مجتمع الله الجديد : صور من المجتمع الجديد
مجتمع الله الجديد : صور من المجتمع الجديد
مجتمع الله الجديد : صور من المجتمع الجديد
“الأمثال” هي بعض من قصص يسوع الأكثر شهرة. مثل قصة السامري الصالح[1]، أو الخروف الضال[2]، أو الزارع الذي خرج ليزرع[3]. ولكن إذا تصفحنا الأناجيل وحصرنا الأجزاء المختلفة من تعليم يسوع والتي وصفت بأنها “أمثال”[4] فلسوف نجد أنها تتضمن ليس فقط هذه القصص التي صيغت على هيئة أمثال[5]، بل سنجد أقوالاً أخرى من الطبيعي أن نصنفها بالأكثر على أنها تتضمن كل وسائل البلاغة مثل المجاز والتشبيه والرمز بل والأحجيات أيضاً[6].
الأمثال ومعانيها
والمثل الشعبي مثل “أيها الطبيب اشف نفسك”[7] يسمى مثلاً. وهكذا الحال تقريباً بالنسبة للقول الواقعي “كل ما يدخل الإنسان من الخارج لا يقدر أن ينجسه… إن الذي يخرج من الإنسان ذلك ينجس الإنسان”[8]. وبعض الأقوال في الموعظة على الجبل[9] من نفس هذه النوعية أيضاً، حيث ترسم صورة حية لشيء مألوف: الملح، النور، المدينة، وبواسطتها يفسر يسوع رسالته.
وكثير من الصور التي تناولها يسوع في إنجيل يوحنا تستخدم أيضاً نفس النوعية من التشبيهات المجازية لتوضيح رسالته. حيث يصف يسوع نفسه بأنه “الراعي الصالح”[10] أو “الكرمة الحقيقية”[11]، ثم يشبه عمل تلاميذه بجني الحصاد[12]، ويشبه نفسه الخبز وماء الحياة[13].
وتعليم يسوع مليء بأقوال الأمثال المشابهة لهذا، غير أنه عند مناقشة تعليم يسوع، فإنه من المعتاد ومن المناسب أن نحتفظ بكلمة “مثل” بالنسبة للقصص الحقيقية التي قالها يسوع[14].
أمثال أم تشبيهات مجازية؟
الطريقة التقليدية لفهم قصص الأمثال هذه هي اعتبارها تشبيهات مجازية. والتشبيه المجازي هو قصة مفصلة عن موضوع ما، كتبت بطريقة تبدو معها وكأنها شيئاً مختلفاً تماماً. وكتاب “جون بنيان John Bunyan” “سياحة المسيح” يعد مثالاً شهيراً على هذه النوعية من الكتابة. وفي هذا الكتاب يبدو “بنيان Bunyan” وكأنه يروي قصة رجل في رحلة. ولكن الرحلة غريبة جداً، والشخصيات أكبر بكثير من الحياة، حتى إن هذا لا يحدث إطلاقاً في رحلة. فهو يصف الأمور التي وقعت في حياة شخص مسيحي، منذ أصبح مسيحياً وحتى نهاية حياته.
ونجد مثل هذا التعليم في بعض أجزاء العهد الجديد. ففي إنجيل يوحنا على سبيل المثال، هناك التشبيه المجازي عن الكرمة والأغصان[15]…. وفي هذه القصة يبدو يسوع هنا وكأنه يشرح الوسائل التي من خلالها تثمر الكرمة عنباً، إلا أنه حين بدأ في الكلام عن غصن الكرمة الذي قرر أن يقطع نفسه عن الساق الرئيسي للنبات، أصبح من الواضح أنه لا يعطي درساً عن كيفية زرع العنب، بل كان يتحدث عما يعنيه أن يكون الشخص من تلاميذه.
وعلى الرغم من أنه لا توجد في الأناجيل إلا أمثلة قليلة من الصور المجازية، إلا أن معظم الحالات نجد أن طريقة فهم الناس للأمثال لا هي أمينة بالنسبة للهدف الأساسي الذي قصده يسوع في تعليمه ولا هي مفيدة بالمرة. لنأخذ على سبيل المثال قصة السامري الصالح، فطبقاً لما قاله لوقا فقد قال يسوع هذه المثل في معرض رده على سؤال “من هو القريب؟”[16] وفي النهاية أخبر يسوع صاحب السؤال بأن يفعل كما فعل السامري في القصة. ومع ذلك، ففي غضون فترة قصيرة كان المسيحيون يفسرون هذه القصة تفسيراً مجازياً، ناسين حقيقة أنها كانت رداً على سؤال عملي.
أين تجد أمثلة يسوع؟
متى | مرقص | لوقا | |
مثل الزارع | 13: 1-23 | 4: 1-20 | 8: 4-15 |
الزوان في الحقل | 13: 24-43 | ||
حبة الخردل | 13: 31-32 | 4: 30-32 | 13: 18-19 |
الكنز المخفي | 13: 44-46 | ||
العبد غير المتسامح | 18: 23-35 | ||
السامري الصالح | 10: 25-37 | ||
صديق منتصف الليل | 11: 5-8 | ||
الغني الغبي | 12: 13-21 | ||
الوليمة العظيمة | 14: 15-24 | ||
الخروف الضائع | 18: 12-14 | 15: 1-10 | |
الابن الضال | 15: 11-14 | ||
وكيل الظلم | 16: 1-13 | ||
الغني ولعازر | 16: 19-31 | ||
قاضي الظلم | 18: 1-8 | ||
الفريسي والعشار | 18: 9-14 | ||
الفعلة في الكرم | 20: 1-16 | ||
مثل الأمناء | 19: 11-27 | ||
الكرامين الأشرار | 21: 33-46 | 12: 1-12 | 20: 9-19 |
وليمة العرس | 22: 1-14 | ||
العبد الأمين | 24: 45-51 | ||
العذارى العشر | 25: 1-13 | ||
الوزنات | 25: 14-30 |
الأقوال السبعة في إنجيل يوحنا والتي بدأها يسوع بقوله “أنا هو”، جاءت شبيهة بأمثال وهي:
خبز الحياة | يوحنا 6: 35-40 |
نور العالم | يوحنا 8: 12-13 |
الباب | يوحنا 10: 7-10 |
الراعي الصالح | يوحنا 10: 11-18 |
القيامة والحياة | يوحنا 11: 17-27 |
الطريق والحق والحياة | يوحنا 14: 1-7 |
الكرمة الحقيقي | يوحنا 15: 1-11 |
وطبقاً لما قاله أحد مفكري القرن الرابع “أوغسطينوس” فإن الرجل الذي نزل من أورشليم إلى أريحا هو آدم. وأورشليم كانت تمثل مدينة السلام الإلهية التي سقط منها، وأريحا كانت تشير إلى الموت الذي ورثه الجنس البشري نتيجة سقطة آدم. أما اللصوص فكانوا يرمزون إلى الشيطان وملائكته، الذين جردوه من خلوده. أما الكاهن واللاوي اللذان عبرا من الجانب الآخر فيرمزان إلى الكهنوت وخدمة العهد القديم، واللذان لم يقدرا أن يخلصاه. أما السامري الصالح فكان المسيح نفسه، وقيامه بتضميد جروح المسافر يشير إلى كبح الخطية، وأما الزيت والخمر اللذان صبهما على جراحه فيرمزان إلى تعزية الرجاء والتشجيع على العمل بجد. أما الدابة فترمز إلى الجسد الذي جاء به يسوع إلى الأرض، والفندق يشير إلى الكنيسة، وصاحب الفندق هو الرسول بولس. أما الديناران اللذان أعطيا له فهما وصيتا محبة الله ومحبة القريب.
