الأم تريزا مقابل هتلر – الأخلاق هل هي موضوعية أم نسبية؟
“إننا نعتبر هذه الحقائق واضحة في ذاتها، ألا وهي أن كافة البشر مخلوقون سواسية، وأنهم منحوا من خالقهم حقوقاً راسخة معينة غير قابلة للتصرف، ومنها الحق في الحياة، والحرية، والسعي نحو السعادة”.
إعلان الاستقلال الأمريكي
هل من مقياس للأخلاق؟
بينما كنت أنا وصديقي ديف Dave ننتهي من تناول العشاء في مطعم يطل على المحيط في مدينة بورتلاند بولاية مين، تحول الحديث إلى موضوع الدين. فقد قال ديف: “لا أظن أنه من الممكن أن يكون دين واحد صحيحاً والباقي كله خطأ. ولكن يبدو أنك يا فرانك وجدت مركزاً لحياتك. وجدت شيئاً صحيحاً بالنسبة لك، وأظن أن هذا عظيم”.
فبدأت أساير فرضيته من أن شيئاً قد يكون صحيحاً لشخص وليس صحيحاً لشخص آخر، وسألته: «ديف ما الصحيح بالنسبة لك؟ ما الذي يعطي حياتك معنى؟»
فأجاب: «كسب المال ومساعدة الناس». ديف رجل أعمال ناجح جداً، فحاولت أن أستثيره لأعرف منه المزيد.
وقلت: «ديف، أعرف رؤساء تنفيذيين بلغوا قمة النجاح المهني، خططوا لأمور عظمية في حياتهم المهنية وحققوها، ولكنهم لم يخططوا لحياتهم الشخصية ولم يحققوا فيها إلا القليل. وهم الآن على وشك التقاعد، ويسألون أنفسهم: “ثم ماذا؟»
فوافق ديف وأضاف: «نعم، وأعرف أن معظم أولئك الرؤساء التنفيذيين مروا بخبرات طلاق بشعة، غالباٌ لأنهم أهملوا أسرهم سعياً وراء الدولار. ولكن لست كذلك. لن أضحي بأسرتي من أجل المال، وفي عملي أريد أن أساعد الناس أيضاً».
مدحته على التزامه بأسرته ورغبته في مساعدة الناس، ولكن الأسئلة لم تنته. فلماذا يجب أن نخلص لعائلاتنا؟ من قال إنه ينبغي أن “نساعد الناس”؟ هل “مساعدة الناس” واجب أخلاقي عام، أم أنه صحيح لك وليس صحيحاً لي؟ وما نوعية مساعدتك لهم: مالية؟ نفسية؟ مادية؟ روحية؟
فقلت: «ديف، إن لم يكن هناك مقياس موضوعي، فالحياة ليست إلا لعبة “بنك الحظ” Monopoly. يمكنك أن تحصل على الكثير من الأموال والكثير من الممتلكات، ولكن عندما تنتهي اللعبة، يرجع كل شيء إلى العلبة. هل هذه هي الحياة؟»
وإذ شعر ديف بعدم ارتياح لاتجاه الحوار، غير الموضوع بسرعة. ولكن إحساسه بأنه يجب أن “يساعد الناس” كان صحيحاً، ولكنه لم يجد له مبررات. لماذا يعتقد أنه يجب أن “يساعد الناس”؟ من أين أتى بهذه الفكرة؟ ولماذا أنا وأنت نتفق معه في أعماقنا؟
توقف وتعمق برهة في هذه الفكرة؟ ألست مثل ديف؟ ألا تشعر بهذا الإحساس العميق بواجبنا جميعاً نحو “مساعدة الناس”؟ كلنا نشعر بذلك لماذا؟ ولماذا يبدو أن معظم البشر لديهم ذلك الحس الحدسي بأنه ينبغي أن يفعلوا الخير وينبذوا الشر؟
ووراء إجابات تلك الأسئلة يكمن المزيد من الأدلة على وجود الله الخالق الحافظ. ولكن هذه الأدلة ليس علمية، فقد تناولنا الأدلة العلمية في الفصول السابقة، ولكنها أدلة ذات طبيعة أخلاقية، وهي مثل قوانين المنطق والرياضيات: غير مادية ولكن حقيقية. إن ما يجعلنا نعتقد أنه علينا أن نفعل الخير لا الشر، ما يجعلنا نعتقد مثل ديف أنه علينا أن “نساعد الناس” هو وجود قانون أخلاقي كُتب على قلوبنا. أي أن هناك “تشريعاً لعلم الخير أعطي للبشرية جمعاء.
والبعض يسمون هذا التشريع الأخلاقي “الضمير”، والبعض الآخر يسمونه “القانون الطبيعي”، ولكن آخرون (مثل الآباء المؤسسين للولايات المتحدة) يطلقون عليه “قانون الطبيعة”. ونحن نطلق عليه “القانون الأخلاقي”. ولكن أياً كان الاسم الذي تطلقه عليه، وجود مقياس أخلاقي منقوش في عقول البشر أجمعين يشير إلى مشرع لهذ القانون الأخلاقي. فكل قانون له مشرع. والقانون الأخلاقي كذلك. لا بد أن شخصاً كلفنا بهذه الواجبات الأخلاقية.
هذا القانون الأخلاقي هو حجتنا الثالثة لوجود إله خالق حافظ (بعد الحجة الكونية والحجة الغائية). وهي كالتالي:
- لكل قانون مشرع.
- هناك قانون أخلاقي.
- إذن هناك مشرع للقانون الأخلاقي.
إن كانت المقدمتان الأولى والثانية صحيحتين، فالنتيجة تترتب عليهما بالضرورة. وطبعاً كل قانون له مشرع. لا يمكن أن يوجد تشريع إلا إذا وجدت سلطة تشريعية. بالإضافة إلى أنه إذا كان هناك التزامات أخلاقية، لا بد من وجود شخص نكون ملتزمين تجاهه.
ولكن هل حقاً يوجد قانون أخلاقي؟ هذا ما اعتقده الآباء المؤسسون للولايات المتحدة. فكما كتب توماس جفرسون Thomas Jefferson في إعلان الاستقلال «”قانون الطبيعة” واضح في ذاته». فأنت لا تستخدم العقل حتى تكتشفه، ولكنك تعرفه هكذا. وربما هذا ما جعل صديقي ديف يصطدم بحائط سد في تفكيره. فهو يعرف أن “مساعدة الناس” فعل صائب، ولكنه لم يستطع تعليل هذا الصواب دون الاحتكام إلى مقياس خارج نفسه. فبلا مقياس موضوعي من المعنى والأخلاق، تخلو الحياة من المعنى وينتفي الصواب المطلق والخطأ المطلق. ويصبح كل شيء مجرد رأي.
فعندما نقول إن القانون الأخلاقي موجود، نعني أن كل الناس مطبوعون بحس جوهري للصواب والخطأ. فالكل مثلاً يعلم أن الحب أسمى من الكره وأن الشجاعة أفضل من الجبن. ويكتب ج. بودجيشفسكي الأستاذ بجامعة تكساس في أوستن University of Texas at Austin: “الجميع يعرفون مبادئ معينة.
فما من بلد يعتبر القتل فضية والعرفان رذيلة”. وسي. إس. لويس الذي تناول هذا الموضوع بعمق في كتابه الكلاسيكي “المسيحية المجردة” Mere Christianity عبر عن الفكرة قائلاً: “تخيل بلداً حيث يحظى الناس بالإعجاب عندما يفرون من المعركة، أو حيث يشعر الرجل بالفخر عندما يخون كل من أحسن إليه. إن استطعت أن تتخيل ذلك يمكنك أن تتخيل أن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة”.
وهو ما يعني أن الجميع يعرفون بوجود واجبات أخلاقية مطلقة. والواجب الأخلاقي المطلق هو شيء ملزم للجميع، في كل زمان، وفي كل مكان، والقانون الأخلاقي المطلق يتضمن مشرعاً مطلقاً للقانون الأخلاقي.
إلا أن هذا لا يعني أن كل قضية أخلاقية لها إجابات يسهل التعرف عليها. أو أنه لا أحد ينكر وجود أخلاق مطلقة. ولكن الأخلاق تضم مشكلات عسيرة، والناس ينكرون القانون الأخلاقي كل يوم. ولكنه يعني أن هناك مبادئ أساسية للصواب والخطأ يعرفها الجميع، سواء اعترفوا بها أم لا. ويطلق بودجيشفسكي على هذه المعرفة الأساسية بالصواب والخطأ “ما لا نستطيع أن نجهله” What We Can’t Not Know في كتاب له تحت ذلك العنوان.
فنحن مثلاً لا نستطيع ألا نعرف أن قتل الأبرياء بلا سبب خطأ. البعض قد ينكرون ذلك ويرتكبون جرائم قتل، ولكنهم في أعماق قلوبهم يعرفون أن القتل خطأ. وحتى السفاحون يعرفون أن القتل خطأ، ولكنهم قد لا يشعرون بالندم. والقتل خطأ عن الجميع، وفي كل مكان: في أمريكا، والهند، وزيمبابوي، وسائر البلدان جميعاً، الآن وكل أوان، مثل غيره من سائر القوانين الأخلاقية المطلقة. هذا هو ما يقوله القانون الأخلاقي لكل قلب بشري.
كيف نعرف أنه يوجد قانون أخلاقي؟
تتعدد أسباب معرفتنا بوجود قانون أخلاقي، وسنستعرض ونناقش ثمانية منها. وبعض هذه الأسباب متداخل، ولكننا سنناقشها بهذا الترتيب:
- القانون الأخلاقي لا يمكن إنكاره.
- نعرفه من ردود أفعالنا.
- إنه أساس حقوق الإنسان.
- إنه مقياس العدالة الثابت.
- يفصل فصلاً حقيقياً بين المواقف الأخلاقية (مثل الأم تريزا مقابل هتلر).
- بما أننا نعرف الخطأ المطلق، لا بد أن هناك مقياساً مطلقاً للصواب.
- القانون الأخلاقي هو أساس الخلافات السياسية والاجتماعية.
