بماذا علم يسوع عن الكتاب المقدس؟
بماذا علم يسوع عن الكتاب المقدس؟
“أخبرني مدرس العلوم في مدرستي الثانوية ذات مرة أن الكثير من مادة سفر التكوين خطأ. ولكن بما أن مدرس العلوم في مدرستي الثانوية لم يثبت أنه الله بالقيامة من الأموات، سأصدق يسوع ولن أصدقه”.
آندي ستانلي Andy Stanley
ويل لكم أيها المراؤون!
كان الكونجرس الأمريكي منعقداً في دورة مشتركة نادرة. ومن ثم، كان كل النواب البالغ عددهم 435 نائب وكل الشيوخ البالغ عددهم 100 حاضرين، وكانت كاميرات شبكة سي-سبان التليفزيونية C-SPAN-TV تباشر عملها. وقد اجتمع الأعضاء معاً لسماع كلمة من أحد أحفاد جورج واشنطن. ولكن ما ظنوه سيكون خطاباً مهذباً ذا نبرة تاريخية وطنية سرعان ما انقلب إلى توبيخ يبث على شاشات التليفزيون. فقد صرح حفيد واشنطن من الجيل السابع وهو يهز إصبعه ويرمق الحضور بنظرات حادة:
ويل لكم أيها المراؤون المتكبرون. إنكم مشحونون طمعاً ومنغمسون في ملذاتكم. إنكم تفعلون كل شيء من أجل المظاهر: تخطبون خطباً رنانة وتقفون أمام كاميرات التليفزيون هذه لتبهروا الجماهير. إنكم تسعون لاتخاذ المتكئات الأولى في الولائم وأهم المقاعد أينما ذهبتم. تحبون أن تسمعوا التحيات في مناطقكم ويدعونكم الجميع “شيخ” أو “نائب”. من الخارج تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم من الداخل مملؤون رياء وشراً. تقولون إنكم تريدون أن تطهروا واشنطن، ولكنكم حالما تصلون إلى هنا، تصبحون أبناء للجحيم أضعاف أولئك الذين تخلصتم منهم.
ويل لكم أيها المشرعون المراؤون. إنكم لا تعملون بما تعظون. فأنتم تضعون أحمالاً ثقيلة على المواطنين، ولكنكم بعدئذ تتهربون من القوانين التي وضعتموها.
ويل لكم أيها الفدراليون الأغبياء. إنكم تقسمون اليمين على تأييد الدستور والدفاع عنه، ولكنكم بعدئذ تبطلون الدستور بالسماح للقضاة أن يضعوا القوانين كما يشاؤون. ويل لكم أيها المراؤون العميان. تقولون إنكم لو عشتم في أيام الآباء المؤسسين، لما شاركتم معهم في الاستعباد، ولما وافقتم على أن العبيد من ممتلكات سادتهم ولصممتم أنهم بشر لهم حقوق راسخة. ولكنكم تشهدون على أنفسكم لأنكم اليوم تقولون إن الطفل قبل ولادته ملك أمه ولا حق له على الإطلاق! سيأتي عليكم كل دم زكي سفك في هذا البلد. أيها الثعابين، أولاد الأفاعي، لقد تركتم هذه القاعة المهيبة خراباً. كيف ستهربون من هلاك الجحيم!
طبعاً هذا الخطاب لم يحدث أبداً في الواقع (ولو حدث، لسمعت به حتماً). فمن يمكنه أن يكون بهذه الشِدة مع قادة الأمة؟ مؤكد ليس ممن يزعمون أنهم مسيحيون. هل أنت متأكد من ذلك؟
رغم أننا لسنا متأكدين من أن يسوع كان سيقول تلك العبارات لساسة اليوم، فالحقيقة أنه قال مثل هذه الأشياء لرجال الدين في عصره. ماذا؟! يسوع الرقيق الطيب؟ قطعاً. إذا قرأت متى 23، سترى أن الكثير من خطبتنا التخيلية مأخوذ بتصرف من خطاب يسوع الحقيقي الذي وجهه للجموع والفريسيين. إن يسوع الحقيقي عكس يسوع الرخو الذي اخترعه اليوم أولئك الذين يريدون أن يتعاملوا مع الأمور برخاوة. يسوع الحقيقي علم بسلطان ولم يتهاون مع الخطأ. فعندما كان رجال الدين مخطئين، كان يصدر أحكاماً عادلة ويعرف الجميع بتلك الأحكام. ومن يصحح الأخطاء أفضل من الله نفسه؟ وبما أن يسوع هو الله، إذن كل تعاليمه صحيحة.
إن الأناجيل التي تثبت صحتها تاريخياً تسجل تعاليم يسوع في الكثير من الموضوعات. إلا أن تعليم يسوع الأعمق أثراً هو ما يتعلق بالكتاب المقدس. فإن علم يسوع أن الكتاب المقدس هو كلمة الله، إذن الكتاب المقدس هو أول مصدر نستقي منه الحق الإلهي. فبم علم يسوع عن الكتاب المقدس؟
ماذا علم يسوع عن الكتاب المقدس؟
العهد القديم
علم يسوع أن العهد القديم كلمة الله بسبع طرق. فقد قال إنه:
1 – له سلطة إلهية: عندما جرب الشيطان يسوع، صحح يسوع كلامه بالاقتباس من العهد القديم. فقد قال: «“مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”… قال له يسوع: “مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك”…. حينئذ قال له يسوع: “اذهب يا شيطان! لأنه مكتوب: “للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد”» (متى 4: 4، 7، 10). لماذا يقتبس يسوع بكل هذه الثقة من العهد القديم لو لم يكن ذا سلطة مرجعية؟ لا بد أنه اعتبر العهد القديم مصدراً للحق حتى يطرد به أقوى أعدائه.
وفي الحقيقة يسوع ورسله دعموا موقفهم في اثنين وتسعين موضعاً بكلمة “مكتوب” (أو ما يقابلها) يعقبها اقتباس من العهد القديم. لماذا؟ لأن يسوع ورسله اعتبروا أسفار العهد القديم كلمة الله المكتوبة، ومن ثم تكون المرجعية النهائية للحياة.
2 – لا يزول: تتضمن الموعظة على الجبل نصاً محبوباً لدى المحافظين والليبراليين على حد سواء، وفيه زعم يسوع انه ولا حتى أصغر علامة ضئيلة في الأسفار المقدسة. أي ما يعادل نقطة على حرف”ن” أو شرطة على حرف “ط”، يمكن أن تزول. فقد صرح قائلاً: «لا تظنوا أين جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (متى 5: 17). لم يجد يسوع كلمات أقوى من هذه تعبر عن ثبات الكلمة المكتوبة.
3 – خال من الأخطاء المتعلقة بالحق اللاهوتي Infallible: في يوحنا 10 كان يسوع على وشك أن يرجم بتهمة التجديف. ورداً على هذا الموقف استشهد بالعهد القديم وقال: «ولا يمكن أن ينقض المكتوب» (يوحنا 10: 35). وهو ما يعني أنه عندما تعرضت حياته للخطر لجأ إلى حجة خالية من الأخطاء يستحيل أن تنقض، ألا وهي الأسفار المقدسة. وقد أكد بعدئذ حق الكتاب المقدس عندما صلى للتلاميذ قائلاً «قدسهم في حقك. كلامك هو حق» (يوحنا 17: 17).
4 – معصوم عصمة مطلقة من كل الأخطاء Inerrant: عندما حاول الصدوقيون أن يصطادوا يسوع بسؤال، قال لهم: «تضلون[1] إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله» (متى 22: 29). والمضمون أن الكتب المقدسة لا يشوبها أي خطأ. لأنه لا معنى أن يقول له يسوع: «تخطئون إذ لا تعرفون الكتب التي تخطئ أيضاً».