ولا شك أن هذه القصة ترمز إلى قصة الخلاص بأكملها، ومن باب الأمانة، علينا أن نتذكر أن أوغسطينوس يخبرنا أنه تمتع تماماً بتفكيره في هذا الأمر. غير أننا في المحصلة النهائية علينا الاعتراف بأن مثل هذا التفسير لا يتصل تماماً بقصة السامري الصالح. وهذه “المعاني الروحية” خلعت على القصة ولم تأت منها. وفي تفسير أوغسطينوس لها، لا نجد بأية حال إجابة على السؤال الأساسي الذي طرحه ذلك الشخص على يسوع.
القصد من الأمثال
قد تتملكنا الدهشة إلى حد ما حين نكتشف أنه قبل نهاية القرن التاسع عشر لم نكن قد أدركنا تماماً عبثية هذا المنهج من التفسير. وحين بدأ الباحثون يقرأون العهد الجديد كوثيقة تاريخية، أدركوا أنه ربما قد استخدم يسوع الأمثال بنفس الطريقة التي كان يستخدمها معلمون آخرون في العالم القديم. وبعد مقارنة أساليب يسوع في التعليم بالطريقة التي استخدمت فيها الأمثال في الأدب اليوناني، أشار مفكر ألماني هو “أدولف جوليكر Adolf Julcher” أن يسوع استخدم الأمثال مثلما يستخدم الوعاظ في العصر الحديث الرسوم التوضيحية. ولم يكن يقصد أن يصل بها إلى معنى خفي في كل تفصيلة، بل كان بكل بساطة يصور ويوضح نقطة معينة.
وهكذا فإن النقطة الرئيسية في مثل السامري الصالح هي أن الشخص الذي أثبت أنه قريب حقيقي لم يكن أحد المتدينين اليهود بل واحد من السامريين المحتقرين المكروهين. وجميع التفصيلات الأخرى التي تضمنتها القصة مثل الدابة، والفندق، والزيت والخمر، ما كانت إلا تصويراً مجازياً رائعاً للمشهد لإضفاء الواقعية والإثارة على القصة. ولم تكن لها علاقة بالنقطة الأساسية لما كان يسوع يحاول قوله.
وإذا ما أدركنا هذه الحقيقة، فلسوف نتخلص من بعض مشاكل التفسير الحقيقية. ذلك أنه في بعض الأمثال نجد أن الشخصيات الرئيسية ليست في الواقع من نوعية الناس الذين يشعر المسيحيون بأنه ينبغي تقليد تصرفاتهم. فعلى سبيل المثال، هناك وكيل الظلم الذي حصل على ثناء سيده عندما تلاعب في الحسابات لمصلحته. فهل يسوع يمتدح حقاً مثل هذا التصرف؟
الإجابة هي لا بالطبع. وحين ندرك أن الغرض الرئيسي من المثال هو أننا ينبغي أن نتمثل ببعد نظره في أن يكون مستعداً لمواجهة أي كارثة في الحياة، هنا نستطيع أن نعرف أن بقية القصة ما هي إلا مجرد تصوير واقعي لموقف تم تخيله.
وتواصلاً لأفكار جوليكر الهامة بدأ مفكرون آخرون في محاولة اكتشاف المعنى الحقيقي لأمثال يسوع، ومن أشهرهم بروفسور “دود” في إنجلترا، وبروفسور “يواكيم جيرمياس” في ألمانيا، وكلاهما يتفقان مع “جوليكر” في أن الأمثال بوجه عام لا تتضمن سوى درس واحد، على الرغم من أنهم رأوا أيضاً أن موضوع الأمثال لا يتضمن أحد الحقوق الأخلاقية التي يتم تعميمها (كما كان جوليكر يعتقد) بل أن موضع الأمثال هو مجيء مجتمع الله الجديد. ومع ذلك اقتبس “دود” و”جيرمياس” عن “جوليكر” افتراضات معينة كانت عرضة للتشكيك منذ عهد قريب من قبل الباحثين الآخرين للعهد الجديد:
ç رغم أنه صحيح بوجه عام أن كل مثل من أمثال يسوع كان يتضمن نقطة رئيسية واحدة، إلا أن الأمر يكون مضللاً عند الإصرار على القول بأنه لم يكن هناك مثل على الإطلاق كانت له أكثر من نقطة واحدة رئيسية. فمن الواضح تماماً أن بعض الأمثال كانت تتضمن أكثر من درس واحد تعلمه.
ففي مثل الوزنات[17] – على سبيل المثال – يبدو أنه كان على الأقل يتضمن نقطتين بسيطتين. فالقصة تتحدث عن رجل مسافر قسم نقوده بين عبيده بغية الاحتفاظ بها في أمان. وحين يعود يكافئ العبيد بطرق مختلفة طبقاً لاستخداماتهم المتباينة التي استغلوا فيها نقوده. فالنقطة الأساسية لهذه القصة يجب أن تكون على تأكيد الصلة بين المسؤولية الفردية والدينونة الأخيرة. ولكننا نجد تشديداً آخر يمكن أن يكون له أهمية مماثلة، لأن السيد لم يتقيد بالتزامه القانوني أو الأدبي، فقد كان كريماً إذ استأمن عبيده على ممتلكاته. أما مثل وليمة العرس، يبدو أنه يدور تماماً حول نفس هاتين النقطتين، ومن الطبيعي أن كلاً منها كان يشكل جزءاً هاماً من تعليم يسوع عن طبيعة أبيه[18].
