القاضي، والملك العبد، وسطح العلبة
الخلاصة: القاضي، والملك العبد، وسطح العلبة
“في النهاية سينقسم البشر إلى نوعين: من يقولون لله: لتكن مشيئتك، ومن يقول لهم الله في النهاية: لتكن مشيئتكم”.
سي. إس. لويس
القاضي
يَمْثُل أحد الشبان أمام القاضي بتهمة السكر أثناء قيادة السيارة. وعندما ينادي حاجب المحكمة اسمه، تعم قاعة المحكمة دهشة عارمة؛ المدعى عليه ابن القاضي! وكم يتمنى القاضي أن يكون ابنه بريئاً، ولكن الدليل لا يُدحض. إنه مدان.
ماذا يفعل القاضي؟ إنه محصور في مأزق بين العدل والحب. إن كان ابنه مذنباً، فهو يستحق العقاب. إلا أن القاضي لا يريد أن يعاقب ابنه لحبه الجم له.
ولكنه يصدر الحكم كارهاً: «يا بني، إما أن تدفع غرامة قدرها 5000 دولار أو تدخل الحبس».
فيرفع الابن عينيه إلى القاضي ويقول: «ولكن يا أبي أعدك أن أكون صالحاً من الآن فصاعداً، سأتطوع في الأماكن التي تقدم الطعام للمحتاجين. وسأزور المسنين. بل سأفتح داراً للعناية بالأطفال الذين تعرضوا لإساءات. ولن أرتكب أي خطأ فيما بعد. أرجوك أن تطلقني».
وهنا يسأل القاضي: «هل ما زلت مخموراً؟ لا تستطيع أن تفعل كل ذلك. بل حتى إن استطعت، أعمالك الصالحة في المستقبل لا تستطيع أن تغير الواقع الحالي من أنك مدان بالسكر أثناء القيادة». طبعاً القاضي يدرك أن الأعمال الحسنة لا يمكنها أن تمحو السيئات. فالعدالة التامة تقتضي أن يعاقب ابنه على ما اقترف.
ومن ثم يكرر القاضي قائلاً: «آسف يا ابني. على قدر ما أريد أن أطلقك، فإني مقيد بالقانون. وعقوبة هذه الجريمة غرامة 5000 دولار أو الحبس».
ويتوسل الابن إلى أبيه قائلاً: «ولكن يا أبي أنت تعرف أني لا أملك 5000 دولار. لا بد من وجود طريقة أخرى للنجاة من الحبس».
فيقف القاضي ويخلع رداءه، وينزل من على منصته العالية إلى أن يصل لمستوى ابنه. وإذ تلتقي عينا الأب بعيني ابنه، يدخل الأب يده في جيبه ويخرج خمسة آلاف دولار ويمد يده للابن. يرتجف الابن، ولكنه يدرك أنه ليس أمامه إلا خيار واحد ليسترد حريته: أن يأخذ النقود. ليس في يده إلا أن يفعل ذلك. فالأعمال الصالحة أو التعهدات بالقيام بأعمال صالحة لا تطلقه حراً. الشيء الوحيد الذي ينقذ الابن من عقوبة مؤكدة أن يقبل هبة أبيه المجانية.
إن الله في موقف مشابه لموقف القاضي؛ فهو محصور في مأزق بين عدله ومحبته. فبما أننا جميعاً ارتكبنا الخطية في وقت ما في حياتنا، عدل الله اللامحدود يقتضي منه أن يعاقبنا على تلك الخطية. ولكن الله يريد أن يجد طريقة ليتجنب معاقبتنا انطلاقاً من محبته اللامحدودة.
ما الطريقة الوحيدة التي بمقتضاها يظل الله عادلاً دون أن يعاقبنا على خطايانا؟ ينبغي أن يعاقب بديلاً بلا خطية يحمل عقوبتنا طوعاً نيابة عنا (بلا خطية لأن البديل عليه أن يدفع ثمن خطايانا، لا خطاياه، ويحمل عقوبتنا طوعاً لأنه من الظلم أن يعاقب البديل رغماً عنه). فأين يجد الله بديلاً بلا خطية؟ لا من البشر الخطاة، ولكن فقط من نفسه. حقاً، الله نفسه هو البديل. فكما نزل القاضي من على منصته لينقذ ابنه، نزل الله من السماء لينقذك وينقذني من العقاب. وكلنا نستحق العقاب. أنا أستحق. وأنت تستحق.