- لو لم يكن هناك قانون أخلاقي، لما كنا نبحث عن أعذار عندما نخرقه.
1 – القانون الأخلاقي لا يمكن إنكاره:
النسبيون عادة ما يزعمون زعمين بخصوص الحق:
- ليس هناك حق مطلق.
- ليس هناك قيم أخلاقية مطلقة.
وخطة “رودرنر” تساعدك على تفنيد زعمهم الأول: إن لم يكن هناك حق مطلق، إذن زعمهم المطلق بأنه “ليس هناك حق مطلق” لا يمكن أن يكون صحيحاً. وهكذا ترى أن عبارة النسبيين غير منطقية لأنها تؤكد ما يحاولون إنكاره.
حتى جوزيف فلتشر Joseph Fletcher أبو أخلاق الموقف الحديثة وقع في هذا الفخ. فقد أصر في كتابه “أخلاق الموقف” Situation Ethics أن «من يؤمن بأخلاق الموقف يتجنب كلمات من قبيل “أبداً”، “تام”، “دائماً”… كمن يتجنب شيئاً ضاراً، كما يتجنب كلمة “مطلقاً”». وهو ما يعني طبعاً أن «المرء يجب ألا يقول أبداً كلمة “أبداً”» أو «يجب أن نتجنب دائماً استخدام كلمة “دائماً”». إلا أن تلك العبارات عينها لا تتجنب ما تطلب منا تجنبه. فالنسبيون متأكدون بصفة مطلقة أنه ليس هناك مطلقات.
والقيم المطلقة كالحق المطلق، لا يمكن إنكارها. ففي حين أن الزعم الذي مفاده أنه “لا يوجد قيم مطلقة” لا يفند نفسه، لا يمكننا عملياً أن ننكر وجود قيم مطلقة. وذلك لأن من ينكر كل القيم، يعطي قيمة لحقه في إنكارها. وهو علاوة على ذلك يريد من الجميع أن يعطوه قيمة بصفته شخصاً، بينما ينكر أن هناك قيمة لجميع الأشخاص. وهو ما تم التعبير عنه بوضوح منذ عدة سنوات عندما كنت (أنا نورم) أتحدث إلى مجموعة من سكان ضواحي شيكاغو من ذوي الثروة والتعليم الراقي.
وبعد أن قلت إن هناك قيماً أخلاقية موضوعية ملزمة لجميعنا، وقفت سيدة واعترضت بصوت مرتفع قائلة: «ليس هناك قيم حقيقية. المسألة كلها أذواق أو آراء!» فقاومت إغراء الرغبة في توصيل فكرتي بأن أصرخ فيها قائلاً: «اجلسي واخرسي، يا متعلمة يا صاحبة الشهادات، لا أحد يريد أن يسمع رأيك!» وطبعاً لو كنت بهذه الوقاحة والفظاظة، لكان من حقها أن تشكو من أني انتهكت حقها في أن يكون لها رأي وحقها في التعبير عنه. وهو ما كان يمكنني أن أرد عليه بالقول «ليس لك هذا الحق، فقد أخبرتني تواً أن هذه الحقوق لا وجد لها!»
فشكواها كانت ستثبت أنها تؤمن فعلياً بقيمة حقيقية مطلقة، فهي تعطي قيمة لحقها في أن تقول إنه ليس هناك قيم مطلقة. أي أن حتى من ينكرون كل القيم، يعطون قيمة لحقهم في ذلك الإنكار. وهنا يكمن التناقض. فمن المستحيل عملياً إنكار القيم الأخلاقية.
2 – رود أفعالنا تساعدنا على اكتشاف القانون الأخلاقي (الصواب من الخطأ):
في السيناريو المذكور أعلاه، كان رد فعل السيدة سيذكرها بوجود قيم أخلاقية موضوعية. وأحد الأساتذة في واحدة من كبرى الجامعات في ولاية إنديانا عرض أحد طلابه ممن يؤمنون بالنسبية للخبرة نفسها من وقت ليس ببعيد. وكان الأستاذ يُدَرِّس مادة في الأخلاق، وكلف طلابه بكتابة بحث للفصل الدراسي. وطلب من كل دارس أن يكتب في أي موضوع أخلاقي من اختياره، بشرط أن يدعم أطروحته جيداً بالأسباب والمراجع الموثقة.
وكتب طالب ملحد بحثاً بليغاً في موضوع النسبية الأخلاقية. وكانت حجته تقول إن «كل الأخلاق نسبية؛ ليس هناك مقياس مطلق للعدالة أو الصواب الأخلاقي؛ إنها مسألة رأي؛ “أنت تحب الشوكولاتة، أنا أحب الفانيليا”، وهكذا». وقد دعم بحثه بالأسباب والمراجع. وكان مستوفياً للشروط من حيث الحجم، وموعد التسليم، وقدمه في غلاف أزرق أنيق.
وبعد أن قرأ الأستاذ البحث كله كتب على الغلاف الأمامي «راسب، لا أحب الأغلفة الزرقاء». وعندما استلم الطالب بحثه استشاط غضباً واندفع على مكتب الأستاذ محتجاً: «”راسب، لا أحب الأغلفة الزرقاء” هذا ليس إنصافاً. ليس صواباً. ليس عدلاً. لم تقيم البحث بناء على ما يستحق».
فأجاب الأستاذ بهدوء وهو يرفع يده ليهدئ الطالب الفصيح: «تمهل لحظة. لقد قرأت أبحاثاً كثيرة. انتظر… أليس بحثك هو الذي يقول إنه ليس هناك شيء اسمه الإنصاف، والصواب الأخلاقي، والعدالة؟».
فأجاب الطالب: «نعم».
فسأله الأستاذ: «إذن ما هذا الذي تقوله عني إني لست منصفاً، لا صائباً، ولا عادلاً؟ ألم تكن حجة بحثل أن الأمر كله مسألة ذوق؟ “أنت تحب الشوكولاتة، أنا أحب الفانيليا؟”»
فأجاب الطالب: «نعم هذا رأيي».
فأجاب الأستاذ: «عظيم. إذن أنا لا أحب الأزرق. وأنت تحصل على تقدير راسب».
وفجأة أضاء المصباح في دماغ الطالب. لقد أدرك أنه يؤمن فعلياً بالمطلقات الأخلاقية. فهو على الأٌقل يؤمن بالعدالة. ومهما كان من أمر، فهو يتهم أستاذه بالظلم لأنه أعطاه تقدير راسب بسبب لون الغلاف. وهذه الحقيقة البسيطة دحضت كل القضية التي قدمها دفاعاً عن النسبية.
والدرس الذي يكمن في القصة هو أن هناك أخلاقيات مطلقة. وإن أردت حقاً أن تدفع النسبيين للاعتراف بها. كل ما يجب أن تفعله أن تعاملهم معاملة ظالمة. وردود أفعالهم ستكشف القانون الأخلاقي المكتوب على قلوبهم وعقولهم. ففي هذه القصة أدرك الطالب وجود مقياس موضوعي للصواب الأخلاقي من رد فعله لمعاملة الأستاذ له. وهكذا قد لا أظن أن السرقة خطأ عندما أسرق منك. ولكن لاحظ الغضب الذي سيشتعل بداخلي عندما تسرق مني.
وردود أفعالنا تبين أيضاً أن النسبية في النهاية لا تصلح للعيش. فقد يزعم الناس أنهم نسبيون، ولكنهم مثلاً لا يريدون زوجاتهم أن تخلصن لهم نسبياً. فكل الرجال النسبيين تقريباً يتوقعون من زوجاتهم أن تعشن على أساس أن الزنا خاطئ على نحو مطلق. وسيكون رد فعلهم سلبياً إن مارسن النسبية عملياً بارتكاب الزنا. وحتى إن كان هناك القليل من النسبيين لا يعترضون على الزنا، هل تظن أنهم لن كانوا مهددين بالقتل أو الاغتصاب سيعتبرون القتل أو الاغتصاب عملاً أخلاقياً؟ طبعاً لا. إن النسبية تتناقص مع ردود أفعالنا وحسنا العام.
وردود الأفعال تساعدنا كأمة في تحديد الصواب والخطأ. فعندما اخترق الإرهابيون مبانينا بطائراتنا التي كانت تحمل أحباءنا الأبرياء، كان رد فعلنا العاطفي مناسباً لبشاعة الجريمة. فرد فعلنا أكد أن الفعل خاطئ على نحو مطلق. وقد يقول البعض: «ولكن ابن لادن ورفاقه المجرمين رأوا أن الفعل صحيح أخلاقياً». إن هذا يرجع جزئياً إلى أن الجريمة لم تكن موجهة ضدهم. في رأيك ماذا يكون رد فعل ابن لادن لو اخترقنا مبانيه بطائراته التي تحمل أحباءه الأبرياء؟ كان سيعرف فوراً أن هذا الفعل خاطئ على نحو لا يمكن إنكاره.
لذا فالقانون الأخلاقي لا يظهر دائماً من أفعالنا، كما يتضح من الفظائع التي يرتكبها البشر تجاه بعضهم البعض. ولكنه ينكشف بجلاء في ردود أفعالنا، أي ما نفعله عندما نتعرض شخصياً للظلم. وهو ما يعني أن القانون الأخلاقي ليس هو دائماً المقياس الذي نعامل به الآخرين، ولكنه في كل الحالات تقريباً المقياس الذي نتوقع من الآخرين أن يعاملونا به. فهو لا يصف سلوكنا الفعلي، بل ينص على السلوك الواجب.
3 – دون القانون الأخلاقي تنتفي حقوق الإنسان:
تأسست الولايات المتحدة الأمريكية على الاعتقاد في القانون الأخلاقي وحقوق الإنسان الممنوحة من الله. فقد كتب توماس جفرسون في إعلان الاستقلال:
إننا نعتبر هذه الحقائق واضحة في ذاتها، ألا وهي أن كافة البشر مخلوقون سواسية، وأنهم منحوا من خالقهم حقوقاً راسخة معينة غير قابلة للتصرف، ومنها الحق في الحياة، والحرية، والسعي نحو السعادة. ولضمان هذه الحقوق، تتأسس الحكومات بين الناس، وتكتسب صلاحياتها العادة من موافقة المحكومية.
