مجتمع الله الجديد : مجتمع الله في فعله
مجتمع الله الجديد : مجتمع الله في فعله
كل مجتمع – سواء كان بدائياً أو متحضراً – وجد أنه من الضروري أن تكون له أحكام وقواعد تحكم سلوك أعضائه. وهذه الأحكام بكل بساطة تأتي نتيجة الخبرة التي اكتسبوها عن أفضل الطرق لعمل الأشياء. وأحياناً، كما هو الحال بالنسبة لقليل من مجموعات قوانين الشرق الأوسط قديماً، تنبع القوانين من المعتقدات الدينية.
وبين آونة وأخرى، كما هو الحال في العهد القديم، نجد خليطاً بين الناحيتين. وليس معنى هذا أن العهد القديم بدا على هذا القدر من البساطة بالنسبة لأولئك الذين حاولوا أن يتبعوه أيام يسوع. لأنه في ذلك الحين كان العهد القديم قد صار معقداً نتيجة إضافات تفسيرات وتطبيقات مفصلة – إلى الدرجة التي كان يتطلب الأمر معها أن يكون الإنسان متخصصاً في الدراسات اللاهوتية. والأصعب من ذلك هو أن يحفظها.
وموقف يسوع من السلوك كان مختلفاً تماماً عن ذلك. وفي مناسبات عديدة تحدي القواعد التي كان يضعها الفريسيون. فعلى سبيل المثال، فإنه بالنسبة لموضوع السبت، أعلن يسوع قناعته بأن “السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت” فهو يوم جعل ليستخدمه الناس بحيث يتمتعون فيه، لا لأن يكون يوماً مملاً كئيباً يقضي في محاولة يائسة لعدم تدنيسه. وكان الفريسيون مستاءين طبعاً لتجهل ناموسهم، لأنه على أية حال كان الغرض المعترف به منه هو مساعدة الناس على إرضاء الله، وكيف يتسنى لهم ذلك إلا عن طريق إطاعة متطلباته؟
وفيما نقرأ الأناجيل يتضح لنا أن يسوع كان يقصد أيضاً أن يساعد الناس على معرفة الله. لكن الإله الذي تحدث عنه تم تصويره بشكل مختلف. فلم يكن هو الإله الذي يطلب الالتزام بعدد كبير من التعليمات المستحيلة، بل هو الله الذي يمكن للإنسان أن يكون في علاقة شخصية معه كأب. فأبو يسوع إله غفور، يعتني بالناس حتى وهم في نقصهم الأخلاقي. ولكنه يهتم بأن يعرفوه بشكل أفضل حتى تنطلق قوته لتغيير حياتهم.
سبق أن عرفنا مضامين كل هذا في الأمثال التي قالها يسوع، كما لاحظنا أيضاً بعض النتائج الأخلاقية لتعليمه. فالذين يعيشون في شركة مع الله يجب أيضاً أن يحبوا قريبهم. وعليهم أن يهتموا بالمنبوذين، وأن يهتم كل منهم بخير الآخر. ولكن لماذا ينبغي على شعب الله أن يسلك على هذا النحو؟ ما هو أساس التعليم الأخلاقي؟ أي – التعليم الخاص بالسلوك – الذي علم به يسوع، وكيف يمكننا فهمه؟ هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في هذا الفصل.
ليس من السهل أن نتكلم عن الأخلاقيات التي علم بها يسوع بمعزل عن بقية تعليمه ذلك أن كل تعليمه عن الله وعن مجتمعه الجديد يتضمن بعداً أخلاقياً. والموعظة على الجبل والتي تعد بصفة عامة أكبر مجموعة شاملة من التعاليم الأخلاقية في الأناجيل[1]، تجدها أيضاً عامرة بالفكر اللاهوتي. ومع ذلك، فإن هذه الموعظة تعطينا فكرة طيبة عن وضع الأخلاقيات في المجتمع الجديد الذي جاء يسوع ليفتتحه.
