Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تصميم الغلاف الجوي – جون ليونكس

تصميم الغلاف الجوي – جون ليونكس

تصميم الغلاف الجوي – جون ليونكس

تصميم الغلاف الجوي – جون ليونكس

«لكن هب أني وجدت ساعة في الأرض، وسئلت عما أتى به إلى هنا…

لا بد أن شخصاً صنعها: لا بد من وجود…. صانع….

كوّنها للغرض الذي تؤديه، تصور تركيبها وصمم استخدامها…

إن كل إشارة تدلل على صنعة ماهرة، كل ما يكشف عن تصميم في الساعة،

موجود في أعمال الطبيعة، مع فارق أن الطبيعة أعظم وأكبر بما لا يقاس.”

“ويليم بيلي”

ما من قوى نشطة تدفع عملية التطور. وأياً كان تصورنا عن الله، فمنتجات

الطبيعة لا تعكس وجوده.”

“ستيفن جاي جولد” Stephen Jay Gould

«صانع الساعات الوحيد في الطبيعة هو القوى الفيزيائية العمياء،

وإن كانت منتظمة بشكل متميز جداً. وصانع الساعات الحقيقي يتميز

ببعد النظر: فهو يصمم تروس الساعة وأجزاءها، وينظم علاقاتها بعضها ببعض

بناء على غرض مستقبلي يراه بعيني عقله. ولكن الانتخاب الطبيعي ليس لديه

غرض في عقله، بل هو عبارة عن هذه العملية العمياء الأوتوماتكية اللاواعية التي اكتشفها

داروين والتي نعرفها حالياً باعتبارها تفسيراً للوجود وشكل الحياة كلها الذي يبدو في ظاهره

وكأن له غرض. وهي عملية عديمة العقل والبصيرة، ولا تخطط للمستقبل. وليست لديها

 رؤية ولا بعد نظر لها على الإطلاق. وإن قلنا إنها تلعب دور صانع الساعات

في الطبيعة، فهي في الواقع صانع ساعات أعمى.»

“ريتشارد دوكينز” زميل الجمعية الملكية

 

عجائب العالم الحي

رأينا في الجزء السابق أن الكون الذي يكشفه لنا علم الفيزياء وعلم الكون مضبوط ضبطاً دقيقاً ومفهوم بالعقل، مما يدفع الكثيرين للاعتقاد بأنه يخضع لتصميم وهذا التصميم وضع البشر في حسبانه، أي أن وجودنا نحن البشر في هذا الكون هو عملية مقصودة. وسننتقل الآن من العالم غير الحي إلى العالم الحي ونرى ما إذا كان علم الأحياء يؤكد هذا الانطباع.

وللوهلة الأولى يبدو أنه يؤكد هذا الانطباع على نحو مذهل، إذ يكشف لنا عالماً يبدو أن له “تصميماً” مطبوعاً عليه كله. وقد قال “ريتشارد دوكينز” في “محاضرات الكريسماس بالمؤسسة الملكية” Royal Institution Christmas Lectures التي أذيعت سنة 1991: «الكائنات الحية… تبدو كأنها مصممة على نحو مذهل.»

والحقيقة أنه منذ عصر عظماء المفكرين القدماء أمثال أرسطو وأفلاطون حتى عصر علماء الأحياء المحدثين كان العالم الحي مثاراً لحالة من الدهشة التي لا تنتهي. وكلما كشف العلم عن المزيد، ازداد الشعور بالاندهاش. فمن الذي لا يدهش من قدرة الحمام الغريزية على معرفة طريق بيته، وهجرة إوز البويك Bewick Swan بالفطرة، ونظام الرصد بالصدى عند الخفافيش، ومركز ضغط الدم في مخ الزراف، وعضلات رقبة نقار الخشب؟ والقائمة تطور ويضاف إليها الجديد كل يوم. فالعالم الحي زاخر بآليات معقدة تذهب العقل.

لذا، لا شك أن الطبيعة توحي بوجود تصميم على نحو مذهل. حتى إن “ريتشارد دوكينز” يعرف علم الأحياء بأنه “دراسة أشياء معقدة توحي بأنها تخضع لتصميم له غرض”. ولكنه مجرد إيحاء بتصميم، كما يقول هو والكثير من العلماء غيره، ويعترفون أنه إيحاء قوي، ولكنه مع ذلك ليس تصميماً حقيقياً.

ويحذر “فرانسيس كريك” (الحائز على جائز نوبل بالاشتراك مع “جيمس واطسون” James Watson عن اكتشافهما البنية ثنائية يمكن وضعها في الحالتين الحلزون Double helix structure للـ DNA) علماء الأحياء من إساءة فهم هذا الإيحاء معتقدين أنه الحقيقة، حسب تقديره: «على علماء الأحياء أن يضعوا في اعتبارهم دائماً أن ما يرونه لا تصميم له، ولكنه نتج عن عملية تطور».

ولكن هذه التصريحات تستثير سؤالاً: «لماذا؟» فإن كان شكلها بطة، وإن كانت تهتز في مشيتها كالبطة، وتصدر صوت البطة، فلماذا لا ندعوها بطة؟ لماذا هؤلاء العلماء غير مستعدين للوصول إلى هذا الاستدلال الواضح بأن الكائنات الحية تبدو مصممة لأنها هكذا بالفعل؟

الإجابة هي أن مظهر التصميم وهمي لأنهم يرون أن عمليات التطور التي لا تتضمن أي مدخلات ذكية من أي نوع قادرة على إنتاج كل ما نراه في الكون من تعقيد رهيب. وهذه النظرة طبعاً تفرضها عليهم افتراضاتهم المسبقة. وهو ما يعبر عنه “دانيل دنت” Daniel Dennett في كتابه “فكرة داروين الخطيرة” Darwin’s Dangerous Idea بالقول: «كان داروين يقدم عالماً شكوكياً…خطة لخلق تصميم من الفوضى دون مساعدة العقل.»

ويعتبر “دنت” فكرة داروين كالمادة الحمضية الآكلة التي تهدد بتدمير كل ما سبق داوين من أفكار عن العالم. وذلك لأن داروين لا يعتبر أن مادة هي نتاج العقل، بل أن العقول الموجودة في الكون نتاج المادة. فهي ليست سوى نتائج عملية عشوائية بلا عقل وبلا غرض.

وقد نتعجب من إمكانات هذه الآلة التطورية المذهلة بما لها من قدرة خلاقة على إنتاج الحياة والوعي من المادة الصرف، وقدرتها على إبداع ما في الطبيعة من أنماط خلابة، وعلى بناء ما فيها من آليات معالجة المعلومات. ويقول “ريتشارد دوكينز” إنه ليس عقلاً إلهياً بل آلية غير موجهة مادية بحتة. ويزعم أنه رغم الإغراء الذي تحمله فكرة أن الطبيعة مصممة لغرض، فلا حادة لصانع ساعات إلهي. «صانع الساعات الوحيد في الطبيعة هو القوى الفيزيائية العمياء، وإن كانت منتظمة بشكل متميز جداً.

وصانع الحقيقي يتميز ببعد نظر: فهو يصمم تروس الساعة وأجزائها، وينظم علاقاتها بعضها ببعض بناء على غرض مستقبلي يراه بعيني عقله. ولكن الانتخاب الطبيعي ليس لديه غرض في عقله، بل هو عبارة عن هذه العملية العمياء الأوتوماتيكية اللاواعية التي اكتشفها داروين والتي نعرفها حالياً باعتبارها تفسيراً للوجود وشكل الحياة كلها الذي يبدو في ظاهره وكأن له غرض. وهي عملية عديمة العقل والبصيرة، ولا تخطط للمستقبل.

وليست لديها رؤية ولا بعد نظر، بل لا نظر لها على الإطلاق. وإن قلنا إنها تعلب دور صانع الساعات في الطبيعة، فهي في الواقع صانع ساعات أعمى.» يزعم “دوكينز” أنه لا حاجة إلا لقوانين الفيزياء، وهي نقطة مهمة جداً لا بد أن نعود إليها لاحقاً.

“بيلي” وساعته:

إن العلاقة بين تشبيه صانع الساعات وحجج التصميم علاقة قديمة. وقد استدل شيشرون (106-43 ق.م) من خبرته بالأنظمة ذات التصميم الذكي على حركة الكواكب والنجوم المنتظمة: «… عندما نرى بعض أمثلة الآليات… هل نشك أنها صنعة ذكاء واع؟ فعندما نرى حركة الأجرام السماوية… كيف نشك أنها أيضاً نتاج لعقل، بل عقل كامل وإلهي؟»

ويتكهن “شيشرون” هنا بالعبارة الكلاسيكية الأشهر (أو الأسوأ سمعة!) في حجة التصميم قبل ظهورها بقرون على يد اللاهوتي وعالم الطبيعيات “وليم بيلي” في القرن الثامن عشر. «هب أني أثناء عبوري بين العشب تعثرت بحجر، وسُئلت عما أتى بالحجر إلى هنا، قد أجيب أنه هنا منذ الأزل لأني لا أعرف شيئاً عكس هذا. وقد يصعب إثبات سخف هذه الإجابة.

«لكن هب أني وجدت ساعة في الأرض، وسُئلت عما أتى بها إلى هنا… لا بد أن شخصاً صنعها: لا بد من وجود …. صانع… كونها للغرض الذي تؤديه، تصور تركيبها وصمم استخدامها… إن كل إشارة تدلل على صنعة ماهرة، كل ما يكشف عن تصميم في الساعة، موجود في أعمال الطبيعة، مع فارق أن الطبيعة أعظم وأكبر بما لا يقاس».

إذن لبة حجة “بيلي” هو: إن كان تعقيد الساعة تصميمها الواضح وموائمتها بما يتلاءم مع غاية محددة يشير إلى وجود صانع للساعة، فكم بالأحرى آلية بيولوجية أعقد بما لا يقاس، كالعين البشرية، تتطلب وجود صانع ساعات إلهي ذكي؟ «العلامات الدالة على التصميم أقوى من أن نتجاهلها. التصميم لا بد له من مصمم. وذلك المصمم لا بد أن يكون شخصاً. وذلك الشخص هو الله».