تقول: «ولكني شخص صالح». قد تكون “صالحاً” مقارنة بهتلر أو حتى بجارك. ولكن مقياس الله لا هو هتلر ولا جارك. مقياسه هو الكمال الأخلاقي لأن طبيعته الثابتة هي الكمال الأخلاقي.
في الحقيقة، أكبر أسطورة دينية يصدقها الناس اليوم هي أن “صلاحك” يأتي بك إلى السماء. وبناء على هذه النظرة، لا يهم ما تؤمن به طالما أنك “شخص صالح” وأعمالك الصالحة تزيد عن السيئة. ولكنها نظرة خاطئة لأن الإله صاحب العدالة المطلقة ينبغي أن يعاقب على السيئات بصرف النظر عن عدد الصالحات التي أدّاها الشخص. فما إن نخطئ إلى الكائن الأزلي الأبدي، وكلنا أخطأنا، حتى نستحق العقاب الأبدي، وما من عمل صالح يمكنه أن يغير تلك الحقيقة.
وقد أتى يسوع ليقدم لنا مهرباً من ذلك العقاب ويهبنا حياة أبدية. والفردوس المفقود في سفر التكوين يصير الفردوس المُستَرد في سفر الرؤيا. فعندما قال يسوع: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلى بي» (يوحنا 14: 6)، لم يكن يطلق زعماً اعتباطياً بل تصريحاً يعكس واقع الكون. إن يسوع هو الطريق الوحيد لأنه ليس هناك إلا طريق واحد بمقتضاه يصالح الله عدله اللامحدود مع محبته اللامحدودة (رومية 3: 26). وإن كان هناك أي طريق آخر، فهذا يعني أن الله سمح أن المسيح يموت بلا سبب (غلاطية 2: 21).
وكما فعل الأب مع ابنه السكير، كذلك الله يفي بمتطلبات عدله بمعاقبة نفسه على خطايانا ويعرض على كل واحد منا أن يدفع عنه ثمن خطاياه. وكل ما يجب أن نفعله حتى ننال حريتنا أن نقبل الهبة. ولكن تبقى مشكلة واحدة: كما أن الأب لا يقدر أن يجبر ابنه على قبول الهبة، كذلك الله أيضاً لا يقدر أن يجبرك على قبول هبته. إن الله يحبك حباً جماً لدرجة أنه يحترم قرارك برفضه.
الملك العبد
بمقدورك أن ترفض المسيح لأنه ترك إرادتك الحرة حرة بحق. والكتاب فيليب يانسي Philip Yancey يقتبس بتصرف مثلاً من الفيلسوف المسيحي سورن كيركيجارد Soren Kherkegaard يساعدنا أن نفهم كيف يحاول الله أن يخلصنا ويحترم حريتنا في آن. وهو مثل يحكي قصة ملك يحب خادمة بسيطة:
لم يكن للملك مثيل بين كل الملوك. رجال الدولة كانوا يرتجفون أمام عظمته. ولم يكن من يجرؤ على التفوه بكلمة ضده، لأنه كان يملك من القوة ما يسحق كل معارضيه. لكن هذا الملك الجبار ذاب حباً لخادمة بسيطة.
كيف له أن يصرح لها بحبه؟ عرضه الملكي كان يغل يديه. إن أتى بها إلى القصر وتوجها بالجواهر وألبسها ثياباً ملوكية، مؤكد أنها لا تقاوم، فما من أحد يجرؤ على مقاومته. ولكن هل ستحبه؟ طبعاً ستقول إنها تحبه. ولكن هل ستحبه حقاً؟ أم ستعيش معه في خوف، وتضمر داخلها شعوراً عميقاً بالأسى على حياتها الضائعة. هل ستسعد بالقرب منه؟ كيف له أن يعرف؟
لو ركب مركبته الملوكية قاصداً الغابة حيث تسكن في كوخها، يصحبه موكب مسلح يلوح برايات زاهية الألوان. هذا المشهد سيدخل الرعب إلى قلبها. لم يرد أَمَةً خانعة، بل أراد حبيبة مساوية. أرادها أن تنسى أنه ملك وأنها خادمة مسكينة وأن تدع الحب يعبر الهوة الفاصلة بينهما. “لأنه بالحب وحدة يتساوى غير المتساويين”. كان هذا هو الاستنتاج الذي خلص إليه كيركجارد.
