Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

كيف نؤمن بإله المحبة في عالم الألم؟ – ميلفين تيينكر

كيف نؤمن بإله المحبة في عالم الألم؟ – ميلفين تيينكر

الصورة الكبيرة – كيف نؤمن بإله المحبة في عالم الألم؟ – ميلفين تيينكر

الصورة الكبيرة – كيف نؤمن بإله المحبة في عالم الألم؟ – ميلفين تيينكر

في الأول من نوفمبر عام 1755، ابتليت لشبونة بزلزال مدمر، وحيث أنه كان عيد جميع القديسين، فقد كان الكنائس ممتلئة عن آخرها، وتم تدمير ثلاثين كنيسة. وخلال ست دقائق فقط، مات 15000 شخص، وكان هناك 15000 آخرين يحتضرون، كان هذا في القرن الثامن عشر يعادل القنبلة النووية، ولكنه ليس نتيجة تجبر البشر.

واحد من المفكرين الكثيرين الذين أرعبهم هذا الحدث، كان الفيلسوف الفرنسي فولتير. وكانت صرخته بكل بساطة: كيف يمكن لأي إنسان أن يؤمن بإله محسن، محب وكلي القدرة بعد ما حدث؟ فما كان منه إلا أن تعامل باحتقار مع كلمات بابا الإسكندرية المكتوبة في “مقال عن الإنسان”، والتي كتبها في فيلته المريحة في توبكينهام:

«على الرغم من كبرياء الإنسان، وعلى الرغم من خطأ عقل الإنسان وقصوره عن الفهم، هناك حقيقة واحدة واضحة، وهي أن مهما كان ما يحدث فهو صحيح».

كان هذا بالنسبة لفولتير هو التعبير الشعري الفج عن فلسفة التفاؤل – وهي الفلسفة التي خلال 150 عاماً بعد ذلك، ربما بشك مختلف، هي نفسها التي تم تمزيقها على شكل شرائط على هيئة أجساد الشباب الذي ماتوا في معارك السوم والباشينديل. وفي اعتراضه، شجب فولتير مثل هذا التفاؤل في كتابه Poem on Disaster of Lisbon، والذي كان يطرح السؤال: إن كان الله حراً وعادلاً ومحسناً، فلماذا نتألم تحت حكمه؟ وفيما بعد وجدت أفكار مشابهة تعبيراً عنها في الرواية الساخرة Candide، حيث نجد فيها المعلم د. بانجلوس، وهو أستاذ في التفاؤل، يؤكد بتملق أن: «كل شيء هو لأجل الخير حيث أننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة.» وبعد ذلك، بعد العديد من الكوارث الأخرى، وخاصة بعد إعدام د. بانجلوس بواسطة محاكم التفتيش، يكتب فولتير أنه هو «ينزف في رعب وصمت، يقول لنفسه: “إذا كان هذا هو أفضل العوالم الممكنة، فماذا يمكن أن تكون البقية؟”»

رغم أنه لا الكتاب المقدس نفسه، ولا أي لاهوت مسيحي مؤسس على الكتاب المقدس يدعى على الإطلاق أن العالم الذي نعيش فيه هو أفضل العوالم الممكنة، فإن المرء يجب على الأقل أن يتعاطف مع المشاعر التي ينادي بها فولتير. أي أنه يوجد تناقض واضح بين الإيمان بإله كلي القدرة والمحبة، وبين حقيقة الألم التي تعتبر شراً. لذلك، فمن الشائع أن نتحدث عن “مشكلة الألم”.

ومع ذلك، يجب أن نوضح منذ البداية أنه بالنسبة للملحد أو للمادي المتزمت، لا توجد مشكلة في الشر، حيث أن الشر والألم لا يعتبران ضد معتقداته. وهذا لأن آلام الملحد أو المادي هي مجرد حقيقة من حقائق الوجود، فهي من معطيات الوجود مثل حمرة اللون الأحمر أو بلل المياه. قد تكون المشكلة بالنسبة للملحد هو أنه سيكون عليه أن يتكيف، مثل بقيتنا، مع بؤس الألم أو الصراع ضد تهديد الإبادة، والذي سيجعل كل موجوداته بلا معنى في النهاية. لكن فيما يختص بنظام معتقداته، لا تعتبر مشكلة الألم مهمة في حد ذاتها.

صياغة المعضلة

لكن بالنسبة للمسيحين يشكل الألم والشر مشكلة فعليه بحسب معتقدات المسيحي. لذلك يكتب ماكلوسكي: «الشر مشكلة بالنسبة للمؤمن حيث أن هناك تناقض بين حقيقة وجود الشر من ناحية، والاعتقاد بقدرة الله الكلية من ناحية أخرى»[1].

أو يمكن صياغة المشكلة في شكل معضلة، كما صاغها جون هايك: «إذا كان الله كلي المحبة والصلاح، فلا بد أن يرغب في إزالة الشر. وإذا كان الله كلي القدرة، فلا بد أن يقدر على إزالة الشر. لكن الشر موجود، ولذلك، فلا يمكن أن يكون الله كلي الصلاح وكلي القدرة معاً»[2].

حتى لو كانت بعض من المصطلحات التي يستخدمها هايك هنا، مثل “الصلاح”، يجب أن يتم تمييزها عن اللطف والرقة، وأن تتضمن، كما يصر الكتاب المقدس على ذلك، غضب الله البار ضد الخطأ؛ وحتى لو تم تعريف مصطلح “كلي القدرة”، بأنه لا يتضمن القدرة على فعل ما هو مناقض لذاته – بتمييز ذلك عن التناقضات (مثال على ذلك، هل يمكن لله أن يخلق صخرة شديدة الضخامة بحيث يعجز عن إزالتها؟) – إلا أننا يجب أن نعترف بأمانة أنه لأول وهلة، هناك معضلة نحتاج إلى التعامل معها.

لذلك دعونا نركز على هذه الصياغة الخاصة للمعضلة: إذا كان الله صالحاً، فلا بد أنه يرغب في إزالة الشر؛ وإذا كان كلي القدرة فلا بد أن يتمكن من إزالته. لكن الشر موجود، وهكذا فإنه لا يستطيع أن يكون كلي الصلاح أو كلي القدرة.

