Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

قضايا معلوماتية – جون ليونكس

قضايا معلوماتية – جون ليونكس

قضايا معلوماتية – جون ليونكس

قضايا معلوماتية – جون ليونكس

 

«الحياة معلومات رقمية.»

“مات ريدلي” Matt Ridley

 

«واضح أن مشكلة أصل الحياة مرادفة في الأساس لمشكلة أصل المعلومات البيولوجية.»

“برند-أولاف كوبرز” Bernd-Olaf Kuppers

 

«إن مهمتنا أن نعثر على خوارزمية قانون طبيعي يصل بنا إلى أصل المعلومات.»

“مانفرد إيجن” Manfred Eigen

 

«الآلة لا تخلق أي معلومات جديدة، ولكنها تؤدي وظيفة قيمة جداً من إحداث تحول في المعلومات المعروفة.»

“ليونارد بريلوان” Leonard Brillouin

 

 

 

ما هي المعلومات؟

حتى الآن في هذا الكتاب نستخدم كلمة “معلومات” بحرية. ولكن حان الوقت لنلقي نظرة فاحصة على هذا المفهوم الجوهري.

في لغتنا العادية نستخدم كلمة “معلومات” للإشارة إلى شيء أصبحنا نعرفه الآن لم نكن نعرفه فيما سبق. فنحن نقول إننا تلقينا معلومات. وتتعدد طرق نقل المعلومات. فمنها ما هو شفهي، وما هو كتابي صرف، وما هو بلغة الإشارة، والشفرة السرية…. الخ. ولكن المشكلة تظهر عندما نحاول قياس المعلومات. إلا أن نظرية المعلومات حققت تقدماً ملحوظاً يمثل أهمية كبرى في دراستنا لطبيعة ما أطلقنا عليه المعلومات الوراثية.

ولنبدأ بالفكرة البديهية من أن المعلومات تحد من عدم معرفتنا. فمثلاً، سنتخيل أننا حجزنا في فندق صغير وعند وصولنا عرفنا أنه لا يوجد سوى ثماني غرف. فإن افترضنا أن كل الغرف متشابهة وأننا لم نطلب غرفة بعينها، إذن لدينا احتمال 1 من 8 أننا سنعطى أي غرفة. وذلك الاحتمال يمثل مقياساً واضحاً لعدم معرفتنا. ولكن عندما نتلقى معلومة نعرف منها أن غرفة 3 مثلاً هي المحجوزة لنا ينتفي عدم المعرفة. ومن أساليب قياس المعلومات التي تلقيناها أن نأتي بأقل عدد من الأسئلة التي يجاب عنها بكلمة نعم أو لا التي يجب أن نسألها لنكتشف الغرفة التي أعطيت لنا. وبجب أن نقتنع بقليل من التفكير أن الرقم هو ثلاثة. ونحن نقول إننا تلقينا ثلاثة “بت” من المعلومات[1] three bits of information، أو إننا نحتاج ثلاث بت من المعلومات لتحديد غرفتنا. ونحن نلاحظ أن 3 هي الأس الذي يجب أن نرفع له 2 حتى نحصل على 8 (أي أن 8 = 32) أو يمكننا أن نحسبها بالعكس فنقول إن 3 هي لوغاريتم 8 للأساس 2 (أي أن 3 = لو82). ومن السهل تعميم هذا الكلام بحيث إن كان لدينا (س) من الغرف في الفندق، عندئذ كمية المعلومات المطلوبة لتحديد غرفة معينة هي لو2س.

والآن تخيل رسالة نصية مكتوبة بالإنجليزية التي سنعتبرها لغة مكتوبة بجمل تتكون من كلمات ومسافات بحيث تتكون “أبجديتنا” من 26 حرفاً بالإضافة إلى مسافة، وهكذا نحتاج 27 رمزاً. فإن كنا ننتظر رسالة على هاتفنا المحمول، إذن احتمال استقبال أي رمز (حرف أو مسافة) هو 1/27. والمعلومات التي يضيفها كل رمز في النص هي لو272 (=حوالي 4,76). وبذلك المعلومات التي ينقلها نص طوله (ص) من الرموز ستكون ص لو272 (حوالي 4,76 ص).

ونلاحظ هنا أن كمية المعلومات المنقولة تتناسب مع حجم “الأبجدية” المعروف لنا. فمثلاً إذا عرفنا أن الرسالة النصية قد تحتوي على أرقام وحروف ومسافات، عندئذ فإن “أبجديتنا” الآن تحوي 37 حرفاً. وبذلك تكون المعلومات التي يمثلها كل رمز نتلقاه هي لو372 (= حوالي 5,2).

وفي كل هذا يتضح أن الرقم 2 يلعب دوراً مميزاً. فالحقيقة أن “الأبجدية” الرمزية المستخدمة في برمجة الكمبيوتر تتكون من الرمز (صفر) والرمز (1). وهكذا يسهل أن ندرك أن 2 هي الحد الأدنى من الرموز اللازمة لتشفير أي أبجدية كانت. فمثلاً، إن اعتبرنا أن الإنجليزية تتطلب 26 حرفاً بالإضافة إلى مسافة، إذن سلاسل من أرقام ثنائية[2] binary strings يبلغ طولها 5 على الأكثر (52 = 32 > 27) ستكون كافية لتشفيرها مع توفير مساحة: يمكننا تشفير رمز المسافة بخمسة أصفار (00000) وحرف A = 00001، B = 00010، C = 00011، وهكذا دواليك.

الفرق بين المعلومات البنيوية والمعلومات الدلالية

نتناول الآن فكرة في منتهى الأهمية أحياناً ما يصعب علينا فهمها. هب أنك تلقيت “الرسالة” التالية على هاتفك المحمول: ZXXTRQNJOPWTRP. هذه الرسالة طولها 16 رمزاً، وهكذا إن استخدمنا طريقتنا الحسابية المعتادة نحصل على محتوى معلومات يبلغ 16لو272 بت معلومة. ولكني أسمعك تقول: «مهلاً، ما هذا العبث؟ أنا لم أتلق أي رسائل على الإطلاق. فهذا الهراء لا يحمل أي معلومات.» طبعاً، فالرسالة قد تكون مشفرة، ربما تحمل رسالة خفية. ولكننا سنفترض أنها ليست مشفرة. فماذا إذن؟ لقد وصلنا الآن إلى أن “المعلومات” من المنظور الذي كنا نناقشه لا علاقة لها على الإطلاق “بالمعنى”. ونطلق عليها معلومات بنيوية syntactic information أي تتصل ببينة الجملة من حيث ترتيب كلماتها وما بينها من علاقات.

ويبدو هذا الأمر للوهلة الأولى منافياً لخبرتنا الواقعية. لذا، فهو يتطلب مزيداً من الشرح المفصل. هب أنك تنتظر “رسالة” على هاتفك المحمول. وقد قيل لك إنك ستتلقى في هذه الرسالة أربعة رموز (~ # * ^) وأن طول الرسالة سيكون خمسة رموز. فتنظر إلى الشاشة وترى ما يلي: ^ ^ # ~ *. فما كمية “المعلومات” التي تلقيتها؟ لا شيء، من حيث إنك تعرف معناها. بل إنك لا تعلم ما إذا كان لها معنى أصلاً. ولكن من الناحية البنيوية، فقد تلقيت معلومات. وذلك لأن الرموز المتاحة أربعة. ومن ثم، احتمالية أن تحصل على واحد منها 1/4 والمعلومات التي يقدمها كل رمز تستقبله مقدارها 2 بت. وهكذا تحتوي “الرسالة” الكلية المكونة من خمسة رموز على 10 بت. ويمكن التعبير عن ذلك بطريقة أخرى: عندما نعد كل ما يمكن تلقيه من “رسائل” (أي سلاسل من خمسة رموز)، سنجد أنها 102. وأنت الآن تعلم ما هي الرسالة (وليس معناها!). وهو شيء لم تكن تعلمه من قبل. ولذلك، من هذا المنظور، تكون قد تلقيت معلومات.

فكر مرة أخرى فيما يتم يومياً من اتصالات إلكترونية عبر إحدى القنوات، ولتكن خط تليفون عادياً. ففي أي لحظة يمكن أن تتدفق أنواع مختلفة من “المعلومات” عبر هذا الخط: اتصال صوتي، اتصال بالفاكس، نقل بيانات؛ كل أنواع تيارات “الرموز” الإلكترونية. وبعضها يحمل معنى لبعض الناس، ولا يحمل معنى للبعض الآخر (فمثلاً، شخص يتحدث الصينية لن يوصل أي معلومات ذات معنى semantic لشخص لا يعرف الصينية)، وبعضها قد يكون سلاسل من الرموز العشوائية التي تمثل تشويشاً على الخط بفعل المؤثرات الإلكترونية العشوائية، فلا تحمل أي معنى على الإطلاق.

ويجب أن نلاحظ أن مهندس الاتصالات لا يهمه ما يسرى عبر القناة. فهو غير معني بالتسلسلات المنقولة في حد ذاتها، ولكنه يختص بأشياء من قبيل: سعة القناة، أي عدد الرموز (أياً كان نوعها) التي يمكن إرسالها عبر القناة خلال ثانية، ومدى دقة القناة، أي احتمالية إرسال رمز بشكل خاطئ، بسبب التشويش على القناة مثلاً، وإمكانية تصحيح الأخطاء، وما إلى ذلك. وهذه الأمور تؤثر علينا جميعاً، فالكثير منا عانى من بطء نقل البيانات في المنازل غير المزودة بخاصية النطاق الواسع broadband.

ومن ثم، يعتبر قياس المعلومات البنيوية في منتهى الأهمية والنظرية التي تتناوله يطلق عليها “نظرية شانون في المعلومات” Shannon Theory of Information نسبة لواضعها “كلود شانون” Claude Shannon الذي أثبت نتائج رياضية معينة بخصوص قدرة القناة المشوشة، وتعتبر هذه النتائج أساس نظرية الاتصالات التي يعتمد عليها مجتمعنا اليوم.

ولنأخذ مثالاً آخر من حياتنا اليومية لضمان فهم الفكرة. تخيل أنك دخلت مكتبة وطلبت كتاباً في طب الكلى nephrology. قد يكون أمين المكتبة لم يسمع مطلقاً عن nephrology. ولكن كلمة “nephrology”، باعتبارها سلسلة من الرموز، تحوي 10لو272 بت معلومة وإن أعطيت أمين المكتبة هذه المعلومات سيكتبها على الفهرس الإلكتروني للمكتبة على جهاز الكمبيوتر، ويخبرك بأن تبحث في قسم العلوم الطبية رقم 46 MedSci 46 مثلاً حيث تحد ثلاثة كتب في هذا الموضوع. أي أنه هنا يعمل مثلا “قناة” لتوصيل المعلومات إلى الفهرس الموجود على الكمبيوتر، حتى وإن كانت سلسلة الرموز “nephrology” لا تحمل أي دلالة أو معنى.

وفي هذا المثال، يتعامل أمين المكتبة مع كلمة “nephrology” على مستوى بنيوي بحث، فهو لا يعرف معنى الكلمة ولا يحتاج أن يعرفه. ولكن كل ما يحتاج أن يعرفه من معلومات سلسلة الحروف المكونة منها. فهو يتعامل مع الكلمة بصفتها سلسلة بلا معنى من الحروف الأبجدية. في حين أن كلمة “nephrology” لها معنى عندك باعتبارك طبيباً، فهو لا ينقل لك معلومات بنيوية فقط بل معلومات دلالية semantic information (كلمة “semantic” مشتقة من الكلمة اليونانية التي تعنى علامة. ومن ثم، كلمة “semantic” تعنى نظرية العلامات).

وفهم قياس المعلومات الدلالية رياضياً مشكلة أصعب كثيراً، وحتى الآن لم تكشف أي طريقة ناجحة. وهو أمر طبيعي لأن معنى النص يعتمد اعتماداً كبيراً على سياقه. فإن رأيت رسالة على هاتفي المحمول تقول “نعم”، قد تخمن أنها إجابة لسؤال سألته. ولكنك لن تستطيع أن تعرف ما إذا كان السؤال «هل لديك تذكرة لمباراة كرة القدم هذا المساء؟» أم «أتقبلين الزواج مني؟» فلا يمكن تحديد معنى الرسالة دون معرفة مسبقة بالسياق. أي أننا نحتاج لقدر من المعلومات أكبر بكثير لتفسير أي معلومة.

الـ DNA والمعلومات

لنطبق الآن بعضاً من هذه الأفكار على علم الأحياء الجزيئي. تخيل سلسلة “الحروف” التي نجدها في أبجدية جزيء الـ DNA الكيميائية. هب أنك عالم أحياء جزيئية وتعرف (شيئاً عن) “معنى” سلسلة الحروف بحيث يمكنك أن تقسمها إلى جينات وترعف شفرة البروتينات، وما إلى ذلك. أي أن السلسلة لها بعد دلالي ذو معنى في نظرك. فالـ DNA يمثل لك ذات مستوى التعقيد الذي تتسم به اللغة حيث إن ترتيب الحروف في الجين يحدد ترتيب الأحماض الأمينية في البروتين.