ç على الرغم من أنه لا يجب تفسير معظم الأمثال تفسيراً مجازياً، إلا أن كثيرين من المفسرين يدركون الآن أن هذا لا ينطبق على الأمثال كافة. ومثل الزارع يتضمن معنى مجازياً: فنوعيات التربة المختلفة قيل إنها تمثل أنماطاً مختلفة من الناس الذين يسمعون رسالة يسوع[19]. وكثيراً ما يثار جدل بأن هذا التفسير لا يعود إلى يسوع نفسه، بل نشأ في الكنسية الأرضية، في وقت كان المسيحيون يحاولون فيه تفسير السبب في أن أناساً قليلين هم الذين يتجاوبون مع وعظهم. ولا شك أن مَثَل كهذا يساعد في الإجابة على سؤال كهذا[20]. إلا أنه إذا حذفنا تفسير المثال هذا على اعتبار أنه لا يتضمن سوى معنى ثانوي، ربما أضيف في وقت لاحق، فإنه ستظل أمامنا مشكلة تفسير النقطة الرئيسية بحسب ما تحدث عنها يسوع لأول مرة. والحقيقة هي أنه من الصعب جداً معرفة ما هو المعنى الآخر الذي يمكن أن يتضمنه.
وهناك مثل أكثر من هذا يلفت النظر نجده في حالة مثل الكرامين الأشرار[21]. والقصة تتحدث عن رجل قام بتأجير كرمه لكرامين نظير إيجار يتضمن جزءًا من محصول العنب السنوي. ومع ذلك، عندما أرسل عبيده ليتسلموا نصيبه من المحصول قام المستأجرون بضربهم وقتلهم. وبعد أن تكرر حدوث هذا عدة مرات، أرسل الرجل ابنه، معتقداً أنه سيقابل باحترام أكبر. ولكنه لاقى أيضاً نفس المصير. ولذلك حين جاء صاحب الكرم أخيراً إلى الكرم، كان من المحتم أن يهلك هؤلاء الكرامين الأشرار. وفي هذه القصة فإن التفسير المجازي يبدو أنه المعنى الوحيد الممكن. وإذا لم تكن إسرائيل هي الكرم، والأنبياء لم يكونوا هم العبيد الذين أرسلهم سيدهم (الله)، ويسوع نفسه هو الابن، فلسوف لا يكون للمثل كله أي معنى.
وعلى هذا فيبدو أنه من الحكمة تبني موقفاً أكثر مرونة، وندرك أنه برغم أن الأمثلة لا تحتاج عادة إلى تفسير مجازي، إلا أن بعضها قد يحتاج إلى ذلك.
ç يؤكد كل من “دود” و”جيرمياس” أهمية فهم الأمثال في سياقها التاريخي الأساسي. ولأنهما يصران على هذه النقطة فقد بذلا جهداً كبيراً لمحاولة اكتشاف المعنى الحقيقي لأمثال يسوع لسامعيه، وبعد ذلك بالنسبة للمسيحيين الذين كانوا أول من كتبوها. إلا أن مفسرين آخرين بدأوا الآن يدركون أن هناك بعداً مخفياً في الأمثال يعطيها مذاقاً مميزاً لا نجده في بقية العهد الجديد.
وبصفة عامة نستطيع أن نقول إنه قبل أن يكون بمقدورنا أن نتأكد ما الذي يعنيه العهد الجديد بالنسبة لنا في أيامنا هذه، نحن في حاجة إلى معرفة ما الذي كان يعنيه بالنسبة لأولئك الذين قرأوه أولاً. ولكن الأمر في الحقيقة ليس هكذا بالنسبة للأمثال. لأنها تشبه عمل إنسان عظيم بأكثر مما هي عمل لاهوتي واع بذاته. ثم إن سماتها وأوضاعها لها في المقابل طابع شامل يمكن أن يفهمه أي شخص، ذلك أنها تتناول الاحتياجات الضرورية للإنسان. ولسنا بحاجة إلى أي بصيرة خاصة لفهم مثل الابن الضال، أو الوزنات، أو العمال في الكرم. فإن معناها ودعوتها تتضح لنا عند قراءتها.
الأمثال ورسالتها
ولكن ما هي رسالة الأمثال ودعوتها؟ في معناها الأوسع، موضوع الأمثال هو مجيء مجتمع الله الجديد، أو “الملكوت”. وهذا ما تشير إليه بوضوح كثير من الأمثال التي تبدأ بعبارة “يشبه ملكوت السماوات….”[22] وبسبب هذا، فإن المعنى الدقيق الذي نراه في الأمثال يعتمد إلى حد ما على ما نعتقده بالنسبة لما سيكون عليه المجتمع الجديد. فإنا ما اعتقدنا – مع ألبرت شويتزر – أن تدخل الله المثير والعاجل في شؤون المجتمع الإنساني هو أهم شيء فيها، فمن الطبيعي والحالة هذه أننا سنرغب في فهم التعليم التي تقول به الأمثال في هذا السياق. ومن ناحية أخرى، فإننا إذا اتبعنا منهج “دود” فإننا نجد صعوبة في أن نجد في الأمثال آثارً لأمور أخروية قد تحققت.
إلا أن رسالة الأمثال الحقيقية هي أكثر تعقيداً من أي من هذه البدائل. فإذا ما تأملنا معاً كمجموعة فسوف يتضح أن رسالتها تهتم بأربعة موضوعات رئيسية، كل منها يفسر بعض الحقائق الهامة عن مجتمع الله وتأثيره في حياة أولئك الذين يشكلون جزءًا منه.
المجتمع وسيده
معظم المجتمعات تتأثر تأثيراً كبيراً بشخصية قائدها أو قادتها. فالحاكم المستبد لن يجد صعوبة في حمل شعبه على تبني نفس المواقف. أما القدوة التي توجد في حاكم متحرر رحوم فهي دائماً ما تشجع شعبه على أن يشاركوه في وجهة نظر مماثلة. والمجتمع الجديد الذي أقامه الله ينطبق عليه هذا الكلام. فهو يستمد طابعه وشكله من الله الذي هو سيده.
وعلى هذا، فلا تأخذنا الدهشة حين نجد أن عديداً من الأمثال تخبرنا بأمور هامة عن طبيعة الله نفسه. فقصة الخروف الضال[23] تشرح لنا الحقيقة الجوهرية وهي أن الله إله نعمة: فهو يأخذ المبادرة في إيجاد وإعادة أولئك الذين بسبب الخطية أصبحوا في تنافر مع مشيئته. وهو يهتم بكل واحد من مخلوقاته ضل طريقه في الحياة، وتراه يبحث عن هذا الضال حتى يستعيده. والأمثال الأخرى في لوقا 15 – الدرهم المفقود والابن الضال[24] تؤكد أيضاً محبة الله للخطاة. ومحبته التي لا نستحقها عظيمة جداً حتى إن الله يعمل كل ما في وسعه كي يجدنا، ولن يقنع حتى يستعيدنا تماماً، مثل الابن الضال.