5 – صحيح تاريخياً: بالإضافة إلى ما صرح به يسوع عن سلطة العهد القديم الإلهية، واستحالة زواله، وخلوه من الخطأ، وعصمته المطلقة، فقد أكد اثنتين من أكثر قصص العهد القديم التي تتعرض للتشكيك: نوح (متى 24: 37، 38) ويونان (متى 12: 40). لقد تحدث يسوع عن هاتين القصتين باعتبارهما صحيحتين تاريخياً. وما المانع أن تكونا صحيحتين؟ إن المعجزات المرتبطة بكل من نوح ويونان هي أمر يسير بالنسبة لإله كلي القدرة خلق الكون. فنحن بذكائنا المحدود نشيد سفناً عملاقة ونبقي على البشر أحياء تحت الماء لمدة شهور. فلماذا لا يستطيع الله أن يفعل الشيء نفسه؟
ويسوع أكد أيضاً جوانب أخرى في العهد القديم ينكرها النقاد. فقد علم أن دانيال كان نبياً (متى 24: 15) رغم أن الكثير من النقاد يقولون إن دانيال لم يكن إلا مؤرخاً. (والنقاد يزعمون أن سفر دانيال كتب بعد زمن دانيال، لأنه من المستحيل أن يتنبأ بكل تلك النبوات. وهنا أيضاً ينكشف تحيزهم ضد ما هو فوق طبيعي). علاوة على ذلك، اقتبس يسوع عدة أجزاء محددة من سفر إشعياء (مثلاً: متى 13: 14، 15؛ 15: 7، 8؛ لوقا 4: 17-19)، ولم يشر مرة واحدة إلى كاتبين أو ثلاثة لسفر إشعياء كما يزعم الكثير من النقاد.
6 – دقيق علمياً: لقد قال يسوع مزاعم أخرى تتناقض مع مزاعم نقاد اليوم. فعندما سئل عما إذا كان الطلاق مقبولاً. اقتبس حقيقة علمية من سفر التكوين. فقد قال: «أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى؟ وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان» (متى 19: 4-6). وهو ما يعنى أن طبيعة الزواج متجذرة في الحقيقة العلمية التي تقول إن آدم وحواء مخلوقان لغرض.
فضلاً عن ذلك، يسوع لم يقبل الفكرة الزائفة التي تقول بأن الكتاب المقدس يستطيع أن يعرفك كيف “تسير إلى السماء” ولكنه لا يستطيع أن يعرفك “كيف تسير السماوات”. فقد قال لنيقوديموس: «إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟» (يوحنا 3: 12). وهو ما يعنى أن يسوع علم بأنه إن كان الكتاب المقدس لا يقول الحق عن العالم المادي الذي تراه، إذن لا يمكنك الثقة فيه عندما يتكلم عن العالم الروحي الذي لا تراه. مؤكد أن المسيحية مبنية على أحداث تاريخية يمكن اختبارها بالفحص العلمي والتاريخي، كالخلق والقيامة. فرغم أن أتباع الديانات الأخرى يمكنهم أن يقبلوا الفصل التام بين الدين والعلم، المسيحيون لا يستطيعون أن يفعلوا هذا. وذلك لأن الحق المتعلق بالكون لا يمكن أن يكون متناقضاً. فبما أن كل الحق هو حق الله. فينبغي أن تتوافق المعتقدات الدينية مع الحقائق العلمية. وإن لم تتوافق معها، فإما أن هناك خطأ في فهمنا العلمي، أو في معتقداتنا الدينية. وكما رأينا، الكثير من مزاعم المسيحية ثبتت صحتها بالفحص العلمي. وهو ما كان يعرفه المسيح.
7 – هو أعلى مرجعية: بما أن يسوع علم أن العهد القديم له سلطة إلهية، ولا يزول، وخال من الأخطاء اللاهوتية، ومعصوم عصمة مطلقة، وصحيح تاريخياً، ودقيق علمياً؛ فمن المتوقع أن يؤكد علو العهد القديم فوق أي تعاليم بشري. وهو ما قاله يسوع بالضبط. فقد صحح كلام الفريسيين ومعلمي الناموس عندما زعم أنه يجب عليهم طاعة أسفار العهد القديم بدلاً من تقاليدهم البشرية. فقال لهم يسوع: «لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم؟ …. فقد أبطلتم وصبة الله بسبب تقليدكم!» (متى 15: 3، 6). ثم وبخهم لتقاعسهم عن السلوك وفقاً للكتاب المقدس بالاقتباس من العهد القديم: «يا مراؤون! حسناُ تنباً عنكم إشعياء قائلاً: يقترب إليّ هذا الشعب بفهم، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً، وباطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس» (متى 15: 7-9). لماذا يصحح يسوع فكر قادة إسرائيل الدينين مستخدماً العهد القديم ما لم يكن العهد القديم هو المرجعية العليا فوق فكرهم؟
في ضوء تعليم يسوع، لا شك أنه اعتبر العهد القديم كله كلمة الله المكتوبة المعصومة من الخطأ. فقد قال إنه أتى ليتمم العهد القديم اليهودي كله (متى 5: 17) الذي أشار إليه بتعبير «الناموس والأنبياء» (متى 5: 17؛ لوقا 24: 26، 27). وقد قال لليهود: «فتشوا الكتب لأنكم تظنون إن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة» (يوحنا 5: 39، 40).
إذن يسوع أتى ليتمم الكتب التي تشهد له. ولكن مم يتألف ذلك العهد القديم؟ ما الأسفار التي كان يشير إليها يسوع عندما يقول “الكتب”؟ في توبيخ يسوع للفريسيين في متى 23 شمل كل أسفار العهد القديم اليهودي، من أولها إلى آخرها عندما صرح قائلاً: «لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفر على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح» (الآية 35). لقد قتل هابيل في أول سفر من العهد القديم اليهودي (التكوين)، وقتل زكريا في آخر سفر (أخبار الأيام).
حدث العهد القديم |
تأكيدات العهد الجديد |
1 – خلق الكون (تكوين 1) |
يوحنا 1: 3؛ كولوسي 1: 16 |
2 – خلق آدم وحواء (تكوين 1، 2) |
1تيموثاوس 2: 13، 14 |
3 – زواج آدم وحواء (تكوين 1، 2) |
متى 19: 4، 5 |
4 – غواية المرأة (تكوين 3) |
1تيموثاوس 2: 14 |
5 – عصيان آدم وخطيته (تكوين 3) |
رومية 5: 12؛ 1كورنثوس 15: 22 |
6 – قربانا هابيل وقايين (تكوين 4) |
عبرانيين 11: 4 |
7 – قتل قايين لهابيل (تكوين 4) |
1يوحنا 3: 12 |
8 – مولد شيث (تكوين 4) |
لوقا 3: 38 |
9 – نقل أخنوخ (تكوين 5) |
عبرانيين 11: 5 |
10 – الزواج قبل الطوفان (تكوين 6) |
لوقا 17: 27 |
11 – الطوفان ومحو الإنسان (تكوين 7) |
متى 24: 39 |
12 – حفظ نوح وأسرته (تكوين 8، 9) |
2بطرس 2: 5 |
13 – مواليد سام (تكوين 10) |
لوقا 3: 35، 36 |
14 – مولد إبراهيم (تكوين 11) |
لوقا 3: 34 |
15 – دعوة إبراهيم (تكوين 12، 13) |
عبرانيين 11: 8 |
16 – تقديم العشور لملكي صادق (تكوين 14) |
عبرانيين 7: 1-3 |
17 – تبرير إبراهيم (تكوين 15) |
رومية 4: 3 |
18 – إسماعيل (تكوين 16) |
غلاطية 4: 21 -24 |
19 – الوعد بإسحاق (تكوين 17) |
عبرانيين 11: 18 |
20 – لوط وسدوم (تكوين 18، 19) |
لوقا 17: 29 |
21 – مولد إسحاق (تكوين 21) |
أعمال 7: 8 |
22 – تقديم إسحاق (تكوين 22) |
عبرانيين 11: 17 |
23 – العليقة المتقدة (خروج 3: 6) |
لوقا 20: 37 |
24 – العبور في وسط البحر الأحمر (خروج 14: 22) |
1كورنثوس 10: 1، 2 |
25 – إعطاء الماء والمن (خروج 16: 4؛ 17: 6) |
1كورنثوس 10: 3-5 |
26 – رفع الحية في البرية (عدد 21: 9) |
يوحنا 3: 14 |
27 – سقوط أريحا (يشوع 6: 22-25) |
عبرانيين 11: 30 |
28 – معجزات إيليا (1ملوك 17: 1؛ 18: 1) |
يعقوب 5: 17 |
29 – يونان والحوت (يونان 2) |
متى 12: 40 |
30 – ثلاثة فتية عبرانيين في الأتون (دانيال 39 |
عبرانيين 11: 34 |
31 – دانيال في جب الأسود (دانيال 6) |
عبرانيين 11: 33 |
32 – مقتل زكريا (2أخبار 24: 20-22) |
متى 23: 35 |
في الحقيقة يسوع وكتاب العهد الجديد اقتبسوا كل جزء من العهد القديم باعتباره مرجعاً صحيحاً في إشارتهم إلى أحداث وردت في ثمانية عشر سفراً من الاثنين وعشرين سفراً التي يتكون منها العهد القديم اليهودي[2]. إلا أن النقاد يشككون في تاريخية الكثير من الأحداث المذكورة في الجدول السابق. ولكن يسوع والرسل يستشهدون بها باعتبارها صحيحة تاريخياً. وبالإضافة إلى تأكيد يسوع لتاريخية نوح ويونان، فهو نفسه يؤكد تاريخية الخلق (مرقص 13: 19). وآدم وحواء (متى 19: 4، 5)، وسدوم وعمورة (لوقا 10: 12)، وموسى والعليقة المتقدة (لوقا 20: 37)، وهو ما يبين أن يسوع ربط الحقيقة التاريخية للعهد القديم بحق رسالته الروحية.