وعلى مر التاريخ رأى الكثيرون، ومنهم علماء، أن هذه الحجة معقولة جداً. وكان داروين واحداً منهم في سني دراسته بجامعة كامبريدج. فقد قال “ستيفن جاي جولد” إن “بيلي” كان “البطل الفكري لداروين في شبابه». وداروين نفسه كتب أن عمل “بيلي” «أمتعني كما أمتعني إقليدس. والتعمق في دراسة هذه الأعمال دون حفظها حفظاً آلياً كان الشيء الوحيد في رحلتي الأكاديمية الأقل فائدة لي في تكويني الفكري كما شعرت بعدئذ وما زلت أعتقد ذلك. ولكني في ذلك الوقت لم أتعب نفسي بالشك في فرضيات “بيلي”، وثقتي فيها جعلتني أنبهر بها واقتنع بتسلسل المحاجة الطويل.»

إلا أن كل هذا تغير. فقد أشار داروين في سيرته الذاتية إلى الصعوبة التي واجهها: «الحجة القديمة التي طرحها “بيلي” عن التصميم الموجود في الطبيعة التي كانت تبدو لي فيما سبق حجة فاصلة، أراها اليوم عاجزة بعد اكتشاف قانون الانتخاب الطبيعي Natural Selection. لم يعد باستطاعتنا اليوم أن نزعم مثلاً أن مفصلة القوقعة ثنائية الصدفة الجميلة لا بد أن تكون من صنع كائن ذكي، كما أن مفصلة الباب من صنع رجل».

وهكذا تعرض “بيلي” للهجوم. حتى إن الكثيرين اليوم يعتبرونه مثاراً للضحك، وتذكرة حزينة مأساوية بالمحاولات العبثية الساذجة التي تمت في الماضي بهدف إضفاء نوع من المصداقية على الإيمان بالله عن طريق ربطه بالعلم. ولكن الحقيقة ليست بهذه البساطة، بل هي أغرب من الأسطورة، كما هو الحال غالباً مع المشاهير الذين أصبحوا جزءًا من بلاغة العلم حتى أصبحوا رموزاً لمجموعة من الأفكار الخاصة (المتطرفة غالباً).

فلا بد أن نعترف أن “بيلي” أثار ضده نقداً مشروعاً بسبب إفراطه في التركيز على أشكال محددة من التكيف وترصيعه لحجة صانع الساعات بقصص تشبيهية ليشرح خصائص الحيوانات المحددة والمتنوعة. فمثلاً في وصفه للإيل الهندي (ببيروسا) Indian Hog (Babyrussa) يقدم شرحاً للأسنان الطويلة المعقوفة الشبيهة بالأنياب التي تخرج من فك الحيوان مشيراً إلى أنه يمسك بها في أغصان الأشجار ليثبت رأسه وهو نائم واقفاً.

ومع ذلك قد يجانبنا الصواب إن استبعدنا “بيلي” كلية بسبب هذه الغرائب. وموقف “ستيفن جاي جولد” أكثر اعتدالاً في هذا الصدد إذ يقول عن “بيلي” إنه «ربما قرأ هذا الشرح للببيروسا في تقرير خاطئ لمجموعة من المسافرين، ولا يمكننا أن نتهمه بالتلفيق، ولكن بأنه لم يفسح مساحة كافية للشك».

ومن الانتقادات الأخرى التي وجهت إليه مبالغته في تأكيد صلاح الطبيعة وتجاهله لما فيها من ألم ومعاناة وقسوة. ولكن “جولد” يقول أيضاً: «لا يمكن تجاهل “بيلي” باعتباره شخصاً مغرقاً في التفاؤل والسعي نحو الكمال مقياساً لتحديد التصميم الجيد، ولا أن نتخذه العلامة اللازمة التي تشير لمسحة الألوهة في الصنعة البشرية.» فما كتبه “بيلي” فعلياً هو: «ليس من الضروري أن تتميز الآلة بالكمال حتى نعرف تصميمها. وبالأحرى ليس ضرورياً أن نسأل ما إذا كان لها تصميم أصلاً، إن كان هذا هو السؤال الوحيد».

أما “اللاهوت الطبيعي” “Natural Theology“، أو ما يطلق عليه أيضاً “اللاهوت المادي” “Physical Theology” الذي طرحه “بيلي” فقد تعرض لنوع آخر من النقد لم يوجهه الملحدون بل وجهه أبرز اللاهوتيين مثل “جون هنري نيومن” John Henry Newman: «لا يمكن للاهوت المادي بطبيعته الحال أن يخبرنا بكلمة واحدة عن المسيحية الصحيحة. وذلك لأنه لا يمكن أن يكون مسيحياً بالمعنى الصحيح… فهذا العلم المزعوم إذا شغل العقل يميله ضد المسيحية».

وأود هنا أن أشير لنقطتين. وقد يتفق “بيلي” مع أولاهما. وذلك لأن في عمله كله الذي تجاوز 500 صفحة لم يذكر المسيحية إلا نادراً (أول ذكر لها في ص 529). فهو على وعي تام بمحدودية أهدافه ولا يدعي تأسيس تعاليم تخص المسيحية “الصحيحة” بناء على الطبيعة مباشرة. ولكنه يبدو قانعاً تماماً بأن اللاهوت الطبيعي في أفضل حالاته لا يمكنه إلا أن يقدم دلائل على وجود الله ويقول شيئاً عن عدد معين محدود من صفاته كالقدرة مثلاً.

ومن الواضح أنه رأى في ذلك تمهيداً للتفكير في المسيحية بصورتها الكاملة، ولكنه بالتأكيد لم يعتبره بديلاً لها. وهو يكتب في الخلاصة: «إنه خطوة نحو إثبات أنه لا بد من وجود شيء في العالم يتجاوز ما نراه. والخطوة الأبعد أن نعلم أنه من بين الأشياء غير المنظورة في الطبيعة لا بد من وجود عقل ذلك مسؤول عن إنتاجها وتنظيمها وحفظها. إذ يؤكد لنا اللاهوت الطبيعي هذه الأمور، يمكننا بعدئذ أن نترك للإعلان الإلهي كشف العديد من التفاصيل الخاصة التي لا يمكن التوصل إليها بأبحاثنا، احترماً لطبيعة هذا الكائن الأعلى باعتباره المسبب الأصلي لكل الأشياء، أو لشخصيته وتصميماته باعتباره الحاكم الأخلاقي.

وليس ذلك فحسب، بل احتراماً للتأكيد الأكثر اكتمالاً بخصوص تفاصيل أخرى التي وإن كانت لا تتجاوز حدود تفكيرنا واحتمالاتنا، إلا أن الوصول إلى يقين بشأنها لا يساوي إطلاقاً أهميتها. فالمؤمن الحقيقي بالله الخالق سيكون أول من يستمع إلى أي رسالة صادقة من المعرفة الإلهية. وما من شيء تعلمه من اللاهوت الطبيعي يمكن أن يقضي على رغبته في مزيد من التعليم أو ميله لاستقبال التعليم بتواضع وامتنان.

فهو يتوق إلى النور، ويفرح بالنور. وما يملأ أعماقه من إجلال لهذا الكائن الأعلى سيدفعه إلى الانتباه بكل جدية لا إلى كل ما يمكن اكتشافه عن هذا الكائن بالبحث في الطبيعة فقط، بل أيضاً إلى كل ما يعلمه الإعلان، مما يوفر برهاناً منطقياً على أن هذا الإعلان منه.»

وما يزيد الموقف غرابة أن “نيومن” يعترف (في المقال نفسه) أن اللاهوت المادي يتمتع بميزة حقيقية على المستوى الذي وصفه “بيلي”: «وهذا العلم يبين بكل جلاء ووضوح ثلاث أفكار بدائية ترتبط في العقل البشري بفكرة الكائن الأعلى. وهي ثلاثة من أبسط صفاته: القدرة، والحكمة، والصلاح.» وهذا هو جوهر كل ما زعمه “بيلي أساساً بخصوص حجته.

إذن، لماذا يظن “نيومن” أنها تميل العقل ضد المسيحية؟ وهو يفصح عن السبب: «…. لأنها لا تتحدث إلا عن القوانين ولا يمكنها التعرض للحالات التي يتوقف فيها عمل القوانين؛ أي المعجزات، وهي جوهر فكرة الإعلان. ومن ثم، فإله اللاهوت المادي يمكن أن يتحول إلى وثن بكل سهولة، لأنه يأتي إلى العقل الاستقرائي في وسط أوضاع ثابتة، في منتهى الامتياز، في منتهى المهارة، في منتهى الخير حتى إنه كلما أطال النظر فيها، ظن أنها أجمل من أن تتعطل، مما يقلص فكرته عن الإله فيستنتج أنه يستحيل أن تأتيه الشجاعة (إن جاز لي أن أستخدم هذا التعبير الجريء) لكي يلغي أو يشوه صنعة يديه.

وتصبح هذه الخلاصة أول خطوة على طريق التقليل من فكرته عن الله للمرة الثانية والمساواة بينه وبين أعماله. فبالطبع الكائن الذي يتصف بالقدرة والحكمة والصلاح، ولا شيء غير ذلك لا يختلف كثيراً عن إله من يؤمن بوحدة الوجود [1]Pantheist

ولكن إن أردنا أن نكون منصفين مع “بيلي”، فهو لم يشر نهائياً إلى أن هذه الصفات وحدها هي صفات الله: كل ما قاله إنها الصفات الوحيدة التي يمكن الاستدلال عليها من الطبيعة. ولا شك أنه مهم أن نطرح الأسئلة التي تتجاوز إجاباتها حدود اللاهوت الطبيعي، وهو ما لم يتردد “بيلي” مطلقاً في فعله. بل إنه نشر قبل ذلك سنة 1794 كتاب “أدلة مسيحية” Evidences of Christianity الذي يحوي حججاً مفصلة تؤيد معجزات الأناجيل.