تلك هي بالضبط المشكلة التي يواجهها الله في بحثه عنك وعني، فإن أرعبنا بقوته قد لا نحبه بحريتنا (العلاقة بين الحب والقوة غالباً علاقة عكسية). وحتى إن احتفظنا بحريتنا قد لا نحب شخصه ولكن نحب عطاياه فقط. فماذا يفعل الله؟ إليك ما فعله الملك:
الملك، انطلاقاً من قناعته أنه لا يستطيع أن يرفع مقام الخادمة دون أن يسحق حريتها، قرر أن يتنازل فارتدى زي شخاذ واقترب من كوخها متنكراً في عباءة بالية فضفاضة تهفهف على جسده. ولكنه لم يكن تنكراً عادياً، بل هوية جديدة اتخذها لنفسه. لقد تخلى عن العرش ليفوز بقلبها.
وهذا هو عين ما فعله الله ليفوز بك وبي! لقد تنازل إلى مستوى البشر، بل إلى واحد من أدنى المستويات الاجتماعية، مستوى العبد. ويصف بولس تضحية المسيح على هذا النحو في رسالته إلى أهل فيلبي (2: 5-8):
فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً:
الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله.
لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس.
وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب.
تخيل خالق الكون يتواضع ويأتي ليخدم، ويتألم، ويموت على أيدي خلائقه التي خلق! لماذا يفعل ذلك؟ لأن حبه اللامحدود يلزمه أن يقدم الخلاص للمخلوقين على صورته. وكان اتخاذ صورة عبد هو السبيل الوحيد ليقدم لنا ذلك الخلاص دون أن يلغي قدرتنا على قبوله أو رفضه.
إن الاعتراف بأن المسيح أخذ “صورة عبد” ليخلصنا من خطايانا شيء، وأدراك حجم آلامه شيء آخر. معظمنا يأخذ هذا الأمر وكأنه شيء عادي. ولكن الطبيب سي. ترومان دافيز C. Truman Davis رسم صورة حية لآلام المسيح وصلبه اقتبسناها بتصرف فيما يلي.
آلام الملك العبد
السوط الذي يجلد به الجنود الرومان يسوع مزود بكرات حديدية صغيرة وقطع حادة من عظام الخراف. ويجرد يسوع من ثيابه، وتربط يداه في عمود. ويجلده جندي أو اثنان بالتبادل على الظهر والساقين. والجنود يصرخون في الضحية. وبينما يجلدون ظهره بكل قوتهم، تحدث الكرات الحديدية كدمات عميقة، وعظام الخراف تمزق الجلد والأنسجة. ومع استمرار الجلد تخترف الجروح العميقة العضلات الهيكلية وتتسبب في تمزق اللحم والنزيف. والألم والنزف يمهدان الطريق لحدوث هبوط حاد في الدورة الدموية.
وأخيراً، بعد أن ينهكوا من لعبتهم السادية، ينزعون الرداء من على ظهره بعد أن التصق بالدم المتجلط ومصل الدلم الذي في الجروح. ونزعه، الذي يشبه نزع ضمادة بعد عملية جراحية باستهتار، يتسبب في آلام مبرحة وكأنه يجلد من جديد. ثم تنزف الجروح مرة أخرى. واحتراماً للعادات اليهودية يلبسه الرومان ثيابه ثانية. ثم يربطون عارضة الصليب الأفقية الثقيلة على كتفيه، ويسير موكب المسيح المدان، واللصين، وفريق الإعدام في طريق الجلجثة.