ولكن ألا يمكن أن يكون يسوع مخطئاً؟ إذن يسوع أعلن أن العهد القديم بجملته هو كلمة الله المعصومة، وقد أكد وتلاميذه أحداث العهد القديم التي ينكرها الكثير من النقاد. ولكن ألا يمكن أن يكون يسوع مخطئاً؟ من المحتمل أنه لم يقصد أن أحداث العهد القديم تلك حدثت بالفعل، ولكنه قصد فقط أن اليهود اعتقدوا أنها حدثت. وهو ما يعني أنه كان فقط يتكيف مع معتقدات اليهودي، أي أنه يقول: «كما تؤمنون بيونان، يجب أن يؤمنوا بقيامتي».
إن نظرية التكيف هذه لا تصلح. فكما رأينا، يسوع لم يتهاون مع الخطأ. فهو لم يتكيف مع معتقدات اليهود كما يرجح بعض الشكوكيين. ولكنه وبخهم وصحح أخطاءهم مراراً بدءًا بالتوبيخ العلني الصريح (مثل متى 23) انتهاءً بتصحيح تفسيراتهم الخاطئة للعهد القديم (متى 5: 21-43)، وقلب الموائد في الهيكل (متى 21؛ مرقص 11؛ يوحنا 29). إن يسوع لم يتهاون في أي شيء، فمؤكد أنه لم يتهاون في حق العهد القديم.
وقد يقول الشكوكي: «ولكن ألا يمكن أن يكون يسوع قد أخطأ بسبب محدوديته البشرية؟ فمهما كان، إن كان لم يعرف موعد مجيئه الثاني، ربما أنه لم يعرف بأخطاء العهد القديم». لا، نظرية المحدودية هذه لا تصلح أيضاً. فمحدودية الفهم تختلف عن سوء الفهم. صحيح أن يسوع لم يكن يعرف بعض الأشياء بصفته إنساناً. ولكن هذا لا يعني أنه كان مخطئاً فيما عرف من أشياء. ولما عرفه يسوع كان صحيحاً لأنه لم يعلم إلا ما علمه الآب إياه (يوحنا 8: 28؛ 17: 8، 14). فاتهام يسوع بالخطأ يعنى اتهام الله الآب بالخطأ. ولكن الله لا يخطئ لأنه مصدر الحق ومقياسه الثابت[3]. علاوة على ذلك، يسوع أكد حق تعليمه عندما أعلن قائلاً: «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» (متى 24: 35)، وعندما قال: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (متى 28: 18).
فماذا نستخلص من كل ذلك؟ يجب أن نسأل سؤالاً واحداً فقط: من أكثر معرفة بالعهد القديم، المسيح أم النقاد؟ إن كان يسوع هو الله، إذن كل تعاليمه صحيحة. فإن كان يعلم أن العهد القديم له سلطة إلهية، ولا يزول، وخال من الخطأ، ومعصوم، وصحيح تاريخياً، ودقيق علمياً، وأنه المرجعية العليا؛ إذن تلك التعاليم صحيحة. إن مؤهلاته تتفوق على مؤهلات أي ناقد معرض للخطأ (وخاصة أولئك الذين لا يقوم نقدهم على أدلة بل على تحيز غير مشروع ضد ما هو فوق طبيعي).
أدلة أخرى تؤيد العهد القديم:
بالإضافة إلى مزاعم يسوع، هناك الكثير من الأسباب الأخرى التي تؤيد حق وثائق العهد القديم. فمثلاً، العهد القديم يشترك مع العهد الجديد في الكثير من السمات التي تجعله جديراً بالتصديق: تأييد قوي من المخطوطات، وتأكيد علم الآثار، وأحداث قصة لا يمكن أن يخترعها كُتابها.
ولنناقش تلك النقطة الأخيرة قليلاً. من الذي يمكن أن يخترع قصة العهد القديم؟ لو كانت القصة من اختراع العبرانيين، غالباً كانت ستصور الإسرائيليين شعباً نبيلاً مستقيماً. إلا أن كُتاب العهد القديم لا يقولون هذا. ولكنهم يصورن شعبهم عبيداً خطاة متقلبين ينقذهم الله مرة تلو الأخرى بشكل معجزي. ولكنهم يهجرونه كلما سنحت لهم الفرصة. والتاريخ الذي يسجلونه مليء بحالة من العصيان العنيد، وانعدام الثقة، والأنانية. وقادتهم جميعاً أبطال في الخطية، بما فيهم موسى (قاتل)، وشاول (مهوس بجنون العظمة ومركزية الذات)، وداود (زانٍ وكاذب وقاتل)، وسليمان (جمع بين زوجات كثيرات). هؤلاء هم الأشخاص الذين كان يفترض أنهم قادة الأمة التي اختارها الله ليأتي منها بمخلص العالم. ولكن كُتاب العهد القديم يعترفون أن أسلاف هذا المسيا يضمون شخصيات خاطئة مثل داود وسليمان، بل عاهرة اسمها راحاب. واضح أنها ليست قصة مؤلفة.
بينما يخبرنا العهد القديم بخطأ مشين تلو الآخر، معظم المؤرخين القدامى الآخرين يتجنبون حتى ذكر الأحداث التاريخية غير المستحبة. مثلاً، سجلات التاريخ المصري لا تحوي شيئاً عن الخروج، مما يدفع بعض النقاد إلى أن يرجحوا أن الحدث لم يقع مطلقاً ولكن ما الذي يتوقعه النقاد؟ ويتخيل الكاتب بيتر فاينمان Peter Fineman ما الذي يمكن أن يقوله بيان صحفي صادر من قصر الفرعون:
متحدث باسم رمسيس العظيم، فرعون الفراعنة، حاكم مصر الأعلى، ابن رع الذي يرتعد الجميع أمام بهائه المهوب الذي يذهب الأبصار، أعلن اليوم أن الرجل موسى ركل [مؤخرته] الملوكية أمام عيون العالم كله، مما برهن على أن الله هو يهوه وأن حضارة مصر ذات الألفي عام مجرد كذبة. وسنواليكم الأخبار.
بالطبع ما من سكرتير صحفي للفرعون كان سيعترف بهذا الحدث. إن الصمت المصري عن حادثة الخروج مفهوم. إلا أنه، على النقيض من ذلك، عندما أحرز المصريون نصراً عسكرياً اتجهوا إلى الصحافة وبالغوا في النصر بشكل مفرط. وهو ما يتضح من أقدم ما نعرفه من إشارات لإسرائيل خارج الكتاب المقدس. وهي موجودة على أثر من الجرانيت عثر عليه في المعبد الجنائزي للفرعون مرنبتاح في طيبة. والأثر يفخر بالنصر العسكري الذي أحرزه الفرعون في أراضي كنعان الجبلية، زاعماً أن “إسرائيل أخرب وانقطع نسله”. ويُرجع المؤرخون تاريخ المعركة إلى سنة 1207ق.م، وهو ما يؤكد أن إسرائيل كانت في الأرض قبل ذلك التاريخ.
