصعدنا من ههنا» (خر 33: 15) لأنه لم يشأ أن يتقدم الشعب مخلوق، لئلا يتعلم الشعب أن يعبد المخلوق وليس الله الذي خلق كل الأشياء… فقد كان يرجو أن يقاد الشعب من الله ذاته. وهذا ما وعده الله به.
4 – تأكيد النبي إشعياء بأن المسيح المخلص الآتي هو نفسه ملاك حضرة الله الذي خلص الشعب «وحملهم كل الأيام القديمة»، «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم» (إش 63: 9). كما يسميه كذلك راعي غنمه، ويتكلم عن الآب والروح القدس، فيسأل بكلام ثالوثي واضح: «أين الذي أصعدهم من البحر (الآب) مع راعي غنمه (الابن)، أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه» (إش 63: 11). على هذا النحو، فملاك حضرة الله هو ابن الله الذي تنبأ عن ولادته البشرية من العذراء (إش 7: 14، 9: 6). وهو نفسه الذي قال عنه أن اسمه سيدعى عجيباً، أي تماماً ما أجاب به قديماً ملاك الرب لمنوح عندما سأله ما اسمك فقال له «لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب» (قض 13: 17-). ولماذا اسمه عجيب، أليس لأنه كما أكمل إشعياء: «ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام» (إش 9: 6)
5 – الإشارة إلى ثلاثية الأقانيم ووحدة الجوهر الإلهي، في ظهور السيد (الملاك غير المخلوق) بمجده، لإشعياء في الهيكل والسيرافيم واقفون حول عرشه وصارخون فيما بينهم: «قدوس، قدوس، قدوس، (ثلاثية الأقانيم) رب الجنود (وحدانية الألوهية) مجده ملء الأرض» (إش 6: 3-). الرسولان يوحنا وبولس يستشهدان بهذه الرؤيا، الأول ليظهر أن إشعياء قد رأى مجد المسيح، أي الابن (يو 12: 41)، أما الثاني فليبين أن من كلم إشعياء النبي كان الروح القدس (أع 28: 25-).
6 – إعلان الله، عبر النبي ملاخي، عن إرساله لملاكه (مرسله) الذي يهيئ الطريق أمامه، أي يوحنا المعمدان، الذي هيأ الطريق أمام ابن الله المتجسد يسوع. لكن اللافت استعماله أيضاً لكلمة ملاك، في وصفه لمجيء السيد نفسه: «ها أنذا أرسك ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك (مرسل) العهد الذي تسرون به، هوذا يأتي قال رب الجنود» (مل 3: 1).
7 – وأخيراً، أتى المرسل المخلوق ليهيئ الطريق أمام مرسله، المرسل غير المخلوق. فقال: «إن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 33-). قد شهد تلاميذ يسوع، وأكد يسوع شهادتهم، أنه المسيح ابن الله الحي (مت 16: 16-؛ 14: 33؛ 26: 63-؛ يو 9: 35-). كما أعلن بوضوح أنه ملاك (مرسل) الله (الآب والابن والروح القدس) غير المخلوق، إذ قال: «قد نزلت من السماء ليس لعمل مشيئتي (كإنسان) بل مشيئة الذي أرسلني» (يو 6: 38). إلى ذلك أكد أنه ليس فقط ملاك العهد الجديد، بل وأيضاً ملاك العهد القديم، غير المخلوق، الذي كان يكلم البطاركة والأنبياء، إذ قال لأبنائهم اليهود معاصريه، حين سألوه من أنت: «أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به» (يو 8: 25).
آمل أن ما ورد أعلاه، قد ساعد السائل والقراء على الاقتراب من سر الملاك غير المخلوق، وبالتالي، على ما أراد الرسول بولس أن يُعرف أهل كورنثوس عليه: «فإني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً. لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح» (1كو 10: 1-). (الأب د. جورج عطية)
+++++
«يشهد الأحبار الإلهيون أثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس وكل خورس الآباء اللابسي الله أن النشيد المثلث التقديس[1] لا يقال في الابن فحسب، بل في الثالوث الأقدس. فإن السيرافيم القديسين في تقديسهم المثلث يظهرون لنا الأقانيم الثلاثة للاهوت الفائق الجوهر، ويعرفوننا بوحدة السيادة ووحدة الملك لرئاسة الثالوث الإلهي» (القديس يوحنا الدمشقي).
إن العليقة غير المحترقة، التي مازجت النار في سينا، قد عرفت الإله لموسى الألثغ اللسان والأبح الصوت؛ وكذلك غيرة الله أظهرت الثلاثة الفتية غير مصهورين بالنار بل مسبحين: سبحوا الرب يا جميع أعماله، وزيدوه رفعة مدى الدهور» (العنصرة، صلاة السحر)
++++++
[1] قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت ارحمنا.