إذا فكرنا لدقيقة في هذا اللغز، سنجد أنه يكشف سريعاً عن أمرين تفترضهما هذه المعضلة لكي تكون فعالة. الافتراض الأول هو أنه إذا كان الله صالحاً وكلي القدرة، فلا بد أن يرغب في إزالة الشر الآن. أو على الأقل فإن هذا يطرح الأسئلة، لماذا لم يزله قبل ذلك، أو لماذا سمح بمجيئه في المقام الأول. أما الافتراض الثاني فهو أنه لا بد أن يفعل ذلك بطريقة فورية وشاملة، ربما عن طريق إجراء إلهي. بكلمات أخرى، يوجد في بنية الصياغة توقيت ووسيلة للقيام بهذا الأمر.

لكن ماذا إن أمكن إظهار، ولو مؤقتاً، أن الله لن يقوم فقط بالتعامل مع الشر في نقطة ما في المستقبل. ولكن أيضاً بطريقة ما سيقوم “بفداء” آثاره بوسيلة لا يكن أن نفكر فيها، وبطريقة تحوله إلى ما خير؟ الأكثر من ذلك، ماذا لو أمكن إظهار أن الله قد قام بالفعل بأمر ما للتعامل مع الشر؟ وبذلك فإن جزءًا، لكن بالتأكيد، ليس كل قوة المعضلة، يزال منها. وهكذا يحف التوتر، ولكنه لن يحسم بالكامل.

حلول بسيطة

توجد بالفعل بعض الحلول البسيطة للمعضلة، والتي تتضمن في الأساس إزالة واحد أو أكثر من عناصر الإيمان، وهكذا تكف عن أن تكون معضلة على الإطلاق.

فيمكن للمرء أن ينكر وجود الشر أو الألم، وينظر لهما باعتبارهما “تخيلات” أو أوهام – ويمكن للثيرافادا البوذية أو بدعة العلوم المسيحية أن يصلحا كمثال هنا. فيمكن للمرء أن ينكر أن الله كلي القدرة كلما فعل اللاهوتي التجريبي ديفيد جريفين، الذي ذكر بكل وقاحة أن حل هذه المعضلة هو «بإنكار عقيدة أن الله كلي القدرة، التي هي أساس المعضلة»[3]. أو ثالثاً، يمكن للمرء أن ينكر صلاح الله، وهي نظرة تبناها جيداً آرتشيبالد ماكليش في مسرحيته JB، وهي تمثيل محدث لقصة أيوب. والتي فيها يجد المرء التكرار المرعب للكلمات: «إن كان هو ألهاُ، فهو ليس صالحاً، وإن كان صالحاً، فهو ليس إلهاً كلي القدرة».

إلا أن ما تنادي به المسيحية التقليدية، هو أن الله صالح وكلي القدرة، وأن الشر والألم هي حقائق لا بد من قبولها. وهكذا تكون “المشكلة” في كيفية ربط هذين الأمرين المتعلقين بالإيمان (صلاح الله وقدرته الكاملة) بحقيقة الألم، دون المساومة بهذين المبدأين أو التهوين من الألم البشري.

الحالة الأخلاقية للألم

في إجابتنا على السؤال: «ما الذي يجعل الألم غير مقبول اخلاقياً؟» هناك سؤال سابق يجب الإجابة عليه، وهو: «هل كل ألم شر، أم أنه شر فقط داخل سياقات معينة؟» رغم أنه نفسياً يمكن اعتبار معظم الآلام قابلة للاعتراض، فليس بالضرورة أن تكون هكذاً أخلاقياً، خاصة إذا كان الألم الذي يتم احتماله هو وسيلة للوصول إلى نهاية طيبة معروفة. على سبيل المثال، يعمل الألم بيولوجياً باعتباره جزء من آلية دفاع الجسم التي تمنع المزيد من الجرح عن طريق رد الفعل المنعكس.

وبالتأكيد يمكن الاعتراض على ذلك بأن هذا ببساطة يدفع “المشكلة” مرحلة أخرى للوراء، لأن المرء يمكن أن يسأل، «ولماذا يكون هناك جرح أكثر خطورة من الأساس؟» لذلك، تظل النقطة القائلة أن الألم في حد ذاته ليس بالضرورة أن يكون شراً، ففي بعض السياقات يكون الألم متعادلاً أخلاقياً، مثل الألم “الصحي” بعد تدريب طويل، أو جيد أخلاقياً، كما في حالة العقاب التأديبي الإصلاحي.

لكن بالتأكيد ما يجعل الألم قابل للاعتراض أخلاقياً، هو عندما نواجهها في شكل سلبي للغاية، فيكون خالياً بوضوح من أية أهمية. وهذا هو ما يكمن في جذور الكثير من الصرخات الإنسانية المعذبة – «لماذا مات طفلي الصغير ذو العشرة أيام؟»، «لماذا تدمر حياة الرجل الموهوب ويصل إلى مجرد قوقعة فارغة بسبب إصابته بالزهايمر؟» إن ما يبدو أنه ألم بلا هدف أو سبب، هو غالباً ما يشار إليه باعتباره الألم الذي ينحرف عن الهدف، مما يستدعي رؤيته باعتباره شراً. لذلك يمكننا أن نعبر عن هذا بقولنا أن الألم “يصبح” غير مقبول أخلاقياً، في إطار سياقنا الخاص المحدود والوقتي، عندما يمثل تلك السمات التي نعرف بصفة عامة أنها تتناقض مباشرة مع ما هو صالح وخير – مثلاً، عندما يكون غير ذي مغزى.

وقد بحث كارل بارث[4] بقدر كبير في هذا المنظور المحدد الخاص بطبيعة الشر، فباتباعه لزعم أوغسطينوس عن الشر (باعتباره الحرمان من الخير، الذي ليس له وجود مستقل، وهكذا يأخذ الشر الطابع الطفيلي، فالشراهة مثلاً هي سوء استخدام “لصلاح” الأكل)، يفهم بارث الشر باعتباره “فراغ” أو لا شيء. أو إمكانية مستحيلة، والذي رأى الله أنه من المناسب أن يتم التغاضي عنه.