ويتضح مدى كرم الله على وجه الدقة في قصة عمال الكرم[25]. حيث يتحدث فيها يسوع عن سيد استأجر رجالاً ليعملوا في كرمه. وقد بدأوا العمل في أوقات مختلفة في النهار. وحين جاء وقت استلام أجورهم لم يكن بعضهم قد عمل سوى ساعة واحدة، في حين أن آخرين قد عملوا النهار كله، ولكن السيد أعطاهم كلهم نفس الأجر. ولم يغش أحداً منهم، لأن أولئك الذين بدأوا العمل من أول النهار وافقوا مقدماً على الأجر الذي سيتقاضونه. لكن السيد كان كريماً مع الذين بدأوا العمل في ساعة متأخرة من النهار. وقال يسوع إن ملكوت السماوات يشبه هذا. والله بالطبع، هو سيد هذا الملكوت، وهو كريم بلا حدود. والذين ينضمون إلى مجتمعه في اللحظة الأخيرة يلقون ترحيباً كبيراً مثل أولئك الذين كانوا أول من طرقوا بابه.
وقد يبدو لنا من هذا أن الله غير عادل إلى حد ما، لأنه من المؤكد أن الذين جاءوا مبكراً يستحقون أكثر من الذين بدأوا العمل في وقت متأخر من النهار.
وهذا هو السؤال الذي حاول جوليكر أن يجيب عليه حين قال إن المثل في العادة لا يدور إلا حول نقطة واحدة – وفي حالة المثل الذي نحن بصدده لا شك أنه كان على حق – لأنه توجد أقوال أخرى كثيرة ليسوع تبين أن الله يستجيب دون حدود لحاجات كل شعبه. وهناك – على سبيل المثال – قصة الصديق الذي جاء ليطلب طعاماُ في منتصف الليل[26]، والتي استخدمها لوقا ليؤكد أن الله راغب تماماً في الاستجابة لصلواتنا. “اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم”[27]. وهناك مثال آخر نجده في قصة قاضي الظلم والتي تؤكد نقطة مماثلة[28].
ثم إن هناك الأقوال التي تضمنتها الموعظة على الجبل، والتي برغم أنها ليست قصة أمثلة، إلا أنها دون شك تعد أمثلة بكل ما في الكلمة من معنى “انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها… ولماذا تهتمون باللباس. تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو. لا تتعب ولا تغزل… فإن كان عشب الحقل… يلبسه الله هكذا أفليس بالحري جداً يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان”[29]. فالله يهتم بشعبه، بل ويهتم حتى بأقل التفاصيل. لأنه أبوهم.
وهذا التأكيد على العلاقة الشخصية الوثيقة بين الله والذين يقرون بسيادته على حياتهم، يشكل واحداً من أكثر الأجزاء الرائعة الأساسية في تعليم المسيح. ويسوع نفسه يخاطب الله باعتباره أباه[30]. وفي إنجيل يوحنا، كثيراً ما استخدمت علاقة الله بيسوع، والتي هي علاقة أب بابن لتأكيد طبيعة يسوع الإلهية، غير أنه في الأناجيل الثلاثة الأخرى كثيراً ما يتم التشديد على طبيعة هذه العلاقة[31]. فالله أب ليسوع ولذلك يمكن أن يخاطب ويعرف بنفس الأسلوب الوثيق الذي يخاطب به الابن أباه الجسدي. فيسوع كان يخاطب الله على هذا النحو. وقد بدعاه “أبا” الآب، وهي الكلمة الآرامية بمعنى “أب” والتي تستعمل في البيت، وقد سمح لتلاميذه أن يفعلوا نفس الشيء حين يخاطبون الله في الصلاة[32].
وهذه الطريقة في مخاطبة الله هي طريقة جديدة تماماً. وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يخاطبون الله أحياناً “كأب”، إلا أنهم لم يستعملوا اللغة المألوفة التي كان يستعملها يسوع، وكانوا في العادة يبررون ذلك بالإشارة إلى قداسة الله وعظمته. لكن “إله” أمثلة يسوع ليس بعيداً أو خارج نطاق الاتصال بالعالم، ومن المؤكد أنه “قدوس”، وهو مختلف تماماً عن البشر في طبيعته. ولكنه الله الذي نستطيع أن نعرفه في علاقة شخصية كأبينا. والأكثر من ذلك أنه “أب” محب. وهو يسهر على كل الذين ينتمون إليه، ويهتم بأقل التفاصيل في حياتهم.
المجتمع والفرد
وإن نكون جزءًا من المجتمع الجديد الذي تحدث عنه يسوع، لا يعطينا ميزة معرفة الله بطريقة وثيقة وشخصية فقط، بل إن ذلك يضع علينا كذلك بعض المسؤوليات. وهناك عدد من القصص التي قالها يسوع تؤكد على نوعية الاستجابة المطلوبة إذا كان لنا أن “ندخل الملكوت”.
في بداية إنجيل مرقص نجد أن الاتجاه الرئيسي لتعليم يسوع لخص في الشعار “فتوبوا وآمنوا بالإنجيل”[33] ثم إن كثيراً من القصص التي رواها يسوع تؤكد أهمية الابتعاد عن الخطية أي ممارسة التوبة كي تصبح عضواً في مجتمع الله. وقصة الابن الضال[34] – على سبيل المثال – لا تؤكد فحسب على صلاح الآب وكرمه بل أنها تبرز أيضاً أهمية أن يدرك الابن حماقته، وأن يكون راغباً في تغيير أسلوب حياته.
ولم تكن التوبة أبداً فكرة رائجة، لأنها تتطلب منا إقراراً بأننا ارتكبنا خطأ. وتعني وجود قدر معين من الخجل، وفقداناً لشيء من مكانتنا الأدبية. لكن يسوع أوضح تماماً أن أولئك الذين هم ليسوا مستعدين لتقبل هذا لا يمكن أن تكون لهم صلة حية مع الله. وأمامنا قصة الفريسي والعشار[35] اللذين توجها للصلاة في الهيكل في نفس الوقت. وقد أخذ الفريسي يفتخر بإنجازاته الأخلاقية والدينية – قال هذا لله. ومن ناحية أخرى، نجد أن العشار كان مدركاً تماماً لعدم استحقاقه أن يتكلم إلى الله، وكل ما استطاع أن يعمله هو أن يصرخ قائلاً: “اللهم ارحمني أنا الخاطئ”، ولكن يسوع قال إن “العشار” وليس الفريسي، هو الذي “نزل إلى بيته مبرراً” من الله، لأنه أدرك أنه خاطئ، وجاء إلى الله دون أية ادعاءات روحية. وقد وضح يسوع نقطة مماثلة في الغني الغبي، الذي اعتقد أن ثروته ستجعله في موقف طيب أمام الله[36]. وقد جعل تعليم هذه الأمثال واضحاً تماماً في قوله إن سيادة الله على حياتنا يجب أن نتقبلها في ثقة الأطفال “من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله”[37].