لاحظ عبارة «منحوا من خالقهم حقوقاً راسخة معينة غير قابلة للتصرف». أي أن الآباء المؤسسين آمنوا أن حقوق الإنسان ممنوحة من الله، ومن ثم فهي عامة ومطلقة، أي أنها حقوق تشمل كل البشر، في كل مكان، وفي كل زمان، بصرف النظر عن جنسيتهم أو دينهم.
لقد أدرك جفرسون وسائر الآباء المؤسسين أن هناك سلطة أعلى أي “الخالق” يمكنهم الاحتكام إليها لإرساء أسس أخلاقية موضوعية لاستقلالهم. فلو بدأوا إعلان الاستقلال بعبارة «إننا نعتبر أن هذه الآراء أراؤنا…» (بدلاً من «حقائق واضحة في ذاتها»)، ما قدم ذلك مبرراً أخلاقياً موضوعياً لإعلان استقلالهم. ولكنه كان فقط سيعبر عن رأيهم المضاد لرأي الملك جورج.
لذا احتكم المؤسسون إلى “الخالق” لأنهم آمنوا أن قانونه الأخلاقي هو المقياس المطلق للصواب والخطأ الذي يبرر قضيتهم. وكانت قضيتهم إنهاء حكم الملك جورج في المستعمرات الأمريكية. لقد اقتنعوا بضرورة إنهاء حكم جورج لأنه كان ينتهك حقوق الإنسان الأساسية لمستوطني المستعمرات.
ومن جهة ما، كان موقف الآباء المؤسسين مثل موقف دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية. فعندما مثل مجرمو الحرب النازيون أمام محكمة في نورمبرج Nuremburg، أدينوا بتهمة انتهاك حقوق الإنسان الأساسية كما يعرّفها القانون الأخلاقي (الذي ينعكس في القانون الدولي). إنه القانون الذي يفهمه كافة البشر بالفطرة والذي تخضع له كل الأمم.
ولو لم تكن هناك هذه الأخلاق الدولية التي تتجاوز حدود قوانين الحكومة الألمانية العلمانية، لما وجد الحلفاء أساساً لإدانة النازيين. وهو ما يعني أنه لما أمكننا أن نقول إن النازيين كانوا مخطئين على نحو مطلق ما لم نعرف الصواب المطلق. ولكننا موقنون أنهم مخطئون على نحو مطلق، إذن مؤكد أن القانون الأخلاقي موجود.
4 – دون القانون الأخلاقي لا نميز بين العدل والظلم:
ربما تعد أشهر حجة ضد وجود الله هي وجود الشر واستمراره في العالم. فإن كان هناك إله صالح وعادل، لماذا إذن يسمح بالسوء للأخيار؟ لطالما أكد الملحدون أن الإيمان بعدم وجود هذا الإله أكثر منطقية من محاولة تفسير وجود الشر والله معاً.
وكان سي. إس. لويس أحد هؤلاء الملحدين. فقد رأى أن كل ما في العالم من ظلم يؤكد إلحاده، حتى بدأ يفكر في الوسيلة التي مكنته من معرفة الظلم أصلاً، فقد كتب: «”بصفتي ملحداً” كانت حجتي ضد الله هي أن الكون يبدو في منتهى القسوة والظلم. ولكن من أين أتيت بفكرة العدل والظلم؟ فالمرء لا يسمي الخط منكسراً إلا إذا كان يعرف الخط المستقيم. فبم كنت أقارن هذا الكون عندما سميته ظالماً؟» وهذا الإدراك أخرج لويس من الإلحاد وأتى به أخيراً إلى المسيحية.
إن لويس مثلك مثلي، لا يمكنه أن يحدد الظلم إلا عن طريق وجود مقياس ثابت للعدل مكتوب على قلوبنا. فحقيقة، لا يمكنك أن تعرف الشر ما لم تعرف الخير. ولا يمكنك أن تعرف الخير لولا وجود مقياس ثابت للخير خارجك. ودون ذلك المقياس الموضوعي يعد أي اعتراض على الشر المحض رأي شخصي لك.
أنا (نورم) أحب مناظرة الملحدين اليهود. لماذا؟ لأني لم ألتق أبداً بيهودي يعتقد أن الهولوكوست كان مجرد مسألة رأي. ولكن جميعهم يؤمنون أنه كان خطأً حقيقياً، بصرف النظر عن رأي أي شخص آخر. وفي إحدى هذه المناظرات مع ملحد يهودي، سألته: «على أي أساس تقول إن الهولوكوست كان خطأ؟» فأجاب: «بإحساسي الأخلاقي الطيب».
وماذا عساه يقول غير ذلك؟ فدون أن يعترف بقانون أخلاقي موضوعي، وهو ما يعني الاعتراف بالله، يستحيل أن يجد أساساً موضوعياً للاعتراض على الهولوكوست. وبذلك اعتراضه لا يزيد عن كونه رأياً شخصياً.
ولكن جميعنا نعرف أن الوضع الأخلاقي للهولوكوست ليس مجرد مسألة رأي. ورد فعلك على أي تعليق يختص بالهولوكوست يجب أن يزودك بمؤشر على وجود شيء خطأ حقاً في قتل الأبرياء. فمهما كان رد فعلك على شخص يقول: «كانت الوجبة رائعة» سيختلف عن رد فعلك عندما يقول الشخص: «كان الهولوكوست رائعاً». فأنت تعرف حدسياً أن ذوق الشخص في الطعام شيء وذوقه في الشر شيء آخر. فهناك اختلاف أخلاقي حقيقي بين الوجبة والقتل، فأحدهما مجرد استحسان والآخر ظلم حقيقي. وردود أفعالك على تلك التعليقات تساعدك على إدراك ذلك.
وسنناقش المزيد عن وجود الشر والله معاً في الملحق الأول. ولكن الآن نقطتنا الأساسية هي: لو لم يوجد قانون أخلاقي، لما أمكننا التعرف على أي نوع من الشر أو الظلم. فبلا عدل، يصبح الظلم بلا معنى. وكذلك ما لم يكن هناك مقياس ثابت للخير، لما كان هناك شر موضوعي. ولكن بما أننا جميعاً نعرف أن الشر موجود، إذن القانون الأخلاقي موجود أيضاَ.
5 – دون القانون الأخلاقي، لما كان هناك طريقة لقياس الاختلافات الأخلاقية:
فكر في خريطتي اسكتلندا في الشكل. أيهما أفضل؟ كيف يمكنك أن تعرف الخريطة الأفضل؟ السبيل الوحيد لتحديد الأفضل أن ترى شكل اسكتلندا الحقيقية. أي أنك لا بد أن تقارن الخريطتين بمكان حقيقي ثابت اسمه اسكتلندا. فلو لم توجد اسكتلندا، تصبح الخريطتان بلا معنى. ولكن بما أن اسكتلندا موجودة، يمكننا أن نرى أن الخريطة (أ) هي الأفضل لأنها أقرب للمقياس الثابت، أي اسكتلندا الحقيقية.
وهذا ما نفعله بالضبط عندما نقيم سلوك الأم تريزا مقابل سلوك هتلر. إننا نحتكم إلى مقياس ثابت مطلق أعلى من كليهما. وذلك المقياس هو القانون الأخلاقي. وهو ما عبر عنه سي. إس. لويس قائلاً:
في اللحظة التي تقول فيها إن مجموعة معينة من الأفكار الأخلاقية أفضل من غيرها، فإنك في الواقع تقيس الاثنتين بمقياس وتقول إن إحداهما تتفق مع ذلك المقياس أكثر من الأخرى. إلا أن المقياس الذي يقيس شيئين يختلف عن أي منهما. فأنت في الواقع تقارنهما بأخلاق حقيقية، معترفاً بوجود صواب حقيقي بصرف النظر عن آراء الناس، وبأن أفكار بعض الناس تقترب من ذلك الصواب الحقيقي أكثر من غيرها.
أو يمكنك أن تعبر عن ذلك بطريقة أخرى: إن كانت أفكارك الأخلاقية أصح، وأفكار النازيين أقل صحة، فلا بد من وجود شيء، أي نوع من الأخلاق الحقيقية تحدد صحة هاتين المجموعتين من الأفكار.
لو لم يوجد قانون أخلاقي، إذن ليس هناك اختلافات أخلاقية بين سلوك الأمر تريزا وسلوك هتلر. وكذلك عبارات من قبيل “القتل شر”، أو “العنصرية خطأ”، أو “يجب ألا تسيء إلى الأطفال” تصبح بلا معنى موضوعي. ولكنها تعبر فقط عن آراء شخص، مثل “الشوكولاتة ألذ من الفانيليا”. فالواقع أنه ليس القانون الأخلاقي لأصبحت التعبيرات القيمية البسيطة مثل “جيد”، “سيء”، “أفضل”، “أسوأ” بلا معنى موضوعي عندما تستخدم في سياق أخلاقي.
ولكننا نعلم بالتأكيد أن لها معنى. فمثلاً عندما نقول إن “المجتمع يتحسن” أو “المجتمع يسوء” فنحن نقارن المجتمع بمقياس أخلاقي أعلى منا. وذلك المقياس هو القانون الأخلاقي المكتوب على قلوبنا.
وباختصار، الاعتقاد في النسبية الأخلاقية يعنى القول بعدم وجود اختلافات أخلاقية حقيقية بين الأم تريزا وهتلر، أو الحرية والعبودية، أو المساواة والعنصري، أو العناية والإساءة، أو الحب والكراهية، أو الحياة والقتل. ونحن جميعاً نعلم أن مثل هذه الاستنتاجات عبثية. إذن لا بد أن تكون النسبية الأخلاقية خاطئة. وإن كانت النسبية الأخلاقية خاطئة، إذن يوجد قانون أخلاقي موضوعي.