وهناك عدد من الاكتشافات الأثرية الأخرى التي تؤيد العهد القديم. ولعلك تذكر من الفصل الثالث أن عندنا دليلاً حتى من علم الفلك (الانفجار الكبير) يؤيد سفر التكوين. (لمزيد من الأدلة المؤيدة للعهد القديم، انظر “موسوعة بيكر للدفاعيات المسيحية”). ولكن في النهاية، أقوى حجة تؤيد العهد القديم تأتي من يسوع نفسه. فبصفته الله، هو صاحب الورقة الفائزة. وإن كانت وثائق العهد الجديد صادقة، إذن العهد القديم معصوم من الخطأ لأن يسوع قال إنه كذلك.
وهو ما عبر عنه صديقنا آندي ستانلي تعبيراً رائعاً بقوله: «أخبرني مدرس العلوم في مدرستي الثانوية ذات مرة أن الكثير من مادة سفر التكوين خطأ. ولكن بما أن مدرس العلوم في مدرستي الثانوية لم يثبت أنه الله بالقيامة من الأموات، سأصدق يسوع ولن أصدقه». تصرف حكيم.
ماذا عن العهد الجديد؟
لقد علم يسوع أن العهد القديم معصوم من الخطأ، ولكن ماذا عساه أن يقول عن العهد الجديد؟ فمهما كان من أمر، العهد الجديد لم يكن قد كُتب حتى نهاية حياة المسيح على الأرض.
لقد أكد يسوع صحة العهد القديم، ووعد بالعهد الجديد. فقد قال إن العهد الجديد سيأتي عن طريق رسله لأن الروح القدس سيذكرهم بما قاله يسوع وسيرشدهم إلى “جميع الحق”. وهذا الكلام مسجل في موضعين في إنجيل يوحنا. فقد أعلن يسوع:
«بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم» (يوحنا 14: 25، 26).
وأعلن أيضاً:
«إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 16: 12، 13).
وهو ما يعني أن يسوع يَعِد رسله أن الروح القدس سيقودهم لكتابة ما نعرفه حالياً باسم العهد الجديد. وقد ردد بولس فيما بعد هذا التعليم عندما أكد أن الكنيسة مبنية «على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أفسس 2: 20). وهو ما أدركته الكنيسة الأولى أيضاً لأنهم كانوا «يواظبون على تعليم الرسل» (أعمال 2: 42).
ولكن هل الرسل أخذوا الرسالة فعلاً من الروح القدس كما وعد يسوع؟ مؤكد أنهم يزعمون ذلك. فيوحنا يكتب أن الرسل «من الله» (1يوحنا 4: 6)، ويبدأ سفر الرؤيا بهذه الكلمات: «إعلان يسوع المسيح، الذي أعطاه إياه الله» (رؤيا 1: 1). وبولس يزعم أنه يتكلم بما «يعلمه الروح» (1كورنثوس 2: 10، 13؛ 7: 40)، وأن كتاباته هي «وصايا الرب» (1كورنثوس 14: 37). وفي افتتاحية رسالته لمؤمني غلاطية يصرح قائلاً: «وأعرفكم أيها الأخوة الإنجيل الذي بشرت به، أنه ليس بحسب إنسان. لأني لم أقبله من عند إنسان ولا عُلِّمته. بل بإعلان يسوع المسيح» (غلاطية 1: 11، 12). والحقيقة أنه في رسالته الأولى إلى مؤمني تسالونيكي يؤكد أنه يقدم لهم كلمة الله: «من أجل ذلك نحن أيضاً نشكر الله بلا انقطاع، لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله، قبلتموها لا ككلمة أناس، بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله، التي تعمل أيضاً فيكم أنتم المؤمنين» (1تسالونيكي 2: 13). وبالإضافة إلى تأكيد بولس أن كتاباته وحي من الله، فهو يقتبس من إنجيلي لوقا ومتى ويطلق عليهما “الكتاب”، وبذلك يضعهما على نفس المستوى مع سفر التثنية (1تيموثاوس 5: 18؛ لوقا 10: 7؛ متى 10: 10).
وعندما يشير بطرس إلى رسائل بولس، يؤكد أنها موحى بها من الله، ويكتب قائلاً: «كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضاً بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلها أيضاً. متكلماً فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم، بحرفها غير العلماء وغير الثابتين. كباقي الكتب أيضاً، لهلاك أنفسهم» (2بطرس 3: 15، 16؛ قارن 2تيموثاوس 3: 15، 16). ويؤكد بطرس أيضاً أن كلامه وكلام سائر الرسل ينبع من مصدر إلهي عندما يصرح بالقول: «لأننا لم نتبع خرافات مصنعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته… وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها…. عالمين هذا أولاً: أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بطرس 1: 16-21).
إلا أن الرسل لم يكتفوا بزعم أنهم يستقبلون رسائل من الله. فأي شخص يمكن أن يزعم هذا الزعم. ولكنهم الدليل على أن كلامهم موحى به من الله، وكان دليلهم ما صنعوه من آيات والحقيقة أن أحد مؤهلي الرسول يتمثل في قدرته على فعل مثل هذه الآيات، والمؤهل الآخر هو أن يكون شاهد عيان للقيامة (أعمال 1: 22؛ 1كورنثوس 9: 1). وقد أكد بولس رسوليته عندما صرح لقرائه من مؤمني كورنثوس قائلاً: «إن علامات الرسول صنعت بينكم في كل صبر بآيات وعجائب وقوات» (2كورنثوس 12: 12). ولا بد أن بولس كان يقول الحقيقة بشأن أنه صنع معجزات بينهم، وإلا فقد كل مصداقيته أمام قرائه.
بالإضافة إلى زعم بولس بأنه صنع معجزات، يسجل لوقا خمساً وثلاثين معجزة في سفر الأعمال فقط، ذلك السفر الذي فحصناه وقد تبرهنت صحته بكل يقين، وهو الذي يسجل تاريخ انتشار الكنيسة منذ القيامة حتى حوالي سنة 60م. ومعظم هذه المعجزات صنعها الرسل (قليل منها صنعه الملائكة أو الله). علاوة على ذلك، كاتب العبرانيين في حديثه عن الخلاص الذي تكلم به الرب، يصرح قائلاً: «ثم تثبت لنا من الذين سمعوا، شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس، حسب إرادته» (عبرانيين 2: 3، 4). ولعلك تتذكر من الفصل الثامن أن المعجزات هي الوسيلة التي يستخدمها الله في المصادقة على أنبيائه. فالمعجزة تؤكد الرسالة. والآية تؤكد العظة. وأفعال الله تؤكد كلمة الله لشعب الله (خروج 4؛ 1ملوك 18؛ يوحنا 3: 2؛ أعمال 2: 22). إنها طريقة الله ليخبرنا أن الرسالة فعلاً منه. ورسل العهد الجديد أكدوا أن رسالتهم من الله، بما أجروه من معجزات.
وقد يقول الشكوكي: «إن قصص المعجزات هذه من تأليفهم». كلام فارغ. فقد رأينا في الفصول العاشر والحادي عشر، والثاني عشر أنهم كانوا مؤرخين في غاية الدقة ولم يكن عندهم أي دافع لاختراع قصص المعجزات. والحقيقة أن كل الدوافع كان يجب أن توجههم نحو عدم تأليف هذه القصص لأنهم احتملوا التعذيب، والضرب، والقتل بسبب تمسكهم بها.