وهي في الواقع حجج ضد آراء “دافيد هيوم” David Hume التشككية. لذلك، من الصعب أن نجد مبرراً لمخاوف “نيومن”، على الأقل بخصوص “بيلي” نفسه. ومن ثم، ربما يلتمس لنا العذر إن ظننا وجود نوع من التنافس الحاد بين “نيومن” (كاثوليكي من جامعة أكسفورد” ونظيره “بيلي” (بروتستانتي من جامعة كامبريدج)!

وأياً كانت الإجابة، واضح أن محصلة انتقادات “بيلي” وارتباطه الأسطوري بكل ما يعتبر موضع شبهة في حجج التصميم هو أن استدلاله الجوهري من طبيعة الساعة على أصلها الذكي أحياناً ما يستبعد دون مبرر مشروع، رغم أن هذه الانتقادات لا تؤثر عليه فعلياً. فإن عقلاً في حجم “برتراند رسل” المعروف بعدم تعاطفه مع الإيمان بالله الخالق، وجد حجة التصميم مبهرة منطقياً: «هذه الحجة تقول إنه بناء على دراسة العالم المعروف نجد أشياء لا يمكن أن يكون تفسيرها المقبول منطقياً أنها نتاج قوة طبيعية عمياء.

ولكنها ترى منطقياً باعتبارها دلائل على غرض خيّر. وهذه الحجة لا يشوبها أي عيب منطقي صوري، فمقدماتها تجريبية وتم التوصل إلى نتيجتها وفقاً لقوانين الاستدلال التجريبي المعتادة. ومن ثم، فمسألة قبولنا أو رفضنا لها لا تتوقف على قضايا ميتافيزيقية عامة بل على اعتبارات تفصيلية نسبياً».

ولكن قبل أن نترك “بيلي” لا بد أن نعلق سريعاً على الزعم المتكرر بأن هجوم “دافيد هيوم” العنيف على حجج التصميم هو ما يقضي على “بيلي” نهائياً. ومن عناصر ذلك الهجوم هو الزعم بأن هذه الحجج هي من نوع الحجج التي تقوم على المشابهات Arguments form Analogies وهي ما لا تكون دائماً صحيحة. وقد وضع “هيوم” عمله في شكل مناقشة بين مجموعة من الشخصيات، حيث يدعى أحد الأبطال “كليانش” Cleanthes هو واثق من نفسه، ويوجه إليه الكلام التالي: “كليانش”، إن رأينا بيتاً نستنتج بكل يقين إن له مهندساً أو بناء، لأن هذا النوع من الأعمال تحديداً هو ما نعرف بالخبرة أنه يأتي من ذلك النوع من المسببات على وجه التحديد.

ولكن يقيناً لا يمكنك أن تؤكد أن الكون يحمل هذا التشابه مع البيت لدرجة انه يمكننا أن نستدل على مسبب مشابه بنفس درجة اليقين، أو تؤكد أن المشابهة هنا تامة وتشمل كل الجوانب، بل إن الاختلاف مريع لدرجة أن أقصى ما يمكنك أن تتظاهر به هو تخمين، تقدير، افتراض سابق بشأن مسبب مشابهة. أما كيفية استقبال العالم لهذا التظاهر، فهو أمر أتركه لك تفكر فيه». ويرى الكثيرون أن حجة “هيوم” ما زالت هي المنتصرة.

إلا أنه من السذاجة أن نخلص إلى أن هذه الحجة دقت آخر مسمار في نعش “بيلي.” فقد أشار الفيلسوف “أليوت سوبر” Elliott Sober أنه «رغم أن نقد “هيوم” يكون ساحقاً إن كانت حجة التصميم تقوم على المشابهة. فلا أرى سبباً لتفسير حجة التصميم على هذا النحو. فحجة “بيلي” بخصوص الكائنات الحية حجة مستقلة بذاتها. بصرف النظر عما يتصادف من تشابه بين الساعات والكائنات. والهدف من الحديث عن الساعات هو مساعدة القارئ على أن يرى ما في حجة الكائنات الحية من قدرة على الإقناع».

لا شك أن حجة “بيلي” عن الكائنات الحية مستقلة بذاتها، ولكنها تزداد قوة لأن ما يقوله “سوبر” من أن المشابهة فاشلة هو قول لا مبرر له. وذلك لأنه منذ عصر “بيلي” كشفت التطورات العلمية عن أنواع كثيرة من الأنظمة في الكائنات الحية ينطبق عليها تماماً مصطلح “الآلة الجزيئية”، ومن ضمن هذه الأنظمة ساعات بيولوجية مسؤولة عن وظيفة ضبط التوقيت الجزيئية التي لا غنى عنها في الخلية الحية والتي تتسم بقدر من التعقيد أكبر كثيراً من ساعة “بيلي”. ولا شك أن لغة “الآلة” تسود علم الأحياء الجزيئي في أحدث صوره.

وعلى أي حال ربما كان “هيوم” سيندهش لو علم أنه يوماً ما سيتمكن الذكاء البشري من تصميم أنظمة بيوكيماوية ويناء بروتينات في معامل هذا العالم، وأنه محتمل أن يتمكن الإنسان في المستقبل القريب من تخليق كائنات بسيطة من مكوناتها الجزيئية. فماذا سيقول “هيوم” آنذاك؟ لقد اتضح أن حجة التصميم أقوى كثيراً مما ظن “هيوم”، وإن كان من المهم أن نأخذ في حسباننا حذره تجاه المشابهات حتى وإن كان قدر كبير من قوة اعتراضه قد انهار بفعل التطورات الأحدث في علم الأحياء.

وقد قال “هيوم” أيضاً إننا حتى نستدل على أن عالمنا يخضع لتصميم كان يجب أن نلاحظ عوالم أخرى تخضع لتصميم، وعوالم لا تصميم لها حتى نقارن بين الاثنين. ويتضح أن حجة “هيوم” هذه حجة استقرائية تعتمد قوتها على عينة من الأكوان التي تخضع للملاحظة. ومن هنا يستنتج “هيوم” أن الحجة ضعيفة جداً لأن الكون الوحيد الذي أخضعناه للملاحظة هو هذا الكون.

إلا أنه، كما أوضح “سوبر”، هذا الاعتراض يتلاشى لحظة انتقالنا من نموذج العينات الاستقرائي Inductive Sampling إلى نموذج الاحتمالات: «لست مضطراً لملاحظة عمليات التصميم الذكي، وعمليات الصدفة أثناء نشاطها في عوالم مختلفة حتى تخلص إلى أن كل فرضية تضيف لملاحظتك احتمالات مختلفة عن الأخرى.»

هذه النقطة مهمة، لسبب بسيط أن العلم ليس كله استقرائياً، لأن رفاهية تكرار الملاحظة أو التجريب ليست متوفرة لنا دائماً. فلا يمكننا تكرار الانفجار الكبير، ولا نشأة الحياة، ولا تاريخ الحياة، ولا تاريخ الكون. بل ماذا عن أي حدث تاريخي؟ إنه غير قابل للتكرار. أفلا يمكننا أن نتحدث إطلاقاً عن هذه الأمور؟ نعم، وفقاً لحجة “هيوم”، لا يمكننا أن نتحدث عنها. إلا أنه يمكننا تطبيق منهجية أخرى على هذه الحالات، وهي معروفة جداً للمؤرخين.

إنها طريقة الاستدلال الاحتمالي Abduction أو الاستدلال القائم على أفضل التفسيرات Inference to the best explanation التي شرحناها في الفصل الثاني. وحجة “هيوم” لا تستفيد من الاستدلال الاحتمالي مطلقاً. ولكن الحجة التي تتمكن من شرح أثر معين دائمً أفضل من الحجة التي لا تفعل ذلك.

إلا أنه من المهم، وإن كان صعباً، أن نميز بين حجة التصميم والصورة السلبية التي لصقت بها بفعل البلاغة العلمية التي ميزت أسلوب “بيلي”. إلا أن هناك سبباً آخر يتعلق أيضاً ببلاغة العلم أدى إلى عدم أخذ حجج التصميم على محمل الجد في السنوات الأخيرة. وهذا السبب هو أن مجرد ذكر كلمة “تصميم” يثير فوراً في أذهان البعض صورة قوية لآلية الساعة التي احتلت مكانة بارزة في الحجج الأقدم المؤيدة لفكرة التصميم.

والنتيجة ارتباط “التصميم”، في الوعي أو في اللاوعي، بالفكرة التي قال بها نيوتن من أن الكون يسير كالساعة. فتشبيه ما يجري في الكون من عمليات بساعة دقيقة تعمل بسلاسة كان يتمتع بجاذبية كبرى عندما كانت ميكانيكا نيوتن في أوج عظمتها. ولكنه بدأ يفقد رونقه، وخاصة بين من انصرفوا إلى العلوم البيولوجية، لسبب بسيط، ألا وهو أن العالم البيولوجي لا يشبه الساعة كثيراً.

وقد فقد رونقه نوعاً ما بين اللاهوتيين أيضاً نظراً لسهولة استخدامه لتأييد النظرة الربوبية Deistic لله التي تعني أن الله أدار الكون كما يدار مفتاح الساعة وتركه يعمل، بدلاً من النظرة الكتابية التي ترى الله إلهاً نشطاً باعتباره خالق الكون وحافظه، فهو إله أوجد الكون في كل لحظة. ورغم اتفاقنا مع كل هذا، فبما أننا نعلم أن الغلاف الحيوي يضم عدداً لا نهائياً من الساعات المعقدة، إذن لا يمكننا رفض حجج التصميم ببساطة.

ولكن من الخطأ استخدامها من منطلق اختزالي للإيحاء بأن الكون ليس سوى آلية ساعة. لذلك، إن أردنا أن نتجنب تكوين ارتباطات ذهنية مضللة، قد يكون من الأفضل أن نستعين بالحجج التي تستدل على المنشأ الذكي للكون بدلاً من حجج التصميم.