قبل أن نلقي نظرة على المضمون الفعلي للعظة على الجبل، نحتاج أولاً إلى التفكير في أفضل وسيلة لفهم ما يقوله يسوع فيها. وهذا أمر له أهميته، لأنه من الواضح أن الطريقة التي يعطي بها يسوع تعليمه هنا، تختلف تماماً عن نهج كتب الأخلاقيات الحديثة، بل وتختلف بالكلية عن الطرق التي يعبر بها الناس العاديون عن نفس الأفكار. وكمعلم صالح، كان من الطبيعي أن يستخدم يسوع صيغاً من اللغة والتعبيرات التي يفهمها أولئك الذين سمعوه لأول مرة. وهناك على الأقل ثلاث طرق مختلفة استخدمها يسوع في تقديم تعليمه:
ç معظم العظة كُتب شعراً، على الرغم من أنه لو لم يتم لفت انتباهنا إلى ذلك فلربما ما كنا نعرف أنها شعر. والشعر في بعض اللغات يعتمد في تأثيره على القافية ونيرة التوكيد. غير أن الشعر العبري مختلف إلى حد ما، فهو يعتمد في تأثيره على تناغم الفكر، وهناك نوعيتان أساسيتان من الشعر. وهذا يعتمد في تأثيره على تناغم الفكر، وهناك نوعيتان أساسيتان من الشعر. وهذا يعتمد على ما إذا كان التناغم في التماثل أو في الاختلاف. لنأخذ – على سبيل المثال – العبارة التالية من متى. وهذه يمكن ترتبيها شعراً على النحو التالي:
“لا تعطوا القدس للكلاب
ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير”[2].
وأمامنا هنا شعر عبري أصيل، نجد فيه أن الشطر الثاني يكرر فكرة الشطر الأول، ولكن باستعمال تشبيه مختلف. وهذا يسمى “التوازي المترادف”. وهناك أمثلة كثيرة منه في المزامير والأجزاء الشعرية الأخرى في العهد القديم.
وهناك نمط آخر من الشعر العبري نسيمه “التوازي المعكوس” وفي إنجيل متى أيضاَ نموذج منه:
“هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة
وأما الشجرة الردية فتصنع أثماراً رديئة”[3]
وهناك درس مماثل تعلمناه من كل شطر، لكن الفكر تم التعبير عنه باستخدام المفاهيم العكسية تماماً. وهذا الأسلوب نجده كثيراً في العهد القديم.
حتى الصلاة الربانية يمكن ترتيبها شعرياً. وقد وضعها هنتر A. M. Hunter على النحو التالي:
“أبانا الذي في السماوات |
ليتقدس اسمك |
ليأت ملكوتك |
لتكن مشيئتك |
كما في السماء |
كذلك على الأرض |
خبزنا كفافنا |
أعطنا اليوم |
واغفر لنا ذنوبنا |
كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا |
ولا تدخلنا في تجربة |
لكن نجنا من الشرير”[4] |
ç هناك ملمح عام آخر في تعليم يسوع، وهو استخدام الصور البلاغية. والتي تأخذ شكل قصص الأمثال، وفي أحيان أخرى تكون مجرد توضيحات رائعة من الحياة اليومية. وكثير من الأمثال تعلم بالطبع دروساً أخلاقية، غير أن العظة على الجبل تستخدم صوراً من الحياة الواقعية. وهذا أمر يختلف عن الطريقة التي تميل إلى رفع المستوى الأخلاقي بها في أيامنا هذه. فنحن نتكلم عن الأخلاقيات بطريقة مجردة، ولكن يسوع كان دائماً يتعامل مع أشياء حقيقية. فعلى سبيل المثال، قد نقول:
“إن المادة يمكن أن تشكل عائقاً أمام النمو الروحي”. أما يسوع فقال:
“لا يقدر أحد أن يخدم سيدين… لا تقدرون أن تخدموا الله والمال”[5].
كان يسوع يتكلم بطريقة حيوية. وكثيراً ما كان يستخدم المبالغة المفرطة لتوضيح هدفه. فقد قال على سبيل المثال: “إنه خير لك أن تقلع عينك من أن تزني، وأن تقطع يدك بدلاً من أن تغضب الله”[6]. ومن الواضح أنه لم يكن يقصد أن نعمل ذلك حرفياً، لكنه استخدم لغة المبالغة هذه لكي يؤثر في سامعيه ويقنعهم بجدية رسالته.
وفيما نقرأ الموعظة على الجبل، نحتاج إلى أن ننتبه إلى هذه الأساليب المختلفة التي اعتاد يسوع أن يستخدمها في رسالته. فمعرفة الصياغات المختلفة تساعدنا على فهم ما الذي كان يسوع يعنيه بما يقوله.