6 – دون القانون الأخلاقي لا يمكنك أن تعرف الصواب والخطأ:
عندما أجريت مناظرة في موضوع الدين في المجال العام بين آلن درشويتس Alan Dershowit الذي يصف نفسه بأنه ملحد وآلن كيز Alan Keyes الكاثوليكي في أيلول/سبتمبر 2000 سأل أحد الحضور درشويتس قائلاً: «ما الذي يجعل الشيء صواباً؟»
أثنى درشويتس على السؤال ثم قال: «نحن نعرف الشر. فقد رأيناه». واستشهد بأمثلة واضحة على الشر مثل الهولوكوست والحروب الصليبية. ثم رمق درشويتس الحضور، ورفع صوته، وأعلن بنبرة واثقة: «الصواب ما هو الصواب! ولكني أعرف ما هو الخطأ!»
ثم بدأ يتحدث إلى الجمهور وكأنه يوبخهم قائلاً: «ولكن عندي شيء آخر أخبركم به يا جماعة. أنتم لا تعرفون ما هو الصواب! ففي اللحظة التي تظنون فيها أنكم تعرفون الصواب، لحظة ما تظنون أن عندكم إجابة لسؤال ما هو الصواب، تفقدون بعداً ثميناً جداً للنمو والتطور. فأنا لا أتوقع أبداً أن أعرف على وجه الدقة ما هو الصواب، ولكني أتوقع أن أكرس بقية حياتي لمحاولة اكتشافه». وهنا صفق بعض الحاضرين.
ولكن لم تتح الفرصة لكيز ليرد على إجابة دوشويتس. ولو أتيحت له الفرصة، لأطلق خطة “رودرنر” ليفضح حجة درشويتس التي تفند نفسها، فكان سيسأل درشويتس: «كيف تعرف الخطأ إلا إذا عرفت الصواب؟» فبالفعل لا يمكنك أن تعرف أن 5 هي الإجابة الخاطئة لمسألة 2+2 إلا إذا كنت تعرف الإجابة الصحيحة! وهكذا لا يستطيع درشويتس أن يعرف الخطأ الأخلاقي إلا إذا كانت عنده فكرة عن الصواب الأخلاقي.
وأثناء المناظرة لم يجد درشويتس مشكلة في التعبير عن غضبه الشديد تجاه أشياء يرى أنها خطأ أخلاقياً (أي القوانين المضادة للمثلية الجنسية، والقوانين المضادة للإجهاض، والعنصرية، والعبودية، والميثاق الأخلاقي للكشافة، والخلط بين الكنيسة والدولة…. إلخ). ولكنه عندما يزعم أن أشياء معينة خاطئة، يثبت بطبيعة الحال أن أشياء معينة صحيحة. فكل نفي يتضمن إثباتاً. فعندما يقول درشويتس بأن حظر الإجهاض خطأ (نفي)، لا بد أنه يعرف أن النساء لهن حق أخلاقي في الإجهاض (إثبات). ولكن دون القانون الأخلاقي، لا يستطيع درشويتس أن يبرر ذلك الموقف الأخلاقي ولا أي موقف أخلاقي آخر. فهو لا يزيد عن كونه رأيه الشخصي.
وإنه لخطأ فادح وغرور سافر أن يزعم بأنه ما من أحد في الحاضرين يعرف الصواب. فالمسيحيون غالباً ما ينتقدون لأنهم يقولون إن “عندهم الحق” ولكن ها هو درشويتس يقول إن عنده الحق الذي يقول إن لا أحد عنده الحق. ولكن حتى يعرف درشويتس أنه لا أحد عنده الحق، لا بد أن يعرف هو نفسه الحق.
وبعض النسبيين مشهورون بهذا النوع من الغرور الذي يفند نفسه. فهم يزعمون أنه ليس هناك حق، ولكنهم بعدئذ يطلقون مزاعمهم الخاصة بشأن الحق. فهم يزعمون أنهم لا يعرفون الصواب، ولكنهم بعدئذ يزعمون أن قضاياهم السياسية صائبة. وهم ينكرون القانون الأخلاقي في جملة ثم يفترضونه في الجملة التالية.
7 – دون القانون الأخلاقي، تنتفي الأساسات الأخلاقية للاختلافات السياسية أو الاجتماعية:
إن الليبراليين السياسيين مثل آلن درشويتس والكثيرين في هوليوود مشهورون بمعارضتهم الأخلاقية للحرب، والقوانين المناهضة للإجهاض، والقوانين المناهضة للمثلية الجنسية، وخفض الضرائب، وتقريباً كل القضايا التي يؤيدها “اليمين الديني المحافظ”. ومشكلتهم أن الكثير منهم ملحدون، ومن ثم ليس عندهم أسس أخلاقية موضوعية للمواقف التي يؤيدونها بقوة. وذلك لأنه إن لم يوجد قانون أخلاقي، إذن ليس هناك موقف صائب أو خاطئ موضوعياً بخصوص أي قضية أخلاقية، بما في ذلك المواقف التي يتخذها الملحدون.
وبلا قانون أخلاقي، ليس هناك خطأ موضوعي في فرض أحدهم دينه بالقوة على الملحدين. ولا يكون هناك خطأ في اعتبار الإلحاد خروجاً على القانون، ومصادرة أملاك الملحدين وإعطائها لكل من بات روبرتسون[1] Pat Robertson وجري فولول[2] Jerry Falwell ولن يكون هناك خطأ في كراهية المثليين والاعتداء عليهم، أو العنصرية، أو الحروب الاستعمارية.
ولن يكون هناك خطأ في منع الإجهاض، وتنظيم النسل، والجنس بين الراشدين! أي أنه دون القانون الأخلاقي لا يكون عند الملحدين أسس أخلاقية يبنون عليها حججهم المؤيدة لقضاياهم السياسية المفضلة. فليس هناك حق في الإجهاض، ولا المثلية الجنسية.
ولا أي من مقدساتهم السياسية الأخرى لأنه في عالم لا يؤمن بالله ليس هناك حقوق. فما لم يعترف الملحدون بوجود الله وبأن قانونه الأخلاقي يبيح هذه الأنشطة أو يأمر بها. فمواقفهم لا تزيد عن استحسانات ذاتية. وليس هناك التزام أخلاقي على أي شخص ليتفق مع محض استحسانات، أو ليسمح للملحدين أن يفرضوها علينا تشريعياً[3].
فمما يثير السخرية أن الملحدين بتمردهم على القانون الأخلاقي يقوضون الأساس اللازم للتمرد على أي شيء. فالحقيقة أنه دون القانون الأخلاقي، لا يجد أي شخص أساساً موضوعياً لتأييد شيء أو مناهضته. ولكن بما أننا جميعاً نعرف أن القضايا التي تتضمن الحياة والحرية ليست مجرد استحسانات، أي أنها تتضمن حقوقاً أخلاقية فعلية، إذن القانون الأخلاقي موجود.
8 – لو لم يكن هناك قانون أخلاقي، لما كنا نبحث عن أعذار عندما نخرقه:
هل لاحظت أبداً أن الناس يوجدون أعذاراً للسلوك غير الأخلاقي؟ إن تقديم الأعذار هو اعتراف غير مباشر بوجود القانون الأخلاقي. فما الداعي لتقديم الأعذار إن لم يكن هناك سلوك غير أخلاقي؟
حتى قمة الفضائل في ثقافتنا اللاأخلاقية، ألا وهي قبول الآخر، تكشف عن القانون الأخلاقي لأن قبول الآخر نفسه مبدأ أخلاقي. فإن لم يكن هناك قانون أخلاقي، لماذا يجب على أي شخص أن يقبل الآخر؟ والحقيقة أن القانون الأخلاقي يدعونا أن نتجاوز قبول الآخر وصولاً إلى المحبة. فقبول الآخر ضعيف جداً، وذلك لأن قبول الآخر يقول سد مناخيرك واحتمله. ولكن المحبة تقول اذهب وساعده. فقبول الشر ليس من المحبة، إلا أن هذا ما يريدنا الكثير من أبناء ثقافتنا أن نفعله.
فضلاً عن ذلك، الدعوة للتقبل والاحتمال تمثل اعترافاً غير مباشر بأن السلوك الذي نحتمله هو سلوك خاطئ. لماذا؟ لأنك لا تحتاج أن تدعو الناس لتحمل السلوك الجيد، بل السيء فقط[4]. فأنت لا تحتاج أن تقنع أحداً بأن يتقبل سلوك الأم تريزا، ولكنك تحتاج أن تقنعه بتقبل سلوك بعض النسبيين. وكذلك، لا أحد يقدم أعذاراً عندما يتصرف مثل الأم تريزا، ولكننا لا نقدم الأعذار إلى عندما نتصرف عكس القانون الأخلاقي. ولو لم يوجد لما فعلنا ذلك.
المطلق مقابل النسبي: لماذا الخلط؟
إن كان هناك فعلاً قانون أخلاقي مطلق كما بينا بالحجة، فلماذا يؤمن العديد من الناس بنسبية الأخلاق؟ ولماذا يبدو أن العديد من الناس يتبنون قيماً مختلفة؟ منطقياً، يكمن السبب في العجز عن التمييز بين بعض الأمور المختلفة. فلنلق نظرة على تلك الاختلافات لإزالة الخلط:
الخلط 1: الأخلاق المطلقة مقابل السلوك المتغير
من الأخطاء الشائعة عن النسبيين أنهم يخلطون بين السلوك والقيمة. أي أنهم يخلطون بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. فما يفعله الناس عرضة للتغير، ولكن ما يجب أن يفعلون لا يتغير. وهذا هو الفرق بين علم الاجتماع والأخلاق. فعلم الاجتماع وصفي descriptive، في حين أن الأخلاق توجيهية Prescriptive.
وهو ما يعني أن النسبيين غالباً ما يخلطون بين الموقف السلوكي المتغير والواجب الأخلاقي الثابت. فمثلاً، عند مناقشة موضوع أخلاقي مثل الجنس قبل الزواج أو عيش رجل وامرأة معاً دون زواج، غالباً ما تسمع الناس المؤيدين له يقولون شيئاً من قبيل «لاحظوا أننا في القرن الحادي والعشرين»، وكأن السلوكيات الحالية تحدد الصواب والخطأ.