ورغم كل محاولاته أن يسير منتصباً، حمل الخشبة الثقيلة مع الهبوط الحاد الذي نتج من كثرة ما فقده من دم كان يفوق الاحتمال، فيتعثر ويسقط، وخشب العارضة الخشن يحفر في جلد وعضلات الكتفين الممزقين. ويحاول أن ينهض ولكن العضلات البشرية تعرض لضغوط تفوق قدرتها على الاحتمال. وقائد المائة قلق يريد أن ينتهي من عملية الصلب، فيختار واحداً من الواقفين المخلصين من شمال أفريقيا، ويدعى سمعان القيرواني، ليحمل الصليب. ويسوع يتبعه وهو ما زال ينزف ويتصبب عرقاً بارداً رطباً من أثر الهبوط الحاد.
وأخيراً تنتهي الرحلة التي تبلغ أكثر من نصف كيلومتر من قلعة أنطونيا إلى الجلجثة. ومرة أخرى يجرد يسوع من ملابسه فيما عدا الإزار الذي يسمح به لليهود. ويبدأ الصلب. ويقدمون ليسوع خمراً ممزوجاً بمرارة، وهو مزيج مسكن خفيف، ولكنه يرفض أن يشرب. ثم يؤمر سمعان بأن يضع عارضة الصليب على الأرض، ويسوع يلقى فوراً على ظهره وينزل كتفاه على الخشب. ويتحسس قائد الجند الجزء الغائر في الناحية الأمامية من الرسغ.
ويدق مسماراً مربعاً ثقيلاً من الحديد المطاوع في الرسغ وفي الخشب حتى يغوص فيه بعمق. وسريعاً ينتقل إلى الجانب الآخر مكرراً العملية نفسها، وهو حريص على ألا يشد الذراعين أكثر من اللازم، ولكن يسمح بشيء من المرونة والحركة. ثم ترفع العارضة، ويسمر فيها عنوان يقول «يسوع الناصري ملك اليهود».
يسوع الآن على الصليب. وكلما يهبط لأسفل رويداً رويداً مع ازدياد ثقله على مسماري الرسغين، يشعر بألم مبرح مميت يضب أصابعه ويسري في الذراعين كالنيران إلى أن يتفجر في المخ، فمسمارا الرسغين يضغطان على الأعصاب المتوسطة.
وكلما يرفع نفسه لأعلى ليستريح من هذا العذاب الذي يكاد يمزقه، يلقي كل ثقله على المسمار المدقوق في قدميه، فيخترق المسمار الأعصاب التي تتخلل عظام مشط القدم فيسري الألم في جسده ناراً مشتعلة. وعند هذه المرحلة تحدث ظاهرة أخرى. فعندما يضعف الذراعان، تجتاح العضلات موجات عنيفة من الشد العضلي تعقد العضلات مسببة آلاماً حادة كأنها ضربات شديدة متصلة.
ومع هذا الشد العضلي يفقد قدرته على دفع نفسه لأعلى. ونظراً لأنه معلق على ذارعيه تشل عضلات الصدر، والعضلات التي بين الضلوع تفقد قدرتها على العمل. وبذلك يمكن دخول الهواء إلى الرئتين ولكن لا يمكن إخراجه بالزفير. ويسوع يصارع ليرفع نفسه ليأخذ ولو نفساً واحداً قصيراً. وأخيراً يتراكم ثاني أكسيد الكربون في الرئتين وفي مجرى الدم، والشد العضلي يضعف جزئياً. ومن آن لآخر يتمكن أن يرفع نفسه لأعلى ليقوم بالزفير ويستنشق الأوكسيجين الذي يبقيه على قيد الحياة. ومؤكد أنه في هذه الأثناء نطق بالجمل القصيرة السبع المسجلة في الأناجيل.
والآن تبدأ ساعات من ألم بلا حدود، نوبات متكررة من الشد العضلي والتقلصات، والاختناق الجزئي، وآلام مميتة بسبب تمزق الأنسجة نتيجة لتجريح ظهره وهو يحتك بالخشب الخشن كلما تحرك لأعلى ولأسفل. ثم يبدأ عذاب آخر. ألم شديد حاد في الصدر بسبب امتلاء التامور تدريجياً بمصل الدم، ثم ضغطه على القلب. وهنا كل شيء قد انتهى تقريباً. فقد بلغ فقدان سوائل الأنسجة حداً حرجاً.