لكن التوبة والمغفرة ليستا نهاية المطاف. والواقع أنهما ليسا سوى بداية حياة تقضى تحت سيادة الله نفسه. لأنه في مجتمع الله الجديد نتمتع بنوع جديد من الحياة – “حياة أبدية”[38] – أو الحياة الأفضل كما كان يسوع يطلق عليها في بعض أقواله التي سجلها إنجيل يوحنا. فالحياة في مجتمع الله هي حياة يوجهها الله ويسيطر عليها[39]. والذين دخلوا الملكوت بالتوبة ومغفرة خطاياهم يتوجب عليهم أن يحبوا الله من كل قوتهم[40]. ويجب أن يخدموه على أنه سيدهم الوحيد حتى إلى درجة إعطائه السيطرة المطلقة على حياتهم[41]، لأن هناك نتائج عملية هامة سوف تظهر في طريقة حياتهم اليومية، ذلك أنهم يهتمون برأي الله وليس برأي الناس فيهم[42]. وهذا نراه بصفة خاصة في مواقفهم تجاه الأمور الدينية[43]. وعلى الرغم من أن البعض قد يقبلون سيادة الله على حياتهم على مضض[44]، إلا أن إخلاصهم أفضل من ذاك الذي يأتي أمام الناس بمظاهر كثيرة على عظم عبادته لله مع أنه في الحقيقة هو على خلاف ذلك.
وشعب الله يجب أن يعبده بروح تلك الأرملة التي وضعت في الخفاء فلسها الأخير في صندوق التقدمات في الهيكل[45]، فلا يجب أن يسلك في مظاهر زائفة حتى يراهم الآخرون ويمتدحون صلاحهم[46]. فهم يصلون ويصومون في الخفاء “فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية”.
ç ولكن هذا ليس حجة لئلا تعمل شيئاً[47]. فالذين يقبلون سيادة الله في حياتهم، يجب أن يحسنوا التصرف فيما أعطاه الله لهم[48]. عليهم التصرف كملتزمين، فيستعملون الخير الذي أعطاه الله لهم بطريقة ترضي الله[49]، وعلى مثال وكيل الظلم، عليهم أن يكونوا مستعدين للقاء سيدهم[50].
ç والواقع أن طموحهم الأساسي في الحياة يجب أن يتعلموا المزيد عن الله وطرقه[51]. وهناك اثنان من أقصر الأمثلة يوضحان ذلك، وهما المثلان اللذان يتحدثان عن الكنز المخفي واللؤلؤة كثيرة الثمن[52]. فالإنسان الذي يجد حقلاً فيه كنز مخفي لن يتراجع عن بيع كل سلعة كي يشتري هذا الحقل. وعلى مثال ذلك، إذا كان يبحث عن لآلئ جيميلة، وتصادف أن رأى لؤلؤة رائعة فريدة، فلسوف يضحي بكل شيء كي يحصل عليها، وملكوت الله تشبه ذلك، فهي تستحق التضحية بكل ما نملك حتى نستمتع بعمل الله الحقيقي في حياتنا.
وهذا ما قصده يسوع حينما قال لتلاميذه: “ها ملكوت الله داخلكم”. فقد مارس الله فعلاً سلطانه على حياة أولئك الذين عرفوه كأب[53]، والمجتمع الجديد يمكن أن يكون حاضراً في حياة الشخص الذي يعرف حقوق الله في حياته.
المجتمع والشركة
وفي ذات الوقت نكون مخطئين لو اعتقدنا أن رسالة يسوع قاصرة على النواحي الشخصية من ناحية معتقدات الفرد وحياته الدينية. فإن جزءًا كبيراً من تعليمه يتناول علاقة شعب الله بالعالم ككل، وببعضهم البعض[54]. والواقع أنه في مثل العبد غير المتسامح يبدو أن يسوع يشير إلى أن الطريقة التي يتعامل بها الله معنا تعتمد من ناحية ما على الطريقة التي نعامل بها الآخرين[55]. وهناك أيضاً قول يسوع بأن محبة القريب تأتي في المرتبة الثانية في الأهمية بعد محبة الله.
وهذا معناه أن الذين يقبلون سيادة الله على حياتهم عليهم أن يسلكوا مثل أبيهم الذي في السماوات. وكَرم الله يشمل حتى المنبوذين في المجتمع، ويجب على أتباعه ألا يسلكوا بطريقة مختلفة. عليهم أن يسلكوا مثل السامري الصالح في المثل الذي قاله يسوع[56]. وقد طبق يسوع هذا بنفسه، إذ حمل رسالة الله إلى المنبوذين في المجتمع. وهذا ما جعل التلاميذ يدركون أن ملكوت الله كان في واقع الأمر حالاً في شخصه، وأن بوسعهم أن يتمتعوا ببركاته الآن في الحياة الحاضرة.
وبالنسبة لأولئك الذين قبلوا بالحقيقة سيادة الله على حياتهم، فإن هذا الاختيار الجديد ينتظرهم. فهم لا يشاركون في علاقة جديدة مع الله نفسه، بل أنهم يلتزمون أيضاً كل تجاه الآخر في شركة من الاهتمام والمحبة المتبادلين.
المجتمع والمستقبل
وأخيراً يشير عدد من الأمثال إلى مجيء ملكوت الله في المستقبل. وهي تشير إلى مجيء يسوع كابن الله السمائي ذي القدرة الخارقة للطبيعة، كما تتحدث عن دينونة الإنسان الأخيرة. وقد ظن البعض أن هذه لم تكن سوى طريقة رائعة لتقديم التحدي الذي تمثله رسالة يسوع حين يسمعها الناس لأول مرة. إلا أنه بالنظر إلى اللهجة الرؤوية القوية التي تتسم بها غالبية اللغة التي استعملت، فإنه من الصعب عدم استنتاج أن يسوع كان يفكر في وقت ما في المستقبل حين يباشر الله سلطانه وحقيقته كملك بطريقة مرئية. وفي ذلك الحين، سيكون هناك يوم عظيم للحساب. فالذين يعلنون فقط أنهم يخدمون الله ولكنهم في واقع الأمر لا يفعلون ذلك سوف يفرزون ويبعدون عن أولئك الذين ينفذون حقاً مشيئة الله. وهذا هو الدرس الأساسي الذي نتعلمه من أمثلة شبكة الصيد المطروحة في البحر. مثل الحنطة والزوان، ومثل الخراف والجداء.
وفي أمثال أخرى صورت الذروة المستقبلية للملكوت كوليمة. وهذه نوعية من اللغة المجازية كثيراً ما كان اليهود يستخدمونها لوصف البركات الآتية في العصر المسياني. لكن صور المسيح الخاصة بالملكوت، توضح أنه ليس كل أحد سيستطيع الدخول. والواقع أن مثل العشاء العظيم يشير إلى أن المبتدئين التقليدين لن يكون لهم مكان فيه على الإطلاق[57]. فالذين سيشاركون في بركاته سيأتون من الشوارع وليس من المقادس.