وحتى تبين عبثية التفكير النسبي، ليس عليك إلا أن تحول المناقشة إلى قضية أخلاقية أخطر مثل القتل، الذي ازدادت معدلاته أيضاً في أمريكا اليوم عنها منذ خمسين سنة. فكم عدد النسبيين الذين سيؤيدون القتل بأن يقولوا لنا «لاحظوا أننا في القرن الحادي والعشرين». إن هذا ما يوصلهم إليه تفكيرهم عندما يخلطون بين ما يفعله الناس وما يحب أن يفعلون.
ويتضح جانب آخر من مغالطة ما هو كائن وما يجب أن يكون عندما يقول الناس إنه ليس هناك قانون أخلاقي لأن الناس لا يطيعونه. طبعاً الجميع يعصون القانون الأخلاقي بنسبة ما، بدءًا من الكذب الأبيض وانتهاءً بالقتل. إلا أن هذا لا ينفي وجود قانون أخلاقي ثابت. ولكنه يعني ببساطة أننا جميعاً ننتهكه. فالجميع يرتكبون أخطاء في الرياضيات، إلا أن هذا لا ينفي وجود قواعد رياضية ثابتة.
الخلط 2: الأخلاق المطلقة مقابل الفهم المتغير للحقائق
هناك خطى آخر بين وجود قيمة أخلاقية مطلقة وفهم الحقائق المستخدمة في تطبيق تلك القيمة. فمثلاً أشار سي. إس. لويس إلى أنه في أواخر القرن الثامن عشر كان يحكم على الساحرات كالقتلة. ولكن هذا لا يحدث الآن. والنسبي ستكون حجته: «أرأيت؟ قيمنا الأخلاقية تغيرت لأننا لم نعد نقتل الساحرات. الأخلاق النسبية حسب الزمن والثقافة».
إلا أنه زعم خاطئ. فما تغير ليس المبدأ الأخلاقي الذي مفاده أن القتل خطأ بل إدراك أو فهم الحقائق بخصوص ما إذا كانت “الساحرات” تستطعن فعلاً أن تقتلن الناس بلعناتهن أم لا. فالناس لم يعودوا يعتقدون أن الساحرات قادرات على ذلك. ومن ثم فالناس لم يعودوا يتعبرونهن قتلة. أي أن إدراك الموقف الأخلاق نسبي (ما إذا كانت الساحرات قاتلات فعلاً أم لا)، ولكن القيم الأخلاقية المتضمنة في الموقف ليست نسبية (القتل كان دائماً خطأ وسيظل دائماً خطأ).
والعجز عن التفريق بين الإثنين يؤدي بالناس أيضاً إلى الاعتقاد بأن الاختلافات الثقافية تعكس اختلافات جوهرية في القيم الأخلاقية. فمثلاً، يعتقد البعض أنه بما أن الهندوس يقدسون البقر والأمريكيين يأكلونه. إذن هناك اختلاف جوهري بين القيم الأخلاقية عند الأمريكيين والهندوس. ولكن سبب تقديس الهندوس للبقرة لا يمت بصلة لقيمة أخلاقية جوهرية، ولكنه مرتبط باعتقادهم الديني المختص بتناسخ الأرواح. فالهنود يعتقدون أن البقر قد يحمل أرواح بشر موتى، لذلك لا يأكلونه.
ولكننا في الولايات المتحدة لا نؤمن أن أرواح موتانا قد تسكن في البقر. لذلك نأكل البقر بحرية. وفي التحليل النهائي، ما يظهر أنه اختلاف أخلاقي هو في الواقع اتفاق، فكلانا يؤمن أن أكل الجدة خطأ! فالقيمة الأخلاقية الجوهرية التي تقول إنه من الخطأ أن تأكل جدتك يعتبرها أبناء الثقافتين قيمة مطلقة. ولكنهم يختلفون فقط فيما إذا كانت روح الجدة في البقرة أم لا! فأهل الثقافتين يختلفون في إدراكهم للحقائق المتصلة بالقيمة الأخلاقية، ولكنهم يتفقون جوهرياً على ضرورة احترام القيمة الأخلاقية.
الخلط 3: الأخلاقيات المطلقة مقابل تطبيقها على مواقف بعينها
كما رأينا ردود أفعال الناس تعرفهم الصواب من الخطأ أكثر من أفعالهم. فعندما يقع الناس ضحايا سلوك سيء، لا يجدون صعوبة في فهم أن السلوك خاطئ على نحو مطلق. ولكن حتى إن انتهت ضحيتان إلى الاختلاف على أخلاقية فعل بعينه. هذا ما يعنى أن الأخلاق نسبية. لأنه يمكن أن يوجد قانون أخلاقي مطلق حتى إن عجز الناس عن معرفة الفعل الصائب الذي يجب عمله في موقف بعينه.
فكر في المعضلة الأخلاقية التي غالباً ما يستخدمها أساتذة الجامعات ليجعلوا طلابهم يؤمنون بالنسبية: هناك خمسة أشخاص على قارب نجاة لا يكفي إلا لأربعة. فإن لم يلق أحدهم في الماء، سيموت الجميع. ويبذل الطلاب قصارى جهدهم لحل المعضلة ويتوصلون لقرارات مختلفة، وأخيراً يستخلصون أن اختلافهم يثبت أن الأخلاق لا بد أن تكون نسبية.
إلا أن المعضلة في الواقع تثبت العكس، ألا وهو أن الأخلاق مطلقة. كيف؟ لأنه لو كانت الأخلاق نسبية لما كانت هناك معضلة أصلاً! لو كانت الأخلاق نسبية ولو لم يكن هناك حق مطلق في الحياة، لقلت: «ليكن ما يكون! ارموا الجميع من القارب! لا يهم». إن سبب صعوبة المعضلة هو أننا نعلم قيمة الحياة.
ورغم أن الناس يخطئون فهم المواقف المعقدة، فهم لا يخطئون في الأساسيات. فمثلاً، الجميع يعرفون أن القتل خطأ. هتلر كان يعرف ذلك. لذلك كان عليه أن ينزع صفة الإنسانية عن اليهود حتى يبرر قتله لهم. وحتى آكلو لحوم البشر يبدو أنهم يعرفون أن قتل البشر الأبرياء خطأ.
صحيح أنهم قد يعتقدون أن أفراد القبائل الأخرى ليسوا بشراً. ولكن الاحتمال الأكبر أنهم يعتبرونهم بشراً. وإلا، كما يشير ج. بودجنشفسكي. لماذا يؤدي “آكلو لحوم البشر” طقوساً تكفيرية معقدة قبل قتل الناس؟ فما كانوا ليؤدوا هذه الطقوس إلا إذا كانوا يعتقدون أن هناك خطأ ما فيما سيفعلون.
إذن الأساسيات واضحة، حتى وإن كانت بعض المشكلات الصعبة ليست بهذا الوضوح. علاوة على ذلك، وجود مشكلات صعبة في الأخلاق لا ينفي وجود قوانين أخلاقية موضوعية، تماماً كما أن المشكلات الصعبة في العلم لا تنفي وجود قوانين طبيعية موضوعية. فعندما يواجه العلماء مشكلة صعبة في العالم الطبيعي (أي عندما يصعب عليهم معرفة الإجابة) لا ينكرون وجود عالم موضوعي. ويجب ألا ننكر وجود الأخلاق لمجرد أننا نجد صعوبة في معرفة الحل في بضعة مواقف صعبة.
فكما أن العلم يحوي مشكلات سهلة وأخرى صعبة، كذلك الأخلاق. والإجابة عن سؤال علمي بسيط مثل “لماذا تسقط الأشياء إلى الأرض؟” تثبت وجود قانون طبيعي واحد أو قوة طبيعية واحدة على الأقل (أي الجاذبية).
وكذلك الإجابة الصادقة على سؤال أخلاقي بسيط مثل “هل القتل مبرر؟” تثبت وجود قانون أخلاقي واحد على الأقل (أي: لا تقتل). فإن وجد واجب أخلاقي واحد فقط (مثل لا تقتل، أو لا تغتصب، أو لا تعذب الرضع)، إذن القانون الأخلاقي موجود. وإن كان القانون الأخلاقي موجوداً، إذن مشرع القانون الأخلاقي موجود.
الخلط 4: أمر مطلق (ما) مقابل ثقافة نسبية (كيف)
هناك فارق آخر مهم، غالباً ما يتجاهله دعاة النسبية الأخلاقية بين الطبيعة المطلقة للأمر الأخلاقي والطريقة النسبية التي يتكشف بها ذلك الأمر في الثقافات المختلفة. فمثلاً، كل الثقافات عندها نوع من التحية، وهو تعبير عن المحبة والاحترام. إلا أن الثقافات تختلف اختلافاً كبيراً فيما بينها في شكل تلك التحية. ففي الثقافات تكون قبلة، وفي ثقافات أخرى حضن، وفي ثقافات أخرى مصافحة أو انحناءة. فما يجب فعله مشترك بين كل الثقافات، ولكن كيف يجب فعله يختلف بين الثقافات. والعجز عن إدراك هذا الفرق يضلل الكثيرين فيعتقدون أن اختلاف ممارسات الناس يعني اختلاف قيمهم. إلا أن القيمة الأخلاقية مطلقة، ولكن كيفية ممارستها نسبية.
الخلط 5: الأخلاق المطلقة مقابل الاختلافات الأخلاقية
غالباً ما يشير النسبيون إلى قضية الإجهاض، وهي قضية خلافية ليبينوا أن الأخلاق نسبية. فالبعض يرى أن الإجهاض مقبول، في حين أن البعض الآخر يعتبره قتلاً. إلا أن اختلاف الآراء حول الإجهاض لا يعني نسبية الأخلاق.
وفي الحقيقة أن الخلاف حول قضية الإجهاض برمته، لا يعتبر مثالاً على نسبية القيم الأخلاقية، بل إن الخلاف يرجع أساساً إلى أن كل جانب يدافع عما يرى أنه قيمة أخلاقية مطلقة: ألا وهو حماية الحياة والسماح بالحرية (أي السماح للمرأة أن “تتحكم في جسدها”). ولكن الجدل يدور حول أي القيمتين تمس (أو لها الأولوية في) قضية الإجهاض. فلو لم يكن الجنين كائناً بشرياً، إذن يجب أن يطبق التشريع القيمة المناصرة للحرية.