والقلب الواقع تحت ضغط التامور يجاهد لضخ الدم الثقيل السميك البطيء في الأنسجة، والرئتان المتهالكتان تبذلان جهوداً مستميتة لسحب كميات ضئيلة من الهواء. والأنسجة التي أصيبت بجفاف حاد ترسل سيلاً من المثيرات للمخ. لقد اكتملت إرساليته الكفارية. وأخيراً يمكنه أن يسمح لجسده أن يموت. ومع آخر دفقة قوة، يضغط على المسمار بقدميه الممزقتين مرة أخرى ويشد ساقيه ويأخذ نفساً أعمق، وينطق بصرخته السابعة والأخيرة: «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي».
لقد احتمل يسوع كل هذا حتى نتصالح معه، حتى نخلص من خطايانا ونقول أيها الآب في يديك أستودع حياتي.
سطع العلبة
لقد بدأنا هذا الكتاب بالبحث عن “سطح العلبة” هذا اللغز الذي نسميه الحياة، وقلنا إننا إن وجدنا سطح العلبة، سنتمكن من الإجابة على أهم خمسة أسئلة تواجه كل إنسان. وبما أننا الآن نعرف، بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي، أن سطح العلبة هو الكتاب المقدس فإجابات هذه الأسئلة الخمسة هي:
1 – الأصل: من أين أيتنا؟ إننا كائنات مخلوقة، مصنوعة بشكل عجيب على صورة الله كشبهه (تكوين 1: 27؛ مزمور 139: 14).
2 – الهوية: من نحن؟ بما أننا مخلوقون على صورة الله كشبهه، إذن نحن مخلوقات لها قيمة عليا. فنحن نحظى بمحبة الله وبما منحنا إياه من حقوق وواجبات معينة (يوحنا 3: 16-18؛ 1: 12؛ غلاطية 4: 5).
3 – المعنى: ما الغرض من وجودنا هنا؟ لقد خلق آدم وحواء في حالة البراءة، ولكن اختيارهما للعصيان وضع الجنس البشري تحت العقاب وفقاً لعدل الله المطلق (تكوين 3: 6-19). ومنذ ذلك الحين، كل واحد منا أكد اختيار آدم وحواء بعصيانه (رومية 3: 10-12؛ 5: 12). ونحن نبقى في هذه الحالة الساقطة لكي نتمكن من اتخاذ قرارات حرة تحمل تداعيات أبدية. فهذه الحياة المؤقتة هي أرض اختيار الحياة الأبدية. والاختيارات التي تمجد الله (إشعياء 43: 7؛ يوحنا 15: 8) ويمكن أن تجلب لنا مكافآت أبدية تتضمن:
أ) قبول الفدية التي دفعها يسوع ليحررنا من العقاب الأبدي ويرحب بنا في محضره الأبدي (مرقص 10: 45؛ 1تيموثاوس 2: 6؛ عبرانيين 9: 15؛ لوقا 16: 9؛ يوحنا 14: 2).
ب) الخدمة كسفراء عن المسيح لنساعد الآخرين على اتخاذ نفس القرار (2كورنثوس 5: 17-21؛ متى 28: 19).
ج) التعلم من ضيقاتنا لكي نعزي الآخرين ممن هم في ضيق (2كورنثوس 1: 3، 4)، وإدراك أن ضيقاتنا تزيد من قدرتنا على الاستمتاع بالأبدية (2كورنثوس 4: 15 – 5: 1؛ 2بطرس 1: 5-11).
4 – الأخلاق: كيف يجب أن نعيش؟ بما أن الله أحبنا أولاً، علينا أن نحبه ونحب الآخرين (رومية 5: 8؛ 1يوحنا 4: 19-21). والحقيقة أن واجب الإنسان كله أن يتقي الله ويحفظ وصاياه (جامعة 12: 13، 14). وهو ما يتضمن تلمذة جميع الأمم (متى 28: 19) والتمتع بما يعطينا الله من طيبات (1تيموثاوس 6: 17).
5 – المصير: إلى أين نحن ذاهبون؟ إن عدل الله اللامحدود يقتضي أن يعاقبنا على خطايانا. ولكنه نظراً لمحبته اللامحدودة أخذ العقوبة على نفسه (إشعياء 53: 4، 10، 12؛ رومية 3: 26؛ 2كورنثوس 5: 21؛ 1بطرس 2: 24). وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي بمقتضاها يبقى عادلاً وفي الوقت نفسه يبرر الخطاة (يوحنا 14: 6؛ رومية 3: 26). إن هبة خلاصه من العقاب الأبدي مقدمة مجاناً للعالم أجمع (يوحنا 3: 16؛ أفسس 2: 8، 9؛ رؤيا 22: 17).
فلا يمكننا أن نكتسبها بالأعمال الصالحة ولا بأي استحقاق من أي نوع. والله يريد أن الجميع يخلصون من العقاب الأبدي الذي نستحقه جميعاً (1تيموثاوس 2: 4؛ 2بطرس 3: 9). ولكن بما أنه لا يقدر أن يقهرنا على حبه (الحب القهري تناقض)، ينبغي على كل منا أن يختار لنفسه من يعبد (يشوع 24: 15؛ يوحنا 3: 18).
مصيرك
من ستعبد؟ الله يترك ذلك الخيار بين يديك. فالحب لا يعرف سبيلاً آخر. ولكي يحترم الله حرية اختيارك جعل أدلة المسيحية مقنعة دون أن تكون قاهرة. فإن أردت أن تخمد الأدلة المحيطة بك من كل جانب أو تتجاهلها (رومية 1: 18-20)، بما فيها الأدلة المطروحة في هذا الكتاب. لك الحرية في ذلك. ولكن ذلك الفعل سيكون فعلاً إرادياً لا عقلانياً. تستطيع أن ترفض المسيح، ولكنك لا تستطيع أن تقول بصدق إن الأدلة لا تكفي للإيمان به.
وهو ما عبر عبه سي. إس. لويس خير تعبير عندما كتب: «في النهاية سنقسم البشر إلى نوعين فقط: من يقولون لله: “لتكن مشيئتك”، ومن يقول لهم الله في النهاية: “لتكن مشيئتكم”. كل من هم في الجحيم يختارونه، ولولا ذلك الاختيار الإرادي لما كان هناك جحيم. وما من نفس ترغب في الفرح بجدية وباستمرار يمكن أن يضيع منها هذا الفرح. فمن يطلب يجد. ومن يقرع يفتح له».
إن يسوع المسيح يمسك الباب مفتوحاُ. فكيف تدخل منه؟ لقد كتب بولس: «لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت. لأن القلب يؤمن به للبر، والفم يعترف به للخلاص» (رومية 10: 9، 10).
أنت تقول: «إني أومن أن يسوع قام من الأموات». حسناً. ولكن مجرد الإيمان أن يسوع قام من الأموات لا يكفي، بل يجب أن تضع ثقتك فيه. يمكنك أن تؤمن أن فتاة ما ستكون شريكة حياة رائعة، ولكن هذا لا يكفي لجعلها زوجة لك. ينبغي أن تتجاوز ما هو عقلاني وتنتقل إلى الإرادي. ينبغي أن تضع ثقتك في تلك الفتاة وتقول «أنا أثق فيك». وهو ما ينطبق على علاقتك بالله. فالثقة فيه ليست مجرد قرار عقلي بل قرار قلبي. كما قال أحدهم ذات مرة «المسافة بين السماء والجحيم حوالي 45 سنتيمتراً، إنها المسافة بين الرأس والقلب».
فماذا يحدث إذا اخترت بحريتك ألا تدخل من الباب الذي يمسكه يسوع مفتوحاً؟ لقد قال يسوع إنك ستبقى تحت الدينونة: «لأنه لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد» (يوحنا 3: 17،18). وهو ما يعني إنك ستظل مداناً ومنفصلاً عن الله للأبد. فالله سيحترم اختيارك ويقول لك: «لكن مشيئتك».
تقول: «الله لا يلقي أحداً في جهنم». صحيح. فإن رفضت يسوع، أنت تلقي بنفسك في جهنم. تقول: «إن الله سيحول غير المؤمنين إلى عدم». لا. لن يفعل ذلك. جهنم حقيقية. والواقع أن يسوع تحدث عن جهنم أكثر مما تحدث عن السماء. فالله لن يحول غير المؤمنين إلى عدم لأنه لن يدمر كائنات مخلوقة على صورته، وإلا كان ذلك هجوماً على نفسه.