مثل هذه الأنماط من الوصف تستخدم للتعبير عن الطبيعة السلبية الأساسية للشر. وهذا يقودنا على الفور إلى التناقض الحتمي وإلى محدودية استخدام اللغة في وصف ذلك الشيء الذي يعتبر معادل ميتافيزيقي “لضد المادة”، بدون إعطاء الانطباع الخاطئ في نفس الوقت بأن الشر هو ضرب من الوهم أو الخيال. وعلى الرغم من المزاعم المضادة لذلك، فإن هذا التحليل الذي يقدمه بارث يقول إن الشر حقيقة وواقع، ولكنه حقيقة سلبية.

طريق الألم

عندما يطرح أحد السؤال: «لماذا يوجد الألم؟» فقد يتجه المرء إلى أحد أمرين. الأول، قد يبحث الشخص عن سبب، فيسأل: «ما هو سبب الألم؟» سواء من ناحية سبب وجوده الأصلي، «من أي يأتي من الأساس؟» أو من ناحية المباشرة الآن أي السبب الثانوي، «ما الذي سبب هذا الألم المعين بالتحديد؟»

هناك العديد من الكتاب البارزين الذين يتبنون هذه النظرة العامة لمشكلة الشر – مثل أوغسطينوس، وسي إس لويس، وألفين بلانتينجا، على سبيل المثال. وهنا يكون البحث عن تفسيرات تختص بدفاع الإرادة الحرة، والسقوط، ونشاط الملائكة الساقطين. وهكذا. وكل من هذه الأمور له دور يلعبه في الاتجاه نحو فهم مسيحي شامل للألم والشر الموجودين في العالم.

إلا أن التعليم عن السقوط هو الذي يشكل أهمية كبيرة وأساسية[5]. فالملخص الأساسي لموضوع الكتاب المقدس، هو أن الله الإله المطلق السيادة والصلاح خلق كوناً صالحاً وحسناً. نحن البشر تمردنا، وهذا التمرد الآن هو جزء من تكويننا وقد ارتبط بنا. لذلك فإن كل الآلام التي نواجهها الآن تعود إلى هذه الحقيقة. فهي بشكل ما مرتبطة “بالخطية” (لكن ليس كل ألم يرتبط بالخطية بنفس الطريقة). ويرتكز الكتاب المقدس على حقيقة أن الله قد قام بعمل معين لتغيير هذه الآثار المروعة وسببها الجذري، الذي هو الخطية نفسها. فضلاً عن ذلك، يرى المؤمن في الصورة الأكبر البعد المستقبلي للسماء الجديدة والأرض الجديدة، حيث لا توجد خطية ولا ألم فيما بعد.

هذا يعني أن هناك إدراك أساسي بالنسبة للمسيحيين بأن العالم الذي نعيش فيه هو عالم مفكك على كل المستويات – فهو ليس أفضل العوالم الممكنة، بل هو أبعد ما يكون عن ذلك. إن تكلفة الخطية رهيبة، والألم في هذه الحياة هو إلى درجة ما نتيجة للخطية. فهو بالحقيقة عالم يصلح تماماً للخطاة، وهذا لأن الألم وعدم الراحة يذكرنا أن ليس كل شيء يسير بصورة جيدة في علاقتنا مع خالقنا.

لكن صرخة جيلنا، تعكس صرخة رجل مثل فولتير، «كيف يمكن لله أن يكون بمثل هذه القسوة الشديدة؟» أما صرخة الأجيال السابقة فكانت صرخة رجل مثل مارتن لوثر، تتساءل، «كيف يمكن لله أن يكون بمثل هذه الرحمة العظيمة؟» إن السبب في أننا نجد من الصعب للغاية أن ننطق بمثل هذه الصرخة الأخيرة (لكن ليس من الصعب أن ننطق بالأولى). هو أننا نفشل في تقدير مدى خطورة الخطية، ومدى نقاء شخصية الله الذي يقف في تعارض وتناقض مع الخطية.

ومع ذلك، ليس هذا معناه أن كل عنصر من عناصر الألم هو السبب “المباشر” للخطية. فكما سنرى، إن يسوع يصحح بوضوح تلك الفكرة، لأنه من الواضح للغاية أن الكثيرين من “الأتقياء” يتألمون. الأكثر من ذلك، إن المسيحيين من بين جميع الناس يجب بالتأكيد ألا يتوقعوا حياة خالية من الألم والمتاعب. حيث أن لهم “خسائرهم وصلبانهم”، ومع ذلك فإن بعض الآلام قد تكون نتيجة لخطية محددة (مثال على ذلك الرجل المذكور في يوحنا 5: 1-15).

في بعض الأحيان يمكن أن تنتشر نتائج الخطية البشرية بصورة أكثر اتساعاً على المشهد الإنساني بطريقة لا تبدو شديدة التمييز، كما في حالات الحروب والأوبئة والعيوب الجينية، على سبيل المثال. لذلك فإن استخدام فقط مصطلحات القصاص والعقاب لفهم خطايا معينة هو أمر بغيض وغير كاف.

إن من كتبوا الكتاب المقدس لديهم مثل هذا التقييم الواقعي لكل من الحالة البشرية وشخصية الله، حتى أنهم بخلافنا نحن، لا يصابون بالدهشة بسبب شر الإنسان أو بسبب الآلام التي تصاحبه. الأكثر من ذلك، يأتي مع هذا الفهم الشعور الطاغي بصلاح الله وعطفه، حيث أنه يمنحنا بركاته يومياً، رغم أننا نميل إلى اعتبارها أمر مسلم به (متى 5: 45).

إن هذا الشعور بالانبهار بنعمته، تدعمه حقيقة أنه على الرغم من عدم شكرنا، ومن الطريقة التي نعامل بها بعضنا البعض، فإنه يستمر في أن يتعامل معنا بعطف، بينما يجب في الحقيقة أن نتوقع منه علامات أكثر تنم عن عند الرضى. لكننا نميل إلى عكس هذا المفهوم، حتى أننا نتوقع أنه بدون استحقاق منا، يجب أن تسير الحياة معنا بطريقة لطيفة وطيبة. وبالتالي فإننا كثيراً ما نصاب بالصدمة عندما تأتي الصعاب في طريقنا، بل وفي بعض الأحيان تنشئ فينا مرارة تجاه الله. لذلك فإن المنظور الكتابي هو أشد ما نحتاج إليه لتصحيح ثقافتنا المحدودة بالمتعة.

عند هذه النقطة يثار اعتراض: «إذا كان الله يهتم بنا حقاً، وهو يتعارض تماماً مع الخطية التي هي سبب الكثير من الألم والمعاناة في هذا العالم، فلماذا لا يتدخل لكي يفعل شيئاً بشأنها؟» وبعيداً عن إثارة مشكلة الوسيلة والتوقيت التي ذكرناها من قبل، فهناك نتائج أكثر جدية لا نفكر فيها في معظم الأحيان، ولكن تعبر عنها الكاتبة دوروثي إل سيرز جيداً، بقولها:

«”لماذا لا يميت الله هذا الدكتاتور؟” هذه مشكلة بعيدة عنا نوعاً ما. فلماذا يا سيدتي لم يضربك الرب بالبكم والبله قبل أن تنطقي بتلك الافتراءات الدنيئة التي لا أساس لها من الصحة أول أمس؟ أو بالنسبة لي، قبل أن أتصرف بمثل هذا السوء والقسوة مع ذاك الصديق المخلص؟ ولماذا يا سيدي لم يصب الله يدك بالشلل قبل أن توقع باسمك على هذا التزوير والاحتيال المال القذر؟ إنك بالطبع لم تكن تعني ذلك تماماً، لكن لماذا؟ إن أفعالك وأفعالي السيئة ليس أقل شناعة بسبب أن فرصتنا في فعل السوء أقل من فرص أشخاص آخرين. فهل تظن أن أفعالك وأفعالي شديدة التفاهة بحيث أنها لا تثير غضب الله؟ هذا التفكير له حدين، لأنه في تلك الحالة، لن يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لخليقته أن يقوم بإبادتنا نحن الاثنين معاً غداً»[6].

بكلمات أخرى، إذا أردنا عدالة صارمة وفورية، فإن ما نطالب به هو جهنم حرفياً. لأن هذا هو بالضبط ما سيكون عليه الحال عندئذ.

لكن بالإضافة إلى العودة للخلف للإجابة على السؤال، «لماذا الألم؟» يمكن للشخص أيضاً أن يتطلع إلى الأمام بحيث يكون السؤال الحقيقي هو: «ما هو الهدف من الألم؟ فما الخير الذي يمكن أن ينتج عنه، إن كان في الإمكان أن ينتج عنه أي خير على الإطلاق؟» لكن هذا الخط من التساؤلات أيضاً ليس بدون مدافعين بارزين عنه، مثل إيرينيوس[7]، وشليرميشر[8]، وجون هايك. فهذه الطريقة للنظر إلى السؤال كانت في الحقيقة مأخوذة من مدرسة معينة في التحليل النفسي يطلق عليها “لوجوثيرابي”، ويرأسها فيكتور فرانكل، والذي اختبر هو نفسه أهوال معسكرات التعذيب النازية.

فهناك فقط دوناً مع أي مكان آخر، لاحظ فرانكل الطريقة الإيجابية التي تعامل بها بعض الناس مع هذا الموقع. وقد قادته هذه الملاحظة بالتالي إلى أن يقتبس من نيتشه ويتفق معه عندما قال: «يمكن للرجال والنساء أن يحتملوا أي قدر من الألم طالما يعرفون سبب وجودهم… بمعنى آخر. إذا تم وضع هذا الألم في إطار سياق معنى وغرض أوسع، فإن الكثير من غصة الألم. لكن ليس كله بالطبع، يمكن أن يزول.

وعلى الرغم من أن “السبب” و”هدف” تم تمييزهما هنا باعتبارهما يقدمان في الأساس نظرتين مختلفتين لمشكلة الألم، إلا أنهما ليستا متعارضتين، وقد تم الجمع بينهما فلسفياً ولاهوتياً. فلسفياً، تم الجمع بينهما في وحدة واحدة بواسطة أرسطو وفكرته عن “السبب النهائي” – أي الغاية أو الهدف الذي يتجه إليه شيء ما. ولاهوتياً فإن كلاً من السبب والهدف يتم تبنيه بواسطة عقيدة العناية الإلهية، والتي فيها تعتبر مشكلة الشر عنصر واحد فقط. نرى هذا بوضوح كبير في تعامل كالفن مع الموضوع، إذ كتب قائلاً:

«على الرغم من أن العطف والإحسان الأبوي، كما السيادة القضائية لله، هي دائماً أمور واضحة في مسار عنايته الإلهية الشامل، لكن في بعض الأحيان حين تخفى أسباب الأحداث، يميل الإنسان إلى التفكير في أن الأمور البشرية محاطة بالقدر الأعمى. والحقيقة أننا لو تعلمنا بعقل رزين هادئ، فإن الأمر في النهاية سيكشف أن مشورة الله تتفق مع أسمى منطق، وأن غايته كانت إما أن يدرب شعبه على الصبر، ويقوّم من عواطفهم المنحرفة، ويروض من طيشهم، ويعودهم على إنكار الذات؛ أو من ناحية أخرى أن يخفض المتكبر، ويهزم حيل الأشرار، ويحبط كل مخططاتهم»[9].

وفي فكر أوغسطينوس أيضاً نجد أن الهدف يلعب دوراً أساسياً كما يتم تلخيصه الآن في عقيدته الشهيرة (العيب المبارك)، وهي أن «الله رأى أنه من الأفضل أن يأتي بالخير من الشر، عن ألا نعاني من الشر على الإطلاق». (Enchiridion, xxvii). ففداء الخطاة بالنسبة لأوغسطينوس هو خير أعظم بكثير من عدم وجود خطية على الإطلاق.