فضلاً عن ذلك، القدرة على صنع المعجزات لم تكن تحت سيطرتهم في نهاية الأمر، ولكنها كانت في يد الله نفسه. كيف نعرف ذلك؟ لسببين. الأول هو أن الرسل يبدو أنهم فقدوا القدرة على إجراء المعجزات نحن منتصف الستينيات. فكاتب العبرانيين الذي كتب في أواخر الستينيات أشار إلى هذه المواهب المعجزية الخاصة التي تمنح للرسول في زمن الفعل الماضي (عبرانيين 2: 3، 4). وفي خدمة بولس بعد ذلك يبدو أنه لم يتمكن من شفاء بعض مساعديه المقربين (فيلبي 2: 26؛ 2تيموثاوس 4: 20). فلو ظل محتفظاً بالقدرة على إجراء المعجزات حتى ذلك الحين، فلماذا كان يطلب الصلاة وينصح مساعديه بتناول الأدوية (1تيموثاوس 5: 23)؟
ثانياً، حتى عندما كان بولس يجري معجزات لم يقدر أن يشفي علته الجسدية (غلاطية 4: 13). والحقيقة أننا لا نرى في الكتاب المقدس شخصاً واحداً يجري معجزة لفائدته الشخصية أو للتسلية. وهو ما يبين أن القدرة على إجراء المعجزات كان محدودة بإرادة الله (قارن عبرانيين 2: 4). فالمعجزات أجريت لغرض محدد، وهو عادة تأكيد صدق رسول جديد أو إعلان سماوي جديد.
وقد يفسر ذلك عدم ذكر أي معجزات رسولية في رسائل بولس بعد نحو سنة 62م، وهو آخر تاريخ يمكن أن يكون سفر الأعمال قد كتب فيه[4]. فبحلول ذلك الوقت، كان بولس وسائر الرسل قد تبرهنوا أنهم مرسلون حقيقيون من الله، ولم يعد هناك احتياج لمزيد من البراهين.
روح الرب على يسوع: هناك مجموعة أخرى من الأدلة على إعطاء يسوع والروح القدس للعهد الجديد. لقد تنبأ العهد القديم بأن المسيا سيأتي وأنه سوف “يبشر بخبر سار”، ويسوع أعلن أنه تمم تلك النبوة. فكما هو وارد في لوقا 4، يسوع يدخل مجمع الناصرة، مدينته الأم، ويزعم هذا الزعم المذهل. وهذا هو ما يقوله لوقا:
وقام [يسوع] ليقرأ، فدُفع إليه سفر إشعياء النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه: «روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة». ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم، وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم: «إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لوقا 4: 14-21).
ما الذي تم ذلك اليوم؟ المجيء الأول للمسيا. فيسوع في اقتباسه إشعياء 61: 1، 2، توقف في منتصف الآية ليبين أنه المسيا الذي أتى ليبشر المساكين، ولينادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وهكذا. ولكنه توقف في منتصف الآية 2 لأن النصف الثاني من الآية يعلن عن “يوم انتقام لإلهنا” الذي يشير إلى مجيء المسيح الثاني. ولكن اليهود في مدينته الذين كانوا يعرفون أن يسوع ابن يوسف، عرفوا أيضاً أنه كان يزعم بذلك أنه المسيا. وفي الحقيقة، بعد أن زعم يسوع زعماً مسيانياً آخر، امتلأ الجمع غضباً حتى أنهم أخرجوه خارج المدينة ليطرحوه من على حافة الجبل. ولكن يسوع جاز في وسطهم ومضى (4: 22-30).
ويتنبأ إشعياء 61 أن المسيا سيجري معجزات شفاء، ويبشر، ويرسل المنسحقين في الحرية بروح الرب. وهو ما يعني أن المسيا سيفعل ما فعله يسوع بالضبط: يأتي بإعلان سماوي جديد ويؤيده بالمعجزات. وطبعاً بما أن المسيا سيعطي إعلاناً جديداً، فينبغي أن يدوّن. ولذلك وعد يسوع رسله أن الروح القدس سيذكرهم بكل ما قاله لهم ويرشدهم على “جميع الحق” (يوحنا 14: 26؛ 16: 13).
اكتشاف الأسفار القانونية: ماذا يعني كل هذا فيما يختص بالعهد الجديد؟ يعني أنه وفقاً لما قاله يسوع، الأسفار الوحيدة التي يجب أن تشكل العهد الجديد هي التي كتبها رسله أو أكدوا صحتها. فما هي تلك الأسفار تحديداً؟
ينبغي أن نزيل فهماً خاطئاً شائعاً بخصوص ما نطلق عليه “القانونية”. فمن الخطأ أن نقول إن “الكنيسة” أو آباء الكنيسة الأوائل حددوا المادة التي يجب أن تشكل العهد الجديد. وذلك لأنهم لم يحددوا ما يشكل العهد الجديد، ولكنهم اكتشفوا ما قصد الله أن يكون في العهد الجديد. وهو ما عبر عنه بروس متسجر الأستاذ في جامعة برينستون تعبيراً جيداً. فقد قال: «القانونية هي قائمة من مجموعة أسفار ذات سلطة مرجعية، أكثر مما هي قائمة ذات سلطة مرجعية من مجموعة أسفار. فهذه الوثائق لم تستمد سلطتها من وقوع الاختيار عليها. بل إن كلاً منها كان له هذه السلطة قبل أن يقوم أي شخص بجمعها». وهو ما يعني أن الأسفار الوحيدة التي يجب أن تؤلف العهد الجديد هي التي أوحى بها الله. وبما أن يسوع قال إن رسله سيكتبون تلك الأسفار، فأسئلتنا الوحيدة أسئلة تاريخية: 1) من هم الرسل؟ 2) وماذا كتبوا؟
وآباء الكنيسة الأوائل يمكنهم أن يساعدونا في الإجابة عن هذين السؤالين لأنهم كانوا أقرب كثيراً للأحداث منا. والحقيقة أنهم لم يواجهوا مشكلة في اكتشاف الطبيعة الإلهية لأسفار العهد الجديد الكبرى. فبالرغم من وجود بعض الخلاف في البداية حول بعض الأسفار الصغيرة (مثل رسائل فليمون، ويوحنا الثالثة، وبعقوب)، فآباء الكنيسة الأوائل أدركوا فوراً أن الأناجيل والرسائل الكبرى موحى بها من الله. لماذا؟ لأنهم عرفوا أن هذه الأسفار مكتوبة بيد رسل (أو بيد أشخاص صادق الرسل عليهم)، وأولئك الرسل تبرهنوا بالمعجزات. ولكن كيف عرفوا ذلك؟ لأن هناك سلسلة متصلة من الشهادة بدءًا من الرسل حتى آباء الكنيسة الأوائل بخصوص الكتاب الحقيقين لأسفار العهد الجديد وأصالتها.
ويوحنا، الذي كان يعرف كل الرسل طبعاً، كان عند تلميذ اسمه بوليكاريوس (69-155م)، وبوليكاريوس كان عند تلميذ اسمه إيريناوس (130-202). ويستشهد بوليكاريوس وإيريناوس معاً بثلاثة وعشرين سفراً من السبعة والعشرين التي يتكون منها العهد الجديد. باعتبارها أسفاراً أصلية، وفي بعض الحالات يقولان صراحة أنها أصلية[5]. ويؤكد إيريناوس صراحة كُتاب الأناجيل الأربعة جميعاً. إضافة إلى ذلك، نعرف من المؤرخ يوسابيوس أن بابياس Papias (60-120) أكد أن متى هو كاتب إنجيله، وكذلك مرقص هو كاتب إنجيل مرقص. ولا أحد يشك في أن بولس هو كاتب الرسائل الكبرى التي تحمل اسمه.
وإن كان آباء الكنسية الأوائل اكتشفوا على الفور أن الكتابات في العهد الجديد أسفار أصلية، فقد تم قبول معظم العهد الجديد قبل سنة 200م، ثم أُقر كله باعتباره أصلياً بشكل رسمي ونهائي في مجمع هيبو سنة 393. انظر الجدول التالي.
وقد يسأل الشكوكي: «لماذا استغرق إقرار هذه الأسفار كل هذا الوقت؟» ربما لأن المسيحية لم تكن ديانة شرعية عموماً في الإمبراطورية الرومانية حتى سنة 313. فلم يكن بوسع آباء الكنيسة الأوائل أن يذهبوا إلى أقرب فندق هيلتون في المدينة ويعقدوا مؤتمراً للكتاب المقدس لفحص الأدلة معاً والتوصل إلى استنتاج. لقد كانوا غالباً يخشون على حياتهم وهم داخل بيوتهم! ولكن النقطة المهمة أنه ما أن طرحت كل الأدلة على المائدة، حتى تم إقرار أسفار العهد الجديد السبعة والعشرين جميعاً. وهذه السبعة والعشرين فقط باعتبارها أسفاراً أصلية.