ولكن بما أن الجنين هو فعلاً كائن بشري، يجب أن يطبق التشريع القيمة المناصرة للحياة؛ لأن حق الشخص في الحياة يَجُبّ حق شخص آخر في الحرية الشخصية. (فالجنين ليس مجرد جزء من جسد المرأة، ولكن هو أيضاً له جسده بشفرته الوراثية الفريدة، وفصيلة دمه، ونوعه). حتى إن كنا في شك بشأن الوقت الذي فيه تبدأ الحياة، يجب أن هذا الشك يرجح كفة حماية الحياة، فالعقلاء لا يطلقون النيران إلا إذا كانوا متأكدين على نحو مطلق أنهم لا يقتلوا إنساناً بريئاً.
تذكر أن رد فعلنا لممارسة بعينها يكشف معتقداتنا الحقيقية عن أخلاقية الممارسة. قد ذكر رونالد ريجان Ronald Reagan ملاحظة ذكية قائلاً: «لقد لاحظت أن كل من يؤيدون الإجهاض هم من المولودين». فعلاً، كل مناصري الإجهاض سيتحولون فوراً إلى مناصرين للحياة لو عادوا إلى الرحم. فرد فعلهم لاحتمالية تعرضهم للقتل سيذكرهم أن الإجهاض خاطئ تماماً.
وبالطبع معظم الناس يعرفون في أعماق قلوبهم أن الطفل الذي لم يولد بعد هو إنسان، ومن ثم يعرفون أن الإجهاض خطأ. وحتى بعض النشطاء المؤيدين للإجهاض يعترفون أخيراً بذلك[5]. ولذا، في النهاية هذا الخلاف الأخلاقي لا يرجع إلى نسبية الأخلاق ولا إلى غموض القانون الأخلاقي.
ولكن هذا الخلاف الأخلاقي موجود لأن البعض يخمدون القانون الأخلاقي ليبرروا ما يريدون فعله. وهو ما يعني أن تأييد الإجهاض مسألة إرادية أكثر منه مسألة عقلية (للاطلاع على تناول أكثر تفصيلاً لهذا الموضوع وغيره من الموضوعات الأخلاقية، رادع كتابنا بعنوان “تشريع الأخلاق”).
الخلط 6: غايات مطلقة (قيم) مقابل وسائل نسبية
غالباً ما يخلط النسبيون الأخلاقيون بين الغاية (القيمة نفسها) ووسيلة بلوغ تلك الغاية والكثير من النزاعات السياسية تقع في هذه الفئة. ففي بعض القضايا (لا كلها طبعاً) الليبراليون والمحافظون يريدون أشياء واحدة، أي غايات واحدة، ولكنهم يختلفون في أفضا الوسائل لإدراك تلك الغايات.
فمثلاً، بخصوص الفقراء، يعتقد الليبراليون أن المعونات الحكومية أفضل وسيلة لمساعدتهم. ولكن بما أن المحافظين يعتقدون أن هذه المعونات تخلق نوعاً من الاعتمادية، فهم يفضلون خلق فرص اقتصادية حتى يساعد الفقراء أنفسهم. لاحظ أن الغاية واحدة (مساعدة الفقراء)، ولكن الوسيلة مختلفة.
وكذلك كل من مؤيدي الحرب ومؤيدي السلم يرغبون في السلام (الغاية)؛ ولكنهم ببساطة يختلفون حول ما إذا كان الجيش القوي هو أفضل وسيلة لتحقيق هذا السلام أم لا. فكلاهما يتفقان على الغاية المطلقة، ولكنهما يختلفان في الوسيلة النسبية لتحقيقها.
القانون الأخلاقي: ماذا يقول عنه الداروينيون؟
إذن الدليل على القانون الأخلاقي معقول، والاعتراضات عليه تخطئ الهدف. فكيف يتعامل الداروينيون إذن مع مسألة الأخلاق؟ في الواقع معظم الداروينيين يتجنبون الموضوع نهائياً. لماذا؟ لأنه ليس من السهل أن يفسروا وجود صواب وخطأ موضوعيين (وهو ما يعرفه حتى الداروينيين في قلوبهم) إلا إذا كان هناك مشرع للقانون الأخلاقي.
إلا أن الدارويني إدوارد أو. ويلسون Edward O. Wilson يعد استثناء لافتاً للنظر. فهو يزعم أن حسنا الأخلاقي تطور كما تطورنا نحن، أي بالانتخاب الطبيعي. وبينما يعترف ويلسون أن «التقدم الذي تحقق لاستكشاف الحس الأخلاقي بطرق بيولوجية ضعيف جداً»، يؤكد أن العملية البيولوجية لانتقال الجينات من الآباء إلى الأبناء «عبر آلاف الأجيال أنشأت حتماً الأحكام الأخلاقية». أي أن الأخلاق تتحدد مادياً ووراثياً. وهي تقوم على مشاعر أو نزعات فطرية موروثة، لا على مقياس موضوعي للصواب والخطأ. ولكننا رأينا عجز الانتخاب الطبيعي عن تفسير الأشكال الجديدة من الحياة (الفصل السادس). وسنرى بعد قليل أن الانتخاب الطبيعية عاجز كذلك عن تفسير “الأحكام الأخلاقية” الكامنة في تلك الأشكال الجديدة من الحياة.
أولاً، الداروينية تؤكد أنه ليس هناك إلا المادة، ولكن المادة لا تحوي أخلاقاً. فما وزن الكراهية؟ وهل الحب له ذرة؟ وما التركيب الكيميائي لجزيء القتل؟ إنها أسئلة بلا معنى لأن الجسيمات الفيزيائية ليست مسؤولة عن الأخلاق. فإن كانت المواد هي المسؤول الوحيد عن الأخلاق، إذن هتلر لم تكن عليه أي مسؤولة أخلاقية عما فعل، كل المشكلة أن جزيئاته كانت رديئة. هذا كلام فارغ، والجميع يعلم ذلك.
فالأفكار البشرية والقوانين الأخلاقية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان ليس أشياء مادية، مثلها مثل قوانين المنطق والرياضيات. فهي كيانات غير مادية لا يمكن أن توزن ولا أن تقاس فيزيائياً. ونتيجة لذلك، لا يمكن تفسيرها بلغة مادية عن طريق الانتخاب الطبيعي أو غيره من الوسائل الإلحادية.
ثانياً، لا يمكن أن تكون الأخلاق مجرد فطرة كما يرجح ويلسون لأن: 1) لدينا نزعات فطرية متصارعة، 2) غالباً ما يكون هناك شيء آخر يقول لنا أن نتجاهل الفطرة الأقوى حتى نفعل شيئاً أنبل. فمثلً، إن تعرض شخص لسرقة بالإكراه وسمعته يستغيث طالباً النجدة، قد تكون فطرتك الأقوى أن تظل في الأمان ولا “تورط نفسك”، وفطرتك الأضعف (إن جاز أن نسميها هكذا) تميل إلى المساعدة. وهو ما يعبر عنه سي. إس. لويس قائلاً:
ولكنك ستجد بداخلك، إضافة إلى هاتين النزعتين، شيئاً ثالثاً يخبرك بأنه ينبغي عليك أن تتبع النزعة إلى المساعدة، وأن تقمع النزعة إلى الهروب. هذا الشيء الذي يحكم بين النزعتين، الذي يقرر أي النزعتين يجب تعزيزها، لا يمكن أن يكون هو نفسه أياَ منهما. وإلا نقول أيضاً أن النوتة الموسيقية التي تخبرك في لحظة معينة أن تعزف نغمة معينة على البيانو دون غيرها، هي نفسها إحدى النغمات الموجودة على أصابع البيانو. إن القانون الأخلاقي يخبرنا بالنغمة التي يجب أن نعزفها، ونزعاتنا الفطرية هي مجرد أصابع البيانو.
ثالثاً، يقول ويلسون إن الأخلاق الاجتماعية تطورت لأن تلك الأخلاق “المتعاونة” ساعدت البشر على أن يبقوا على قيد الحياة معاً. إلا أن هذا يفترض غاية للتطور، ألا وهي البقاء، في حين أن الداروينية بطبيعتها لا غاية لها لأنها عملة غير ذكية.
وحتى إن قبلنا أن البقاء هو الغاية، لا يمكن للداروينيين أن يفسروا ما يقوم به الناس من سلوكيات تدمرهم رغم معرفتهم بذلك (مثل التدخين، وإدمان الخمور والمخدرات، والانتحار…. إلخ) ولا يمكن للداروينيين أيضاً أن يفسروا قمع الناس غالباً لنزعتهم الفطرية نحو البقاء في سبيل مساعدة الآخرين، حتى إن تطلب الأمر التضحية بحياتهم في بعض الأحيان[6]، وكلنا نعرف أن هناك أنبل من مجرد البقاء على قيد الحياة: الجنود يضحون بأنفسهم من أجل بلادهم، والآباء والأمهات من أجل أبنائهم، وإن كانت المسيحية صحيحة، فالله ضحى بابنه من أجلنا.
رابعاً، ويلسون وغيره من الداروينيين يفترضون أن البقاء شيء “خير”، ولكن ليس هناك خير حقيقي دون القانون الأخلاقي الموضوعي. وفي الواقع هذه هي مشكلة الأنظمة الأخلاقية البراجماتية والنفعية التي تقول “افعل ما ينفع” أو “افعل ما يجلب الخير الأعظم” افعل ما ينفع في تحقيق غاية مَنْ، غاية الأم تريزا أم غاية هتلر؟ افعل ما يجلب الخير الأعظم بناء على تعريف من للخير، الأم تريزا أم هتلر؟ إن هذه الأنظمة الأخلاقية لا بد أن تختلس لنفسها خفية القانون الأخلاقي لتعريف الغايات التي يجب أن نعمل على تحقيقها ولتعريف “الخير” الأعظم.