ولكن هذا الكلام لا ينطبق عليّ. فأنا لا أرى في السلسلة سوى قائمة طويلة من رموز “بلا معنى” أ س ج ج ث س أ ج ج ث ث س ث أ…. ومع ذلك يصح تماماً أن أقول إني أعرف محتوى معلومات سلسلة الرموز من المنظور البنيوي أو بمفهوم نظرية شانون، ورغم أني لا أفهم “معنى” السلسلة، يمكنني أن أحدد بدقة مقدار المعلومات البنيوية التي يجب أن تزودني بها حتى يمكنني إنتاج نسخ من السلسلة على نحو دقيق. فالأبجدي الوراثية تتكون من أربعة حروف. وكل حرف تتلوه عليّ (أو ترسله لي بالكمبيوتر) يشتمل على 2 بت من المعلومات. وعليه، فالـ DNA في الجينوم البشري مثلاً الذي يبلغ طوله نحو 3,5 مليار حرف يحتوي على حوالي 7 مليار بت من المعلومات. فإن توافرت لدي هذه المعلومات، يمكنني أن أكتب الـ DNA دون أن تكون لدي أدنى فكرة عن “معنى” ما كتبت.

ومن أهم جوانب أبحاث الجينوم هو ما يتعلق بإيجاد أنماط محددة يمكن تكرارها في جينوم معين، أو أيجاد تسلسلات محددة يشترك فيها عدة جينومات. وقد يكون الدافع وراء البحث عن تسلسلات محددة يتعلق باعتبارات دلالية. ومن ذلك، فالبحث الفعلي عنها بالكمبيوتر في قاعدة البيانات الكبيرة التي يكونها الجينوم يتم على مستوى المعلومات البنيوية.

التعقيد

حتى الآن لم نذكر في هذا الفصل مفهوم التعقيد. إلا أن مجرد القول بأن الجينوم البشري يحوي 7 مليار بت من المعلومات يزودنا بفكرة بسيطة عن مستوى تعقيده. ولكنها فكرة بسيطة. خذ مثلاً سلسلة الأرقام الثنائية التالية: 001001001001001001001… ولنفترض أنها تستمر على هذا النحو حتى يصل الإجمالي إلى 6 مليار رقم (يشترط في العدد أن يقبل القسمة على ثلاثة). إذن يمكننا حتى الآن أن نرى من منظورنا أنها تحوي 6 مليار بت من المعلومات. فهل هي بذلك تساوي (تقريباً) الجينوم البشري في التعقيد؟ بالطبع لا. لأنها كما نرى تتكون من نمط متكرر، ألا هون النمط الثلاثي 001 الذي يعاد مراراً وتكراراً. فمن ناحية، كل المعلومات المتضمنة في السلسلة نجدها في عبارة «كرر النموذج الثلاثي 001 ملياري مرة.» وتعتبر هذه العملية الآلية التكرارية مثالاً على ما يطلق عليه الرياضيون اسم خوارزمية Algorithm، وهي العملية التي تنفذها برامج الكمبيوتر. وفي هذه الحالة يمكننا أن نكتب برنامجاً بسيطاً كالتالي: «For n =1 to 2 billion, write 001. Stop»[3] ولم يعوزني لكتابة هذا البرنامج سوى 39 نقرة على لوحة المفاتيح، وهو ما يزودنا بانطباع أدق بكثير عن كمية المعلومات المتضمنة في سلسلة أرقام ثنائية مما يزودنا به طوله الفعلي البالغ 6 مليار رقم.

وإليك مثالاً آخر ينقل هذه الفكرة بديهياً: خذ سلسلة الحروف التالي: ILOVEYOU ILOVEYOUILOVEYOU ILOVEYOU…. وافترض أن السلسلة تحوي 2 مليار تكرار من الكلمات الثلاث ILOVEYOU. واضح أن المعلومات (من المنظور الدلالي) المتضمنة في السلسلة عرفت من الكلمات الثلاث الأولى، فما فائدة التكرار؟ (وإن كان البعض سيقولون إن التكرار يفيد التأكيد!). ولكن على أي حال المعلومات البنيوية الكاملة يزودنا بها البرنامج على النحو التالي: «For n = 1 to 2 billion, write ILOVEYOU. Stop» وهكذا يمكننا قياس محتوى المعلومات على نحو أفضل بعد بت المعلومات البنيوية المتضمنة في البرنامج (القصير) وليس في النص (الطويل).

النظرية الخوارزمية للمعلومات

يعتبر “ضغط” سلسلة معينة من الرموز (أرقام ثنائية، حروف، كلمات…. الخ) بحيث تصبح أقصر (كثيراً) باستخدام برنامج كمبيوتر هو الفكرة الأساسية وراء ما يطلق عليه النظرية الخوارزمية للمعلومات. وكلمة “خوارزمية” مشتقة من اسم عالم الرياضيات محمد بن موسى الخوارزمي الذي عمل في بيت الحكمة الشهير في بغداد في القرن التاسع. والخوارزمية إجراء فعال، وسيلة لعمل شيء بعدد محدد من الخطوات. فمثلاً القانون العام x = (-b ± Ö (b2 – 4ac))/2a يزودنا بإجراء فعال لحساب جذور المعادلة التربيعية ax2 + bx + c = 0 حيث a, b, c  أرقام. ومن ثم فهي خوارزمية. وبالمثل، برامج الكمبيوتر هي خوارزميات تمكن المكونات الصلبة للكمبيوتر من معالجة المعلومات. وبوجه عام تشتمل برامج الكمبيوتر على الكثير من الخوارزميات، وكل منها يوجه العملية الحسابية الفعالة الخاصة به. وقد وضع النظرية الخوارزمية للمعلومات Algorithmic information theory (AIT) “كولموجوروف” Kolmogorov وزميله “تشايتن” Chaitin بصفتها وسيلة لفهم التعقيد، وخاصة فيما يتعلق بمحتوى المعلومات أو تعقيد تسلسل معين، وذلك بالنظر إلى حجم الخوارزمية اللازمة لتوليد ذلك التسلسل.

إذن طبقاً للنظرية الخوارزمية للمعلومات يكون محتوى معلومات س (حيث س هي مثلاً سلسلة من الأرقام الثنائية binary digits، أو سلسلة من الأرقام المعتادة أو العشرية ordinary digits أو حروف أي لغة…. الخ) هو حجم ص(س) في عدد البت لأقصى برنامج يمكنه توليد س.

ولنأخذ سلسلة ثانية ولدها قرد يلعب على لوحة مفاتيح كمبيوتر: @\[Mtl3(#8HJD[;ELSN29XITNSP….. هب أنها هي أيضاً تتكون من 6 مليار حرف، أي أن طولها يساوي السلاسل الأخرى التي تناولناها لتونا. ومن الواضح أنه بما أن السلسلة عشوائية في الأساس، إذن أي برنامج يُكتب لتولديها سيكون طوله مساوياً لطول السلسلة نفسها. أي أن هذه السلسلة لا يمكن ضغطها بطريقة خوارزمية. وعدم إمكانية الضغط الخوارزمي يمثل وسيلة ممتازة لتعريف العشوائية. وهذه السلسلة معقدة إلى أقصى درجة بناء على معيار التعقيد المستخدم عندنا.

وأخيراً، سنأخذ سلسلة ثالثة وهي عبارة عن أول 6 مليار حرف في الكتب الموضوعة على رفوف إحدى المكتبات الإنجليزية. ورغم أننا قد نتمكن من القيام بالقليل من الضغط الخوارزمي، فسيكون مقداره ضئيلاً للغاية مقارنة بطول السلسلة. أي أن هذه السلسلة غير قابلة للضغط الخوارزمي تماماً مثل السلسلة الثانية (ولذلك، فهي سلسلة عشوائية من وجهة النظر الرياضية). وعلى القياس نفسه تعتبر معقدة جداً. إلا أن تعقيدها يختلف نوعاً ما عن تعقيد السلسلة التي ولدها القرد، لأن الأخيرة لا تحمل معنى نستطيع قراءته. في حين أن هذه السلسلة الثالثة تحوي معلومات دلالية، أي أننا نستطيع أن نفهم معنى الكلمات المطبوعة في الكتب. والسر وراء ما تحمله لنا السلسلة الثالثة من معنى نستطيع أن نفهم معنى الكلمات المطبوعة في الكتب. والسر وراء ما تحمله لنا السلسلة الثالثة من معنى يكمن في أننا تعلمنا اللغة الإنجليزية بالاستقلال عن هذه السلسة أساساً، ما يمكننا من التعرف على الكلمات التي تشكلها حروف السلسلة. وهذه السلسلة ليست معقدة فقط، ولكنها تعكس أيضاً ما يسمى التعقيد المحدد Specified complexity، وهو نوع خاص من التعقيد مرتبط باللغة. وأول من استخدم مصطلح التعقيد المحدد هو “لسلس أورجل” في كتابه “أصول الحياة” The Origins of Life، وكذلك “بول دافيز” في كتاب “المعجزة الخامسة” The Fifth Miracle، ولكنه يفتقر للدقة في الحالتين. إلا أن عالم الرياضيات “وليم دمبسكي” William Dembski أجرى عليه دراسة دقيقة جداً في كتابه “الاستدلال على التصميم: محو الصدفة بالاحتمالات الصغيرة” The Design Inference: Elimination Chance through Small Probabitities.

والآن تتضح الاختلافات الشاسعة بين السلسلة القابلة للضغط المتمثلة في النظم البلورية، كما في المثال الأول الذي أوردناه، والسلاسل غير القابلة للضغط كما في المثالين الثاني والثالث. وهذه الاختلافات هي ما تصنع العمليات الترتيبية التي تنعكس في الحمل الحراري “ريلي بنار” أو تفاعل بلوسوف جابوتينسكي التي غالباً ما لا تمت بصلة لأصل الحياة.

وأكرر أن عدم قابلية السلاسل للضغط الخوارزمي يعنى (بالطبيعة) أنها لا يمكن أن تنشأ بوصفها خاصية “منبثقة” من عملية خوارزمية بسيطة نسبياً، تماماً كما تنشأ صور النمط الهندسي المتكرر fractal pictures الجميلة من معادلات بسيطة جداً. وقد حظي التناظر الذاتي[4] self-symmetry الدقيق الذي يميز مجموعة “ماندلبرو” Mandelbrot set الشهيرة بإعجاب غير عادي، وهي صور ينتجها الكمبيوتر وتزين العديد من الكتب المصورة الفخمة. إلا أن هذه المجموعة تُعزى إلى دالة رياضية بسيطة نسبياً من نوع f(z) = z2 + k للمتغير المعقد z. أفلا يمكننا أن نقول إن النمط الهندسي المتكرر المقعد “ينبثق” من بساطة هذه المعادلة؟

 من ناحية ما، هذا صحيح، أي من منظور إمكانية استخدام المعادلة لتحديد المنحى الكسوري fractal curve (على شاشة الكمبيوتر مثلاً). ولكن لا بد أن نحترس حتى عند هذه النقطة. لأننا لو سألنا كيف “تنبثق” الصورة الموجودة على الشاشة من المعادلة، لاكتشفنا أن المسألة تتضمن ما هو أكثر جداً من مجرد كتابة معادلة “ماندلبرو”. فلا بد من حساب الدالة بالكثير من الصيغ interations المختلفة، وهو ما يتضمن توفيق الألوان مع نقاط الشاشة pixels المتناسبة معها وفقاً لمدى توافر خواص معينة (مثل الحدود الموضعية local-blundedness) في مسار صيغة iteration بعينها. ولذلك، لابد من التأكد من وجود هذه الخاصية في كل مسار. ومن ثم، فالصورة “المنبثقة” مشتقة فقط من المعادلة البسيطة، ولكنها تكلف مدخلات ضخمة من المعلومات الإضافية من حيث أعمال البرمجة والمكونات الصلبة المصممة تصميماً ذكياً. فهي ليست “مجانية”.

ولدينا حجة أوضح تنطبق على التصوير الذي قدمه “دوكينز” في محاضرة عامة بجامعة أكسفورد ليوضح فكرة الانبثاق، وقد ذكرنا آنفاً، عندما زعم إن إمكانية معالجة الكلمات بالكمبيوتر هي خاصية “منبثقة” من الكمبيوتر. وهي كذلك بالفعل، ولكنها تكلف مدخلات من المعلومات المتضمنة في حزمة برامج مصممة بذكاء مثل Microsoft Word. والشيء المؤكد أنه ما من عملية لصانع ساعات أعمى يمكنها أن تنشئ قدرة كمبيوتر رقمي على معالجة الكلمات.

وسأضرب مثلاً آخر يثبت في الأذهان أهمية الفرق بين النوعين الثاني والثالث من التعقيد. إن انسكبت كمية من الحبر على ورقة، سيقع حدث معقد بمعنى أنه من بين كل بقع الحبر الوارد حدوثها، يعتبر احتمال حدوث هذه البقعة التي تكونت بالذات ضئيلاً جداً جداً. ولكن تعقيد بقعة الحبر غير محدد. وعلى العكس من ذلك، إن كتب شخص رسالة بالحبر على ورق نحصل على تعقيد محدد. وبالمناسبة، نحن ننسب بقعة الحبر للصدفة، في حين أننا ننسب الكتابة لفعل ذكي دون أن نفكر لحظة، أليس كذلك؟

ولنطبق بعض هذه الأفكار على الجينوم. إن الحروف أ، س، ج، ث الموجودة على جزيء الـ DNA قد تشغل أي موقع، ومن ثم فهي قادرة على تمثيل تعبيرات غير قابلة للضغط الخوارزمي في الأساس. ولذلك، أؤكد أنها عشوائية من المنظور الرياضي. إلا أننا يجب طبعاً ألا نظن أن هذه العشوائية الرياضية تعني أن تسلسلات الـ DNA اعتباطية كلية. بل هي أبعد ما تكون عن ذلك. ولكن جزءًا ضئيلاً جداً من كل التسلسلات الوارد أن تتكون على جزيء الـ DNA يعكس التعقيد المحدد للجزيئات ذات القيمة البيولوجية، تماماً كما أن نسبة ضئيلة جداً من كل تسلسلات الحروف الأبجدية الوارد تكونها، أو كلمات أي لغة بشرية، تعكس التعقيد المحدد الذي يميز الجمل المفيدة التي تعبر عنها كلمات هذه اللغة. فمثلاً البروفيسور “درك بيكرتون” Dered Bickerton يستعرض فكرة شيقة تزودنا بفهم معين في علم اللغويات، إذ يشرح أن جملة واحدة تمثل مشكلة كبرى: «حاول أن تعيد ترتيب أي جملة عادة تتكومن عشر كلمات. يمكنك نظرياً أن تستخدم 3628800 طريقة بالضبط للقيام بذلك. ولكن في حالة الجملة الأولى من هذا [الاقتباس] طريقة واحدة فقط هي التي تأتي بنتيجة صحيحة لها معنى. وهو ما يعنى أن 3628799 طريقة خطأ لغوياً.» ثم يسأل “بيكرتون” السؤال المتوقع: «كيف عرفنا هذا؟ طبعاً، لم يخبرنا أب أو أم، ولا مدرس. ولكن الوسيلة الوحيدة لمعرفة ذلك أن تكون لدينا، إن جاز التعبير، وصفة لبناء الجمل، وصفة من التعقيد والشمول بحيث تستبعد أتوماتيكياً كل الطرق الخاطئة البالغ عددها 3628799 طريقة لتكون جملة من عشر كلمات وتجيز الطريقة الصحيحة فقط. ولكن بما أن هذه الوصفة لا بد أن تنطبق على كل الجمل، لا على هذا المثال فحسب، فالوصفة في كل لغة ستستبعد جملاً خاطئة يزيد عددها عن عدد الذرات الموجود في الكون.» ولكن علينا ألا ننحرف إلى القضية المذهلة المختصة بأصل القدرة اللغوية عند الإنسان (وإن كانت حقيقة تتصل بهذا الموضوع)!

وحتى نأخذ فكرة بسيطة عن الأرقام المتضمنة في العالم البيولوجي، نشير إلى أن أصغر البروتينات المعروفة التي تمتلك وظيفة بيولوجية تشتمل على ما لا يقل عن 100 حمض أميني. وبالتالي فجزيئات الـ DNA المتوافقة معها تتضمن 13010 شكلاً من أشكال التسلسلات المحتملة، ولكن ما سيكون له قيمة بيولوجية من بينها جميعاً يمثل نسبة متناهية الصغر. ومن ثم، إجمالي التسلسلات المحتمل تكونها ضخم بما يفوق الخيال. وبما أن الريبوز (منقوص الأكسجين) لا يفضل قاعدة بعينها، إذن كل تسلسلات القواعد متساوية الطول تتساوى في احتمالات حدوثها. وتتضمن هذه الحقيقة أن احتمال وجود أصل عشوائي بحت لتسلسل محدد ذي قيمة بيولوجية هو احتمال ضعيف للغاية لدرجة أنه لا يذكر.

وإليك المزيد. إن البروتينات تنم عن درجة عالية من الحساسية الجزيئية بمعنى أنه حتى استبدال حمض أميني واحد في بروتين قادر على الحياة يمكن أن يسفر عن عواقب كارثية. ومن ثم، يمكن القول بأن علم الأحياء الجزيئي للخلية يكشف عن نظام الضبط الدقيق نفسه الذي رأيناه سلفاً في الفيزياء وعلم الكون.

والنقطة الجوهرية هنا أن تسلسل الـ DNA الذي يشفر فعلياً بروتيناً عاملاً يكشف عن التعقيد المحدد اللازم له لتشفير ذلك البروتين، وهو نفس الشيء الذي يجعله في الوقت نفسه غير قابل للضغط خوارزمياً. وهو بذلك عشوائي من الناحية الرياضية. ويكتب “بول دافيز” في هذا الصدد قائلاً: «هل يمكن أن نضمن إنتاج العشوائية المحددة من عملية حتمية آلية تشبه القانون، كالحساء الأساسي المتروك تحت رحمة قوانين الفيزياء والكيمياء المألوفة؟ مستحيل. فما من قانون من قوانين الطبيعة المعروفة يستطيع أن يحقق ذلك.» ويكتب في موضع آخر قائلاً: «إننا نستخلص أن الجزيئات الكبيرة الصالحة بيولوجياً تمتلك خاصيتين جوهريتين في آن: العشوائية والتحديد المفرط. وأي عملية اعتباطية يمكن أن تحقق الخاصية الأولى، ولكن احتمال تحقيقها للثانية لا يذكر.»

أما عبارته التالية مدهشة: «يبدو للوهلة الأولى أن كل ذلك يجعل الجينوم أمراً مستحيلاً، ولا يمكن تحقيقه بالقوانين المعروفة ولا بالصدفة.» وهذا صحيح. إلا أن “دافيز” يؤكد قائلاً: «من الواضح أن التطور الدارويني، بفضل التنوع والانتخاب الطبيعي، لديه ما يلزم لتوليد كل من العشوائية (ثراء المعلومات) والقدرة الوظيفية البيولوجية دقيقة التحديد في نظام واحد.» ولكن هذا الكلام يمثل مصادرة على المطلوب. وذلك لأن القضية موضوع النقاش تحديداً هي ما إذا كانت العمليات الطبيعية أياً كان نوعها (بما فيها التطور الدارويني طبعاً) تتمتع بتلك القدرة، أو ما إذا كان الشيء نفسه الذي تحاول حجته أن تجمع الدلائل المدعمة له هو أنها لا تتمتع بهذه القدرة. وبما أن الفقرة كلها تتحدث عن أصل الحياة، يبدو أن “دافيز” يناقض ما قاله لتوه عندما أضاف قائلاً: «المشكلة من منظور أصل الحياة تتلخص في أن الداروينية لا يمكنها أن تعمل إلا عندما تكون الحياة (أياً كان نوعها) نشطة أصلاً. فهي لا تستطيع أن تفسر كيفية نشأة الحياة من الأصل.»