وختاماً أوجز ما تقدم في كلمات “جون بولكينجهورن”: «أين اللاهوت الطبيعية اليوم، بعد “وليم بيلي” بقرنين من الزمان؟ الإجابة القصيرة هي: «حي وبحالة جيدة، بعد أن تعلم من خبرات الماضي أن يتمسك بالبصيرة بدلاً من الضرورة المنطقية القسرية، وأن يتمكن من أن يتعايش مع العلم في علاقة ودية من منطلق التكامل وليس من منطلق التنافس».

هل التطور يقضي على الحاجة إلى خالق؟

ولكن دعونا الآن نرجع لنقطتنا الأساسية، ألا وهي القناعة الشائعة بأن التطور يقضي على الاحتياج لخالق. لقد قال عالم الحفريات “ستيفن جاي جولد” Stephen Jay Gould، وهو من المؤمنين بالفلسفة المادية، إنه بعد داروين أصبحنا نعرف أنه «ليست هناك روح تتدخل وتراقب شؤون الطبيعة بحب (وإن كان من المحتمل أن إله نيوتن الذي أدار مفتاح الساعة ضبط ماكينتها في بدء الزمان ثم تركها تعمل). ما من قوى نشطة تدفع عملية التطور. وأياً كان تصورنا عن الله، فمنتجات الطبيعة لا تعكس وجوده».

وعقب نشر كتاب “أصل الأنواع” بفترة وجيزة، كتب الملحد الأمريكي الشهير “روبرت جرين إينجرسول” Robert Green Ingersoll أن القرن التاسع عشر سيكون “قرن داروين” عندما “تمحو عقيدته في التطور… آخر أثر للإيمان المسيحي المستقيم من كل عقل مفكر».

وقد تكررت هذه الفكرة على فم السير “جوليان هكسلي” Julian Huxley في الاحتفال المئوي بداروين Darwin Centennial في شيكاغو في سنة 1959 عندما لخص المعاني المتضمنة في التطور من وجهة نظره: «طبقاً للفكر التطوري لم تعد هناك حاجة ولا مساحة لما هو فوق طبيعي. فالأرض لم تخلق، ولكنها تطورت.

وهكذا كل الحيوانات والنباتات التي تسكنها، بما فيها نحن البشر، وهو ما ينطبق على عقولنا ونفوسنا تماماً كما ينطبق على مخاخنا وأجسامنا. وهو ما ينطبق على الدين أيضاً…» ويرى “هكسلي” أن العلم يحل محل الله، مقدماً لنا تفسيراً صرفاً لا لأصل الحياة فقط، بل أصل الملكات العليا من الوعي والفكر.

وهذه النظرة التي تقو بأن الإلحاد نتيجة منطقية للتطور نجدها في كتب العلوم الرائجة، بل أيضاً في الكتب المدرسية الجامعية. خذ مثلاً العبارة التالية من أحد الكتب الجامعية المحترمة عن التطور من تأليف “مونرو ستريكبرجر” Monroe Strickberger الذي يعمل في متحف علم الفقاريات Museum of Vertebrate Zoology في مدينة “بركلي” بولاية كاليفورنيا: «إن الخوف من أن الداروينية هي محاولة لاستبعاد الله من دائرة الخليقة كان في محله.

والسؤال الذي يقول: هل من غرض إلهي لخلق البشر؟ يجيب عنه التطور بالنفي. فطبقاً للتطور، عمليات التكيف في الأنواع وفي البشر تنشأ من الانتخاب الطبيعي لا من التصميم». ويتفق معه “دوجلاس فوتويما” Douglas Futuyma قائلاً: «عندما مزج داروين بين التنوع العشوائي الذي لا غرض له وعملية الانتخاب الطبيعي غير المكترثة العمياء جعل التفسيرات اللاهوتية أو الروحية للعمليات البيولوجية بلا قيمة.

وإذ تضافرت نظرية داروين في التطور مع نظرية ماركس المادية في التاريخ والمجتمع، مع ما فعله “فرويد” من إرجاع السلوك البشري لمؤثرات لا نملك التحكم فيها إلا قليلاً، أصبحت الداروينية مكوناً محورياً في المشروع الفكري القائم على التصور الآلي والمادي للكون، وفي قدر كبير من العلم. وباختصار أصبحت هذه النظرة هي المسرح الذي تجري عليه معظم أحداث الفكر الغربي».

لذلك ليس غريباً أن ينتشر شعور بأن نظرية أطاحت بالله باعتباره غير ضروري وغير ذي صلة، بل ربما باعتباره تفسيراً محرجاً بكل معنى الكلمة. ويعد الفيلسوف “روجر سكروتن” Roger Scruton مثالاً تقليدياً على ذلك. إذ يشرح أسبابه قائلاً: «إني أفكر تفكيراً علمياً. فلا يمكنني أن أرفض الأدلة المؤيدة للداروينية، وأنا أرى أن صحتها واضحة وضوح الشمس».

وبذلك فإننا نواجه هذا الموقف الغريب. فمن ناحية يميل البعض بشدة إلى الاستدلال على وجود أصل ذكي من خلال المعلومات البيولوجية. ومن ناحية أخرى بعض من يعترفون بجاذبية هذه النزعة يقاومونها لأنهم مقتنعون أنه لا حاجة لمصمم. ولكن العمليات التطورية غير الموجهة عديمة العقل يمكنها أن تقوم بالمهمة كلها، وقد قامت بها فعلياً.

ولسنا بحاجة أن نوضح أن هذه القضية تمثل مسألة حرجة. وليس من المبالغة أن أقول إن نظرية التطور كان لها أثر الزلزال على السعي البشري نحو المعنى، وهو أثر يمتد إلى كل جوانب الحياة الإنسانية. فإن كانت الحياة نتاج عملية طبيعة خالصة، فماذا عن الأخلاق؟ هل تطورت هي أيضاً؟ وإن كان كذلك، فما أهمية مفاهيمنا عن الصواب والخطأ، والعدالة والحق؟

يقول “وليم بروفاين” William Provine: «إن الفرضيات المدمرة التي يطرحها علم الأحياء التطوري تمتد أبد كثيراً من فرضيات الدين النظامي، إذ ترقى إلى درجة معتقد أعمق وأشمل كثيراً تعتنقه الغالبية الساحقة، ألا وهو أن التصميمات أو القوى المنظمة اللاميكانيكية مسؤولة بشكل ما عن النظام الذي نراه في الكون المادي، والكائنات الحية، ونظام الأخلاق البشرية».

ويرى “دانيل دنت” أننا حتى الآن لم نقبل فعلياً المعاني المتضمنة في التطور. ولذلك، فهو يسمي التطور “فكرة داروين الخطيرة” لأنها “تخترق نسيج أفكارنا الجوهرية الأصلية بعمق يفوق كثيراً ما يعترف به الخبراء من المدافعين عنها، حتى بينهم وبين أنفسهم.»

ويتفق معه “دوكنيز” فهو لا يشك في أننا نصل مع داروين إلى منعطف شديد الأهمية في تاريخ الفكر. «لم نعد مضطرين للجوء إلى الخرافة عندما نواجه المسائل العميقة: هل للحياة معنى؟ ما غرض وجودنا هنا؟ من هو الإنسان؟ بعد أن طرح عالم الحيوان البارز “ج. ج. سيمبسون” G. G. Simpson آخر سؤال من هذه الأسئلة، قال: «النقطة التي أود توضيحها الآن أن كل محاولات الإجابة عن ذلك السؤال قبل 1859 بلا قيمة وأننا سنكون في حال أفضل إن تجاهلناها كلية».

والحجة التي يطرحها “دوكينز” تعني أنه إن كانت آليات التطور قادرة على تفسير ما يبدو وكأنه تصميم في الكون، عندئذ يصبح الاستدلال على وجود أصل ذكي استدلالاً خاطئاً. أي أنه يريد أن يقول لنا إنه لا يمكننا أن نؤمن بالله وبالتطور في آن. فبما أنه يمكن تفسير كل شيء بالتطور، إذن ليس هناك خالق. والتطور يعني الإلحاد.

ولنلق نظرة على منطق هذا الموقف. واضح أن حجة “دوكينز” التي تنطلق من التطور وتصل إلى الإلحاد تعتمد على الزعمين التاليين اللذين يبدوان للوهلة الأولى صحيحين:

ويعتقد الكثيرون أن هذا الطرح قاطع وغير قابل للمناقشة. فهم يرون أن العبارتين صحيحتان، حيث إن الأولى واضحة في ذاتها وتكاد لا تحتاج لشرح، والثانية تمثل النتيجة التي توصل إليها البحث العلمي. إلا أننا أمام اثنتين من الحقائق الصعبة التي تؤكد أن الأمور لا يمكن أن تكون بهذه البساطة. الحقيقة الأولى أن الكثير من العلماء المتخصصين في العلوم البيولوجية ينكرون الزعم الأول ويقبلون الثاني، أي أنهم يؤمنون بالله وبالتطور.

والثانية، وهي الأكثر إثارة للجدل، أن البعض (من المؤمنين بالله وغير المؤمنين) يطرحون أسئلة علمية حول مدى دقة الزعم الثاني. وهو ما يتضح من تزايد أعداد المؤلفات المنشورة في هذا الموضوع الصادرة عن أكبر دور النشر الأكاديمية في العالم.

هل نظرية التطور تستبعد الله؟

 الفكرة القائلة إن مفهوم الله والتطور البيولوجي يلغي كل منهما الآخر تعني أولاً أن الله والتطور يندرجان تحت فئة تفسيرية Category of Explanation واحدة. ولكن هذا خطأ بين، كما رأينا في موضوع سابق. أي أن هذه الفكرة تنطوي على خطأ فئوي أو تصنيفي. فنظرية التطور تدعي كونها آلية بيولوجية، ومن يؤمنون بالله يعتبرونه شخصاً فاعلاً Personal Agent يصمم ويخلق الآليات، بين قوى فاعلة أخرى.

وقد أشرنا فيما سبق إلى فهم آلية عمل سيارة فورد لا يعد في ذاته حجة تبين أن مستر “فورد” نفسه غير موجود. فوجود آلية لا يعتبر في ذاته حجة تثبت عدم وجود فاعل صمم هذه الآلية.