(ما رأيك في أب أرضي قتل ابنه لمجرد أن الابن اختار ألا يفعل ما أراده الأب أن يفعله؟) إن الله من فرط محبته لا يمكن أن يدمر من لا يريدون أن يكونوا في محضره. واختيار الوحيد أن يضع من يرفضونه في الحجر الصحي. وهذا ما يفعله الجحيم، إنه يحجر على الشر لأنه معد.
تقول: «الله سيخلص الجميع». كيف؟ رغماً عنهم؟ إن البعض يفضلون أن يهلكوا على أن يتغيروا. إنهم يفضلون أن يستمروا في تمردهم على أن يُصلحوا. ومن ثم يقول الله: «ليكن لك ما تريد. يمكنك أن تستمر في عصيانك، ولكنك ستوضع في الحجر حتى لا تلوث سائر خليقتي». فضلاً عن ذلك، إنه ليس من قبيل المحبة أن يرسل الله أناساً لا يحتملون أن يقضوا ساعة واحدة في تسبيحه يوم الأحد إلى مكان يسبحونه فيه للأبد. فهذا سيكون “جحيماً” بالنسبة لهم!
تقول: «لا أستطيع أن أصدق أنه لا يوجد إلا طريق واحد لله». ولم لا؟ هل تحتاج إلى أكثر من طريق واحد للدخول إلى مبنى؟ لقد أثبتنا فلسفياً وكتابياً أن يسوع هو الطريق الوحيد للمصالحة بين العدل المطلق والمحبة المطلقة. وإن لم يكن ذلك صحيحاً، إذن الله أرسل يسوع ليموت ميتة بشعة بلا سبب.
تقول: «ولكن ماذا عن أولئك الذين لم يسمعوا مطلقاً؟» لماذا يؤثر ذلك على قرارك أنت؟ أنت سمعت.
«لأني لا أستطيع أن أؤمن بإله يعذب الناس في جهنم لمجرد أنهم لم يسمعوا بيسوع». من قال إن الله يفعل ذلك؟ أولاً، الله لا يعذب أحداً. فالجحيم ليس مكان تعذيب مفروض من الخارج، ولكنه مكان عذاب فرضه الناس على أنفسهم (لوقا 16: 23، 28). مؤكد أن الذين في الجحيم لا يرغبون فيه. ولكنهم يختارونه بإرادتهم. إن الجحيم مكان شنيع، ولكن أبوابه مغلقة من الداخل. ثانياً، قد يختار الناس الجحيم سواء سمعوا بيسوع أو لم يسمعوا به.
فالجميع يعرفون بوجود الله من السماء المرصعة بالنجوم فوقهم والقانون الأخلاقي بداخلهم (رومية 1: 18-20؛ 2: 14، 15). ومن يرفضون ذلك الإعلان الطبيعية سيرفضون يسوع أيضاً. إلا أن من يطلبون الله بصدق، سيكافؤون (عبرانيين 11: 6). وبما أن الله يريد أن الجميع يخلصون (أكثر مما تريد أنت – 2بطرس 3: 9)، إذن هو يضمن أن طالبيه يحصلون على ما يحتاجون من معلومات.
وبما أن الله عادل (تكوين 18: 25؛ مزمور 9: 8؛ رومية 3: 26)، إذن ما من أحد يجب أن يذهب إلى السماء سيذهب إلى جهنم، والعكس. وكما يقول سي. إس. لويس: «في الوقت الحال إن كنت قلقاً على من هم بالخارج، فإن أكثر الأفعال حماقة هو أن تبقى أنت نفسك بالخارج. إن المسيحيين الحقيقيين هم جسد المسيح، الكائن الحي الذي يعمل من خلاله. وكل إضافة لذلك الجسد تمكنه من أن يعمل المزيد.
فإن أردت أن تساعد الذين بالخارج، ينبغي أن تضيف خليتك الصغيرة لجسد المسيح، الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يساعدهم. فبتر أصابع شخص لن يساعده على القيام بمزيد من العمل».