ولكن ما الدليل بخلاف الصدفة والضرورة؟ أجيب كما كان “شرلوك هولمز” Sherlock Holmes سيجيب قائلاَ إنه إن لم تكن الصدفة والضرورة، سواء منفردتين أو مجتمعتين، لا تستطيعان إنشاء الحياة، إذن علينا أن نفكر في احتمالية وجود عنصر ثالث. وهذه الاحتمالية الثالثة هي المدخلات المعلوماتية.

إلا أن هذا الاقتراح سيقابل باعتراض جماعي مفاده أننا لا نتحدث عن قصة بوليسية وأنه على أي حال أسلوب غير علمي وينم عن الكسل الفكري أن تقترح ما يعتبر في الأساس “ذكاء الفجوات” أي حلاً من نوع “إله الفجوات”. ورغم أن التهمة لا بد أن تؤخذ على محمل الجد، لأن المؤمن بالخلق يمكن أن يكون كسولاً فكرياً، وبالتالي يقول: «لا أستطيع أن أفسرها. إذن الله هو من صنعها.» ولكني أقول للمعترض لا تحلل لنفسك ما تحرمه على غيرك. فما أسهل أن يقول المرء أيضاً إن “التطور هو الذي صنعها» وهو لا يملك أدنى فكرة عن كيفية حدوث ذلك، أو يكون كل ما لديه قصة تشبيهية تخمينية مختلفة دون أي دلائل مؤيدة. فكما رأينا، المادي مجبر أن يقول إن العمليات الطبيعية كانت هي الوحيدة المسؤولة لأن كتابه لا يسمح بأي بديل آخر. والنتيجة أن ننتهي بسهولة إلى “تطور الفجوات” تماماً كما يمكن أن ننتهي إلى “إله الفجوات”. بل إنه يمكننا أن نقول إن الانتهاء إلى “تطور الفجوات” أسهل من “إله الفجوات” لأن الاقتراح الأول غالباً ما لا يتعرض لكمية الانتقادات التي يتعرض لها الأخير.

وحتى لا ننسى هذه النقطة، أسجل تحذيراً أطلقه أحد الخبراء في أصل الحياة، الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل “روبرت لافلين” Robert Laughlin الذي يجري أبحاثه على خواص المادة التي تجعل الحياة ممكنة (وهو ليس من مؤيدي التصميم الذكي): «إن الكثير من المعرفة البيولوجية الحالية يمثل موقفاً أيديولوجيا. ومن أهم أعراض التفكير الأيديولوجي تبني تفسر ليس له أي تداعيات وغير قابل للاختبار. وأنا أطلق على هذه الطرق المنطقية المسدودة مضادات النظريات لأنها تنتج الأثر المضاد تماماً للنظريات الحقيقية، أي أنها توقف التفكير بدلاً من أن تستثيره. فمثلاً، التطور بالانتخاب الطبيعي الذي اعتبره داروين نظرية عظيمة، أصبح مؤخراً يقوم بدور “مضاد النظرية” الذي يستدعيه البعض للتغطية على أوجه القصور التجريبي المحرجة ولإضفاء الصبغة الشرعية على نتائج مشكوك في صحتها في أحسن الحالات، وفي أسوأ الحالات لا يمكن حتى أن تعتبر خاطئة. فبروتينك المزعوم يتحدى قوانين فاعلية الكتلة، والتطور هو الذي فعل هذا! وتفاعلاتك الكيميائية الفوضوية المعقدة تتحول إلى دجاجة، والتطور أيضاً هو الذي فعل هذا! والمخ البشري يعمل بناء على قوانين منطقية لا يستطيع أي كمبيوتر أن يضاهيها، والتطور هو السبب!».

فكيف يمكننا إذن أن نتجنب تهمة الكسل الفكري أو طريقة تفكير “إله الفجوات”؟ لأنه يبدو فعلاً للوهلة الأولى أن التهمة قد تكون في محلها. ولشرح الخطوة التالية في الحجة، نستعين بعالم الرياضيات البحتة. ففي الرياضيات البحتة إن فكر الرياضيون سنوات طويلة في إحدى النظريات غير المبنية على معلومات كافية (ولتكن النظرية الشهيرة العتيقة التي تقول إن أي زواية لا يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام إلا بمسطرة تقويم وفرجار) وأن فشلت كل محاولاتهم لإثبات صحتها، عندئذ رغم أنهم لن يتوقفوا بالضرورة عن محاولة إثبات صحتها، فقد يحاولون أيضاً أن يتأكدوا من إمكانية إثبات خطئها، كما حدث بالفعل مع التقسيم الثلاثي للزاوية، كما (يجب أن) يعرف كل طلاب الرياضيات البحتة.

أي أنه عندما يعجز الرياضيون عن إثبات صحة نظرية لا تقوم على معلومات كافية، هذا لا يعني بالضرورة أن يتوقفوا عن بذل أي جهد، ولا يعني أيضاً أن يصروا على مواصلة السير في الاتجاه نفسه رغم أنه أثبت فشله، ولكنهم قد يقررون بدلاً من ذلك (أو بالإضافة إلى ذلك) أن يقوموا بمحاولة رياضية لإثبات خطأ هذا التخمين الذي لا يقوم على معلومات كافية. واعتقادي أن هذا هو بالضبط نوع التفكير الذي نحتاج إدخاله في العلوم الفيزيائية والبيولوجية فيما يتعلق بالمسألة موضوع المناقشة. لقد قلت إننا نحتاج إدخاله. ولكنها ليست كلمة دقيقة. فهذا التفكير موجود بالفعل، بل إن معظمنا على دراية به، على الأقل في العلوم الفيزيائية.

وأنا أشير بالطبع إلى البحث المستمر عن آلات الحركة الأبدية Perpetual motion machines. فكل عام تكتب مقالات بأقلام أشخاص يعتقدون أنهم اكتشفوا سر الحركة الأبدية باختراع أدوات ستظل في حركة مستمرة بمجرد تشغيلها دون أي مدخلات إضافية من الطاقة. إلا أن العلماء العارفين بأساسيات الديناميكا الحرارية لا يأخذون هذه المقالات مأخذ الجد. بل إنهم لا يقرأون معظمها. لا لأنهم كسالى فكرياً وغير مستعدين للتفكير في حجج جديدة. ولكن لأن لديهم أدلة قوية تؤيد قانون حفظ الطاقة Conservation of energy. وهو قانون منعي، ويعني مباشرة أن آلات الحركة الأبدية مستحيلة. وبالتالي، فالعلماء يعرفون أنهم لو فحصوا أياً من آلات الحركة الأبدية المزعومة، لاكتشفوا في كل فحص أنها تحتاج في النهاية إلى حقن بالطاقة من مصدر خارجي حتى تستمر في العمل. ومن ثم، العلم هو الذي أثبت أنه لا وجود لآلات الحركة الأبدية. وهذه هي النقطة الجوهرية فيما يختص بغرض مناقشتنا. فالكسل الفكري لا يتدخل في هذا الأمر. بل إنه نوع من الانحراف الفكري أن يرفض المرء هذه الحجة ويستمر في البحث عن الحركة الأبدية.