وهذه الأسفار السبعة والعشرين تشكل السجل الأصلي الوحيد لتعليم الرسل المتاح لنا. وكما رأينا، كل تلك الأسفار كتبت في القرن الأول بقلم شهود عيان أو بقلم أشخاص نقلوا عن شهود عيان. وهو ما يعني أنها مطابقة للمعايير التي وضعها يسوع. أي أنها أسفار كتبها رسل أو أكد صحتها رسل[6]. وبما أننا لا نعرف أي كتابات رسولية أصلية أخرى، وبما أن من المستبعد أن يسمح الله لعمل أصلي ألا يكتشف كل هذا الزمان، يمكننا أن نطمئن إلى أن قانونية العهد الجديد قد اكتملت.
كيف يمكن أن يكون الكتاب المقدس معصوماً؟
بما أن يسوع أكد أن العهد القديم كلمة الله المعصومة، إذن لا بد أن يكون العهد الجديد أيضاً الذي وعد به جزءًا من كلمة الله المعصومة. ولكن كيف ذلك؟ أليس الكتاب المقدس مليئاً بعشرات، إن لم يكن مئات الأخطاء؟
لا. الكتاب المقدس لا يحوي أخطاء، ولكن مؤكد أن فيه أخطاء مزعمة أو صعوبات والحقيقة أني (نورم) وأستاذ آخر في كلية اللاهوت الإنجيلية الجنوبية، يدعى توماس هو Thomas Howe ألفنا كتاباً بعنون “عندما يسأل النقاد” When Critics Ask يتناول أكثر من 800 صعوبة رصدها النقاد في الكتاب المقدس (وهناك المزيد عن عصمة الكتاب المقدس في “اللاهوت النظامي”، الجزء الأول Systematic Theology, Volume One). ورغم أننا طبعاً لا نستطيع أن نضع مادة هذين الكتابين في هذا الكتاب، إليك بضع نقاط جديرة بالذكر.
أولاً، لنوضح منطقياً لماذا يستحيل أن يحتوي الكتاب المقدس على أخطاء:
1 – الله لا يخطئ.
2 – الكتاب المقدس كلمة الله.
3 – إذن الكتاب المقدس لا يخطئ.
بما أن هذا قياس منطقي (شكل من أشكال التفكير المنطقي) سليم. فإن كانت الفرضيات صحيحة، إذن النتيجة صحيحة. إن الكتاب المقدس يعلن بوضوح أنه كلمة الله. وقد رأينا الأدلة القوية على ذلك. والكتاب المقدس يخبرنا أيضاً عدة مرات أن الله لا يخطئ، وهي حقيقة نعرفها من الإعلان العام أيضاً. فالنتيجة حتمية. الكتاب المقدس يستحيل أن يخطئ. فإن أخطأ الكتاب المقدس في أي شيء، إذن الله مخطئ. ولكن الله لا يمكن أن يخطئ.
فماذا يحدث عندما نظن أننا وجدنا خطأ في الكتاب المقدس؟ طينوس عنده الإجابة، وهي إجابة حكيمة، إذ يقول: «إن تحيرنا أمام أي شيء يبدو وكأنه متناقض في الكتاب المقدس، فليس مسموحاُ أن نقول: “كاتب هذا السفر مخطئ”، ولكن إما أن هناك خطأ في المخطوطة، أو في الترجمة، أو أنك لم تفهم». وهو ما يعني أن أغلب الظن أننا نحن المخطئون لا الكتاب المقدس. وفي كتاب “عندما يسأل النقاد” نرصد سبعة عشر خطأ عادة ما يسقط فيها النقاد. وإليك ملخصاً لأربعة منها فقط:
† الافتراض بأن اختلاف في الروايات تناقض: كما رأينا، ليس تناقضاً إن قال أحد كتاب الأناجيل إنه رأى ملاكاً واحداً عند القبر وقال آخر إنه رأى اثنين. فمتى لا يقول إنه واحد فقط. وإن كان هناك اثنان، فمؤكد أنه كان هناك واحد (على الأقل)! إذن الاختلاف لا يعني دائماً التناقض، بل إنه غالباً ما يرجح أنها شهادة شهود عيان صادقة.
† الإخفاق في فهم سياق النص: أحياناً قد نظن أننا وجدنا تناقضاً في الكتاب المقدس، ولكن الواقع أننا انتزعنا النص من سياقه. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك مزمور 14: 1، الجزء الثاني من الآية الذي يقول: «ليس إله». إلا أن السياق الصحيح ينكشف عندنا نقرأ الآية كاملة: «قال الجاهل في قلبه: “ليس إله”».
† افتراض أن الكتاب المقدس يصادق على كل ما يسجله: وقد يستشهد النقاد بتعدد زوجات سليمان (1ملوك 11: 3) بوصفه مثالاً على التناقض. ألا يعلم الكتاب المقدس بالزواج بزوجة واحدة، لا تعدد الزوجات؟ طبعاً. ولكن مؤكد أن الله لا يقبل كل فعل مسجل في الكتاب المقدس. فهو يسجل أيضاً أكاذيب الشيطان، ولكن الله لا يوافق عليها أيضاً. ولكن مقاييس الله نجدها فيما يعلنه الكتاب المقدس، لا في كل ما يسجله. (كما رأينا، بدلاً من أن تصبح هذه حجة لإثبات أن الكتاب المقدس يحوي أخطاء، هي في الواقع حجة تؤيد تاريخية الكتاب المقدس. فتسجيل الكتاب المقدس لكل خطايا شخصياته وأخطائهم يدلل على صحته، فما من أحد سيؤلف قصة تدينه).
† نسيان أن الكتاب المقدس كتاب بشري له سمات بشرية: اشتهر النقاد بالتشكيك خطأ في صدق الكتاب المقدس على أساس أنهم يتوقعون مستوى من التعبير أعلى مما هو معتاد في الوثائق البشرية. إلا أن هذا التشكيك غير مشروع لأن معظم مادة الكتاب المقدس لم تمل شفهياً ولكن كتاباً بشريين هم من كتبوها (تستثنى من ذلك الوصايا العشر التي كتبت “بأصبع الله” [خروج 31: 18]). والكتاب مؤلفون بشريون استخدموا أساليبهم الأدبية وسماتهم الشخصية الخاصة. وقد كتبوا سجلات تاريخية (مثل سفر الأعمال)، وأشعاراً (مثل نشيد الأنشاد)، وصلوات (مثل الكثير من المزامير)، ونبوات (مثل إشعياء)، وخطابات شخصية (مثل 1تيموثاوس)، وكتابات لاهوتية (مثل رومية)، وغيرها من الأشكال الأدبية. وهؤلاء الكُتاب عندما يكتبون عن شروق الشمس أو غروبها يتكلمون من منظور بشري (يشوع 1: 15). وهم أيضاً يكشفون عن أنماط التفكير البشري، ومنها إخفاق الذاكرة (1كورنثوس 1: 14-16)، والعواطف البشرية (غلاطية 4: 14). باختصار، بما أن الله استخدم أساليب حوالي 40 كتاباً على مدى ما يقرب من 1500 سنة ليوصل رسالته، من الخطأ أن نتوقع أن يكون مستوى التعبير أعلى منه في الوثائق البشرية الأخرى. إلا أن الطبيعة البشرية الفريدة للكتاب المقدس معصومة من الخطأ كما هو الحال في طبيعة المسيح البشرية.
اعتراضات على العصمة
قد يقول النقاد: «البشر يخطئون، إذن لا بد أن الكتاب المقدس يخطئ». ولكن الناقد هو المخطئ هنا أيضاً. صحيح، البشر يخطئون، ولكن البشر لا يخطئون دائماً. فالبشر المعرضون للخطأ يؤلفون كتباً طوال الوقت خالية من الأخطاء. إذن البشر المعرضون للخطأ الذين يساقون من الروح القدس مؤكد أنهم قادرون على كتابة كتاب خال من الأخطاء.