وهناك تأكيد عظيم في إنجيل متى على المسؤولية الملقاة على عاتق أولئك الذين يعلنون أنهم شعب الله. وبالنظر إلى أنه ما من أحد يعرف اليوم أو الساعة التي سيتم فيها ذلك، علينا أن نكون في حالة استعداد دائم مثل العذارى اللواتي انتظر وصول العريس[58].
وهذا العنصر في تعليم يسوع يسمو على الفروق الحادة التي نحب أن نصورها بين ما سيحدث في المستقبل وبين ما هو قائم الآن بالفعل.
وبالنظر إلى أن يسوع قد جاء، فقد أقبل أيضاً مجتمع الله الجديد بالفعل. وأولئك الذين يقبلون سلطان الله يشكلون الآن جزءًا من ملكوته. وأياً كان ما يُكشف عنه في المستقبل من أمور أخرى، فهو لن يكون بداية جديدة، يقدر ما سيكون تنفيذاً نهائياً لمضامين شيء سبق أن وجد هنا بجوهره. وعلى الرغم من أن مجتمع الله الجديد كانت له بدايات صغيرة ضئيلة، إلا أنها هي نفس نوعية البداية التي لا بد وأن تؤدي إلى نمو مذهل، ونموه سيكون على مثال حبة الخردل “وهي أصغر البذور” في العالم، ولكنها متى نمت تكون أكبر البقول[59].
الأمثال وسامعوها
قضى بعض الباحثين وقتاً طويلاً محاولين اكتشاف الموقف الحياتي (Sitz im Leben) لكثير من الأمثال، حيث كانوا يعتقدون أن عملهم هذا سيسهل لهم الوصول إلى معانيها المباشرة. غير أنه في معظم الحالات لم يكن في الإمكان التعرف بدقة على المواقف الحقيقة التي قال فيها يسوع بعض قصص معينة. لأنه، وعلى مثال الأجزاء الأخرى من الأناجيل، سُجلت الأمثال ليس باعتبارها جزءًا من سيرة يسوع الذاتية، تم ترتيبها ترتيباً زمنياً، بل سجلت كرسالة تفسر تعليم يسوع واستمرارية علاقته لاحتياجات العالم والكنيسة.
وفي كثير من الأحيان تأتي الأمثلة وقد تضمنت كل منها قصة، وقد يشلك هذا إشارة ما إلى وضعها الحياتي الأصلي في خدمة يسوع. ولعله لا يتشكك أحد في أن مثل السامري الصالح قد قيل إجابة للسؤال “ومن هو قريبي” والذي وجهه إلى يسوع أحد القادة الدينين اليهود. وهكذا أيضاً نجد أن المثال الذي قيل عن العبد غير المتسامح قاله يسوع رداً على سؤال بطرس عن عدد المرات التي يسامح فيها شخصاً أساء إليه[60]. كما أن يسوع قال أيضاً قصة الغني الغبي رداً على سؤال حول أفضل طريقة لتقسيم الميراث.[61]
وهناك أمثلة قيلت في سياقات مختلفة وأناجيل مختلفة. فمثل الخروف الضال نجده في إنجيل لوقا إلى جانب مثلي الدرهم المفقود والابن الضال[62]، وكان ذلك في معرض الرد على شكاوى الفريسيين من أن يسوع يخالط الأشرار[63]. وفي إنجيل متى ذكر نفس المثال لتشجيع التلاميذ على أن يكونوا “رعاة” أمناء للكنيسة. ومن الطبيعي أن يكون مفهوماً أنه ربما قال يسوع نفس القصة أكثر من مرة، واستخلص دروساً مختلفة في كل مناسبة منها. وكثيرون من الوعاظ يعيدون استخدام التوضيحات الجيدة.
ولكن الحقيقة هي أن هذه الأمثال تتميز بعدم وجود أية معلومات عن خلفيتها. فلا نعرف شيئاً عن الظروف التي قال فيها يسوع معظم الأمثال لأول مرة. وهذا ما تؤكده حقيقة أنها ذكرت في مجموعات في الأناجيل المختلفة. فإنجيل متى يضم أصحاحاً كاملاً خصصه كله للأمثال وإنجيل مرقص يحتوي على مجموعة مماثلة (برغم أنها ليست مطابقة) في حين أن لوقا يخصص جزءًا كبيراً تسود على غالبيته الأمثال[64].
بل وليس من المفيد حقاً، أن نحاول اكتشاف كيفية استخدام الأمثال في الكنيسة الأولى. فطلاب ما يسمى “بنقاد التنقيحات” وهو علم دارسة السبب الذي من أجله كُتبت الأناجيل. فحصوا الطرق التي استخدمت بها الأمثال المتباينة في الأناجيل المختلفة. وعلى سبيل المثال، يمكننا أن نعرف أن إنجيل متى يحتوي على عدد من الأمثال التي تشير إلى مجيء ملكوت الله في المستقبل – وأننا نظن أن هذا الموضوع كانت له بعض الأهمية في الكنائس التي كان متى يكتب لها. ومن ناحية أخرى يحتفظ لوقا بعدد من الأمثال، لا نجدها في الأناجيل الأخرى تتحدث عن مكان الشعوب غير اليهودية (الأمم) في مجتمع الله الجديد. والملاحظات التي من هذا القبيل بوسعنا أن نعرف منها أشياء قيمة عن متى ولوقا وقراء كل منهما. غير أنها تخبرنا القليل من ناحية أصل الأمثال نفسها أو معناها.
والمعنى الحقيقي للأمثال يجب أن يكون مرتبطاً بشكل وثيق بالدعوة التي توجهها لأولئك الذين يقرؤونها أو يسمعونها. فيه تعطينا صورة عن الله ومجتمع الجديد، وهي تدعونا إلى أن نكرس أنفسنا دون قيد أو شرط لتقبل مشيئته. وحين نعرف أننا نشبه الخروف الضال، أو المستأجرين الأشرار، أو الرجل الذي اكتشف كنزاً مخفياً في حقل، هنا فقط نكون قد شعرنا بتأثيره الكامل فينا. وفي التحليل الأخير، نجد أن الأمثال لا تخرج عن أن تكون التعبير عن حق الله في حياة البشر. فهم يحتاجون إلى الميل إلى الفهم، والإرادة للطاعة.
ماذا علم يسوع بالأمثال
هناك قول في إنجيل مرقص (مرقص 4: 11-12) يبدو أنه يوحي بأن يسوع قال الأمثال وكان يتعمد أن يأتي تعليمه في أسلوب غامض بالنسبة لأولئك الذين لم يصبحوا بالفعل تلاميذه، وذلك على مثال ما قاله إشعياء “لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا لئلا يرجعوا فتغفر لهم خطاياهم”. وهذه الفكرة تأتي على النقيض من كل ما نعرفه عن يسوع، ومن ثم يتطلب الأمر بعض التوضيح. وهناك اقتراحات كثيرة قدمت في هذا الصدد تقتصر على ذكر اثنين منها.