إذاً، ما هي نوعية الأخلاقيات التي نادى بها يسوع؟ ما هي مبادئ العمل التي يجب أن ترشد الذين قبلوا سيادة الله على حياتهم؟ هناك ثلاثة أمور تميز أخلاقيات مجتمع الله الجديد عن معظم النظم الأخلاقية الأخرى.
يسوع يعلن معايير الله
تعليم يسوع الأخلاقي جزء لا يتجزأ من تعليمه عن سيادة الله في حياة البشر. وما لم نفهم هذا، فمن الصعوبة أن نفهم معنى الموعظة على الجبل.
وكل النظم الأخلاقية لها مقدمة منطقية أساسية يقوم عليها كل شيء آخر. وتعليم يسوع الأخلاقي يقوم على أساس الإعلان بأن الله الذي خلق كل الأشياء، والذي عمل في التاريخ في اختبار إسرائيل الذي سجله العهد القديم، يمكن أن يعرف بطريقة واقعية وشخصية. وسلوك أتباع المسيح هو نتاج طبيعي لارتباطهم الشخصي مع الله، أبيهم.
وهذا المبدأ كان له دائماً موضع أساسي في اليهودية. فالعهد القديم نفسه كان قائماً على مقدمتين منطقيتين بسيطتين كانتا أساسيتين أيضاً في تعليم المسيح في العهد الجديد.
صلاح الإنسان يستمد طابعه من الله
يتمثل الجزء الأساسي لأحد أقسام ناموس العهد القديم في عبارة “تكونون قديسين لأني قدوس الرب إلهكم”[7]. والمعايير الأخلاقية التي كان يحتاج إليها شعب الله لم تكن أقل من انعكاس طبيعة الله نفسه عليهم. وقد أوجز أحد الباحثين ذلك بأن وصف الأخلاقيات الكتابية بعبارة “علم السلوك الإنساني، كما حدده السلوك الإلهي”. فالإنسان يجب أن يسلك كما يسلك الله.
ومن أروع سمات أعمال الله كما اختبرته إسرائيل رغبته في العناية بأناس لا يفكرون فيه، فقد دعي إبراهيم من بلاد ما بين النهرين وأعطي وطناً جديداً، ولم يكن ذلك لتميزه من الناحية الأخلاقية أو الروحية، ولكن لمجرد أن محبة الله اتجهت نحوه. ولقد خرجت إسرائيل من تجارب الخروج المحبطة وما تبعها، ليس بسبب كمالهم الأدبي، بل بكل بساطة بسبب عناية إله محب. وعلى أساس أعمال لطف الله هذه التي لم يكونوا يستحقونها، كان لله طلبات معينة من شعبه.
وتبدأ الوصايا العشر بعبارة: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية…”[8]. وهذه هي الفرضية المنطقية التي قامت عليها الوصايا. فلأن الله صنع شيئاً لشعبه، فإن عليهم مقابلة ذلك بمحبة وطاعة. ونفس النموذج نجده في موضع آخر في ناموس العهد القديم: “واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر ففداك الرب إلهك “لذلك” أنا أوصيك بهذا الأمر اليوم”[9].
وأخلاقيات العهد الجديد لها نفس أساس هذه القاعدة. فعلى سبيل المثال، فإنه لم يلفت النظر أنه حين أراد بولس أن يوقف النزاع الذي كان قائماً في كنيسة فيلبي[10]، لم يلجأ إلى المنطق العادي لحل هذه المشكلة بل إلى نفس هذه الناحية بالذات من سمات الله التي رأيناها في العهد القديم. لقد أخذ مثال الطريقة التي بذل لها الله نفسه من أجل خلاصنا في المسيح، وأخذ منه الأساس الذي أقام عليه مناشدته الأخلاقية لقرائه. ولأن يسوع تخلى عن كل شيء لأجلنا، فيجب علينا أن نكون مستعدين أن نضحي بأنانيتنا لكي نرضيه.
والحقيقة أن شخصية الله كإله قدوس وكأب محب هي أساس تعليم الكتاب المقدس بالنسبة للسلوك، له على الأقل ثلاث نتائج عمليه هام….
ç هذه النتائج أعطت اليهود والمسيحيين على السواء إحساساً كبيراً بخطورة الخطية. فحين يواجه الناس بإله قدوس مستعد أن يبذل نفسه تماماً بمحبة لمنفعة أولئك الذين لم يهتموا به أو يوقروه، هنا يدركون كيف أن طبيعتهم تختلف عن طبيعة إلههم. فعلى سبيل المثال، حين تأثر إشعياء بالمعنى الحقيقي لقداسة الله كان رد فعله الفوري هو أنه أدرك – وربما للمرة الأولى – المدى الكامل لخطيته[11]. ونفس الشيء لا بد وأنه كان ينطق على معظم الناس الذين تقابلوا مع يسوع. وفي حالات كثيرة غفر يسوع خطايا أولئك الذين أتوا إليه، وهو نفسه يذكرنا أن أولئك الذين يدركون حاجتهم هم فقط الذين يمكن أن يغفر لهم.
ç وصلاح المسيحي له طبيعة روحية غير عالمية تتجاوز متطلبات المنطق العادي. فطبيعة الله كما أعلنها يسوع تبين محبته الباذلة، وهذا ما دأب يسوع على امتداحه بشكل عملي في تعليمه. فقد قال للشاب الغني: “اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء…”. وفي الموعظة على الجبل قال يسوع لتلاميذه أن يذهبوا ميلين إذا سخرهم الرومانيون على حمل حقائبهم لميل واحد. وعليهم أن يحولوا الخد الآخر ويقابلوا الشر بالخير. وكثيراً ما تبدو لنا هذه الأشياء غير معقولة على الإطلاق، بل وقد يعتقد البعض أنها سخيفة. ولكننا إذا ما نظرنا إليها في ضوء ما بذله الله من أجلنا، فلسوف تظهر لنا بشكل مختلف.
ç يجب أن تكون الرغبة العارمة لشعب الله هي إرضاء الله ومقابلة محبته بطرق تعكس طابعه. وهذا هو ما يحفزهم على إطاعة وصايا يسوع. علينا أن نحب أعداءنا ليس من أجل أن نلفت الأنظار إلينا، لكن “لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات”.
الصلاح المسيحي والمجتمع
الموضوع الرئيسي للعهد القديم هو الإيمان بأن الله قد عمل، وبشكل حاسم في تاريخ شعبه إسرائيل، وأنه دخل معهم في علاقة وثيقة من خلال عمل عهد معهم. وهذا معناه أن الفرد الإسرائيلي، لم يكن إطلاقاً مجرد فرد، بل عضواً في شعب الله. ونتيجة ذلك فالصلاح الذي يتطلبه الله يجب أن يظهر ليس في أفراد أتقياء فحسب، بل في مؤسسات الحياة القومية.
وبنفس الطريقة أعلن يسوع أنه جاء ليقيم ملكوت الله في حياة أتباعه[12]. ولكن ليس في حياتهم كأفراد فقط، بل كذلك في حياتهم المشتركة وإحدى الوصيتين العظميين هي أن الإنسان يجب أن يحب قريبه كنفسه[13]. والذين يقبلون سيادة الله على حياتهم[14]، أعطوا وصية جديدة لتكون أساس المجتمع المسيحي: “أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إذا كان لكم حب بعضاً لبعض”[15].
الالتزام بوصايا يسوع الأخلاقية
تعليم يسوع قصد به فقط أن يكون أسلوب حياة بالنسبة لأولئك الذين يخضعون حياتهم لسلطان الله. وهذه هي النقطة التي غالباً ما أسيء عندها فهم الأخلاقيات التي نادى بها يسوع. والذين يدعون أنهم يستطيعون تقبل الموعظة على الجبل، ولا يقبلون ما ادعاه يسوع بالنسبة لشخصه يكونون قد أساءوا فهم جوهر تعليمه. وذلك أنه من المستحيل تماماً أن يفصل فكره اللاهوتي عن أخلاقياته، ومن يحاول ذلك يدمرهما معاً.
وفي مقدمته للموعظة على الجبل، يخبرنا متى أن التلاميذ هم الذين كانوا يشكلون جانب المستمعين للعظة، وأن عناصر العظة المختلفة من الواضح أنها موجهة لأناس معنيين ملتزمين وليس لكل الناس. وهذا ما فهمه المسيحيون الأوائل.
ومن المؤكد أن العظة استعلمت بالشكل الذي نعرفها نحن به، لكي تعلم المتجددين حديثاً في الكنائس التي كان متى مرتبطاً بها في القرن الأول. وفي إطار حياة يسوع، وكذلك في إطار الكنيسة الأولى، كانت التعاليم الأخلاقية للموعظة تسبق بالكرازة بالرسالة المسيحية وقبولها.
وقد أوضح “دود”، أنه يمكن التمييز بين خطين من التعليم المسيحي الأول في العهد الجديد، ومن المثير أن نجد أنهما يتناغمان مع النموذج العام الذي لاحظناه في تعليم العهد القديم الأخلاقية. فمن ناحية هناك نوعية التعليم التي يسميها “الكرازة Kerygma” وتمثل هذه في الأساس إعلاناً عما فعله الله للبشر من خلال حياة يسوع وموته وقيامته.
وهذا يماثل الطريقة التي دُعي بها إبراهيم وذريته وأُقيموا كأمة في العهد القديم. ولقد عمل الله من خلال المسيح ليس كنتيجة لأي قيمة أخلاقية في الشعب الذي أصبح من أتباعه، ولكن بدافع من محبته غير المستحقة – وهذا ما يسميه المسيحيون “نعمة”. وكما دعيت إسرائيل لإطاعة الناموس على أساس ما فعله الله، فهكذا أيضاً أعطى المسيحيون الأوائل نصائح وتحذيرات أخلاقية وروحية.
وأطلق البروفسور “دود” على هذا الخط وصف “تعليم: didache”. وبوسعنا أن نرى هذه الخطين بوضوح تام في بعض رسائل بولس، والتي غالباً ما تعرض للمسائل اللاهوتية أولاً ثم تصور مناشدة عملية للمسيحيين على أساس الحجج اللاهوتية. غير أن الفرق ليس مهماً للغاية، والواقع أن الكرازة Kerygma والتعليم Didache يلتقيان في النهاية معاً. لأن أخلاقيات العهد الجديد لم تكن تتمثل في بعض القواعد التي فرضت من خارج، بل في نوعية من الحياة أعطيت للمسيحيين نتيجة ما عمله المسيح من أجلهم.
وبإمكاننا أن نوضح هذا من الأقوال المتعلقة بالإنسان كفرد، والتي وردت في الموعظة على الجبل، والتي لا يمكن فهم أي منها بمعزل عن الإيمان بأنه في المسيح اقتحم الله التاريخ بطريقة حاسمة. فحين قال يسوع لتلاميذه أن يغفروا للآخرين زلاهم، فكان ذلك على أساس أنهم هم أنفسهم نالوا غفران الله[16]. وحين طلب منهم أن يحبوا أعداءهم[17]، فنحن نتذكر فاعلية محبة الله التي أظهرت لهم دون أن استحقاق. وفي كل حالة نجد أن عطية الله، ونعمته المجانية، دائماً تأتي قبل طلب شيء. وحتى العمل المرسلي الذي قام به التلاميذ كان لا بد أن يتم على نفس هذا الأساس. وقد قال لهم يسوع: “مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا”[18].
يسوع يعلم أخلاقيات الحرية
من بين أعظم الإغراءات التي يتعرض لها قراء الموعظة على الجبل، محاولة تفسيرها كمجموعة من القواعد والتعليمات – كناموس جديد للمسيحيين، يحل دائماً بدلاً من ناموس العهد القديم العتيق. وهذا شيء برز في وقت مبكر جداً من تاريخ الكنيسة، ويعتقد بعض الباحثين أنه حتى متى نفسه اعتبرها “ناموساً جديداً” سلمه يسوع على الجبل في الجليل، مثلما سلم “الناموس القديم” بيد موسى على جبل سيناء.
غير أن تعليم يسوع الأخلاقي لم يقصد به إطلاقاً أن يكون ناموساً” بأي حال من الأحوال.
ç تعليم الموعظة على الجبل يختلف تماماً عما نعرفه في العادة بأن “ناموس” فمعظم النواميس تقوم على أساس الكيفية التي يتم بها حساب السلوك المتوقع والذي يمكن قبوله من أغلبية الذين تم وضع القانون من أجلهم، والناموس الذي لا يمكن حفظه هو ناموس سيء، وليس من فائدة في عمل ناموس ليضغط على الناس لكي يصبحوا على ما يخالف حقيقتهم. ولكن هذا بالطبع هو ما يعمله بالضرورة تعليم يسوع. فهو يطلب منا أن نكون مختلفين عما نحن عليه بالطبيعة. ولذلك لا يكفي أن نعتبره كناموس جديد، لأن متطلباته ليست من النوعية التي يمكن لأي إنسان أن يوفيها بمجرد بذل الجهد.
ç طوال مدة خدمته كان يسوع في نزاع مع الفريسيين، وهم مشرعو الأمة اليهودية. فقد كانوا مهتمين بالأعمال التي يمكن التحكم فيها بواسطة القواعد. إلا أن نهج يسوع كان على النقيض من ذلك تماماً. فقد كان يهتم بالأكثر بالناس والمبادئ. وسر الصلاح عنده لا يكمن في إطاعة التعليمات، بل في الأعمال التلقائية للطبيعة التي تغيرت. “لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثماراً ردية ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيدة”[19].
وتعليم يسوع ليس ناموساً، بل هو أخلاقيات للحرية. فالذين يقيمون سيادة الله في المجتمع الجديد يتمتعون بحرية أن يعرفوه في إطار علاقة حية كأبيهم. وموعظة يسوع على الجبل لا تقدم أحكاماً وتعليمات بل هي تقدم لنا مبادئ، والمبادئ تهتم بماهية الشخصية أكثر مما تهتم بما يعمله. وليس معنى هذا أنه لا أهمية للأعمال، بل أن يسوع أدرك أن الطريقة التي نسلك بها تعتمد على نوعية الناس التي نحن منها. وبدون الميل والتحفيز الداخلي الصحيح، لن يكون بمقدورنا حتى أن نبدأ في فهم تعليم يسوع الأخلاقي. لأنه كما أوضح “مانسون T. W. Manson” الأمر ببراعة فقال: تعليم يسوع يعد بوصلة وليس خريطة المعدات العسكرية، فهو يقدم لك الاتجاهات لا التوجيهات.
هل ألغى يسوع ناموس العهد القديم
هناك قول ورد في الموعظة على الجبل كثيراً ما أثار بعض المصاعب. وهو القول الذي جاء في: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكن إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل”.
وقد قدمت عدة تفاسير لهذا القول:
ç أبسطها هو القول بأن هذه العبارة في الواقع لم تصدر عن يسوع، ولكنها جاءت في العظة في وقت لاحق، وهي تعكس موقفاً في كنائس اليهود المسيحيين، والذين كان متى يكتب لهم إنجيله.
ولعل متى كان يفكر في الفوضى التي حدثت في بعض الكنائس نتيجة سوء فهم تعليم بولس عن الحرية من قيد الناموس، وربما أراد أن يحول دون وقوع أية حركات مماثلة من قبل المسيحيين الذين كان يعرفهم. وربما بدا هذا أنه حل متطرف، لكن هذه الآيات لا تتناغم طبيعتها مع بقية ما جاء في تعليم يسوع بجملته، حتى أن مفكرين كثيرين اعتقدوا أن هذا هو أفضل حل.
ç قيل أيضاً إنه حين تكلم يسوع عن “تكميل الناموس” فربما كان يعني شيئاً مختلفاً إلى حد ما عما اعتقدنا أنه قصده. فالمجتمع الجديد الذي يتحدث عنه يسوع، عادة ما يصور على أنه تكميل للعهد القديم، وكان ثمة عنصر هام في العهد القديم وهو أن شعب الله بمقدوره أن يتمتع بعلاقة حية معه. وعلى الرغم من أن الكتبة والفريسيين فرغوا هذه العلاقة من مضمونها، وضمنوها تشريعاتهم، إلا أنه ربما كان يسوع يشير إلى غايته الأساسية، والتي تطلب بالنسبة لحياة الشخص أن تكون حياة الإنسان مستقيمة أمام الله: “وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك” (ميخا 6: 8).
ç ومن المحتمل أيضاً أن ما قاله يسوع عن استمرارية الناموس لا يجب فهمه حرفياً ومثل الكثير من تعاليمه، من الممكن أن يكون هذا أسلوب مبالغة للتأكيد على أن إرساليته ورسالته كلها لها أصولها العميقة في الإعلان الإلهي الذي تضمنه العهد القديم.
[1] متى 5-7
[2] متى 7: 6
[3] متى 7: 17.
[4] متى 5: 29.
[5] متى 6: 24.
[6] متى 5: 29.
[7] لاويين 19: 2.
[8] خروج 20: 2.
[9] تثنية 15: 15.
[10] فيلبي 2: 5-11.
[11] إشعياء 6: 1-8.
[12] متى 22: 34-40.
[13] مرقص 12: 28-34.
[14] لوقا 10: 25-28.
[15] يوحنا 13: 34-35.
[16] متى 6: 14-15.
[17] متى 5: 44.
[18] متى 10: 8.
[19] متى 7: 18.