الألم لأجل هدف؟

توجد قصة في يوحنا 9 توضح إمكانية وجود هدف إلهي من الألم: وهي قصة شفاء المولود أعمى. فعندما التقى يسوع وتلاميذه مع هذا الرجل، كان التلاميذ هم الذين طرحوا السؤال: «من أخطأ، هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟» وقد كانوا يبحثون عن إجابة لحالة هذا الرجل المأساوية، متمثلة في السبب المرتبط بهذا الفعل الخاطئ بالتحديد. لكن يسوع أجابهم: «لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه» (يوحنا 9: 3). فقد عكس يسوع النظرة السائدة بتركيزه على الهدف الإلهي من وراء هذا الموقف، فربطه بعمل الله الفدائي الخلاق، وبالتالي شفى الرجل.

يظهر هذا أنه الموضع الذي يكمن فيه مركز الجاذبية اللاهوتية في العهد الجديد، مع الوضع في الاعتبار أن الاهتمام الأساسي لهؤلاء الكتاب هو هدف عملي، وهو تمكين شعب الله من إدراك أن الألم والاضطهاد الذي قد يتعرضون له أو من المحتمل أن يواجهوه، عندما تتم رؤيته على خلفية هدف الله الأبدي، يكون له أهمية عظيمة. ويتضح هذا في العديد من المواضع، لكن في حالات محددة، يمكننا أن نفكر في رومية 5: 1-5، وبعد ذلك في رومية 8: 28: «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذي هم مدعون حسب قصده». وهي عبارة موضوعة داخل سياق الألم المسيحي.

لكننا قد نرغب في أن نسأل: «على أي أساس يستطيع بولس أو أي شخص آخر أن يزعم هذه الزعم المدهش بأن الله يستطيع وسوف يجعل كل الأشياء تعمل معاً لأجل الخير؟» هذا في الحقيقة يأتي بنا إلى قلب الإيمان المسيحي، أي موت وقيامة يسوع المسيح.

إذا كان الفهم الحاسم لسر الألم موجود في أي مكان، فإنه موجود في الصليب، حيث يمكننا أن نأتي وجهاً لوجه مع “الإله المخفي في الألم” (مارتن لوثر). وهكذا فإن الإيمان المسيحي الجوهري هو أن الشخص المعروف باسم يسوع الناصري لم يكن سوى الله الذي صار إنساناً. وقد أخذ في نفسه خطية العالم باحتماله العقاب الذي كنا نحن نستحقه. قد تضمن ذلك تحمله الشر، وتجريده للرياسات والسلاطين، وعمله على نحو خلاق لجلب الخير الأعظم. بمعنى أنه يعتبر الوسيلة التي من خلالها يكون الإنسان في علاقة سليمة مع الله؛ وتغفر خطيته وينال الحياة الأبدية (2كورنثوس 5: 19-21؛ 1بطرس 2: 24).

التناقض التام

في الصليب يعرض علينا التناقض الذي يجري عبر العلاقة الغريبة بين شر الألم وأهداف الله الخيرة. فمن جهة، كان الصليب هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث (بصلب ابن الله، وبذلك يشير بوضوح وقوة أكثر لموقفنا المتمرد تجاه الله). لكن في نفس الوقت، كان الصليب هو أفضل شيء يمكن أن يحدث على الإطلاق (لأنه الوسيلة الإلهية لخلاصنا).

وهنا نرى الله يتعامل مع الخطية والألم بجدية، لأنه ذاقه في المقام الأول في شخص ابنه، الذي تألم جسدياً وروحياً بقدر يفوق فهمنا. كان هذا الأمر هو الذي شكل اتجاه كتاب العهد الجديد نحن الألم، حيث أنهم لم ينظروا إلى يسوع فقط كمثال يتبعوه (1بطرس 3: 17؛ عبرانيين 12: 2)، بل أن المركز اللاهوتي للإيمان كان أن نتائج ما حققه الله وتم بواسطة موت المسيح وقيامته سوف تكتمل في الوقت المناسب عند نهاية الزمان، بافتتاح السماء الجديدة والأرض الجديدة.

إننا كلما نظرنا في العهد الجديد لا يمكن أن نفشل في مقابلة هذه الحقيقة الرائعة، أن الله الذي نراه في يسوع المسيح ليس إلهاً بعيداً. فهو لم يرغب فقط في تلويث يديه ومشاركتنا حياتنا، ولكنه رغب أيضاً في ثقبها لأجل خاطر أولئك الذين ثقبوها. وقد أوضحت دورثي إل سيرز هذه النقطة جيداً في مسرحيتها The Man Born to be King:

«مهما كان السبب الذي لأجله اختار الله أن يخلق الإنسان بمثل هذه الصورة محدود، وخاضع للألم والحزن والموت – فقد كان لديه الإخلاص والشجاعة لكي يأخذ دواءه الخاص. ففي أية لعبة كان يلعبها مع خليقته، كان يحافظ على قوانينه الخاصة ويلعب لعباً عادلاً. فقد اجتاز هو نفسه كل التجربة الإنسانية، بدءًا من المضايقات التافهة في الحياة الأسرية، والافتقار إلى المال، وحتى أسوأ الأهوال والآلام وأبشع أنواع الإهانة والهزيمة واليأس والموت. فقد ولد في فقر ومات في عار، وشعر أن كل هذا يستحق».

يمكننا أن نلاحظ في هذه الحياة بعضاً من الخير الذي يمكن أن يأتي من الشر. فمثلاً من خلال الألم يمكننا أن نصبح أكثر اهتماماً ومراعاة للآخرين وتعاطفاً معهم، وبطريقة عميقة، تصبح أكثر اكتمالاً. فنحن نتذكر، عن حق، أننا لسنا آلهة بل كائنات محدودة. كما أنه ليس من السيء أن تتركز عقولنا على الأمور الأبدية من خلال الألم، وبذلك نتوصل إلى إدراك أن هذه الحياة ليست هي القصة كلها. وهكذا يمكن أن يكون الألم وسيلة إلى علاقة أعمق وأكثر حميمية مع الله الذي خلقنا لأجله.