فلماذا لا نطبق المنطق نفسه على مسألة أصل المعلومات الوراثية؟ ألا تمثل التحديات التي تواجه كل ما تم من محاولات حتى الآن لتقديم تفسير طبيعي لأصل المعلومات الوراثية سبباً كافياً لبذل ولو شيء من طاقتنا الفكرية لنبحث احتمالية وجود قانون لحفظ المعلومات يشبه قانون حفظ الطاقة؟ وهذا البحص قد يؤدي بنا إلى أدلة علمية ضد أي تفسير لأصل الحياة لا يشتمل عل مدخلات معلوماتية من مصدر ذكي خارجي.

وإني أعترف أن القضايا التي نحن بصددها هنا هي أكبر بكثير من تلك المتعلقة بوجود آلات الحركة الأبدية. وذلك لأننا لو وجدنا من الأسباب العلمية ما يكفي للاعتقاد بأنه لا يمكن تقديم تفسير واف لأصل الحياة دون أن نضع في حسباننا مدخلات معلوماتية، عندئذ سينصب اهتمامنا على اكتشاف مسألة مستقلة تماماً، رغم صعوبة الفصل بينهما في أذهاننا. وسواء أكان تحديد مصدر المعلومات شيئاً ممكناً أم مستحيلاً، فهذا أمر لا يمت بصلة منطقية لمسألة ما إذا كان مدخلات المعلومات الخارجية ضرورية أم لا. فعلى أي حال، لو ذهبنا إلى المريخ واكتشفنا سلسلة طويلة من أكوام مكعبات التيتانيوم تتجه نحو أفق المريخ حيث تتكون كل كومة من عدد أولي من المكعبات والأكوام مرتبة ترتيباً تصاعدياً صحيحاً 1، 2، 3، 5، 7، 11، 13، 17، 19…. مؤكد أننا سنستنتج فوراً أن هذا الترتيب ينطوي على مدخل ذكي حتى لو لم تكن لدينا أدنى فكرة عن طبيعة الذكاء الذي يكمن في هذا الترتيب. ولكننا إن اكتشفنا شيئاً أعقد بكثير، وليكن جزيء الـ DNA، أظن أن العلماء الطبيعيين سيستنتجون أنه نتاج الصدفة والضرورة!

هل المعلومات تحفظ؟

سؤالنا الآن: هل من أي دليل علمي على أن المعلومات تحفظ بالمعنى الدقيق للمصطلح؟ إن كان الرد بالإيجاب، عندئذ يمكن توفير الكثير مما يصرف في البحث من وقت وجهد فيما يخص بموضوع أصل الحياة، وذلك بالتخلي عن البحث العقيم عن نظرية معلوماتية تساوي آلة الحركة الأبدية.

ويجب أن نلاحظ أيضاً أنه لم يعد ملائماً أن نعترض على استخدام لغة الآلة عند الإشارة إلى الكائنات الحية. فقد رأينا مراراً أنه في عصرنا الحالي أصبحت لغة الآلة هي السائدة في علم الأحياء الجزيئي لسبب بسيط، ألا وهو أن البروتينات، وسياط البكتيريا، والخلايا، وما إلى ذلك هي بالفعل آلات جزيئية. حقيقة أنها قد تكون أكثر من مجرد آلات، ولكن على مستوى قدرتها على معالجة المعلومات، فمن المؤكد أنها آلات (معالجة رقمية).

وهو ما يحمل في طياته نتيجة استغلت علمياً بأشكال عديدة في السنوات الأخيرة، وهذه النتيجة هي أن الآلات البيولوجية يمكن إخضاعها للتحليل الرياضي عموماً والتحليل النظري المعلوماتي خصوصاً. وهذا هو التحليل الذي نلتفت إليه الآن لنعرف ما إذا كانت الآلات الجزيئية (أياً كان نوعها) قادرة على توليد معلومات جديدة. “ليونارد بريلوان” Leonard Brillouin في كتابه الكلاسيكي عن نظرية المعلومات واثق تماماً من الإجابة. فهو يقول إن «الآلة لا تخلق أي معلومات جديدة، ولكنها تؤدي وظيفة قيمة جداً من إحداث تحول في المعلومات المعروفة.»

وبعد عشرين عاماً، كتب واحد من أعظم العلماء، وهو “بيتر مداوار” الحائز على جائزة نوبل ما يلي: «ما من عملية من عمليات التفكير المنطقي، سواء أكانت فعلاً من أفعال العقل المحضة أو عملية برمجة بالكمبيوتر، يمكنها تكبير محتوى معلومات القوانين والفرضيات أو الجمل التي ينبثق منها هذا المحتوى.» وقد استنتج من هذه الملاحظة أنه لا بد من وجود قانون ما لحفظ المعلومات. إلا أن “مداوار” لم يقم بأي محاولة لعرض هذا القانون، مكتفياً بدعوة قرائه «للعثور على عملية منطقية تضيف لمحتوى معلومات أي عبارة من أي نوع.» ولكنه أعطى مثالاً رياضياً ليوضح ما يقصده. فقد أشار إلى أن نظريات إقليدس الهندسية الشهيرة هي ببساطة «تعبير أو كشف عن معلومات متضمنة أصلاً في القوانين والفرضيات.» وأضاف أن الفلاسفة والمناطقة في كل الأحوال منذ عصر “بيكون” لم يواجهوا صعوبة في إدراك أن كل ما تفعله عملية الاستنباط أن توضح صراحة معلومات موجودة أصلاً، ولكنها لا تخلق أي معلومات جديدة على الإطلاق.