ç طبقاً لما يقترحه “دود” (وآخرون ممن يتبنون آراءه)، هذا القول لم يصدر حقاً عن يسوع. بل أضافته الكنيسة الأولى لبيان سبب رفض الشعب اليهودي ليسوع. وكان – كما يقولون – جزءًا من حكمة الله نفسه، وعنايته الإلهية حيث قصد لهذا أن يحدث دائماً، ومع ذلك هناك حجتان ضد هذا الرأي.
أولاً: من المحتمل أن الجيل الأول من المسيحيين هم فقط الذين كانوا يهتمون اهتماماً بالغاً برفض اليهود ليسوع. ولم تكن المسحة اليهودية ظاهرة في الكنيسة إلا في مرحلة مبكرة جداً من نموها، وبعد دمار أورشليم على يد الرومان سنة 70م، اختفى المسيحيون اليهود تقريباً من الكنيسة. ومن المؤكد أن ذلك لم يكن له إلا تأثير بسيط على الكنيسة بوجه عام. وهذا معناه أن المشكلة كان في أقصى حدتها ليس بعد الأحداث التي شهدها يسوع في حياته بالجسد بوقت طويل. وكلما اقتربنا من فترة حياة يسوع نفسه، قلت الفرصة المتاحة للكنيسة للقيام بإضافات وتغييرات في تعليمه.
ثانياً: يتضمن إنجيل متى قولاً مماثلاً، حيث اقتبس نفس الفقرة من إشعياء، وبالنظر إلى معرفتنا أن متى كان بصفة خاصة مهتماً بالوضع النسبي لليهود والمسيحيين، فكنا نتوقع منه أن يحتفظ بنفس الكلمات تماماً مثل مرقص، إذا كان هذا القول يتعلق بالفعل برفض اليهود ليسوع. ولكن الحقيقة أن هذا القول في إنجيل متى له مضمون مختلف بشكل طفيف. فهنا يقول يسوع: “من أجل هذا أكلمهم بأمثال. لأنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون”. (متى 13: 13).
ç وهناك تفسير ثان يتناغم مع هذا القول في إنجيل متى. وعلى أساس هذا الفهم لنا أن نفترض أن الكلمة المترجمة “لكي… يبصروا” في إنجيل مرقص، قصد بها في الواقع أن تكون بداية قول حقيقي، تماماً مثلما جاءت في متى. والدليل الذي يؤيد هذا الرأي يمكن استخلاصه من مقارنة اللغة اليونانية التي كتب بها مرقص، بالأقوال الآرامية التي ربما كانت في خلفيتها. وهكذا فإن هذا القول لا يصف “الغرض” من التعليم بأمثال، بل العواقب التي لا بد أن تحدث نتيجة عمل ذلك. فقد كان يسوع يشير إلا أن الأمثال لا بد وأن تفصل بين أولئك الذين ينصتون إليها ببصيرة روحية عن أولئك الذين هم عميان من الناحية الروحية.
وهذا هو التفسير المرجح لأنه يتناغم مع ما رأيناه في أصحاح سابق عن موقف يسوع من حفظ مسيانيته سراً. كان أنه يتسق تماماً مع طبيعة الأمثال نفسها. فعلى الرغم من أنها لا تتطلب مجهوداً ذهنياً كبيراً، إلا أنها تتطلب درجة معينة من الالتزام وذلك لفهم ما يقوله يسوع.
والأمثال ليست أقوالاً فلسفية عن الحقائق المتعلقة بالله. فهناك معنى تخفى فيه الحقيقة، لأن الأمثال تدعو سامعي يسوع إلى أن يفكروا بأنفسهم ما هي مضامين رسالته. وأولئك الذين لم يكونوا مهتمين بصفة خاصة، كان يمكن أن يسمعوا المثل، ثم لا يفهمون منه شيئاً سوى أنه قصة. إلا أنه إذا فكرنا قليلاً، فإن نفس القصة يمكن أن تكون صورة لله ومعاملاته مع البشر في المجتمع الجديد الذي جاء يسوع ليقيمه.
هل قصد يسوع تأسيس الكنيسة
كثيراً ما تساءل الناس ما إذا كان يسوع قد قصد إقامة كنيسة. ونجد بالفعل في إنجيل متى قولين يبدو أنهما يشيران إلى أنه فعل ذلك (متى 16: 18-20؛ 18: 17). غير أن بعض الباحثين يعتقدون أن هذه الأقوال وضعها متى نفسه، ولم تأت مباشرة من تعليم يسوع. “فألبرت شويتزر”، على سبيل المثال، وجد أنه يستحيل عليه التفكير في أن يسوع قصد أن يقيم كنيسة، لأنه كان يعتقد أن يسوع كان يتوقع نهاية سريعة للعالم. لكن، حتى هؤلاء الذين لا يشاطرونه هذا الرأي كثيراً ما عارضوا فكرة أن يسوع كان مصمماً على أن يشرع في تأسيس كنيسة. أما “أدولف فون هارناك Adolf Von Harnack” واللاهوتيون التحرريون، فكانوا يرون أن يسوع مجرد معلم أخلاقي بسيط. ولأنهم يعتبرون أن مفهوم الكنيسة لا يتناغم مع هذا، فقد انتهوا إلى أنها إقحام غريب تم في وقت لاحق على الإنجيل الذي كان في أساسه بسيطاً. وبالرغم من أن قليلين في يومنا هذا هم الذين يوافقون على وجهة النظر هذه، إلا أنها تلفت بالفعل انتباهنا إلى حقيقتين هامتين يتطلب الأمر أن نتذكرهما حينما نتحدث عن يسوع والكنيسة:
ç “الكنيسة” لا تعني بالضرورة نوعية الهيئة الدينية التي برزت في القرن الثاني والتي نألفها اليوم في المسيحية كمؤسسة، ولقد تحدث يسوع عن شخصين أو ثلاثة باسمه (متى 18: 20).
ç وبالمعنى الدقيق، فإن وجود “الكنيسة” أثناء حياة يسوع يشكل مفارقة تاريخية. فالكنيسة في أسفار العهد الجديد ليست مجرد تجمع من أناس لهم فكر متماثل نظموا كمجتمع ديني. إنها شركة حية لأولئك الذين يشاركون في الخلاص الذي أعده الله من خلال حياة وموت وقيامة المسيح نفسه.
ولذلك هناك معنى ظهرت فيه الكنيسة إلى الوجود، ولكن بعد موت يسوع وقيامته.
ويصف العهد الجديد انسكاب الروح القدس يوم الخمسين، على أنه اليوم الحقيقي لتأسيس الكنيسة (أع 1: 8؛ 2: 1-4).
ولذلك نحن في حاجة إلى إثبات صحة أي قول عن قيام يسوع بتأسيس الكنيسة. غير أنه توجد في الوقت ذاته دلائل قوية في الأناجيل بأنه من المؤكد أنه قصد تكوين جماعة من أولئك الذين كانوا يتبعونه.