تقول: «أنتم المسيحيين لا تريدون إلا أن تخيفوا الناس بجهنم». لا، إننا لا نريد إلا أن يعرف الناس الحق. وإن كان ذلك يخيفهم، فربما هذا هو ما يجب أن يحدث. مؤكد أننا لا نبتهج بما يقوله الكتاب المقدس عن الجحيم. وكم نتمنى لو لم يكن حقيقة. ولكن يسوع الذي هو الله علم به، ولأسباب وجيهة، لأنه يبدو أنه ضروري. وذلك لأنه بلا جحيم، لا تردع المظالم في هذا العالم، ولا تحترم اختيارات البشر الحرة، والخير الأعظم للفداء لا يتمم أبداً.
فإن لم تكن هناك سماء نسعى إليها وجهنم نهرب منها، لا شيء في هذا الكون يحمل أي معنى أعلى: اختياراتك، مسراتك، آلامك، حياتك وحياة أحبائك لا تعني شيئاً في نهاية الأمر. ونحن نكافح في هذه الحياة دون أي سبب أسمى، والمسيح مات بلا سبب. وبلا سماء ونار، يصبح هذا الكون ذو التصميم المذهل درجاً يصعد إلى اللامكان.
ويقول الملحد: «وماذا في ذلك؟ محتمل أن هذا الكون هو حقاً درج يصعد إلى اللامكان. فرغبتك في أن يكون للحياة معنى لا تعني أن لها معنى». صحيح. ولكن الأمر ليس مجرد أننا نرغب أن يكون للحياة معنى. فنحن عندنا أدلة على أن للحياة معنى.
ونختم بأعظم خبر على الإطلاق يمكن لأي شخص أن يسمعه. إن اختياراتك مهمة بحق. حياتك لها معنى أسمى. وبفضل المسيح، ما من أحد مجبر على الذهاب إلى الجحيم، ولكن كل إنسان يمكنه أن يقبل عطية خلاصه الأبدي المجانية. وهو أمر لا يتطلب أي جهد على الإطلاق. هل يتطلب شيئاً من الإيمان؟ نعم، ولكن كل اختيار، حتى اختيار رفض المسيح، يتطلب إيماناً. وبما أن الأدلة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي أن الكتاب المقدس صحيح، إذن قبول المسيح هو الاختيار الذي يتطلب أقل قدر من الإيمان. والاختيار لك. هل لديك من الإيمان ما يكفي لتصديق أي شيء آخر؟
تقول: «ما زال عندي شكوك وأسئلة». وماذا في ذلك؟ نحن أيضاً عندنا شكوك وأسئلة. كل شخص عنده شكوك وأسئلة. وكيف لا يكون الحال هكذا؟ فبصفتنا مخلوقات محدودة يجب ألا نتوقع أن نفهم كل شيء عن الله غير المحدود والكيفية التي يجري بها الأمور.
إن بولس نفسه لم يفهم هذه الأمور (رومية 11: 33-36)، والكثير من كُتاب العهد القديم عبروا عن شكوكهم، بل شكوا في الله نفسه[1]. ولكن بما أننا مخلوقات محدودة لا بد أن نتخذ قراراتنا على أساس الاحتمالات، يجب أن نصل لنقطة ندرك فيها أن الأدلة ترجح كفة دون الأخرى. فلن نصل أبداً إلى كل الإجابات. ولكن كما رأينا على صفحات هذا الكتاب، الإجابات المتوفرة أكثر من كافية لما يجعلنا نثق في صدق الله.
وأخيراً، هل فكرت أن تشك في شكوكك؟ فقط اسأل نفسك: «هل من المنطقي أن أشك في صحة المسيحية في ضوء كل هذه الأدلة؟» غالباً لا. الحقيقة أنه في ضوء الأدلة يجب أن يكون عندك شكوك أكثر في الإلحاد وفي كل منظومة عقائدية أخرى بخلاف المسيحية. وذلك لأنها ليست منطقية. ولكن المسيحية منطقية. إذن لتبدأ بالشك في شكوكك واقبل المسيح. فتصديق أي شيء آخر يتطلب إيماناً مفرطاً!
[1] للاطلاع على أمثلة لأسفار كتابية حيث يعبر الأشخاص عن شكوكهم وأسئلتهم بخصوص الله. انظر سفر أيوب. والكثير من المزامير، والجامعة، ومراثي إرميا.