ويمكن التعبير عن هذا المعنى على نحو آخر: نظريات إقليدس يمكن اختزالها إلى ما وضعه من قوانين وفرضيات، وهو ما يجب أن يذكرنا بالطرح الذي عرضناه في الفصل الثالث عن حدود الاختزال الرياضي الذي تفرضه نظرية جودل. والحقيقة أن “جودل”، الذي يعتبر من أعظم الرياضيين في القرن العشرين، أوضح أنه هو أيضاً يعتقد أن الكائنات الحية تتميز بنوع من حفظ المعلومات. وقد قال إن «تعقيد الأجسام الحية لا بد أن يظهر في المادة [المشتقة منها هذه الأجسام] أو في القوانين [التي تحكم تكوينها]. والمواد التي تشكل الأعضاء، بوجه خاص، إن كانت محكومة بقوانين آلية، لا بد أن تكون على نفس درجة التعقيد التي تميز الجسم الحي.» أما صياغة “جودل” (بضمير الغائب) فهي كالآتي: «بوجع أعم، “جودل” يعتقد أن الآلية في علم الأحياء هي فكر متحيز من أفكار عصرنا سيثبت خطؤه. وفي هذه الحالة، سيكون أحد براهين خطئه، كما يرى “جودل”، عبارة عن نظرية رياضية مفادها أن تكوين جسم الإنسان في العصور الجيولوجية بفعل قوانين الفيزياء (أو أي قوانين أخرى ذات طبيعة مشابهة)، بدءًا من التوزيع العشوائي للجسيمات الأولية والحقل هي شيء غير محتمل الحدوث تماماً مثل تقسيم الغلاف الجوي إلى مكوناته بفعل الصدفة.»

والشيء العجيب هنا أن “جودل” توقع أنه يوماً ما سيظهر برهان رياضي على ذلك، أي أن الرياضيات ستساهم في حسم المشكلة البيولوجية المختصة بأصل المعلومات. وهو ما ينطوي على نوع من السخرية اللطيفة. لأن “جودل” نفسه هو من أطلق الشرارة الأولى لما تلا ذلك من تطورات في هذه المشكلة نفسها. وقد توصل الرياضي “جرجوري تشايتن” Gregory Chaitin، باستخدام نظرية المعلومات الخوارزمية، إلى براهين ذات نتائج أقوى مرتبطة بنظرية “جودل” وتختص بمسألة ما إذا كانت الخوارزميات تولد معلومات جديدة، وبالتالي تختص بأصل الحياة.

وأول ما يجب ملاحظته أنه من الثابت أن الخوارزميات محدودة معلوماتياً فيما يمكنها إنجازه. فقد أكد “جريجوري تشاين” في أحد أعماله المهمة أنه لا يمكنك أن تثبت أن تسلسلاً محدداً من الأرقام أعقد من البرنامج اللازم لتوليده.

إلا أن ما يقره “تشايتن” يتضمن تداعيات أخرى. فمثلاً “برند – أولاف كوبرز” Bernd-Olaf Kuppers أحد الباحثين البارزين في أصل الحياة يخلص منه إلى نتيجة لافتة للنظر: «في التسلسلات التي تحمل معلومات دلالية، تكون المعلومات مشفرة بوضوح على نحو لا يقبل الاختزال، بمعنى أنه لا يمكن ضغطها. ومن ثم، لا توجد أي خوارزميات تولد تسلسلات ذات معنى ما دامت تلك الخوارزميات أقصر من التسلسلات التي تولدها.» ويشير “كوبرز” إلى أن هذا طبعاً استنتاج لا يقوم على أدلة كافية، نظراً لأن عمل “تشايتن” نفسه الذي يناقشه يبين أنه يستحيل إثبات أنه في حالة وجود تسلسل وخوارزمية، لا يمكن للخوارزمية الأقصر أن تولد التسلسل.

وتقوم حجج “تشايتن” على مفهوم ماكينة تورينج. وهي تركيبة رياضية مجردة سميت على أسم مخترعها، الرياضي اللامع “آلن تورينج” Alan Turing الذي عمل في “بلتشلي بارك” Bletchley Park في المملكة المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية حيث كان على رأس الفريق الذي فك “شفرة إنيجما” Enigma code الشهيرة. والنتيجة المتوقعة من عمل “تشايتن” أن يؤكد أن ماكينة تورينج لا يمكنها توليد أي معلومات لا تمثل جزءًا من مدخلاتها أو بنيتها المعلوماتية، وأن تضفي على هذه الفكرة مزيداً من المعقولية.

ولكن ما أهمية ذلك؟ تكمن أهميته في أن فرضية تشرتش – تورينج Church-Turing Thesis تقضي بأن أي أداة حاسبة أياً كانت (من الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل) يمكن محاكاتها بماكينة تورينج. وعلى هذا الأساس، فأي نتيجة نحصل عليها لماكينات تورينج يمكن أن تترجم فوراً إلى العالم الرقمي. وقد تكون إحدى النتائج المترتبة على ذلك أنه ما من أداة جزيئية قادرة على توليد أي معلومات ليست جزءًا من مدخلاتها أو بنيتها المعلوماتية.

وقد أتى بعد ذلك “وليم دمبسكي” وقال بقانون غير حتمي non-deterministic لحفظ الطاقة بمعنى أن العمليات الطبيعية التي تقتصر على الصدفة والضرورة يمكنها أن تنقل بفاعلية معلومات محددة معقدة، إلا أنها لا تستطيع أن تولدها.

ولكن هذا المجال المتنامي ما زال يحتاج للكثير من العمل الجاد والمهم. إلا أننا الآن وصلنا إلى موضع يمكننا من اختبار هذه الأفكار المتعلقة بالأدوات التي تحاكي أصل الحياة. وذلك، لأنه إن كانت المعلومات تحفظ بشكل ما، يمكننا أن نتوقع منطقياً أن أي محاكاة لأصل الحياة تدعي الحصول على معلومات “مجانية” بعمليات طبيعية بحتة لا بد أن تهرب تلك المعلومات من الخارج، رغم كل ما تدعيه. ومن ثم، إن أمكننا أن نثبت ذلك، نكون على الأقل قد نجحنا في بناء حجة مقبولة منطقياً تقول بأن مدخلات المعلومات ضرورية لنشأة الحياة.

وفي ضوء ما تقدم سنحاول الآن أن نحلل واحدة من أشهر المحاولات لمحاكاة منشأ التعقيد المحدد للـ DNA بواسطة العمليات الطبيعية. فهيا بنا إلى القرود الكاتبة Typing monkeys!

 

[1] Bit اختصار binary digit وهي وحدة قياس المعلومة. (المترجم)

[2] نظام رقمي ثنائي مكون من واحد أو صفر يستخدم في تطبيقات الكمبيوتر مثل 1 = 001، 2 = 010، 3 = 011…. إلخ وكل رقم مفرد منها على الكمبيوتر يسمى bit وهي أصغر وحدة block يتعامل بها الكمبيوتر. (المترجم).

[3] خوارزمية لبرنامج كمبيوتر حيث يكرر البرنامج طباعة الرقم 001 عدداُ من المرات يساوي 2 مليار مرة، وهو برنامج لا تستلزم كتابته سوى 39 نقرة على لوحة المفاتيح. (المترجم)

[4] نظام العد والحساب التقليدي (0، 1، 2، 3….الخ). (المترجم)

قضايا معلوماتية – جون ليونكس

Exit mobile version