واحدة من الأشخاص الذين شهدوا لهذا الحق هي ماري كريج، التي تصف كيف أن اثنين من أبنائها الأربعة ولدوا ولديهم عيوب خلقية حادة. ولكنها تتحدث بصورة مؤثرة عن “الألم الفدائي”، فتكتب:

«في تأييد لهذه النقطة أقول إنني لا أومن أن أية آلام هي بدون هدف نهائي، أو لا معنى لها، رغم أنه في كثير من الأحيان يكون من الصعب أن نواصل إقناع أنفسنا بهذا. فإننا في البداية يكون رد فعلنا هو عدم التصديق والغضب واليأس، لكن قيمة الألم لا تكمن في الألم نفسه بل فيما يفعله به المتألم. فإننا في الحزن نكتشف الأمور التي تهم حقاً: وفي الحزن نكتشف أنفسنا»[10].

هناك منظور آخر مشابه لمنظور ماري كريج شارك به البروفيسور نورمان أندرسون، الذي بعد مسيرة رائعة في كامبريدج، توفى ابنه هاف بالسرطان وهو في الحادية والعشرين من العمر، وبقلب أبوي مثقل بالحزن، كتب بروفيسور أندرسون:

«اعتاد الناس باستمرار أن يسألونا لماذا يموت شاب بمثل هذا النبوغ والحماس للحياة في مثل هذا السن الصغير. وكنا نشعر أن الإجابة الوحيدة على هذا السؤال، هي أننا لا نعرف ولا يمكننا أن نعرف. فالسؤال المهم الذي يجب أن نطرحه على الله في مثل هذه الحالات ليس “لماذا سمحت بذلك؟” (والذي نادراً كما أعتقد ما يجيب عليه)، بل “ما الذي تريد أن تعلمني إياه من خلال هذا الأمر؟[11]»

إن كيفية استجابتنا هي عنصر مهم في صنع الحالة المناسبة للإتيان بنوع من الخير، لكن هذه الاستجابة تتطلب أساساً. فكل من ماري كريج ونورمان أندرسون لم يعرف الإجابة المحددة على سؤال “لماذا؟”، ولكنهما علما لماذا كانا يثقان في الله الذي كان يعرف لماذا، وهذه الثقة كانت مبنية على أساس صلب وقوي من إعلان الله عن نفسه في يسوع المسيح.

ومع ذلك فمن المهم أن نشدد على أنه ليس كل الخير سوف نراه في هذه الحياة، وهنا يكون المنظور الأبدي جوهرياً[12].

المفترض أنه من المنظور الأبدي لله – مؤلف هذه الدراما والذي “يرى النهاية منذ البداية” – كل القرارات والاستجابات البشرية منسوجة في ومع جميع الأحداث الأخرى لخدمة مقاصده. كما أن الأفعال الفردية يكون لها أهمية في أنها تتجه نحو صنع نماذج ذات أهمية أبدية داخل هذه الدراما، ولكنها لا تمثل أهمية مطلقة؛ حيث أن هذه الأهمية يقدمها الإله السيد ذو السلطان، والذي يضع قرارات وأفعال مخلوقاته داخل سياق أبدي، والذي يستطيع هو وحده أن يقدم المعنى النهائي.

هناك مثال يمكن أن يعطينا نوعاً من الشعور بكيفية حدوث هذا الأمر، نجده في العملية الشهيرة لنسج السجاد الفارسي. يقال أن السجاد الفارسي يتم صنعه على إطار واسع للغاية، وعلى أحد جانبي الإطار تقف الأسرة وهي تضع الخيوط داخل هذا الإطار، في بعض الأحيان بطريقة عشوائية، وفي أحيان أخرى عن قصد. وعلى الطرف الآخر من الإطار، يقف الأب، النساج الماهر، والذي يقوم بأخذ جميع هذه الخيوط وينسجها معاً في شكل نموذج ثري من تصميمه. وعندما ينتهي البساط يتم عرضه لكي يراه الجميع.

من بعض النواحي، يمكن أن نشبه الله بالنساج الماهر. فهو الذي يأخذ كل “خيط” (الأحداث والأفعال) وينسجها معاً في نموذج يجعل هذه “الخيوط” معاً ذات أهمية. لكن، بخلاف النساج، يعرف الله من البداية ليس فقط ما هي هذه الخيوط، وأين سيتم وضعها على هذا الجانب من الإطار (نتيجة لعلمه الكامل)، ولكنه أيضاً يجعل الأحداث والأفعال نفسها تسير بحسب مشورة إرادته الأزلية (نتيجة لحكمته وقدرته المطلقة).

بعض من النماذج والأشكال يمكن تمييزها في هذه الحياة (التي تكون على جانبنا نحن من الإطار)؛ لكن الجانب الآخر من الإطار (هدف الله الأبدي) هو وحده الذي يقدم السياق الأخير التي تستمد منه الأهمية النهائية. لكن النقطة المركزية في ذلك الإطار الذي تترابط خلاله كل هذه الخيوط وتتكامل هي حياة وموت وقيامة وصعود وعودة يسوع المسيح ثانية.

المنظور الأبدي

في إطار سياقنا الوقتي الحالي من الاختبارات، نجد بعض الأحداث شريرة، وتتضمن أشكالاً معينة من الألم. لكن ليس هذا هو السياق الكامل، لأن هناك منظور آخر. فعندما يرتبط الحدث الشرير بالسياق الأوسع لأهداف الله الأبدية، عندها يتغير هذا الشر. وأيضاً في إطار هذا السياق الإلهي الأوسع يمكننا أن نرى أن الأحداث الشريرة تحوي نوعاً من الغايات الخيرة. لكن هذا لا ينزغ الشر من الشر، ولكنه يعني في الحقيقة أنه رغم أن الشر حقيقة واقعية، وليس وهماً، فإن قبضته على الواقع وقتية فقط.