ç كل الأناجيل تصف يسوع بأنه الشخص الذي تحققت فيه كل الوعود المسيانية التي في العهد القديم، فالمسيا الذي تحدث عنه العهد القديم قد جاء في المسيح. وهناك عنصر له أهميته في تطلعات العهد القديم تمثل في الاعتقاد بأنه حين يأتي المسيا فلسوف يقيم مجتمعاً جديداً، وفي هذا المجتمع يتمتع شعب الله بعلاقة جديدة ووثيقة بسيدهم وببعضهم البعض. وكما سبق ورأينا هناك مبرر قوي للاعتقاد بأن جوهر ادعاءات المسيح على الأقل يمكن أن نرجعه إلى تعليم يسوع نفسه، وإذا كان قد رأي في نفسه أنه المسيح فلسوف يكون من الطبيعي جداً أن يتصور تأسيس ما يمكن أن يطلق عليه صفة “مجتمع” بين أتباعه. والاسم الذي اعتاد يسوع أن يطلقه على نفسه باستمرار وهو “ابن الله” يحتوي أيضاً على هذا المعنى. وقد لا يكون من الصواب القول – كما يفعل البعض – أن كل مرة استخدم فيها يسوع هذا الاسم كان يقصد أن يضم تلاميذه معه. غير أن ليس هناك شك أنه في سفر دانيال في العهد القديم نجد أن “ابن الإنسان” لم يكن فرداً بل كان عضواً يمثل “قديسي العلي” (دانيال 7: 13-18).
ç حين نتأمل طرق وصف يسوع لعمله، وعمل ملكوت الله، كثيراً ما توحي كلماته أنه يتحدث عن جماعة من الناس ارتبطوا ليس بالله فقط، بل ومع بعضهم البعض أيضاً. فهو – على سبيل المثال – يتكلم عن نفسه كراع، الأمر الذي يستشف منه أنه لا بد وأن يكون له قطيع (يوحنا 10: 1-18، لوقا 12: 32). وحين شبه نفسه بالكرمة وتلاميذه بالأغصان كان من الواضح أنه يقصد أن يشير إلى أن الأغصان لها علاقة بين بعضها البعض، وأيضاً مع الساق الرئيسية (يوحنا 15: 1-11). وكثير من الأشياء التي يقولها يسوع عن الملكوت ستكون صعبة الفهم ما لم نفترض أنه كان يدور في ذهنه صورة لمجتمع ما ظاهر مرئي (متى 23: 23؛ لوقا 16: 16). ومن الثابت أن تعليمه الأخلاقي يختص بالحياة بين أتباعه في إطار شركة أو جماعة (متى 5: 22؛ 7: 3-5).
ç أما الأكثر روعة، فهي حقيقة أن بعض الأمثال توحي بأن ملكوت الله لن يكون مجتمعاً جديداً فحسب، بل سيكون مجتمعاً مرئياً أيضاً. فأمثال من قبيل مثل حبة الخردل (مرقص 4: 30-32)، والحنطة والزوان (متى 13: 24-30)، شبكة الصيد (متى 13: 47-50)، العمال في الكرم (متى 20: 1-16)، ووليمة العرس (متى 22: 1-14) من الواضح أنها توحي بمجتمع منظم.
وعلى هذا يبدو من المعقول أن نستنتج أنه كان يدور بفكر يسوع تكوين مجتمع مستمر من أتباعه، وأن نوعية الكنائس التي جاء الحديث عنها في بقية العهد الجديد، أعطت صورة للمجتمع الذي قصد يسوع أن يقيمه.
[1] لوقا 10: 25-37.
[2] متى 18: 12-14.
[3] لوقا 15: 1-7.
[4] متى 13: 1-9.
[5] مرقص 4: 1-9.
[6] لوقا 8: 4-8.
[7] لوقا 4: 23.
[8] مرقص 7: 15-16.
[9] متى 5-7.
[10] يوحنا 10: 1-18.
[11] يوحنا 15: 1-11.
[12] يوحنا 4: 31-38.
[13] يوحنا 6: 35.
[14] يوحنا 7: 37-39.
[15] يوحنا 15: 1-11.
[16] لوقا 10: 25-37.
[17] متى 25: 14-30؛ لوقا 19: 11-27.
[18] متى 22: 1-14؛ لوقا 14: 15-24.
[19] متى 13: 1-9؛ مرقص 4: 1-9؛ لوقا 8: 4-8.
[20] متى 13: 18-23؛ مرقص 4: 13-20؛ لوقا 8: 11-15.
[21] متى 21: 33-45؛.مرقص 12: 1-12؛ لوقا 20: 9-19.
[22] متى 13: 24، 31، 33، 44.
[23] متى 18: 12-14؛ لوقا 15: 1-7.
[24] لوقا 15: 8-10؛ 11-32.
[25] متى 20: 1-16.
[26] لوقا 18″ 1-8.
[27] لوقا 11: 5-8.
[28] لوقا 11: 9.
[29] متى 26: 6-30.
[30] مرقص 14: 32-36.
[31] يوحنا 1: 14، 18؛ 5: 43؛ 8: 19.
[32] متى 6: 9؛ لوقا 11: 2
[33] مرقص 1: 15.
[34] لوقا 15: 11-32.
[35] لوقا 18: 9-14.
[36] لوقا 12: 13-21.
[37] مرقص 10: 15؛ لوقا 18: 17.
[38] يوحنا 3: 15؛ 6: 54؛ 10: 28؛ 17: 3.
[39] متى 22: 37-38.
[40] مرقص 12: 29-30.
[41] متى 6: 24؛ لوقا 16: 13.
[42] متى 16: 24-26.
[43] لوقا 9: 23-25.
[44] متى 21: 28-32.
[45] مرقص 12: 41-44؛ لوقا 21: 1-4.
[46] متى 6: 5-6؛ 16-18.
[47] متى 6: 4.
[48] متى 25: 14-30.
[49] لوقا 19: 11-27.
[50] لوقا 16: 1-8.
[51] متى 13: 44.
[52] متى 13: 45.
[53] لوقا 17: 21.
[54] متى 18: 21-35.
[55] متى 22: 39؛ مرقص 12: 31.
[56] لوقا 10: 25-37.
57 متى 13: 24-30؛ 47-50؛ 25: 31-33.
[57] لوقا 14: 15-24؛ متى 22: 1-14.
[58] متى 24: 36-44؛ قارن مرقص 13: 32-37؛ وانظر أيضاً متى 25: 1-13.
[59] متى 13: 31-32؛ مرقص 4: 30-34؛ لوقا 13: 18-19.
[60] متى 18: 21-35.
[61] لوقا 12: 13-21.
[62] لوقا 15: 1-7.
[63] متى 18: 12-14.
[64] متى 13؛ مرقص 4؛ متى 13: 18 – 16: 31.