خامساً، الداروينيون يخلطون بين كيفية معرفة المرء للقانون الأخلاقي ووجود القانون الأخلاقي. حتى إن كنا نعرف بعض “أحكامنا الأخلاقية” نتيجة للعوامل الوراثية أو البيئية، هذا لا يعني عدم وجود قانون أخلاقي موضوعي خارجنا.
برز هذا الموضوع في المناظرة بين بيتر آتكينز ووليم لين كريج. فقد زعم آتكينز أن الأخلاق تطورت من الوراثة ومن “أمخاخنا الضخمة”. ولكن كريج أصاب في إجابته قائلاً: «إن هذا الكلام يبين، في أفضل الأحوال، كيف تكتشف القيم الأخلاقية، ولكنه لا يبين أن تلك القيم مخترعة». مؤكد أنه من الممكن أن أرث قدرات رياضية من أمي وأتعلم منها جدول الضرب، ولكن قوانين الرياضيات موجودة بغض النظر عن كيفية معرفتي بها. وكذلك، الأخلاق موجودة بصرف النظر عن الكيفية التي نعرفها بها.
وأخيراً، الداروينيون لا يستطيعون أن يفسروا لماذا يجب على أي شخص أن يطيع أي “حكم أخلاقي” يقوم على البيولوجيا. لماذا يجب على الناس ألا يقتلوا، أو يغتصبوا، أو يسرقوا ليحصلوا على ما يريدون إن لم يكن هناك أي شيء أبعد من هذا العالم؟ لماذا يجب على القوي أن “يتعاون” مع الضعيف رغم أن القوي يستطيع أن يبقى على قيد الحياة مدة أطول باستغلال الضعيف؟ وعلى أي حال، التاريخ زاخر بمجرمين ودكتاتوريين أطالوا حياتهم لأنهم تحديداً عصوا كل “الأحكام الأخلاقية” بقمع خصومهم القضاء عليهم.
الأفكار لها عواقب
إن كان الداروينيون على حق في أن الأخلاق تنبع من مصدر طبيعي، إذن الأخلاق ليست موضوعية ولا مطلقة، لأنه إن لم يكن هناك إله وإن كان البشر قد تطوروا من مادة لزجة، إذن وضعنا الأخلاقي لا يرقى عن المادة اللزجة؛ لأنه ليس هناك شيء أبعد منا يغرس فينا أخلاقاً موضوعية أو كرامة.
وقد أدرك الداروينيون وأتباعهم مضامين هذه الفكرة. وفي الواقع استخدم أدولف هتلر Adolf Hitler نظرية داورين كتبرير فلسفي للهولوكوست. وقد سطر في كتابه المنشور سنة 1924 بعنوان Mein Kampf “كفاحي” هذه الكلمات:
إن كانت الطبيعة لا ترغب في أن الضعفاء يخالطون الأقوياء، فهي ترفض أن جنساً أرقى يختلط بجنس أدنى. وذلك لأنه في هذه الحالة كان ما بذلته من جهود على مدى مئات الآلاف من السنين لتأسيس مرحلة تطورية أعلى في الكينونة سيذهب أدراج الرياح.
إلا أن هذه الحماية تسير جنباً إلى جنب مع القانون الجارف الذي يقضى بانتصار الأقوى والأفضل وبحقه في البقاء. فمن أراد العيش عليه أن يحارب. ومن لا يرغب في أن يحارب في هذا العالم، حيث الكفاح المستمر هو قانون الحياة، لا حق له في الوجود.
هتلر، مثل غيره من الداروينيين، يشخصن الطبيعة دون وجه حق بأنه ينسب لها الإرادة (أي “الطبيعة لا ترغب”). وفكرته الرئيسية هي أن هناك أجناساً أرقى وأجناساً أدنى. واليهود بما أنهم جنس أدنى، لا حق لهم في الوجود إن كانوا لا يرغبون في الحرب. أي أن العنصرية ثم الإبادة الجماعية هي التداعيات المنطقية للداروينية. ومن ناحية أخرى، المحبة ثم التضحية بالذات هي التداعيات المنطقية للمسيحية. الأفكار لها عواقب.
لقد انكشفت العنصرية المرتبطة بالتطور أثناء “محاكمة سكوبس في قضية القرد” الشهيرة سنة 1925. فكتاب الأحياء المقرر على المدرسة الثانوية الذي تسبب في المحاكمة كان يتكلم عن خمسة أجناس من البشر، وخَلُص إلى أن الجنس “القوقازي” هو “أرقى الأنواع جميعاً[7]”. وهو يتناقض طبعاً بشكل مباشر مع تعليم الكتاب المقدس (تك 1: 27؛ أع 17: 26، 29؛ غل 3: 28). وهو يتناقض أيضاً مع ما يؤكده إعلان الاستقلال (“كافة البشر مخلوقون سواسية”).
وفي زمن أقرب، استخدم بيتر سينجر Peter Singer الدارويني والأستاذ في جامعة برينستون Princeton الداروينية ليؤكد أن «حياة المولود الجديد أقل قيمة من حياة الخنزير، أو الكلب، أو الشمبانزي». نعم ما قرأته قيل بالفعل.
ما عواقب أفكار سينجر الداروينية الصادمة؟ إنه يعتقد أن الآباء والأمهات يجب أن يمكنهم قتل أطفالهم حديثي الولادة حتى سن 28 يوماً! وهذه المعتقدات تتفق اتفاقاً تاماً مع الداروينية. فإن كنا جميعاً نشأنا من مادة لزجة، فلا أساس للقول بأن البشر أفضل أخلاقياً من أي سلالة أخرى. ولكن السؤال الوحيد هو لماذا نُحد قتل الأطفال بسن 28 يوماً، أو 28 شهراً، أو 28 سنة؟ إن لم يكن هناك مشرع للقانون الأخلاقي، فليس هناك خطأ في القتل في أي عمر.
وطبعاً الداروينيون أمثال سينجر قد يرفضون هذه النتيجة، ولكنهم لا يملكون أساساً موضوعياً للرفض إلا إذا تمكنوا من الاحتكام إلى مقياس أعلى منهم، ألا وهو مشرع القانون الأخلاقي.
وجيمز ريتشلز James Rachels مؤلف كتاب “مخلوقون من الحيوانات: المضامين الأخلاقية للداروينية” Created from Animals: The Moral Implication of Darwinism يدافع عن الموقت الدارويني الذي مفاده أن النوع البشري ليس له قيمة في ذاته تفوق أي نوع آخر. وقد كتب ريتشلز عن ذوي الإعاقة الذهنية قائلاً:
ماذا نقول عنهم؟ الاستنتاج الطبيعي وفقاً للتعليم الذي نحن بصدده [الداروينية] يقول إن مركزهم يتساوى مع الحيوانات. وريما يجب أن نستخلص أيضاً أنه يمكن استخدامهم كما نستخدم الحيوانات غير البشرية. ربما كفئران تجارب، أو كغذاء؟
على قدر بشاعة هذا الكلام، أي استخدام ذوي الإعاقة الذهنية كفئران تجارب أو غذاء، إلا أن الداروينيين لا يستطيعون أن يقدموا سبباً أخلاقياً لعدم جواز استخدام أي كائن بشري على هذا النحو. فالداوينيون لا يستطيعون أن يدينوا التجارب التي تشبه التجارب النازية لأن العالم الدارويني لا يحوي مقياساً أخلاقياً موضوعياً.
ومؤخراً كتب داروينيان آخران، هما راندي ثورنهيل Randy Thornhill وكريج بالمر Craig Palmer كتاباً يؤكد أن الاغتصاب عاقبة طبيعية للتطور. فهما يعتقدان أن الاغتصاب “ظاهرة طبيعية بيولوجية ناتجة عن الإرث التطوري البشري” بالضبط مثل “رقط النمر وعنق الزرافة الطويل”.
ورغم أن هذه الاستنتاجات الداروينية عن القتل والاغتصاب صادمة بحق، يجب ألا تكون مفاجئة لأي شخص يفهم التداعيات الأخلاقية للداروينية، لماذا؟ لأنه طبقاً للداروينيين كل السلوكيات تحدد وراثياً. ورغم أن بعض الدارونيين قد يختلفون مع فكرة أن القتل والاغتصاب ليسا خطأ (تحديداً لأن القانون الأخلاقي يخاطبهم في ضمائرهم). فتلك الاستنتاجات هي النتيجة الحتمية لمنظورهم الفلسفي للحياة.
لأنه إن كان كل ما هنالك هو الأشياء المادية، إذن القتل والاغتصاب ليسا إلا نتائج التفاعلات الكيميائية في مخ الجاني التي تنشأ عن الانتخاب الطبيعي. علاوة على ذلك، القتل والاغتصاب لا يمكن أن يكونا خطأ موضوعياً (أي ضد القانون الأخلاقي) لأنه إن لم يكن هناك إلا المواد الكيميائية. فليس هناك قوانين. فالقوانين الأخلاقية الموضوعية تتطلب مشرعاً للقانون متجاوزاً لحدود الزمان والمكان، ولكن المنظور الدارويني للحياة استبعده مقدماً.
لذا، الداروينيون المتسقون مع هذا المنظور لا يمكنهم إلا أن يعتبروا أن استهجان القتل والاغتصاب مجرد رأي شخصي، وأنها لا يمثلان أخطاء أخلاقية حقيقية.
ولفهم ما يكمن وراء التفسير الدارويني للأخلاق، علينا أن نميز بين التأكيد assertion والحجة argument. التأكيد يقرر استنتاجاً، أما الحجة تقرر الاستنتاج ثم تؤيده بالدليل. والداروينيون يقدمون تأكيدات، لا حججاً. فليس هناك أدلة تجريبية ولا جنائية على أن الانتخاب الطبيعي يمكنه أن يفسر الأشكال الجديدة للحياة، فكم بالحري الأخلاق. والداروينيون يؤكدون ببساطة أن الأخلاق تطورت طبيعياً لأنهم يعتقدون أن الإنسان تطور طبيعياً.
وهم يعتقدون أن الإنسان تطور طبيعياً، لا لأن عندهم أدلة على هذا الاعتقاد. ولكن لأنهم استبعدوا المسببات الذكية مقدماً. لذلك، التفسير الدارويني للأخلاق يضاف إلى سلسلة القصص التي “بلا دليل” التي تقوم على القياس الدائري والافتراضات الفلسفية المسبقة الخاطئة.