ومع وضع هذه الملحوظة في الحسبان نعود إلى وصف “دوكينز” الشهير لصانع الساعات التطوري الأعمى: «صانع الساعات الوحيد في الطبيعة هو القوى الفيزيائية العمياء… ولكن الانتخاب الطبيعي ليس لديه غرض في عقله، بل هو عبارة عن هذه العملية العمياء الأوتوماتيكية اللاواعية التي اكتشفتها داروين والتي نعرفها حالياً باعتبارها تفسيراً للوجود وشكل الحياة كلها الذي يبدو في ظاهره وكأن له غرض… وإن قلنا إنها تلعب دور صانع الساعات في الطبيعة، فهي في الواقع صانع ساعات أعمى.» ويمكننا هنا أن نميز خمسة مزاعم. يختص اثنان منها بالقوى الفيزيائية، وثلاثة بالانتخاب الطبيعي:

  1. القوى الفيزيائية هي صانع الساعات الوحيد في الطبيعة.
  2. القوى الفيزيائية عمياء.
  3. الانتخاب الطبيعي عملية أوتوماتيكية عمياء ليس لها غرض في عقلها.
  4. الانتخاب الطبيعي يفسر وجود كل الكائنات الحية.
  5. الانتخاب الطبيعي يفسر شكل كل الكائنات الحية.

وبالطبع “الانتخاب الطبيعي” هنا هو اختزال التركيب التطوري الداويني الحديث neo-Darwinian evolutionary synthesis الذي يضم الانتخاب الطبيعي، والطفرة Mutation، والانحراف الجيني Genetic drift… الخ، وليس مجرد الانتخاب الطبيعي نفسه.

وأول ما يلفت النظر في هذه المزاعم أنها تقفز بنا أبعد من داروين كثيراً. وذلك، لأن المعنى المتضمن في التصريح الأول هو أن عملية الانتخاب الطبيعي التي روج لها داروين طبعاً، تختزل إلى قوانين الفيزياء، وهو زعم لم يقل به داروين مطلقاً، على قدر معرفتي. وذلك لأن الانتخاب الطبيعي يفترض بطبيعته بادئ بدء وجود الحياة (أو على الأقل وجود نظام قادر على إعادة إنتاج نفسه). وإلا لا يمكن للانتخاب الطبيعي أن يبدأ أساساً ما دام لا يجد أشياء ينتخب منها. والانتقال من عالم المخلوقات غير الحية إلى عالم الأحياء انتقالاً سطحياً ينطوي على خطورة كبرى سنتناولها بالتفصيل فيما بعد.

ثانياً، “دوكينز” يسبغ قدرات خلاقة على القوى الفيزيائية ويشخصها. فهو يعتبر أن هذه القوى هي صانع الساعات. واستخدام أسلوب التشخيص البلاغي مهم هنا لأنه يضفي مصداقية زائفة بشكل خفي على أطروحة لا أساس لها من الصحة لولا استخدام هذا الأسلوب: فنحن نميل لتصديق أن شخصاً ما يتمتع بقدرات خلاقة أكثر من ميلنا لتصديق أن قوة لاشخصانية تتمتع بهذه القدرات. فضلاً عن ذلك، قوى “دوكينز” المشخصنة عمياء. فما معنى هذا؟

من وجهة ما، ليس هناك ما يثير الجدل في وصف قوى أو آليات بصفة “العمى”، لأنه من الواضح أن هذا الوصف ينطبق على معظمها. فالقوى النووية الشديدة والضعيفة، والكهرومغناطيسية، والجاذبية ليس لها عيون مادية أو عقلية ترى بها.

ومعظم الآليات عمياء، مثل الساعة، أو السيارة، أو مشغل الأسطوانات المدمجة، أو القرص الصلب للكمبيوتر. وهي ليست عمياء فحسب، ولكنها غير واعية أيضاً. ولمزيد من الدقة أقول إنها غير قادرة حتى على التفكير الواعي لأنها لا تملك عقلاً تفكر به. ولكن تلك الآليات، رغم كونها عمياء في ذاتها، إلا أنها تجمع نتاج عقول أبعد ما تكون عن العمى، فهي مصممة تصميماً ذكياً. وهو ما ينطبق حتى على الآليات التي تشمل عنصراً من العشوائية في عملها.

فمثلاً آلية العمل الذاتية في الساعة آلية عمياء وأتوماتيكية وتشتمل على عمليات تقوم على الصدفة: فهي تستخدم الطاقة الناتجة من الحركات العشوائية للعقرب لتدير نفسها. ولكن من الحماقة أن نقول إنها لم تصمم. بل إن الساعة الأوتوماتيكية أكثر تعقيداً من الساعة العادية. ومن ثم تشتمل على مزيد من الذكاء في تصميمها.

وفي مجال الهندسة، دائماً ما تستخدم الخوارزميات الجينية Genetic Algorithms المنفذة بالكمبيوتر في أغراض تحقيق الصورة الهندسية المثلى Engineering Optimization المعقد، مثل بناء أفضل شكل ممكن لجناح طائرة. ولكن من العبث أن نقول إنه ما دامت عمليات تحقيق الصورة المثلى الخوارزمية التطورية Evolutionary Algorithmic Optimization Processes هذه هي نفسها عمياء وأوتوماتيكية، إذن ليس لها أصل ذكي.

ولكن للأسف من السهل جداً ألا ننتبه لهذه النقطة عندما نقرأ “دوكينز”، لأن التأثير البلاغي الخفي لتشخيص عملية التطور يقود القارئ للاعتقاد بأن “دوكينز” يستبعد في حجته وجود فعل شخصي حقيقي Real Personal Agency، في حين أنه لم يفعل ذلك. بل إنه حتى لو يحاول مطلقاً أن يتعرض لمسألة وجود فعل شخصي أم لا. وهي مهارة تنم عن ذكاء خارق.

والدرس الذي نتعلمه هنا هو أن نحذر عند التعامل مع البلاغة العلمية في هذه السياقات لأن توصيفات آليات التطور المزعومة غالباً ما تكون محملة بتعبيرات مثل “عمياء”، “أوتوماتيكية”، “بلا غرض” التي يسهم غموضها في الإيحاء بأن مسألة تدخل فعل ذكي خضعت للبحث ورفضت. في حين أن هذا لم يحدث إطلاقاً. فاستخدام مصطلحات “دوكينز” يدفع المرء للاعتقاد بأنه يظهر أنه تناول المسألة، ولكنه مظهر وهمي.

إلا أن الفيزيائي السير “جون هوتن” يقدم وصفاً ممتازاً للمنطق الفعلي الذي نحن بصدده هنا: «إن فهمنا لبعض آليات عمل الكون أو آليات الأنظمة الحية لا يلغي وجود مصمم، تماماً كما أن معرفتنا بآلية عمل الساعة، رغم كونها عملية أوتوماتيكية، لا تعني عدم وجود صانع للساعة».

وبناء على هذا المنطق، يقبل الكثير من العلماء البارزين آليات التطور باعتبارها أسلوب الخالق في إنتاج التنوع الذي نراه في الحياة. بل إن حتى بعض مؤيدي داروين نفسه كانوا يعتقدون ذلك، ومنهم “آسا جراي” Asa Gray عالم النبات المسيحي المرموق في “جامعة هارفارد” Harvard University، وقد كان أول شخص خارج إنجلترا كشف له داروين عن نظريته، وكان دائم الاتصال به.

وقد كتب الروائي “تشارلز كينجزلي” Charles Kingsley لداروين قائلاً إن نظريته في الانتخاب الطبيعي «هي مفهوم سام لله من حيث الاعتقاد بأنه خلق أشكالاً أولية قادرة على النمو الذاتي… ولا تقل في سموها عن الاعتقاد بأن الله تدخل تدخلاً مباشراً لملء الفجوات التي صنعها بنفسه.»

ورغم أن “كينجزلي” لم يكن عالماً، فقد أعجب داروين بكلماته أشد الإعجاب حتى إنه اقتبسها في الطبعة الثانية من كتاب “أصل الأنواع”، وربما كان يضع في اعتباره ما يمكن أن تحدثه من تأثير على قرائه من رجال الكنيسة المتشككين. ونظرة “كينجزلي” لله بصفته «إلهاً بالغ الحكمة حتى إنه قادر أن يصنع كل الأشياء بحيث تصنع نفسها» تنعكس مجدداً في قول “ريتشارد سوينبرن”: «الطبيعة…. هي آلة تصنع آلات… والبشر لا يصنعون آلات فحسب، بل يصنعون آلات تصنع آلات. ومن ثم، يمكنهم بطبيعة الحال أن يستدلوا من الطبيعة التي تنتج الحيوانات والنباتات على خالق للطبيعة على نحو يشبه صنع الناس للآلات التي تصنع آلات».

أي أن التطور أبعد ما يكون عن إبطال الاستدلال على أصل ذكي، بل إن كل ما يفعله أنه يرجع له خطوة للوراء، منتقلاً من الكائنات الحية إلى العمليات التي أوجدت تلك الكائنات. أي أنه ينتقل من العلية الأولى إلى العلية الثانوية. تخيل رجلاً يرى سيارة لأول مرة، فيفترض أنها مصنوعة مباشرة بأيد بشرية، ثم يكتشف فيما بعد أنها صنعت في مصنع يعمل بالإنسان الآلي الذي صنع بدوره بماكينات مصنوعة بأيد بشرية.

ومع ذلك، استدلاله الأصلي على وجود أصل ذكي لم يكن خاطئاً، ولكن مفهومه لطبيعة تنفيذ ذلك الذكاء هو الذي لم يكن دقيقاً. أي أن رصد النشاط البشري المباشر في مصنع يعمل بالإنسان الآلي لم يكن ممكناً لأن وجود المصنع نفسه وماكيناته يمثل النتيجة النهائية للنشاط البشري الذكي.

بل إن عالماً بحجم “ت. هـ. هكسلي” الذي علا نجمه في المناظرات الداروينية المبكرة كان على وعي تام بهذا الموقف. ومما يثير الدهشة أنه ذكّر معاصريه أن «هناك غائية أشمل لم تتعرض لها عقيدة التطور على الإطلاق. وهي تتمثل في الطرح الذي يقول إن العالم كله… نتاج تفاعل متبادل بين قوى الجزيئات التي تكون منها ضباب الكون الأولي، وهذا التفاعل يسير وفقاً لقوانين محددة.

وإن كان هذا الطرح صحيحاً، فمؤكد أن العالم الموجود كان يكمن في البخار الكوني، وأنه من المحتمل أن قدراً كافياً من الذكاء تنبأ مثلاً بحالة عالم الحيوان في بريطانيا سنة 1869 تنبؤاً يقينياً كمن يتنبأ بما سيحدث للبخار الناتج من نفسه في أحد أيام الشتاء الباردة، وذلك بناء على معرفة هذا الذكاء بخواص جزيئات ذلك البخار.» ثم خلص إلى أن تعليم التطور «لا يمس الإيمان بالله الخالق على الإطلاق باعتباره عقيدة فلسفية.»

فحتى “هكسلي” لم ير أن علم الأحياء يمكنه حسم مسألة وجود الله أو عدم وجوده. وقد سطر في خطاب أرسله سنة 1883 للكاتب “تشارلز واتس” Charles Watts قائلاً: «جوهر اللاأدرية هو نفسه جوهر العلم، سواء أكان قديماً أم حديثاً. فهي تعني ببساطة أن المرء لا يقول إنه يعرف أو يصدق ما لا يملك له أساساً علمياً يدفعه للاعتراف بمعرفته له أو الإيمان به… وبالتالي، اللاأدرية تضع جانباً جل اللاهوت المعروف، وجل ما هو ضد اللاهوت.» وجدير بالذكر أن “هكسلي” هو من اخترع مصطلح “لاأدري” “Agnostic” ليصف به نفسه.

وتعليق “هكسلي” على ما يكمن في “البخار الكوني” يذكرنا بأن نظرية التطور تتطلب كوناً مضبوطاً دقيقاً ينتج المواد المناسبة بمنتهى الدقة ويعمل طبقاً لقوانين معقدة. والمؤكد أن نظرية التطور البيولوجية لم تمس مطلقاً حجج الضبط الدقيق التي تقوم على الكيمياء والفيزياء وعلم الكون. ومن ثم، يمكننا بكل تأكيد أن نقول إن كلاً من الضبط الدقيق في الكون على المستوى الفيزيائي، وقدرة العمليات الكونية على إنتاج الحياة العضوية عن طريق التطور وفائدتهما في ظهور الحياة الإنسانية يمثلان اثنين من الأدلة القوية على وجود ذكاء خلاق.

ولذلك، لا عجب أن الكثير من العلماء اقتنعوا بهذه النظرية التطورية التي تؤمن بالله الخالق بدءًا من “آسا جراي” وكذلك “ريتشارد أون” في عصر داروين وحتى الآن. وقد كتب الراحل “ستيفن جاي جولد” تعليقاً على ذلك: «إما أن نصف زملائي في منتهى الغباء، أو أن علم الداروينية متوافق تماماً مع المعتقدات الدينية التقليدية، ومتوافق بالقدر نفسه مع الإلحاد».

ومن كبار علماء الأحياء المعاصرين في بريطانيا ممن يؤمنون بالتطور وبالخلق، وهم تحديداً مسيحيون: السير “جيليان برانس” زميل الجمعية الملكية والمدير السابق لحدائق كيو في لندن المعروفة عالمياً، السير “برايان هيب” زميل الجمعية الملكية ونائب رئيس الجمعية الملكية سابقاً، “بوب وايت” Bob White زميل الجمعية الملكية وأستاذ الجيولوجيا بجامعة كامبريدج، “سيمون كونواي موريس” Simon Conway Morris زميل الجمعية الملكية وأستاذ علم أحياء الحفريات بجامعة كامبريدج، “سام بري” Sam Berry أستاذ علم الأحياء التطوري بجامعة لندن، “دنس ألجزاندر” Denis Alexander مدير “معهد فارادي” Faraday Institute في كامبريدج.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية نجد “فرانسيس كولينز” مدير مشروع الجينوم البشري Human Genome Project الذي يفضل مصطلح “بيولوجوس” BioLogos[2] على مصطلح التطور الخلقي Theistic Evolution[3]. وجميعهم يرفضون قطعاً أي محاولة لاستنتاج الإلحاد من نظرية التطور ويعتبرونها محاولة معيبة. وكما يشير “أليستر ماجراث” Alister McGrath: «إن الفجوة المنطقية بين الداروينية والإلحاد كبيرة للغاية ويبدو أن “دوكينز” يفضل اللجوء للبلاغة، بدلاً من الأدلة لسد هذه الفجوة».

أما “دنس ألجزاندر” يخطو خطوة أبعد عندما يقول إن «نظرية التطور الداروينية مهما تنوعت استخداماتها الأيديولوجية منذ 1859، تخلو أساساً من أي معنى ديني أو أخلاقي، ومن يحاولون أن يشتقوا منها هذا المعنى مخطئون». وهو ما لابد أن يختلف معه “ريتشارد دوكينز” وآخرون اختلافاً جذرياً.

ويقول “ستيفن جاي جولد” إن «العلم لا يمكنه (بأساليبه المشروعة) أن يتخذ قرارات فاصلة في قضية وجود الله. فنحن لا نؤكدها ولا ننكرها. ولكن بصفتنا علماء لا يمكننا التعليق عليها أصلاً.»

وأولئك العلماء الذي يعتقدون أنه لا يمكن القول بأن علم الأحياء التطوري ينطوي على أي معان تؤيد الإيمان بالله الخالق أو الإلحاد يرون أنه لا حاجة لنا أن نربط التطور بهذا السياق، وإن كانوا لا ينكرون أن العلم يمكنه أن يدلي بدلوه في قضية العلاقة بين العلم والدين. فمثلاً من يؤمن منهم بالخلق يميل لتأييد حجج الضبط الدقيق التي ذكرناها سلفاً.

والحقيقة أنه لا يمكننا أن نجزم أن التطور البيولوجي (أياً كان نطاقه) يتطلب كوناً مضبوطاً بدقة لدرجة أن الحجج المتعلقة بالطبيعة أو حالة التطور لا تستطيع إضعاف الحجج المقدمة في هذا الكتاب حتى الآن. ولهذا السبب، وتجنباً لاستغلال التطور في زيادة حدة النقاش وليس لمزيج من الاستنارة، قد نظن أنه من الملائم أن نتوقف هنا ونختم مناقشتنا. ولكن لا بد الآن أن نوضح سبب اعتقادنا أنه ليس بوسعنا الاسترخاء والاستمتاع بهذه الرفاهية رغم ما ينتظرنا من أخطار إن قررنا الاستمرار في المناقشة.

مصممون غير مصممين:

ما السر إذن في الإصرار على أن التطور يعني ضمناً الإلحاد؟ الحجة التي تقول إن وجود آلية لا يلغي عمل الفعل الذكي تبدو مقنعة منطقياً للكثير من العلماء، مما يثير حيرتهم حول سبب إصرار العديد من العلماء حتى الآن على أن التطور يعني الإلحاد، وخاصة في ضوء العبارات الحذرة للبعض منهم مثل “هكسلي” وكذلك “جولد”.

سنأخذ شرح “دانيل دنت” نموذجاً. فهو يقول إنه رغم أننا نتفق على أن وجود آلية لا يلغي عموماً وجود مصمم من الوجهة المنطقية، فألية التطور التي اكتشفها داروين على وجه الخصوص لا تحتاج في الحقيقة لمصمم. وطبقاً لما يراه “دنت” يعتبر الاعتقاد أنها تحتاج لمصمم ينم عن عدم فهم الآلية التطورية على حقيقتها. فهو يعترف أن «العمليات الأوتوماتيكية هي نفسها غالباً ما تكون خلائق شديدة الذكاء…

فنحن ندرك أن مخترعي نقل الحركة الأوتوماتيكي في السيارة وفتح الباب الأوتوماتيكي لم يكونوا بلهاء، وأن عبقريتهم تكمن في قدرتهم على خلق شيء يمكنه أن يفعل شيئاً “ذكياً” رغم عدم قدرته على التفكير فيه.» ثم يستطرد قائلاً إن البعض (مثل “تشارلز كينجزلي” المذكور آنفاً) ظنوا أن الله قام بعمله الخلقي عن طريق تصميم مصمم أتوماتيكي.

ولكن “دنت” يأتي بعدئذ إلى نقطته المحورية إذ يزعم أن ما اكتشفه داروين هو عمليه من نوع مختلف (عملية الانتخاب الطبيعي) وزعت العمل “التصميمي” على مدار فترة طويلة من الزمن واحتفظت بما أنجز في كل مرحلة. وهو ما يعني أن الانتخاب الطبيعي يصمم على نحو ما دون أن يكون هو مصمماً ودون أن يكون لديه غرض أمام ناظريه. ويصف “دنت” هذه العملية بأنها “بلا عقل، وبلا دافع، وميكانيكية.»

وأول ما نلحظه هنا أيضاً أن اللغة المستخدمة تبدو غامضة للوهلة الأولى. إلا أن “دنت” يستطرد موضحاً أنه يقصد أن الآلية الداروينية بلا عقل وبلا دافع، بمعنى أنها لا تملك عقلاً وليس وراءها دافع يحركها. فهي آلية بلا دافع Agentless. «شئت أم أبيت، فظواهر مثل هذه [DNA] تعكس قوة الفكرة الداروينية في صميمها.

ألا وهي أن آلة جزيئية صغيرة أوتوماتيكية جامدة لاشخصانية عديمة الفكر والعقل تمثل الأساس النهائي لكل ما في الكون من فعل، وبالتالي لكل ما فيه من معنى، ووعي». إن “دنت” بلغة أرسطو يزعم أن طبيعة العلة الفاعلة (التطور) هي التي تستبعد وجود علة غائية (قصد إلهي).

وبالتالي، فالزعم الأول ليس له أي أهمية وفقاً لتحليل “دنت” ولكن هذا لا يعني طبعاً كونه عديم الأهمية، إذ أننا لا بد أن نتأكد من صحة هذا التحليل.

السؤال الجريء المسكوت عنه:

أقصد بذلك أن نبحث الزعم الثاني الذي يمكن تلخيصه في السؤال ما إذا كانت الآلية التطورية يمكنها أن تتحمل كل ما يوضع عليها من أعباء. والسؤال الأكثر تحديداً هو: هل صحيح ما يزعمه “دوكينز” من أن الانتخاب الطبيعي لا يفسر شكل الحياة فحسب بل يفسر وجود الحياة نفسه؟

ولكن طرح هذا السؤال هو أمر في غاية الخطورة. بل إن الإجتراء على التشكك في ثبات سرعة الضوء لا يثير الإعصار الذي يثار ضد من يجرؤ على التساؤل في صحة جوانب معينة في التركيب الدارويني الحديث. والسؤال حقيقة يستفز “دوكينز” إلى الحد الذي يدفعه إلى الإعلان عن اعتقاده في شيء مطلق (على غير المتوقع): «إن التقيت بشخص يزعم أنه لا يؤمن بالتطور، عندئذ ثق ثقة مطلقة أنه جاهل، أو غبي، أو مجنون (أو شرير، وإن كنت لا أفضل أن آخذ هذا الوصف في الحسبان)».

وحتى هذه الصياغة «يزعم أنه لا يؤمن بالتطور» تبين مدى رغبة “دوكينز” في ألا يصدق أنه من الممكن لأي شخص أن يشكك شكاً حقيقياً، فربما ما زال هناك ولو احتمال بسيط أن يكون زعمه غير مطابق لما يؤمن به فعلياً، أو أنه لا يفهم ما يقول.

ولذلك، فأنا الآن باستمراري في المناقشة أواجه خطورة الحصول على شهادة الجنون من “دوكينز”. فلم لا أقنع بما وصلت له حتى الآن في محاججتي؟ لأن شدة الاعتراض تثير اندهاشي. ما السر وراء هذا الرفض العنيف؟ وفضلاً عن ذلك، لماذا يشتد الاعتراض في هذا المجال من مجالات البحث الفكري على وجه الخصوص دون غيره لدرجة أن أسمع أحد العلماء البارزين (الحاصل على جائزة نوبل) يقول في محاضرة عامة في أكسفورد: «يجب ألا تشك في التطور»؟ لقد جرؤ العلماء على التشكك في كل شيء حتى في نيوتن وأينشتاين.

وقد نشأ معظمنا (وأجرؤ على القول إنها كانت تنشئة صحيحة!) على أن الاعتقاد بأن التشكك في الحكمة السائدة من أهم السبل لنمو العلم. فكل العلوم مهما كانت صلابتها تستفيد من التشكك المستمر فيها. فلماذا يعتبر الشك في التطور من المحرمات؟ ما السر في أن هذه النظرية تحديداً هو الوحيدة في العلم التي تمثل منطقة محظورة ضد الشك؟

وأحد علماء الحفريات الصينيين البارزين “جين بوان تشن” Jun-Yuan Chen، وهو مسيحي، صادف هذه المشكلة عند زيارته للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1999. فقد قادته اكتشافاته المذهلة لمخلوقات حفرية غريبة في “تشنجيان” Chengjiang إلى التشكك في فكر التطور التقليدي. وطرح نقد بأسلوب أكاديمي دقيق في محاضراته، إلا أنه لم يجد صدى من مستمعيه، مما أثار دهشته ودفعه أخيراً أن يسأل أحد مضيفيه عن سبب ذلك.

فقال له إن العلماء في الولايات المتحدة لا يعجبهم سماع هذا النقد لنظرية التطور. فأجاب مسروراً بأن الفرق بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين كما يبدو له هو: «إننا في الصين نستطيع نقد داروين، ولا نستطيع أن ننقد الحكومة. ولكنكم في أمريكا تستطيعون أن تنتقدوا الحكومة، ولا تستطيعون أن تنتقدوا داروين.»

لذا، قررن أن أقبل المخاطرة، وهي في الحقيقة مخاطرة مزدوجة لأني عالم رياضيات ولست عالم أحياء. ولكني أستند في ذلك إلى أن علماء الأحياء من داروين إلى “دوكينز” كانوا من الكرم حتى أنهم كتبوا للعامة من الأذكياء على أساس أنهم افترضوا أن الأشخاص ذوي القدرات الفكرية العادية يمكنهم أن يفهموا أفكارهم العلمية. والنتيجة بالتأكد أن أصحاب الذكاء المتوسط أصبح من حقهم التعبير عن اعتراضهم عندما يجدون أن الأفكار المطروحة عليهم ليست مرضية.

وأضيف أنهم يكتسبون مزيداً من القدرة على الاعتراض عندما يصادفون تقييمات للداروينية الحديثة مثل تقييم عالمة الأحياء المرموقة “لين مارجوليس” Lynn Margulis: «مثل طعام سكري يشبع شهيتنا مؤقتاً، ولكنه يحرمنا من الأطعمة ذات القيمة الغذائية الأعلى، كذلك الداروينية الحديثة تشبع فضولنا الفكري بمجردات خالية من التفاصيل الحقيقية، سواء أكانت تتعلق بالتمثيل الغذائي، أو الكيمياء الحيوية، أو البيئة، أو التاريخ الطبيعي».

ولكن قبل أن أخاطر أطرح السؤال الجريء المسكوت عنه، أود أن أشجع القارئ أن يتريث ولا يضع الكتاب جانباً لأني لا أنوي أن أنكر ما يلعبه الانتخاب الطبيعي من دور مهم فيما نراه من تنوعات في عالم الأحياء المحيط بنا، كما أوضح داروين ببراعة. ولكن الأسئلة التي سأطرحها تتعلق بما إذا كانت نظرية التطور قادرة على تحمل كل العبء الملقى على عاتقها. ولكن لا أشك أنها قادرة على تحمل بعض العبء.

ولكن لما كان الكثيرون يرون أن حتى هذا السؤال المتواضع يعد سؤالاً انتحارياً، أود أن أطمئن القارئ إلى أنني إن كنت قد اخترت ميتتي، فقد أعددت بالفعل شاهد قبر مختصر:

هنا يرقد جثمان “جون لنكس”

تسألني: لماذا يرقد في هذا الصندوق الخشبي؟

مات بمرض أبشع من الجدري

الانحراف عن الفكر الدارويني

ولذلك، من وراء قبري المنتظر، إن جاز التعبير، أود أولاً أن أوضح سبب شدة الاعتراض على الشك في التطور من وجهة نظري آملاً أن أمهد بذلك الطريق لمناقشة ذات المعنى.

نبدأ بنقطة أشرنا إليها آنفاً، ألا وهي العلاقة الغريبة أو الفريدة بين نظرية التطور والافتراضات الفلسفية والمتعلقة بالمنظور الفلسفي.

علاقة التطور بالفلسفة:

 اعتراف “ستريكبرجر” المذكور سلفاً أنه يرى أن الحماس لنظرية التطور يرجع ولو في جزء منه إلى محاولة إزاحة الله، يدفعنا للتساؤل عن ارتباط نظرية التطور بالميتافيزيقا. وهو ما قد صرح به “مايكل روس”، وهو فيلسوف تطوري بارز، في محاضرة رئيسية أمام الجمعية الأمريكية للنهوض بالعلم American Association for the Advancement of Science سنة 1993 حيث زعم أن التطور يمثل ديانة علمانية للكثير من التطوريين.

ويذكرنا “كولن باترسون” Colin Patterson بتحذير “بوير” أن حتى النظرية العلمية يمكن أن تتحول إلى موضة فكرية، بديلة للدين، وتصبح عقيدة راسخة، مضيفاً أنه «من المؤكد أن هذا ينطبق على نظرية التطور.» أما “فيليب جونسون” Phillip Johnson من “جامعة كاليفورنيا” University of California في “بركلي” الذي فعل الكثير لإثارة مناقشات عالية المستوى حول هذا الموضوع، فقد أشار إلى «الخطورة هنا تكمن في توسيع فرضية منهجية مفيدة في أغراض محدودة حتى تحولت إلى مطلق ميتافيزيقي».

ومنذ فترة طويلة وصف “دونالد ماكيي” Donald Mckay، الخبير في دارسة شبكات التواصل في المخ، الكيفية التي حدث بها هذا التحول: «بدأت الاستعانة بنظرية “التطور” “Evolution” في علم الأحياء، باعتبارها بديلاً لله على ما يبدو. إن كان ذلك قد حديث في علم الأحياء، فما المانع أن يحدث في مجالات أخرى؟ وسرعان ما تم تحوير المصطلح بحيث يتحول من فرضية فنية متعلقة بقضية محددة… إلى مبدأ ميتافيزيقي إلحادي، والاستعانة به تشفي الشخص من أي رعشات لاهوتية تنتابه أمام مرأى الكون المهيب.

إن “المذهب التطوري” “Evolutionism” عندما كتب بحرف E كبير ورفع دون وجه حق إلى مرتبة نظرية التطور العلمية (التي لم تعطه أي مبرر في الحقيقة) أصبح الاسم الذي يطلق على فلسفة كاملة مضادة للدين لعب فيها “التطور” دور إله شخصاني إن جاز التعبير باعتباره “القوة الحقيقية في الكون”».

وقد أدرك “سي. إس. لويس” هذه القضية قبل ذلك. وكان كمن ينبئ بما سيحدث مستقبلا عندما أوضح في مقال بعنوان “جنازة أسطورة عظيمة” “The Funeral of a Great Myth” أنه «علينا أن نميز جيداً بين التطور باعتباره نظرية بيولوجية، والمذهب التطوري الرائج… الذي يعتبر أسطورة دون أدنى شك.» ويؤسس “لويس” هذا التصريح أولاً على الترتيب الزمني: «لو لم يكن المذهب التطوري (كما يتخيل نفسه) أسطورة، بل كان الأثر الفكري المشروع للنظرية العلمية على عقول العامة، لكان قد نشأ عقب انتشار النظرية». ولكنه يستطرد قائلاً إن هذا لم يحدث. فمن الناحية التاريخية، ظهرت فلسفة المذهب التطوري قبل نظرية التطور البيولوجية بفترة طويلة.