وقد يسأل الناقد: «ولكن أليست هذه الحجة دائرة لأنها تستخدم الكتاب المقدس لإثبات الكتاب المقدس؟» لا، حجتنا ليست دائرة. لأننا لا نبدأ بافتراض أن الكتاب المقدس موحى به. إننا نبدأ بعدة وثائق منفصلة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي أنها صحيحة تاريخياً. وبما أن تلك الوثائق تكشف أن يسوع هو الله، إذن تعلميه بخصوص العهد القديم لا بد أن يكون صحيحاً. وقد قال يسوع في عدة مناسبات إن العهد القديم كلمة الله. وإنه معصوم من الخطأ. ووعد أن بقية حق الله (“جميع الحق”) سيأتي للرسل من الروح القدس، ثم كتب الرسل العهد الجديد وأثبتوا صدقهم بالمعجزات. ومن ثم، بناء على عصمة كلام يسوع الذي هو الله، العهد الجديد أيضاً معصوم من الخطأ. وهذه ليست حجة دائرية، ولكنها حجة استقرائية تجمع الأدلة وتتبعها إلى حيثما تتوجه.
وقد يتهمنا النقاد أيضاً قائلين: «ولكن موقفكما من العصمة لا يمكن فحصه وإثبات خطئه. فأنتما لن تقبلا خطأ في الكتاب المقدس لأنكما قررتما مسبقاً أن الخطأ غير وارد في الكتاب المقدس». الحقيقة أن موقفنا يمكن فحصه وإثبات خطئه، ولكن موقف النقاد هو الذي لا يقبل الفحص. فلنشرح ذلك.
أولاً، بما أن صدق يسوع ثابت بالدليل، فعندما نواجه صعوبة أو سؤالاً في النص الكتابي. من المنطقي أن نفترض صحة الكتاب المقدس. وهو ما يعني أننا عندما نصادف شيئاً يصعب تفسيره، نفترض أننا نحن المخطئون، وليس الله غير المحدود. فالاحتمال الأكثر أن جايسلر وتورك هما الجاهلان، لا أن الكتاب مخطئ.
إلا أن هذا لا يعني أننا نؤمن بعدم وجود أي احتمال للخطأ على الإطلاق في الكتاب المقدس. فمهما كان، هناك دائماً احتمال أن استنتاجاتنا عن العصمة قد تكون خاطئة، لأنه مؤكد أننا معرضون للخطأ. والحقيقة أنه يمكن إثبات خطأ موقفنا من العصمة إذا تمكن أحدهم من رصد خطأ حقيقي في مخطوطة أصلية[7]. ولكن حتى يومنا هذا، بعد قرابة ألفي سنة من البحث، لم يتمكن أحد من العثور على مشكلة مستعصية من هذا النوع. (وهو أمر مذهل بحق إن أخذت في اعتبارك أن الكتاب المقدس هو بالفعل عبارة عن مجموعة من الوثائق التي كتبها حوالي 40 كاتباً على مدى 1500 سنة. فأين تجد هذا الاتفاق في العديد من القضايا المتنوعة بين 40 كتاباً يعيشون جميعهم اليوم، فكم بالأحرى إن كانوا يعيشون على مدار 1500سنة؟)
ثانياً، حتى لو ثبت خطأ فكرة العصمة يوماً ما، هذا لا يثبت خطأ الحقائق الجوهرية في المسيحية. فكما رأينا، الأدلة التاريخية على أن يسوع علم حقائق عميقة، وأجرى معجزات، ومات وقام من الأموات من أجل البشر الخطاة، أدلة في غاية القوة. وحتى إن اكتشف أن الكتاب المقدس يحوي خطأ أو اثنين في التفاصيل، لن يضعف ذلك من حق المسيحية التاريخي. ومع ذلك ينبغي أن نضيف سريعاُ أننا لا نظن أن العصمة سيثبت خطؤها أبداً. وإن حدث، ستظل المسيحية صحيحة بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي.
هل من اكتشاف يدفعنا أن نكف عن اعتقادنا في المسيحية؟ نعم. إن تمكن شخص من العثور على جسد يسوع، يثبت خطأ المسيحية، ومن ثم نتخلى عنها. وهو ما يعني أننا نتفق مع بولس الذي قال إن إيماننا المسيحي باطل إن لم يكن يسوع قد قام حقاً من الأموات (1كورنثوس 15: 14-18).
وهو أمر تنفرد به المسيحية. فالمسيحية تختلف عن معظم المنظورات الدينية الأخرى في أنها تقوم على أحداث تاريخية ومن ثم يمكن إثبات صحتها أو خطئها بالفحص التاريخي. ومشكلة الشكوكيين والناقدين هي أن الأدلة التاريخية تشير إلى القيامة. ومن عاشوا في أورشليم في تلك الآونة لم يعثروا على جسده واعترفوا أن قبره كان فارغاً، رغم أن بعضهم كانوا يتمنون أن يجدوا جسد يسوع ويطوفوا به في المدينة. ومنذ ذلك الحين لم يعثر على شيء. فبما أنه بعد ألفي سنة من البحث لم يعثر أحد على جثمان يسوع ولا على أخطاء حقيقية في الكتاب المقدس، أفليس من المحتمل أنه لا وجود لأي منهما؟ فمتى يمكن أن يسدل الستار بثقة على سؤال ما؟ إن لم يكن بعد ألفي سنة، فمتى؟
ثالثاً، بعد سنوات طويلة من الدراسة الدقيقة المتواصلة للكتاب المقدس، لا يمكننا إلا أن نستنتج أن من “اكتشفوا خطأ” في الكتاب المقدس لا يعرفون عن الكتاب المقدس أكثر مما يعرف الآخرون بكثير، بل الواقع أنهم يعرفون أقل بكثير مما يجب. وهو ما لا يعني أننا نعرف حلولاً لكل الصعوبات التي نواجهها في الكتاب المقدس، ولكنه يعني أننا مستمرون في البحث. فنحن بالفعل لا نختلف عن العلماء الذين لا يستطيعون أن يحلوا كل ما في العالم الطبيعي من صعوبات أو غوامض.
إلا أنهم لا ينكرون تكامل العالم الطبيعي لمجرد أنهم يعجزون عن تفسير شيء ما. وعالم اللاهوت مثل العالم المتخصص في العالم الطبيعي، يستمر في البحث عن إجابات. وبينما نفعل ذلك، تقصر قائمة الصعوبات شيئاً فشيئاً[8]. (ولكن في الوقت الحالي، لمن منكم لا يستطيع أن يتجاوز صعوبات الكتاب المقدس. نقول إن مارك توين Mark Twain كان محقاً عندما خلص إلى أن ما أزعجه لم يكن الأجزاء التي لم يفهمها في الكتاب المقدس، بل الأجزاء التي فهمها!)
أخيراً، إن النقاد هم من يتمسكون فعلياً بموقف لا يمكن فحصه وإثبات خطئه. فما الذي يقنعهم بخطأ نظرتهم؟ أي ما الذي يمكن أن يقنعهم أن يسوع قام من الأموات أو أن الكتاب المقدس خال من الأخطاء؟ ربما يحسن بهم أن يفكروا في الأدلة التي طرحناها في هذا الكتاب. ولكن للأسف، الكثير من النقاد لن يفعلوا ذلك. فلن يسمحوا للحقائق أن تقيد رغبتهم في الاحتفاظ بالسيطرة على حياتهم. فمهما كان من أمر، إن اضطر أحد النقاد أن يعترف بصحة الكتاب المقدس، يلزم أن يعترف أيضاً بأنه لم يعد المسيطر على الأمور. وسيكون هناك سلطة في الكون أعظم منه، وتلك السلطة قد لا تقبل الحياة التي يريد الناقد أن يعيشها.
الخلاصة والملخص
علم يسوع أن العهد القديم اليهودي كلمة الله المعصومة، ووعد أن بقية كلمة الله ستأتي عن طريق رسله. والرسل الذين ثبت صدقهم بالمعجزات كتبوا 27 كتاباً أو أكدوا صحتها. وكل الكتب الكبرى تم إقرارها فوراً باعتبارها جزءًا من كلمة الله، ومن أقروا بذلك كانوا أشخاصاً على صلة وثيقة بالرسل أنفسهم. وقد أقرت المجامع الكنسية الأولى كل الأسفار السبعة والعشرين فيما بعد بوصفها أصلية. وهو ما يعني أن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم هو كلمة الله الحقيقية المعصومة.