دعونا نركز على كيفية حدوث هذا الأمر بالتفكير في الأحداث التي كانت تحيط عملية الصلب. ففيما يتعلق بالخيانة والمحاكمة والاحتقار والاستهزاء وآلام الصلب، يتم تشكيل تحول في الأحداث. وفي إطار هذا السياق، يحكم على هذه الأحداث أنها شريرة، بسبب شر الإنسان. لكن ليس هذا هو السياق النهائي أو حتى السياق المبدئي الذي تستمد منه هذه الأحداث أهميته الكاملة (1كورنثوس 2: 7)؛ بل تستمد الأحداث أهميتها بواسطة عمل الله الفدائي، إذ يشكل كل حدث من الأحداث عنصراً في هذا العمل.

إنني لا أقول إن حدث الصلب يتم تحويله إلى الخير بسبب القيامة، كما لو أن القيامة هي جهد للإنقاذ الإلهي. لكن الخير (المتمثل في خلاص الإنسان من عبودية الخيطة، وهزيمة الموت، الخ)، هو بالفعل الذي تم تطويعه في ومن خلال حدث الصلب نفسه، حيث كانت القيامة مجرد عنصر حيوي واحد من العمل الإلهي. كما أن قيامة المسيح هي أيضاً إعلان على جانب الإطار الذي يقع ناحيتنا، والذي ستتكشف أهميته بالكامل في نهاية الزمان.

«وإذا كان الله صالحاُ وكلي القدرة، فلماذا لا يفعل شيئاً بشأن حقيقة الشر عامة، والألم بصفة خاصة؟» وإجابة المسيحي هي أنه قد عمل وسيعمل. فصلاح الله يتحقق بربط كل حدث بخير يقصده به، عن طريق وضعه داخل سياق تصميم الله الخاص، لكي يتكشف في نهاية الزمان. كما أن قدرة الله الكلية يتم تحقيقها عن طريق نسج كل الأحداث معاُ داخل هدفه الأبدي، فلا يترك شيء خارج سيطرته النهائية المطلقة. وهكذا فإن كلاً من صلاح الله وقدرته على التعامل مع الشر تجد تعبيراً عنها بطريقة لم يكن من الممكن أن نفهمها إذا حاولنا ذلك بأنفسها، وقد تم هذا في صليب المسيح.

دفاع الخير الأعظم

إن ما تم عرضه هو شكل مما يطلق عليه “دفاع الخير الأعظم”[13]، الذي يعني أن الشر والألم يمكن تبريرهما بالخير الأعظم الذي يأتي من خلالهما.

يوجد نوع من القوة في الجدل القائل إنه لأجل تحقيق نوع من الأهداف الجيدة، فإن هذا منطقياً يترك وراءه بعض الشرور. فمثلاً، نجد أن خير التعاطف والشفقة والصبر، منطقياً وليس عرضياً ببساطة، يتطلب بعض الشرور لكي ينتج فينا. هذا هو التبرير المنطقي. ومع ذلك، قد يعترض البعض بأن الشر الموجود يفوق مثل هذا الخير. بمعنى آخر، أن الشر الذي نتحمله لا يتناسب مع الخير الناتج عنه، وبذلك نتساءل عن حكمة وجود مثل هذه الشرور من الأساس. وهكذا يتطلب الأمر كذلك تبريراً أخلاقياً. بصفة عامة، يأخذ هذا التبرير الأخلاقي شكلين: تبرير غير عقابي وتبرير عقابي.

التبرير الأخلاقي غير العقابي: يتمثل في المصطلح الفني المستخدم لوصف تبرير طرق الله في مواجه الشر بحسب ما ذكرها هايك. فهو يرى هذا العالم والآلام التي فيه كوسيلة “لصنع النفس” والذي لا يمكن أن يتم في أي عالم آخر (أي لا يحدث بأية وسيلة أخرى ليس بها ألم).

ومع ذلك، لكي يكون هذا المصطلح الفني كافياً، فمن الضروري لهايك أن يسلم بالمزيد من العوالم التي فيها تستمر عملية صنع النفس هذه، لأنه من الواضح أنها لا تستفيد من كل شيء في هذا العالم، مثل أولئك الذين يموتون في سن صغيرة أو نتيجة الإهمال. كما أنه من الضروري أيضاً بالنسبة له أن يسلم بشمولية الخلاص (أي أن الجميع سوف يخلصون في النهاية)، لكي يناقض الاعتراض الفطري بأنه بدون أن يحقق كل إنسان الرؤية التطويبية فإن هدف الله الصالح سيفشل. ومع ذلك، فإن كل من هاتين الفكرتين ليس لهما أساس في الكتاب المقدس.

أما التبرير الأخلاقي العقابي فيوجد في أفكار أوغسطينوس وكالفن. فقد يستخدم الله الشر لكي يعاقب شراً أسبق. فاستخدام آشور بواسطة الله لكي يعاقب خطايا إسرائيل. كما نجده في إشعياء 10، وهو مثال على ذلك.

وبينما قد يكون هناك قدر من الحق في هذا الوضع (خاصة أنه يتعامل مع الله بجدية)، إلا أنه لا يمكن أن يشكل تبريراً لكل طرق الله في مواجهة الشر. وهذا لسبب واحد، أنه لا يقدم حتى سبباً واحداً لسماح الله بالشر من الأساس، لأنه لكي يعاقب الله الشر شراً فهذا يفترض وجود الشر الذي يجب معاقبته! وكما رأينا، ليس كل ألم يمكن فهمه بمفردة داخل إطار القصاص والعقاب.

كل من هذين التبريرين به عناصر تعمل على تشكيل تبرير مسيحي متكامل الأبعاد. فنحن نرى في صليب المسيح إظهار لكل من هذين البعدين؛ فنرى غفران الخطية وقوة التجديد، أو التبرير والتقديس، كما يمكن للمرء أيضاً أن يشير مع أوغسطينوس، وعقيدته في O felix culpa، إلى أن وجود الشر ليس ضرورياً فقط منطقياً، لكي نطاوع الخير فينا، ولكنه ضروري أيضاً لكي يعلن الله الخير – إذ كيف يمكنه أن يظهر الخير وكيف يمكننا نحن أن نعرف ونختبر النعمة المخلصة إلى إذا كان هناك منذ الأساس شيئاً ما نحتاج للخلاص منه؟

لا يوجد حل بسيط

لقد وصلنا إلى نهاية الدائرة الكاملة إلى حيث النقطة التي بدأنا منها، أي إلى العلاقة بين الشر وبين صلاح الله وقدرته. إن شهادة الكتاب المقدس هي أن الشر والخطية والألم منسوجون معاً بعمق، وهم منتشرون في نسيج الوجود الإنسان بحيث أنه لا يمكن الوصول إلى حل بسيط بشأنهم. الأكثر من ذلك فإن صلاح الله يتضمن ليس فقط محبته تجاهنا نحن غير المستحقين.