أما الأساس الثاني فهو الدليل الداخلي الذي يقدمه “لويس” على زعمه. «المذهب التطوري… يختلف في محتواه عن التطور كما يعرفه علماء الأحياء الحقيقيون. فالتطور عند عالم الأحياء يمثل فرضية. وهو يتناول عدداً من الحقائق أكبر مما تتناوله أي فرضية أخرى في سوق الأفكار. ومن ثم، فهو يحظى بقبول العالم إلا إذا ظهر مقترح جديد يتناول عدداً أكبر من الحقائق بعدد أقل من الافتراضات. وعلى أقل تقدير هذا هو ما أظن أن معظم علماء الأحياء يتفقون عليه.

إلا أن البروفسور “د. م. س. واطسون” D. M. S. Watson لا يجهد نفسه كثيراً. فهو يرى أن التطور «مقبول بين علماء الحيوان، لا لأنه خضع للملاحظة أثناء حدوثه ولا… لأنه يمكن إثبات صحته بالأدلة المتسقة منطقياً، ولكن لأن البديل الوحيد، ألا وهو الخلق الخاص Special Creation لا يصدق.» وهو ما يعني أن الأساس الوحيد لتصديق التطور ليس تجريبياً بل ميتافيزيقياً، عقيدة جامدة يعتنقها الميتافيزيقي قليل الخبرة الذي يصعب الخلق الخاص. ولكني لا أظن كون الأمر بهذه البساطة.» وإني أتساءل عما كان سيقوله “لويس” لو كان على قيد الحياة اليوم.

النتائج المنطقية المتضمنة في الفلسفة الطبيعية: التطور بصفته ضرورة فلسفية:

ملاحظة “لويس” تصل بنا إلى لب القضية. بينا آنفاً أن الفلسفة الطبيعية لا تنتج عن التطور البيولوجي (تذكر الزعم الأول)، ولكن هل يمكن أن نستنتج التطور البيولوجي من الفلسفة الطبيعة؟ أي سنفترض أن الفلسفة الطبيعية صحيحة. عندئذ فإن الضرورة المنطقية وحدها تستلزم تفسيراً تطورياً للحياة بغض النظر عن أي دليل يدعمها. وإلا ما هي الاحتمالات الأخرى؟ فإن كانت نقطة انطلاقنا مثلاً هي الفرضية المادية بأن كل ما لدينا هو المادة أو الطاق والقوى الفيزيائية، إذن ليس أمامنا سوى خيار واحد: المادة أو الطاقة مع قوى الطبيعة أنتجتا الحياة على مدار الزمن، وهو ما يمثل نوعاً من التطور.

وليس جديداً أن نقول إن التطور يمثل ضرورة فلسفية من منظور الفلسفة الطبيعية والمادية. فقد أدرك الفلاسفة هذه الحقيقة قبل “دوكينز” وداروين بمئات، بل بآلاف السنين. فمثلاً أبيقور الفيلسوف المادي الإغريقي استخدم هذا المنطق تحديداً لاشتقاق نظرية تطورية من نظرية ديموقريطوس الذرية. وأقوى تعبير عن النظرية الأبيقورية نجده في قصيدة De Rerum Natura (“في طبيعة الأشياء” “On the Nature of Things” أو “في طبيعة الكون” “On the Nature of the Universe” كما تترجم غالباً) اللاتينية التي كتبها الشاعر الروماني لوكريشوس نحو منتصف القرن الأول قبل الميلاد.

ويطلق “بنيامين ويكر” Benjamin Wiker على لوكريشوس لقب “أول دارويني” في دراسة تفصيلية أجراها عليه حديثاً ويزعم أن لوكريشوس الذي شهدت فلسفته بعثاً جديداً في عصر النهضة الأوروبية يجب أن يعتبر الأب الفكري للفلسفة الطبيعة المعاصرة.

ومن ثم، فنحن نواجه في المحيط العلمي المعاصر موقفاً في منتهى الغرابة حيث تقف واحدة من أكثر النظريات العملية تأثيراً، وهي التطور الكبير أو “الماكرو تطور” Macroevolution البيولوجي في علاقة وثيقة مع الفلسفة الطبيعية لدرجة أنها يمكن أن تستنتج منها مباشرة، أي حتى دون الحاجة للبحث عن أي أدلة كما يتبين صراحة من حجج لوكريشوس القديمة.

وهو موقف غريب من نوعه لأنه يصعب أن نجد نظرية علمية أخرى في مثل هذا الموقف. تخيل مثلاً استنتاج نظرية نيوتن في الجاذبية أو نظرية أينشتاين في النسبية أو نظرية الكهروديناميكا الكمية من مبدأ أو منظور فلسفي، سواء أكان المبدأ المادي أو الطبيعي أو حتى مبدأ الإيمان بالله الخالق. ما من سبيل لفعل ذلك. ولكن مع التطور، يمكن فعل ذلك، كما رأي لوكريشوس وكما يرى أي شخص يفكر في الأمر قليلاً.

ضغط النموذج المعرفي:

لا شك أن التشابه اللافت للنظر بين نظرية علمية ومنظور فلسفي لا يدل على صحة هذه النظرية أو خطئها. إلا أنه يعني فعلياً احتمال وجود ضغط فلسفي هائل من البديهيات المفترضة مسبقاً a priori التي يقوم عليها النموذج المعرفي Paradigm الخاص الطبيعية أو المادية السائدة للحد الذي لا يخضع مع جوانب النظرية العلمية للتحليل النقدي الشامل والدقيق الذي يجب أن يميز العلم بكل أشكاله.

وقد حذر “توماس كون” Thomas Kuhn من النماذج المعرفية التي تنتج ما يشبه الصندوق الجامد، مما يؤدي لإهمال الأشياء التي لا تتناسب مع حجم الصندوق. فإن ثبتت صحة شيء منها، من السهل جداً تجاهل الأدلة المؤيدة له لأنها تتعارض مع النموذج، أو رفضها دون تمعن باعتبارها غير ذات صلة. ولتجنب هذا الخطر، أكد “ريتشارد فاينمن” أنه على المرء أن يحرص على رصد كل الأدلة المضادة لنظرياته، وعليه أن يبذل قصارى جهده في دراستها، لأن أسهل أنواع الخداع هو خداع الإنسان لنفسه.

ولكن المؤسف أن تحذيرات “كون” وتحذيرات “فاينمن” غالباً ما لا تحظى باهتمام، مما يجعل التشكك في التطور، حتى إن كان على أسس علمية، مهمة محفوفة بالمخاطر. وذلك لأنها في نظر الكثيرين تعادل التشكك فيما يرونه حقيقة عظمى تقتضيها الضرورة الفلسفية. وهكذا يواجه المتشكك خطورة أن يصنف ضمن المجانين المتطرفين، هذا إن لم يعط شهادة بذلك. ولكن ما يثير السخرية أن ذلك الموقف هو عين ما واجهه جاليليو.

فالتشابه واضح جداً بين المذهب الأرسطي الذي ساد في عصره والمذهب الطبيعي الذي يسود عصرنا الحاضر. لقد قبل جاليليو أن يواجه خطورة الشك في أرسطو، ولا يخفى على أي منا ما حدث له. ولا يخفى علينا أيضاً أي الفريقين كان على صواب. والسؤال هو: هل نتعلم أي شيء من هذا الحدث؟ أم هل لا بد أن يحظى داروين بالحماية التي حظي بها أرسطو؟ أو لم يكن ثبات الأرض حقيقة واضحة آنذاك؟

ويسير عالم الوراثة “ريتشارد ليونتن” على نهج مشابه لنهج “دوكينز” مؤكداً بكل ثقة حقيقة التطور إذ يقول «حان الوقت… لنصرح أن التطور حقيقة، وليس نظرية… الطيور نشأت من اللاطيور، والبشر من اللابشر. ولا يمكن لأي شخص يدعي أدنى درجات الفهم للعالم الطبيعي أن ينكر هذه الحقائق إلا إذا كان يمكنه أن ينكر أن الأرض كروية، وتدور حول محورها وتدور حول الشمس».

وبعد أن رأينا ما يحكم “ليونتن” من فلسفة مادية مفترضة بديهياً (انظر الفصل الثاني) يمكننا أن نرى احتجاجه في سياقه المناسب، أي يمكننا أن ندرك أنه ليس أمامه خيار آخر يتلاءم مع هذه الفلسفة. إلى أن هذا الاعتراض العنيف يرجع في جزء منه إلى الغموض الذي يكتنف تعريف مصطلح “التطور”.

 

[1] يعرف “قاموس أكسفورد” وحدة الوجود بأنها الاعتقاد الذي ينظر لله والكون باعتبارهما وحدة واحدة، أو يعتبر الكون تجلياً لله. ويشار أيضاً لهذه العقيدة بتعبير كل شيء هو الله. (المترجم)

[2] الكلمة عبارة عن مزيج من لفظة “بيو” bio– أي “حيوي” أو “حي” وكلمة “لوجوس” Logos اليونانية التي تعني “الله الكلمة” كما نعرفها في المفهوم الكتابي في العهد الجديد. وهي الاسم الذي أطلقه “فرانسيس كولينز” على منظمة أسسها بهدف إبراز التناغم بين العلم والإيمان الكتابي بتقديم منظور تطوري للخلق (http://biologos.org)، تم الاطلاع عليه بتاريخ 24/6/2015 (المترجم).

[3] يشير إلى الاعتقاد بأن الله خلق كافة أشكال الحياة على مدى فترة طويلة عن طريق عملية التطور كما يصفها التركيب الحديث أو أي من صوره (www.sawtonline.org/evolution-creation-dectionary)، تم الاطلاع عليه بتاريخ 24/6/2015 (المترجم).

تصميم الغلاف الجوي – جون ليونكس

Exit mobile version