وبما أن الكتاب المقدس هو مقياس الحق الثابت عندنا، فكل ما يتناقض مع أي من تعاليمه هو خاطئ. وهو ما لا يعني أن سائر الديانات خالية من الحق. ولكنه يعني ببساطة أن أي تعليم محدد يتعارض مع تعليم الكتاب المقدس هو تعليم خاطئ.
ولنراجع الآن ما توصلنا إليه من استنتاجات منذ الفصل الأول:
1 – الحق المتعلق بالواقع أو حقيقة الواقع أمر قابل للمعرفة.
2 – عكس الحق هو الخطأ.
3 – وجود إله خالق حافظ حق. وهو ما يستدل عليه من:
أ) بداية الكون (الحجة الكونية Cosmological Argument)
ب) تصميم الكون (الحجة الغائية Teleological Argument / المبدأ الإنساني Anthropic Principle).
ج) تصميم الحياة (الحجة الغائية)
د) القانون الأخلاقي (الحجة الأخلاقية Moral Argument)
4 – إن كان الله موجوداً، إذن المعجزات ممكنة.
5 – يمكن استخدام المعجزات لتأكيد رسالة من الله (أي باعتبارها أعمالاً إلهية تؤكد كلام الله).
6 – العهد الجديد يتمتع بالمصداقية التاريخية. وهو ما يستدل عليه من:
أ) الشهادة المبكرة.
ب) شهادة شهود العيان.
ج) الشهادة غير المفبركة (الصادقة).
د) شهود العيان الذين لم يكونوا مخدوعين.
7 – العهد الجديد يقول إن يسوع زعم أنه الله.
8 – زعم يسوع أنه الله تأكد معجزياً بما يلي:
أ) تحقيقه للكثير من النبوات المختصة به.
ب) حياته الخالية من الخطية وأعماله المعجزية.
ج) تنبؤه بقيامته وإتمامه لها.
9 – إذن يسوع هو الله.
10 – كل ما يعلمه يسوع (الذي هو الله) حق.
11 – يسوع علم أن الكتاب المقدس كلمة الله.
12 – إذن القول بأن الكتاب المقدس كلمة الله هو حق (وكل ما يتعارض مع الكتاب خطأ).
فلنعد إلى الفصل الثامن لتفصيل مضامين هذا الكلام. إن الأدلة التي جمعناها حتى الفصل الثامن (النقاط 1-3 أعلاه) ساعدتنا أن نستخلص أن كل الديانات والمنظورات الفلسفية للحياة التي لا تؤمن بالإله الخالق الحافظ خاطئة. وهو ما ترك أمامنا الديانات التي تؤمن بالله الخالق الحافظ. والأدلة المطروحة من الفصل التاسع إلى الرابع عشر (النقاط 4-12 أعلاه) تخبرنا أن وحي اليهودية صحيح، ولكنه غير مكتمل، لأن العهد الجديد ينقصه. أي دين وضعي وإن تضمن على شيء من الحق، ولكنه مخطئ في بعض التعاليم الجوهرية. وحي المسيحية فقط هو كلمة الله الكاملة المعصومة.
هل يمكن أن نكون مخطئين في كل هذا؟ ربما. ولكن في ضوء الأدلة، نستخلص أن النقاد، والشكوكيين، وأتباع الديانات الأخرى يحتاجون من الإيمان قدراً أكبر بكثير مما نحتاج.
[1] الكلمة في بعض الترجمات الإنجليزية، بما فيها المستخدمة هنا، “تخطئون” “You are in error“. (المترجمة)
[2] العهد القديم اليهودي يحوي نفس مادة العهد القديم الذي بين أيدينا باللغة العربية ولكن تقسيم الأسفار مختلف. فالعهد القديم المتداول في العربية يقسم أسفار صموئيل والملوك وأخبار الأيام كلاً إلى سفرين. وكذلك عزرا ونحميا سفران. في حين أنهما سفر واحد في العهد القديم اليهودي. وهو يقسم الأنبياء الصغار الاثني عشر إلى اثني عشر سفراً منفصلة. لذا، رغم أن عدد أسفار العهد القديم اليهودي 22 سفراً، هذه الأسفار نفسها تنقسم إلى 39 سفراً في العهد القديم المتداول في العربية. بعض طبعات العهد القديم تضم 11 سفراً إضافية (سبعة تمثل أسفاراً مستقلة، وأربعة عبارة عن أجزاء مضافة إلى أسفار أخرى) يطلق عليها الأبوكريفا.
[3] الكتاب المقدس يؤكد ما نعرفه بالإعلان العام، ألا وهو أنه لا بد من وجود مقياس ثابت للحق. فالكتاب المقدس يزعم أن الله هو الحق (مزمور 31: 5؛ 33: 4؛ يوحنا 14: 6؛ 1يوحنا 4: 6)، وأن الله لا يمكن أن يكذب (عبرانيين 6: 18؛ تيطس 1: 2)، وأن الله لا يمكن أن يتغير (عدد 23: 19؛ 1صموئيل 15: 29؛ مزمور 102: 26، 27؛ ملاخي 3: 6؛ عبرانيين 13: 8؛ يعقوب 1: 17) للمزيد عن صفات الله، انظر Norman Geisler, Systematic Theology, vol 2 (Minneapolis: Bethany, 2003), Part 1.
[4] هذه ليست حجة مبنية على الصمت لأن الكتاب المقدس ليس صامتاً عن طبيعة هذه المعجزات الرسولية الخاصة. والغرض منها، ووظيفتها (انظر مثلاً 2كورنثوس 12: 12؛ عبرانيين 2: 3، 4). هذه الوظيفة من تأكيد الإعلان الرسولي تتماشى مع توقف المعجزات، حيث أنه لم تعد هناك حاجة لها بعد تأكيد الإعلان.
[5] الرسائل الوحيدة التي لم يقتبسا منها هي فليمون وبطرس الثانية ويعقوب ويوحنا الثالثة. ولكن أكليمندس الروماني (الذي كتب من 95-97) و/أو إغناطيوس (110) يؤكدان صحة فليمون، وبطرس الثانية، ويعقوب حتى قبل بوليكاريوس وإيريناوس. ولذلك السفر الوحيد الذي لم يقتبس منه أحد باعتباره حقيقياً في القرنين الأول والثاني هو الرسالة الصغير جداً المعروفة باسم يوحنا الثالثة. انظر Geisler and Nix, General Introduction to the Bible,294.
[6] رغم أن لوقا ليس رسولاً بالمعنى الدقيق، فمن المحتمل أنه كان أحد الخمسمائة الذين شهدوا المسيح المقام. لكن حتى وإن لم يكن. فالرسول بولس رفيق لوقا في السفر أكد صحة كتاباته (1تيموثاوس 5: 18؛ قارن لوقا 10: 7). ومن ثم كتابات لوقا تعتبر من تعليم الرسل.
[7] لقد عثر على أخطاء نسخ في المخطوطات، ولكنها أخطاء يسهل التعرف عليها، وبمقارنة الكثير من المخطوطات المتاحة يثبت أنها ليس موجودة في الأصل (انظر الفصل التاسع). ورغم أنه لم يعثر على أي مخطوطات أصلية للكتاب المقدس حتى الآن، فهناك مخطوطات أقدم لأعمال أخرى ما زالت باقية. لذا، قد يعثر على أصول الكتاب المقدس يوماً ما.
[8] مثلاً في إحدى الفترات اعتقد النقاد أن الكتاب المقدس مخطئ بخصوص شعب يعرف باسم الحثيين. فلم يكن هناك دليل على وجودهم خارج الكتاب المقدس. إلى أن اكتشف سجلاتهم الكاملة في تركيا. وبالمثل، اعتقد النقاد أن الكتابة لم تكن موجودة في عصر موسى، ومن ثم يستحيل أن يكون موسى قد كتب أي شيء في العهد القديم. إلى أن عثر على ألواح إيبلا Ebla tablets في سوريا وهي تسبق موسى بألف سنة. وكلما استمر البحث، ازداد تأكيد صحة الكتاب.