بل أيضاً عدله ومعارضته الصارمة لكل ما هو مناقض لشخصيته الأخلاقية. فإذا كان العدل فقط هو الذي نريده، فإن هذا يعني نهايتنا جميعاً. ولو كان ما نطلبه فقط مجرد غفران أو محبة لغير المستحقين، فإن هذا يعد نهاية لكون أخلاقي، وتوقف الله عن يكون إلهاً. فالعدل البسيط يعني رفض الله لنا؛ والغفران البسيط يعني رفض الله لنفسه.

لكن ما نراه في شخص وعمل يسوع المسيح على الصليب هو عدالة الله ومحبته، يلتقيان معاً بطريقة تعمل فيها قدرته المطلقة بالمفارقة في الضعف. “في هذا هي المحبة“، يقول الرسول يوحنا: «ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا». (1يوحنا 4: 10). وهذا يعني أن عدالة الله تتطلب أن الخطية (وهي السبب الجذري لكل الآلام بشكل ما)، يتم التعامل معها وعقابها.

وتظهر محبة الله في أنه أخذ هو العقاب في نفسه في شخص ابنه على الصليب، وهكذا، بحسب كلمات بارث «فإن الديان (يسوع) أدين بدلاً منا». فما نستحقه نحن (الدينونة والموت)، أخذه هو طواعية، وما لا نستحقه (الغفران والحياة الأبدية)، يعطيه لنا مجاناً. وما تم تحقيقه هناك، في شكل مخفي، وأظهره بالقيامة، سوف يعلن أمام الكون كله في نهاية الزمان عندما يرفع الحجاب أخيراً ونهائياً.

التركيز على الصليب

ننهي هذا النقاش باقتباس من بي تي فورسيث، والذي مثله مثل بارث الذي جاء بعده، اكتشف الإفلاس اللاهوتي للاهوت الليبرالي المتفائل الذي نشأ عليه، واتجه بدلاً من ذلك إلى اللاهوت العميق للكتاب المقدس، حيث صليب المسيح هو المركز. في وسط مجزرة الحرب العالمية الأولى، عندما كان أنصار التطور المتفائلين المعتمدين على أنفسهم يجنون نتائجه، كتب فورسيث عمله العظيم Justification of God، والذي ذكر فيه:

«إذا كان أعظم عمل في العالم، وأعظم جريمة فيه، أصبحا بواسطة النصرة الأخلاقية المقدسة لابن الله، مصدراً ليس فقط لبركات لا نهائية للإنسان، بل رضى وفرح كامل للإله القدوس، فإنه لا توجد جريمة أو حرب هي خارج نطاق سيطرته أو تستحيل على أهدافه. فلا يوجد أي شيء يستطيع أن يدمر الإيمان المسيحي الذي موضوعه ومصدره وبقاؤه في ذلك الصليب وفي نصرته، والذي فيه أُدين رئيس هذا العالم وقضى عليه إلى الأبد. ولذلك ففي سخرية إلهية، نجد أن أبشع جريمة إنسانية تتحول إلى أعظم نجاح لله. هذا اللغز لا يمكن حله ولكنه الحق أكيد»[14].

 

[1] إن بايك، محرر، God and Evil (Prentice Hall، 1964).

[2] جون هايك،  An Ireneann Theodicy, Encounterin، إس تي ديفيز، محرر. (T&T Clanrk، 1981).

[3] ديفيد جريفين، Creation out of Chaos and the Problem of Evil, Encountering Evil، إس تي ديفيز، محرر. (T&T Clark، 1981).

[4] كارل بارث Church Dogmatics III الصفحات 289-363، (T&T C lark).

[5] لتطوير الصورة الكتابية بشكل رائع، انظر دي إيه كارسون How Long O Lord? (IVP، 1990).

[6] دي إل سيرز The Triumph of Easter, Creed or Chaos? (Methuen، 1954).

[7] كان إيرينيوس أسقفاً لليونز قرابة منتصف القرن الميلادي الثاني. وقد كتب بإطناب ضد هرطقة الغنوسية في كتابه Against Heresies والذي يحوي أيضاً تفكيره في مشكلة الشر.

[8] فريدريك شليمارماشر (1768-1834)، ويتم وصفه كثيراً بأنه أبو اللاهوت الحديث. وعلى الرغم من عدم قصده اتباع لأفكار إيرينيوس، إلا أنه في كتابته The Christian Faith، يقوم بتطوير نوع من اللاهوت يشبه لاهوته بشكل ملحوظ.

[9] فريدريك شليمارماشر 01768-1834)، ويتم وصفه كثيراً بأنه أبو اللاهوت الحديث. وعلى الرغم من عدم قصده اتباع لأفكار إيرينيوس، إلا أنه في كتابه The Christian Faith، يقوم بتطوير نوع من اللاهوت بشبه لاهوته بشكل ملحوظ.

[10] ماري كريج، Blessings (Hodder and Stoughton 1979).

[11] نورمان أندرسون An Adopted Son. (IVP. 1985).

[12] يتم تطوير ه1ه الفكرة بالتفصيل في كتاب في بير وايت، The Fall of a Sparrow (Paternoster، 1985)، وكتاب ميلفين تينكر، Purpose in Pain – Teleology and Problem of Evil (Themelios Vos، 16، No 3، 1991).

[13] انظر كتاب بول هيلم، The Providence of God (IVP، 1993).

[14] بي تي فورسيث The Justification of God، (Duckworth، 1916).

كيف نؤمن بإله المحبة في عالم الألم؟ – ميلفين تيينكر

Exit mobile version