الملخص والخلاصة
عندما نقدم حلقتنا النقاشية بعنوان “الاثنتا عشرة نقطة التي تثبت صحة المسيحية”، نجد أن العبارتين التاليتين عن الأخلاق تجذب انتباه الحاضرين فوراً:
إن لم يكن هناك إله، فما فعله هتلر كان مجرد مسألة رأي!
إن كان شيء واحد على الأٌقل خطأ حقيقياً من الناحية الأخلاقية، كأن نقول إن تعذيب الرضع خطأ، أو إن اختراق المباني عمداً بالطائرات التي تقل أبرياء خطأ، إذن الله موجود.
هاتان الجملتان تساعدان الناس على إدراك أنه بدون مصدر موضوعي للأخلاق، كل ما ندعوه قضايا أخلاقية ليس إلا استحسان شخصي. هتلر كان يحب أن يقتل الناس، والأم تريزا كانت تحب أن تساعدهم. فإن لم يكن هناك مقياس أعلى من هتلر والأم تريزا، إذن ليس هناك مصيب ولا مخطئ بحق، ولكنها آراء شخصية عكس بعضها البعض.
ولحسن الحظ أنه، كما رأينا، هناك مقياس أخلاقي حقيقي أعلى من البشر. وقد كتب سي. إس. لويس «البشر في جميع أنحاء البسيطة يعرفون هذه الفكرة الغريبة التي مفادها أنه يجب عليهم أن يسلكوا وفقاً لهذه الطريقة. فهم يعرفون قانون الطبيعة ولكنهم يكسرونه. هاتان الحقيقتان هما أساس كل تفكيرنا الواضح عن أنفسنا وعن الكون الذي نعيش فيه».
ونتمنى أن نكون قد قمنا بشيء من التفكير الواضح في هذا الفصل. وإليك ملخص ما تناولناه:
- هناك مقياس مطلق للصواب والخطأ مكتوب على قلوب كافة البشر. الناس قد ينكرونه وقد يخمدونه، وأفعالهم قد تناقضه، ولكن ردود أفعالهم تكشف أنهم يعرفونه.
- النسبية خاطئة. فالبشر لا يحددون الصواب والخطأ، ولكننا نكتشف الصواب والخطأ. فلو كان البشر يحددون الصواب والخطأ، لكان “على صواب” أي شخص يؤكد أن الاغتصاب والقتل والهولوكوست أو أي شر آخر ليس خطأ. ولكننا نعرف حدسياً أن تلك الأفعال خاطئة من خلال ضمائرنا التي تعكس القانون الأخلاقي.
- هذا القانون الأخلاقي لا بد أن يكون له مصدر أعلى منا لأنه أمر توجيهي منقوش على قلوب جميع البشر. وبما أن الأوامر دائماً ما يكون لها آمر يصدرها، أي أنها لا تنشأ من الفراغ، فالآمر الذي أصدر القانون الأخلاقي (الله) لا بد أن يكون موجوداً.
- هذا القانون الأخلاقي هو مقياس الله للصواب، وهو يساعدنا أن نحكم في الآراء الأخلاقية المختلفة التي يتبناها الناس. ودون مقياس الله، لا يبقى لنا إلا هذه الآراء البشرية. ولكن القانون الأخلاقي هو المقياس النهائي الذي يقاس به كل شيء. (في اللاهوت المسيحي القانون الأخلاقي هو طبيعة الله نفسها. وهو ما يعنى أن الأخلاق ليست اعتباطية، إنها ليست “افعل هذا ولا تفعل ذاك لأني أنا الله وأنا أقول ذلك”. لا، الله لا يخترع قواعد بقرارات فجائية. ولكن مقياس الصواب هو ذات طبيعة الله نفسه: عدالة بلا حدود ومحبة بلا حدود.
- رغم أن الاعتقاد الشائع هو أن كل الأخلاق نسبية، فالقيم الأخلاقية الجوهرية مطلقة. وهي تتجاوز الثقافات. والتشوش حول هذا الأمر غالباً ما يقوم على سوء فهم أو سوء تطبيق المطلقات الأخلاقية، لا على رفض حقيقي لها. وهو ما يعني أن القيم الأخلاقية مطلقة حتى إن كان فهمنا لها أو للظروف التي يجب تطبيقها فيها ليس مطلقاً.
- الملحدون لا يملكون أساساً حقيقياً للصواب والخطأ الموضوعيين. وهو ما لا يعني أن الملحدين ليس أخلاقيين أن أنهم لا يعرفون الصواب من الخطأ. بل على العكس، الملحدون يستطيعون أن يعرفوا الصواب من الخطأ، وهم يعرفونه بالفعل لأن القانون الأخلاقي منقوش على قلوبهم كما على قلوب سائر البشر أجمعين. ولكنهم بينما يعتقدون في الصواب والخطأ الموضوعيين، لا يجدون وسيلة لتبرير هذا المعتقد (إلا إذا اعترفوا بمشرع للقانون الأخلاقي، وعندئذ لا يكونون ملحدين).
وفي النهاية لا يمكن للإلحاد أن يبرر صواب أو خطأ أي شيء من الناحية الأخلاقية. فهو لا يستطيع أن يضمن حقوق الإنسان ولا العدالة النهائية في الكون. فلكي تكون ملحداً، ملحداً متسقاٌ مع مبادئه، عليك أن تؤمن أنه لا خطأ حقيقي في القتل، ولا الاغتصاب، ولا الإبادة الجماعية، ولا التعذيب، ولا غير ذلك من سائر الأفعال الوحشية. ولكنك بالإيمان عليك أن تصدق أنه لا فرق أخلاقي بين القاتل والمرسل.
ولا بين المدرس والإرهابي، ولا بين الأم تريزا وهتلر. أو بالإيمان عليك أن تصدق أن المبادئ الأخلاقية الحقيقية نشأت من لا شيء. وبما أنه واضح أن هذه المعتقدات غير منطقية، فلسنا نملك الإيمان الكافي للإلحاد.
[1] مؤسس إذاعة مسيحية باسم “الشبكة الإذاعية المسيحية” Christian Broadcasting Network وهو رجل أعمال وسياسي وكاتب وناشط في العمل الإنساني (http://www.patribertson.com/index.asp)، تم الاطلاع على الرابط بتاريخ 23/10/2016 (المترجمة).
[2] مؤسس منظمة سياسية باسم “الأغلبية الأخلاقية” Moral Majority لدعم القيم الأخلاقية المحافظة، ومبشر تلفزيوني توفي 2007 (http://www.britannica.com/biography/Jerry-Falwell)، تم الاطلاع على الرابط بتاريخ 23/10/2016 (المترجمة).
[3] خلافاً للفكرة الشائعة، فإن الملحدين كغيرهم من العاملين بالسياسة يحاولون تشريع الأخلاق. وكتابنا “تشريع الأخلاق” يتناول هذا الموضوع بالتفصيل Frank Turek and Norman Geisler, Legislating Morality [Eugene. Ore.: Wipf & Stock, 2003. صدر سابقاً عن دار نشر Bethany, 1998.
[4] الكلمة الإنجليزية التي ترجمناها في هذا الكتاب إلى “قبول الآخر” (وهي ترجمة شائعة لها) هي tolerance ومن معانيها اللغوية: القدرة على احتمال شيء غير مسر دون التضرر منه. لذلك فضلنا ترجمتها هنا إلى “تقبل واحتمال” لتناسب المعنى المقصود في هذا السياق. (المترجمة).
[5] تعد نعمي وولف Naomi Wolf الناشطة النسائية مثالاً بارزاً على هذه الحالة. فهي تعترف أن الجميع يعلمون أن الطفل قبل ولادته إنسان. وأن الإجهاض خطية حقيقية تستلزم كفارة. ولكن نعمي بداً من أن تقترح القضاء على الإجهاض، تقترح أن النساء اللاتي تجهضن تنظمن سهرة بالشموع في مراكز الإجهاض الطبية تعبيراً عن حزنهن! هو ما يشبه طقساً تكفيرياً مثل طقوس أكلي لحوم البشر – معذرة لهذا التشبيه.
[6] يقول جفري شلوس Jeffrey Schloss الحاصل على دكتوراه في علم البيئة وعلم أحياء التطور بأنه رغم من أن بعض السلوكيات التي تتسم بالغيرية والتضحية بالذات قد يمكن تفسيرها تفسيراً داروينياً، هناك سلوكيات أخرى لا يمكن تفسيرها بهذه الطريقة؛ ويركز شلوس بوجه خاص على السلوكيات التي ساعدت من كان يمكن أن يقعوا ضحية للهولوكوست وخبأتهم. انظر فصلاً بقلم جفري شلوس بعنوان Evolutionary Account of Altruism and the Problem of Goodness by Design, in William Dembski, ed,. Mere Creation Downers Grove, I11.: InterVarsity Press, 1998, 236-261.
[7] إليك النص كاملاً: «أجناس البشر – يوجد في الوقت الحالي خمسة أجناس أو تنوعات من البشر على وجه الأرض. وكل منها يختلف عن الآخر اختلافاً كبيراً في النزعات الفطرية. والعادات الاجتماعية، وإلى حد ما في البنية. فهناك النوع الإثيوبي أو الزنجي الذي نشأ في أفريقيا، وجنس الملايو أو البني وهو من جزر الهادي، والهنود الحمر. والجنس المنغولي أو الأصفر ومنهم السكان الأصليون للصين واليابان والأسكيمو، وأخيراً الجنس القوقازي أرقى الأنواع جميعاً الذي يمثله سكان أوروبا وأمريكا البيض المتحضرون» (جورج وليم هنتر George William Hunter، “أسس علم الأحياء: مقدمة في صورة مشكلات” Essentials of Biology: Presented in Problems [New York, Cincinnati, Chicago: American Book, 1911], 230.
الأم تريزا مقابل هتلر – الأخلاق هل هي موضوعية أم نسبية؟
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث