ميلاد المسيح والسنوات الأولى من حياته – جون ديرين
ميلاد المسيح والسنوات الأولى من حياته – جون ديرين
ميلاد المسيح والسنوات الأولى من حياته – جون ديرين
نعرف من القصص التي تتناول كيفية ولادة يسوع أن الناس العاديين، وليس الخبراء في النواحي الدينية هم الذين كانوا أول من عرفوا المخلص الذي وعد به الله حين ولد[1]. ويرسم لنا الإصحاح الأول من إنجيل لوقا صورة حية رائعة عن زكريا الكاهن، الذي لم يكن يعرفه إلا القليلون وزوجته أليصابات اللذين كانا ينتظران أن يخلص الله شعبه[2]، وقد كوفئا على يقظتهما بالإعلان عن ميلاد ابنهما الذي يعرف باسم “يوحنا المعمدان”. وكانت مريم أم يسوع تنتمي إلى نفس هذه العائلة. ومن ترنيمة الشكر الرائعة التي نطقت بها مريم، المعروفة باسم “تسبحة مريم”، يمكننا أن نلمس كيف كان هؤلاء الناس ينتظرون بشغف أن يعمل الله في حياتهم. لقد تهللت مريم وأصدقاؤها لأن الله سيعمل بطريقة جديدة وقوية.
تم التأكيد على نفس هذه الموضوعات من خلال جميع القصص المعروفة التي تتناول هذا العيد الأول لميلاد المسيح[3]. وكان أول من سمع الأخبار السارة بأن مواعيد الله قد تحققت بميلاد يسوع[4]، هم بعض الرعاة في بادية اليهودية، ثم سمعان وحنة في الهيكل. ولم تكن لأي من هؤلاء الناس أهمية في العالم على إطلاقه. والقصص التي عرض لها الأصحاح الأول من إنجيل لوقا تؤكد أن كبار الموظفين – سواء السياسيين أو الدينيين – لم تكن لهم بصيرة ليعرفوا بها يسوع. ولقد تكرر هذا الدرس طوال قصة حياة يسوع، حيث أصبح واضحاً أنه لكي تتوافر لك معرفة حقيقية عن أعمال الله في المسيح، فإنه حتى أعظم الناس عليهم أن يصيروا مثل الأطفال الصغار[5].
متى وُلد المسيح؟
ليس بالموضوع السهل بحسب ما يبدو لنا أن نحدد التاريخ الذي ولد فيه يسوع على نحو من الدقة. والشيء الواضح الذي يمكن افتراضه هو أن يسوع ولد بين سنة 1ق.م وسنة 1م. هذا الافتراض الذي أُخذ به لفترة طويلة غير صحيح، وذلك نتيجة أخطاء وقعت منذ فترة طويلة مضت تعود إلى القرن السادس في حساب مدى الحقبة المسيحية. وهناك أربعة أدلة يجب مناقشتها:
ç طبقاً لما ذكره متى، فقد ولد يسوع: “في بيت لحم اليهودية أيام هيرودس الملك” (متى 2: 1)، أي قبل موت هيرودس الكبير عام 4 ق.م.
ç اهتم لوقا بالأكثر بوضع قصته في الإطار الأوسع لشؤون الإمبراطورية الرومانية، وهو يقول بأن يسوع ولد أثناء “الاكتتاب الأول” إذ كان كيرينيوس والياً على سوريا (لوقا 2: 2). أما يوسيفوس فيذكر لنا أن رجلاً يدعى كيرينيوس أرسل بالفعل إلى سوريا واليهودية لعمل اكتتاب في مستهل الحقبة المسيحية. ولكن هذا الاكتتاب كان جزءًا من عملية التغيير التي جرت عقب خلع أرخيلاوس، وهو ابن هيردوس الكبير. ولا بد وأن ذلك كان في سنة 6 أو 7م، ولا يمكن أن يكون قبل موت هيرودس الكبير سنة 4ق.م.
ونتيجة لهذا قال البعض إن الرجل الذي ذكره لوقا باسم كيرينيوس، لم يكن في الواقع سوى ساترنينوس النائب الإمبراطوري في سوريا، الذي عمل اكتتاب سنة 6ق.م. ومع ذلك، لا يتوافر لنا دليل على الإطلاق يبين كيف خلط لوقا بين هذين الرجلين. ولا سيما أنه في بقية إنجيله، وفي كتابه الثاني “سفر أعمال الرسل” كان حريصاَ للغاية، وكان دقيقاً جداً في استخدامه أسماء الموظفين الرومانيين وألقابهم. وعلى أية حال، ليس لدينا دليل على الإطلاق يؤكد بصفة قاطعة أن المدعو ساترنينوس قام فعلاً بعمل اكتتاب.
ç ثم أن لوقا، وفي الوقت ذاته، يذكر بيانات أخرى عن تاريخ الأحداث الهامة في حياة يسوع. فهو يذكر لنا – على سبيل المثال – أن يسوع كان قد بلغ الثلاثين من عمره تقريباً حين تعمد. وأن ذلك كان في “السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر” (لوقا 3: 1).
وقد أصبح طيباريوس حاكماً للإمبراطورية الرومانية سنة 14م، على ذلك فإن السنة الخامسة عشرة من حكمه ستقع عام 28م. ولكن الحقيقة هي أن طيباريوس شارك سابقه أوغسطس الحكم ابتداء من سنة 11م تقريباً، ولذلك فإنه على الرغم من أنه لم يصبح إمبراطوراً إلا بعد موت أوغسطس سنة 14م إلا أنه كان في الحكم طوال السنوات الثلاث السابقة. ومن المحتمل أن لوقا قام بحساب السنة الخامسة عشرة من حكم طيباريوس بداية من سنة 11م، وهذا يعني أن يسوع يكون قد بلغ الثلاثين من عمرة سنة 25-26م. ويعنى أيضاً أنه لا بد وأن يكون قد ولد سنة 5 أو 4 ق.م.، وهكذا يكون قد ولد قبل موت هيرودس الكبير.
ç حاول البعض أن يكونوا أكثر تحديداً بأخذهم في الحسبان أنه كانت هناك حالة اقتران بين الأجرام حوالي سنة 6ق.م، وأن هذا الحدث الفلكي قد يفسر لنا النجم اللامع الذي ذكر في إنجيل متى. إلا أن هذه النوعية من الحجج تتطلب خيالاً واسعاً لتكون مقنعة.
ومن هذا بمقدورنا أن نرى أن هناك دليلين يشيران إلى أن تاريخ ميلاد يسوع يقع حوالي عام 4ق.م.
وهناك معلومة أخرى ذكرها لوقا بخصوص الاكتتاب الذي تم على عهد كيرينيوس يبدو أنها لا تتفق مع هذا التاريخ. وهناك ثلاثة تفسيرات محتملة لهذه المشكلة:
ç لقد أُسيء فهم لوقا. وهناك عدد من الباحثين قالوا بأن المشكلة على النحو الذي عرضناها به ليس لها وجود. وهم يقولون إنه من الممكن، وعلى أساس عوامل لغوية أن يتم ترجمة (لو 2: 2) على النحو التالي: “هوذا الاكتتاب كان قبل ذاك الذي جرى، إذ كان كيرينيوس والي سوريا”، وذلك بدلاً من الترجمة الحالية: “وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريا”. ومن المؤكد أن فهم هذه العبارة على هذا النحو أمر ممكن، على الرغم من أن ذلك ليس بأية حال المعنى الواضح لهذه العبارة، والأمر يتطلب تعديلاً في النص. ولقد أيده بعض مفسري العهد الجديد المرموقين، وظلوا يأخذون به، ولكن تفسير الموضوع بهذا الشكل لم يلق إجماعاً.
ç ارتكب لوقا خطأ. ومعظم الباحثين في الواقع يميلون إلى رفض المعلومة الواردة في لوقا 2: 3 على اعتبار أنها خاطئة. وهذا أسلوب سهل للتهرب من المشكلة.
غير أن ذلك لا يحل أيضاً بعض الصعوبات. لقد سبق أن ذكرنا أنه في مواضع أخرى من الإنجيل، وسفر الأعمال حيث كان لوقا يهتم بالأشخاص والأحداث المتعلقة بالإمبراطورية الرومانية، أظهر أنه مؤرخ جدير تماماً بالثقة. ولذلك فإنه ليس من المحتمل والحال هذه أن يكون قد ذكر هذه الإشارة الواضحة ما لم تكن لديه مبررات قوية يستند إليها في ذلك. كما رأينا أيضاً أن ما ذكره عن التاريخ الذي تعمد فيه يسوع بمعرفة يوحنا يتناغم مع القول بأن يسوع ولد إبان حكم هيرودس الكبير، وهذا ما يقرب من عشر سنوات قبل حكم كيرينيوس الذي ذكره يوسيفوس.
ومن المؤكد أنه من غير المحتمل بالنسبة لأي مؤرخ ذكي بأن يدلي بقولين متعارضين في فترة زمنية قصيرة في قصته. وإذا افترضنا أن لوقا استخدم مصادره بعناية وكتب بحسن تمييز وفكر ثاقب، فلسوف تظهر عدة صعاب إذا ما قلنا ببساطة أنه كان مخطئاً بالنسبة للاكتتاب الذي تم على يد كيرينيوس.
ç لوقا لم يسرد القصة بكاملها. ويمكننا أن نجد تفسيراً أفضل إلى حد ما إذا ما تأملنا حقائق الحياة العملية في الإمبراطورية الرومانية. فحكم اليهودية الذي كان يجري من روما سنة 7م، لم يكن على الحال الذي قد نجده عليه الآن. ذلك أننا في أيامنا هذه تتوافر لنا وسائل اتصالات فورية بين أجزاء العالم المختلفة. فهيئة الأمم المتحدة في نيويورك بوسعها اتخاذ قرار يتعلق ببلد في الجانب الآخر من العالم، ويمكن لقرارها أن يسلم في غضون دقائق معدودات.
إلا أن الأمور كانت تختلف عن ذلك في روما القديمة. فحتى في الظروف المثالية، فقد يستغرق الأمر شهوراً لوصول مرسوم وقعه الإمبراطور في روما لكي يسلم إلى مقاطعة نائية مثل اليهودية – وكان هناك دائماً احتمالات غرق السفينة التي تحمل الرسول، فتتأخر أوامر الإمبراطور فترة أطول أو تفقد تماماً – وفي فترة لاحقة – على سبيل المثال أرسل الإمبراطور كاليجولا أوامر بأنه يجب وضع تمثاله في الهيكل في أورشليم. وكان الحاكم المحلي أكثر حكمة من الإمبراطور، وأدرك أن هذا الأمر ستنشأ عنه مقاومة شديدة من اليهود. وعلى ذلك كتب إلى الإمبراطور يطلب منه إعادة التفكير في هذا الأمر.
لكن كاليجولا أصر على تنفيذ خطته، وكتب إلى الحاكم يخبره بذلك، ولقد استغرقت السفينة التي تحمل الرسول الذي أرسله ثلاثة أشهر في رحلتها من روما إلى اليهودية. غير أنه في أثناء ذلك اغتيل كاليجولا، ووصلت السفينة الأخرى التي غادرت روما بعد ذلك بكثير والتي كانت تحمل أخبار موته ونهاية سياساته، قبل السفينة الأولى بسبعة وعشرين يوماً.
وحين نفكر في التفصيلات العملية المتعلقة بإجراء الاكتتاب في إمبراطورية ما، في ظر مشاكل الاتصالات ووضع الحكومة، فإنه يكون بمقدورنا أن ندرك أن الصعوبة بشأن التاريخ الدقيق لاكتتاب كيرينيوس ليس بالضخامة التي نتصورها، وذلك إذا ما نظرنا إليها في إطار حديث فحسب. وهناك حقيقة معروفة تماماً أن الاكتتابات الرومانية (التي تجري لغرض الضرائب) كثيراً ما كانت تلقى مقاومة في أنحاء عديدة من الإمبراطورية. واكتتاب مثل هذا جرى في بلاد الغال (فرنسا) على سبيل المثال، لقى مقاومة عنيدة من الشعب حتى أنه استغرق أربعين سنة قبل أن يكتمل.
أضف إلى ذلك المشاكل المتعلقة بالاكتتاب، ومن الواضح أن اكتتاباً استكمله كيرينيوس سنة 6 أو 7م، لا بد وأنه قام على أساس معلومات جمعت قبل ذلك بكثير. وكان الإمبراطور أوغسطس ذكياً في جمع الإحصاءات، وربما كان قد اقنع هيرودس الكبير بإجراء اكتتاب.
ولقد أُرسل كيرينيوس سنة 6م كي يزيل الفوضى التي خلفها أرخيلاوس، ومن المحتمل جداً أنه استعمل معلومات جمعت في وقت سابق عوضاً عن أن يشرع في القيام بهذه العملية المملة من جديد. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يكون هناك مبرر حقيقي لافتراض أن معلومات لوقا عن الاكتتاب تتعارض بالضرورة مع بقية الدليل الذي يشير إلى أن يسوع ولد سنة 5 ق.م. تقريباً. وعلى أية حال، فإن لوقا كان مهتماً بذكر ميلاد يسوع أكثر من تفسير تعقيدات السياسات اليهودية المحيطة بهذا الموضوع.
يسوع ينمو:
قليل جداً هو الذي نعرفه عن حياة يسوع كطفل. ومن المفترض أن بيته كان من النمط ذي السقف المسطح، والذي يتكون من حجرة واحدة، والمبني من الطين وهو النموذج الذي كان سائداً في ذلك الحين. ولعل يوسف كان يمارس عمله ويساعده يسوع، في هذا البيت. وربما كانا يعملان أدوات زراعية أو أثاثات، أو لعلهما كانا يعملان في مشروعات البناء. فكل قرية صغيرة في حجم الناصرة، لا بد وأن يكون لديها النجار الخاص بها، والذي ربما كان من نوعية الرجل الذي يقوم بأعمال مختلفة فضلاً عن كونه عاملاً بارعاً في أعمال النجارة. والصورة التي نشاهدها أحياناً ليسوع وهو طفل يقوم بحمل النير الخفيف الذي يوضع على ظهور الثيران من المؤكد أنها لا تمثل كل ما كان يعمله، وبمقدورنا أن نكون متأكدين من أنه كان يعمل بتحصيص الجدران فضلاً عن عمله بالتجارة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من البساطة النسبية لحياته في بيته، إلا أنه لا بد وأن يسوع تلقى تعليماً طيباً. فقد اعتبروه شخصاً مناسباً ليقرأ العهد القديم باللغة العبرية في المجمع الذي في الناصرة، وليس كل شخص في سنه يستطيع قراءة اللغة العبرية، وحتى وإن كان بمقدوره التكلم بهذه اللغة[6]. وكانت العادة أن يتكلم الأولاد اليهود في المجمع المحلي، ولا بد أن يسوع كان واحداً من أكثر التلاميذ ذكاءً في فصله.
والناصرة ذاتها، لا بد وأنها كانت بصفة خاصة مكاناً محفزاً لصبي ذكي لأن ينمو فيها. وحقيقة أنها لم تكن لها أهمية كبيرة، ولم يذكر إطلاقاً في بقية الكتاب المقدس، أو في أية كتابات أخرى معاصرة، فلعل ذلك سببه أن اليهود المتزمتين للغاية شعروا أن أهل الجليل – والتي كان الناصرة جزءًا منها – كانت لهم اتصالات كثيرة جداً مع شعوب غير يهودية. والجليل نفسها كانت تسمى “جليل الأمم” لأن غير اليهود بها كانوا يفوقون اليهود عدداً.
والشعب الموجود في مقاطعة اليهودية الجنوبية – كانوا على النقيض من ذلك – معزولين عن الجميع فيما خلا مجتمعهم، وبذلك أصبحوا انطوائيين، أنانيين، مرائين، يتفاخرون ببرهم الذاتي. لكن الجليل كانت على العكس من ذلك تماماً – فالطرق الكبيرة التي كان يسلكها التجار الآتين من الشرق، والجنود الرومانيون الآتين من الغرب كانت تمر عبر الجليل. وفي الناصرة أتيح ليسوع أن يتقابل ويختلط مع أناس كثيرين من غير اليهود، وليس من شك في أنه أمضى الكثير من وقته يفكر ويتحدث عن أفكار اليونانيين والرومان، وكذلك التراث الديني الخاص بشعبه.
ومن بين الميزات الخاصة لنشأته في الجليل، هي أن يسوع سيكون بمقدوره أن يتكلم ثلاث لغات. وسبق أن لاحظنا أنه كان يستطيع أن يتكلم العبرية ويقرأها. ولكن العبرية لم تعد بعد اللغة العادية للشعب اليهودي. ولعدة قرون قبل زمانه استخدم اليهود لغة أخرى مشابهة للعبرية، وهي اللغة الآرامية. وهذه هي اللغة التي كان يسوع يتكلم بها في بيته ومع أصدقائه. وبالنظر إلى أنه كان هناك كثيرون من غير اليهود في الجليل، فلربما كان يتكلم اليونانية أيضاً، لأنها كانت اللغة العالمية المستخدمة في كل مكان من الإمبراطورية الرومانية.
وبغض النظر عما يمكننا أن نستدل عليه من معرفتنا بنوعية المجتمع الذي تربى فيه يسوع، فإن العهد الجديد لا يقول لنا في الواقع شيئاً عن حياته قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره. ولقد اعتقد الكتاب المسيحيون في القرن الثاني أن هناك خطأ ما، وأمراً غير طبيعي بالنسبة لهذا الموضوع ولم يدخروا وسعاً في تعويض ما اعتقدوا أنه نقص في العهد الجديد. ولدينا عدد من القصص التي تتناول طفولة يسوع، لها عناوين مثل: “إنجيل مولد مريم، تاريخ يوسف النجار، أو إنجيل الطفولة لتوما”، وليس من حاجة لأن نأخذ بجدية أياً من هذه القصص التي تعرض لطفولة يسوع والتي نجدها في هذه الأناجيل المزعومة.
فكلها من نوعية الأساطير التي كثيراً ما تنسج حول الشخص المهم بعد أن يموت أولئك الذين يعرفونه بالفعل. غير أنه توجد بعض الكتابات التي صدرت في القرن الثاني، والتي عادة ما يطلق عليها “أناجيل الأبوكريفا”، ربما تتضمن أقوالاً حقيقية ليسوع. وكتابات مثل “إنجيل توما”، و”إنجيل فيلبس”. وهذه الكتب عرضنا لها بشيء من التفصيل في الباب الثالث.
ويصف لوقا طفولة المسيح ببساطة شديدة بقوله إنه كان “ينمو ويتقوى”(لوقا 2: 40)، مثل أي صبي آخر. ولكنه يستطرد ويضيف أن يسوع كان “ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه” (لوقا 2: 41-52). ثم يذكر قصة واحدة كتوضيح لما قصده.
والقصة تعرفنا كيف أن يسوع فقد في أورشليم حين كان في الثانية عشرة من عمره. وكان قد ذهب إلى هناك في رحلة دينية مع مريم ويوسف، وذلك للاشتراك في أحد الأعياد اليهودية الكبرى. وحين وجده أبواه أخيراً في الهيكل سألهما: “ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي؟”. فحتى وهو في هذه السن، كان يسوع ينمو ليس من الناحيتين البدنية والذهنية فحسب، بل من الناحية الروحية أيضاً. وكان له إحساس غير عادي بمحضر الله في حياته. وأن الله هو أبوه، وكانت هذه العلاقة عند أهم من أي شيء آخر.
أما المرة الثانية التي نقرأ فيها شيئاً عن يسوع فكانت حين بلغ الثلاثين من عمره. وكان ابن خالته – يوحنا المعمدان – قد بدأ حركة دينية وجذب أتباعاً كثيرين. وكان يوحنا يعيش عيشة بسيطة في برية اليهودية، وكانت ثيابه من شعر الجمل، وكان لا يتناول سوى طعام البرية “جراداً وعسلاً برياً” (مرقص 1: 6).
وكان يوحنا هو النبي المتحول الوحيد في ذلك الحين. وكان كثيرون من الناس يتحدثون عن مجيء المخلص الموعود به من الله لكي يفتتح ما يعد مجتمعاً جديداً. وإذا توغلنا جنوباً في نفس هذه البرية نجد أن أهل قمران يتحدثون عن أمر مماثل. بل وحتى بعد ذلك، نجد أن كثيرين من مثيري الناس والأنبياء قد كونوا لأنفسهم اسماً في نفس المكان.
أما الاختلاف بالنسبة ليوحنا فهو أنه لم يكن يسعى وراء الشهرة. ولقد كان لفلسطين النصيب الأكبر من المعتوهين، والذين كان كل منهم يدعى أنه المخلص الذي وعد به الله. وأنه عين للقضاء على كل المظالم السياسية والاجتماعية السائدة، وأنه أعطي سلطاناً لإقامة مجتمع جديد. إلا أنه لم تصدر عن يوحنا مثل هذه الادعاءات. وكل ما قاله هو أنه ملاك (رسول) و”صوت”[7] أرسل بالأخبار السارة، وأن المجتمع الجديد كان على وشك أن يبدأ.
وأولئك اليهود الذين كانوا يتطلعون إلى المجتمع الجديد تعلموا من العهد القديم أن يتوقعوا مجيء مثل هذا الرسول الذي سيكون مثل إيليا نبي العهد القديم. ولم يترك لنا كتبة الإنجيل أي شك من ناحية أنهم رأوا أن يوحنا المعمدان هو نفس هذا الشخص. فوصفهم لأسلوب حياته ورسالته صيغ على نمط القصص الخاصة بإيليا الواردة في سفري الملوك في العهد القديم.
ثم إن كلا من العهد الجديد، والمؤرخ اليهودي يوسيفوس يصفان عمل يوحنا على أنه دعوة لليهود بأن ينظموا حياتهم حتى يصبحوا مهيئين من الناحية الأخلاقية لمقابلة الشخص الذي كان عليه أن يقيم المجتمع الجديد. والأنبياء الذين حفظت أقوالهم في العهد القديم كثيراً ما رأوا أنه على الرغم من أن اليهود هم شعب الله إلا أنهم لم يكونوا في حالة مناسبة لمقابلة إلههم. وإذا كان لله أن يعمل يوماً في حياتهم، فإن مجيئه لا بد وأن يبدأ بدينونة – ولسوف تكون الدينونة في غاية الشدة بالنسبة لأولئك الذين كان لهم أعظم امتياز.
ورسالة يوحنا كانت تتضمن الشيء نفسه. فقد دعا الشعب اليهودي للاستعداد لتغير أسلوب حياتهم، حتى يكونوا مهيئين للقاء إلههم. وأولئك الذين كانوا مستعدين لأن يواجهوا هذا التحدي ببسالة أظهروا استعدادهم للتغير وذلك بأن “اعتمدوا”. والكلمة اليونانية التي حصلنا منها على لفظة “يعمد” تعني ببساطة “يغطس”. وكثيراً ما كانت تستخدم – على سبيل المثال – في صياغة الملابس حيث كانت تغمر أو تغطس في حوض أو إناء. والمعمودية بالمعنى الروحي، هي نفس الشيء، فيما عدا أن الناس هم الذين يتم تغطيسهم، وهم لا يغطسون في صبغة، بل في ماء نظيف. ولعل يوحنا استخدم نهر الأردن كمصدر للماء في متناول اليد.
ومعظم اليهود لا بد وأنهم كانوا يعرفون ما هي المعمودية. وربما كانت تستخدم كوسيلة لقبول غير اليهود في الديانة اليهودية. ومن المؤكد أنها استخدمت بهذه الطريقة فيما بعد. وهناك دليل كاف أيضاً من لفائف البحر الميت يفيد أن الأسينيين كانوا يستخدمون المعمودية بانتظام كوسيلة لحفظ نقائهم الأخلاقي والديني.
ومن أبرز ملامح الآثار المتبقية للدير في قمران هو النظام المعقد لقنوات جر المياه، والأحواض التي كانت توفر مياهاً كافية في البرية لشعب هذه الجماعة حتى يتمكنوا من القيام بطقوس معموديتهم. ومن الطبيعي أن طقوس طائفة مثل الأسينيين لم تكن هي نفس طقوس المعمودية التي تجرى لغير اليهود حين اعتناقهم الديانة اليهودية. فالمعموديات والغسلات الطقسية كانت تجرى مراراً وتكراراً في قمران. غير أن معمودية المتجددين الذين اعتنقوا اليهودية كانت تجري مرة واحدة فقط.
ومن الصعوبة القول، إذا كان الطقس الذي اتبعه يوحنا كان يقوم على أساس غسلات متعددة مثلما كان يفعل الأسينيون، أم كان عبارة عن معمودية تجري مرة واحدة مثلما كان الحال بالنسبة للمتجددين من الأمم. أما الطبيعة المتشددة لرسالة يوحنا، والمعارضة التي أثارها فيسهل فهمها إذا ما كان يدعو اليهود للاشتراك في شيء لم يتم وضعه من أجل شعب الله المختار بل للوثنيين. ولقد رأى يوحنا أنه إذا كان لليهود أن يشتركوا في المجتمع الجديد الذي أوشك على المجيء فإنهم سيكونون في حاجة أيضاً إلى البداية من جديد كما لو كانوا وثنيين أمميين بدأوا يعرفون الله لأول مرة.
ومع ذلك فلم ير يوحنا التداعيات الكاملة لذلك المجتمع الجديد. فقد كان يقف في منطقة مشاع بين مواعيد الله في العهد القديم، وتحقيق هذه المواعيد الذي أوشك أن يتم. ولقد رأى أن مجيء المسيا سيتحقق في إطار النظرة التقليدية للمحاكمة والدينونة. وقد وُصف المخلص الذي وعد به الله كشخص سيقطع بفأسه كل شجرة لا تأتي بثمر[8]، ويحرق التبن بنار بعيداً عن القمح.
وما لا يمكن إنكاره هو أنه رأى بوضوح وبأكثر مما كان بالنسبة للفريسيين والغيورين. فقد كانوا يعتقدون أن دينونة الله ستحل بالرومان، أما يوحنا فأصر على أن الله سيدين شعبه وفي مقدمتهم الفريسيين.
وفي الوقت نفسه، لم يدرك تماماً حقيقة المجتمع الذي كان الله على وشك أن يبدأه. ذلك أن مجتمع الله الجديد لن يقوم على أساس اللعنة والدينونة، بل على أساس المحبة والمغفرة والاهتمام الأبوي لكل الناس. وهذا هو الأمر الوحيد الذي وجد الشعب اليهودي صعوبة في فهمه. بل إنه حتى في وقت لاحق، لم يفهم تلاميذ يسوع سيدهم تماماً حين تحدث عن مجتمع يقوم على أساس الخدمة والمعاناة[9]. وطبيعة أعمال الله على نجه التحديد لم تكن واضحة إلا بعد موت يسوع وقيامته.
يسوع يتعمد:
جاء يسوع إلى يوحنا وطلب أن يتعمد. وفي البداية لم يرد يوحنا أن يسمح ليسوع بالمشاركة في هذه المعمودية التي ليست سوى رمز للتوبة[10]. وعلى أية حال، إذا كانت ليسوع بالفعل هذه العلاقة الخاصة بالله، المر الذي كان يؤمن به يوحنا، فما الذي يكن أن يتوب عنه؟ لكن يسوع أكد ليوحنا أنه يجب أن يشارك في هذه المعمودية. وقال له: “… لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر”.
فما الذي كان يعنيه يسوع بقوله هذا؟ والتفسير البسيط هو أن يسوع شعر بأنه ينبغي عليه أن يضع نفسه في مكان أولئك الخطاة التائبين الذين سيكونون باكورة تلاميذه. فالعلاقة الخاصة التي شعر أنها تربطه بالله كانت سبباً قوياً لأن ينخرط بشكل تام في حياة أبسط الناس، عوض أن تفصل بينه وبين الناس الآخرين. إلا أن البعض قالوا إن هناك ما هو أبعد من ذلك فيقولون إن يسوع نظر إلى معموديته باعتبارها الخطوة الأولى في طريقه نحن الصليب، الذي يعتبر ذروة وهدف حياته كلها[11]. والحقيقة المؤكدة أنه بعد ذلك وصف موته بأنه “معمودية”، وأنه فيها أتم حقيقة وفعلاً مشيئة الله.
وربما كان من خلال اختبار معموديته أن يسوع بدأ يدرك وعلى وجه الدقة طبيعة علاقته الخاصة بالله. وطبقاً لما جاء في إنجيل مرقص، فقد سمع يسوع هذا القول: “أنت ابني الحبيب الذي به سررت” (مرقص 1: 11). وهذه مجموعة أقوال توجد في فقرتين في العهد الجديد. فمن ناحية نجد صدى لما جاء (مز 2: 7): “أنت ابني، أنا اليوم ولدتك”. وهذا القول يشير في سياقه الأساسي إلى ملوك إسرائيل القدامى. إلا أنه في زمن يسوع، كان ينظر إليه، وعلى نطاق واسع بأنه نبوة عن المسيا الآتي. ومن ناحية أخرى، توجد أيضاً إشارة واضحة إلى قصيدة العبد المتألم في إشعياء حيث وُصف العبد بأنه “مختاري الذي سرت به نفسي” (إشعياء 42: 1). وفكرة العبد هذه لم ترتبط إطلاقاً بتوقع مجيء المسيا قبل زمن يسوع.
وعلى هذا يبدو أنه من المحتمل أن يسوع عند معموديته عرف أمرين: أولهما أنه تأكد من علاقته الخاصة بالله كالشخص الذي اختير بصفة خاصة ليبدأ مجتمع الله الجديد، ثانيهما أنه تمت تذكرته أيضاً بأن كونه المخلص الموعود به من الله، وهذا يعني شيئاً مختلفاً تماماً عما كان معظم الناس يتوقعونه، فهذا معناه قبول الآلام والخدمة كجزء لا بد منه في حياته. وكان هذا أمراً بالغ الصعوبة، وهذا ما كان سيكتشفه يسوع على نحو من السرعة. ولكنه واجه المشكلة بقوة الله نفسه، وهو بعض ما تذكره حين نزل عليه الروح القدس في هيئة حمامة.
يسوع يقرر أولوياته:
تخبرنا الأناجيل أنه بعد أن اعتمد يسوع، تقدم يسوع في الحال ليقوم بأدواره بحسب الأولويات، كما وعده الله ليكون المحرر والمسيا. فكل تجربة من التجارب التي واجهها لم تكن من النوع الذي يحمل في طياته المعاناة، أو التواضع وهما شيئان كان يدرك يسوع أنه في مشيئة الآب ولا بد أن يجتاز فيهما.
ç أول كل شيء واجه تجربة قيام مجتمع جديد عن طريق وسائل اقتصادية، وذلك بتحويل الحجارة إلى خبز. ومما لا شك فيه أن هناك كثيرين من الجوعى في العالم كانوا يرحبون بأن يحصلوا على خبز من أي مصدر[12]. وكان يسوع نفسه في البرية، ولا بد أنه كان يعاني من شدة الجوع. وفضلاً عن ذلك، كثيراً ما صور العهد القديم المجتمع على أنه زمن يتحقق فيه الازدهار المادي حيث يشبع الجوعى ويجد كل إنسان احتياجاته.
ومن ثم فهناك مبررات قوية تدفع يسوع إلى ضرورة الاهتمام بمثل هذه الأمور. لكنه كان يعرف أن الشهرة والشعبية التي تأتي نتيجة المعجزات ليست كتلك التي تأتي نتيجة الآلام والخدمة.
وهناك كلمة وجهها الله لشعب إسرائيل في لحظة حاسمة من تاريخهم الماضي ساعدته على التغلب على هذه التجربة: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”[13]. وليس معنى هذا أن يسوع قلل من شأن احتياجات الناس المادية. ولكنه أدرك أن هذه ليست أهم احتياجاتهم من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا ما لم يقصده الله بأن يكون موضع التركيز الشديد في عمله[14]. والواقع أن يسوع فيما قدم طعاماً للجياع. ولكنه كان يعرف أن هذا ليس الهدف الرئيسي للحياة.
ç والتجربة الثانية وهي أن يطرح نفسه من جناح الهيكل إلى أسفل أي إلى الفناء المزدحم بالجماهير دون أن يجرح نفسه. وكان من اليسير عليه جداً أن يبين أنه المسيا من خلال عمل المعجزات، لأن المعجزات والأمور غير المألوفة تلقى قبولاً خاصاً من الشعب ممن كان يسوع يعرفهم حق المعرفة. ولقد قال بولس، وهو الذي يعرف اليهودية أفضل من كثيرين غيره، قال إنه من طباع اليهود أنهم “يسألون آية”[15]. وحتى في عصرنا هذا الذي يشهد تقدماً علمياً مذهلاً، كثيرون منا لا يزالون ينجذبون نحو ما هو غريب ومثير. وأي شخص يدعي أن بمقدوره عمل المعجزات لا يجد صعوبة في جذب الأتباع.
فهنا أيضاً نجد أن التجربة تتجاوز مجرد منطق الموقف أو الحدث. لأنه توجد بالفعل نبوة في العهد القديم عن ظهور المسيا بشكل فجائي ودراماتيكي مثير في الهيكل. كما أنه يوجد وعد أيضاً في مزمور 91 يشير إلى أن الله سيحمي أولئك الذين يختبرونه. أليس هذا هو الوقت الذي نجرب فيه الله؟ وإذا كان يسوع هو حقاً مسيح الله. فمن المؤكد إذاً أن بمقدوره أن يتوقع أن يفي الله بوعوده. وهذا فكر جذاب حقاً.
ولكن الرد عليه جاء في نفس الوقت العصيب الذي اختبره شعب إسرائيل. “لا تجربوا الرب إلهكم”[16]. ويظهر في سياق مزمور 91 أن وعد الله لا ينطبق إلا على الذين يعيشون في طاعة وخدمة مشيئة الله. وعمل مشيئة الله بالنسبة ليسوع معناه الخدمة والألم، وليس استخدام وعود الله بشكل اعتباطي لخدمة مصالحة الأنانية.
وهكذا رفض يسوع تجربة إعلان أنه المخلص الموعود به من الله وذلك عن طريق استعراض قدرته على علم المعجزات. ولكنه قام فعلاً بعمل المعجزات. إلا أنه – كما سنرى فيما بعد – أوضح أيضاً أن المعجزات هي علامات حية على رسالته. ولكنها لا تشكل رسالته نفسها.
ç التجربة الثالثة أن يكون مسيحاً سياسياً[17]. وهي التجربة الثانية عند لوقا، غير أن متى جعلها الثالثة. ولعله عمل هذا ليؤكد أهميتها. وليس من شك في أنه لابد وأن هذه التجربة كان أقوى من كل ما عداها. وعلى أية حال، فإن هذا على وجه الدقة هو كل ما كان معظم اليهود يتوقعونه من المسيح. وكانوا على وجه العموم يؤمنون أيضاً أنهم سيحكمون كل الأمم الأخرى في العهد الجديد الذي أوشك أن يبدأ – وقد جُرب يسوع في أن يقبل سلطان الشيطان لكي تكون له السلطة على العالم.
ولقد أضفى الشيطان على هذه الفكرة مزيداً من الإثارة برؤية بهاء ممالك العالم. لكن يسوع أدرك أن هذا أمر مختلف تماماً عن نوعية المجتمع الذي كان عليه أن يبدأه. وليس معنى هذا أن يسوع لم يكن معاطفاً مع رغبة شعبه الملحة وتلهفه إلى الحرية. وعلى أي حال، فإنه هو نفسه ذاق طغيان الرومان. ولقد عمل بيديه لكي يحصل على ما يكفي لدفع الضرائب للرومان. وكان يعرف جيداً حالة البؤس التي كان يعيش مواطنوه في ظلها.
ولكنه عارض انخراطه في الأمور السياسية باعتباره المسيا المنتظر لسببين. أولاً: رفض الشروط التي عرضها عليه الشيطان. وطبقاً لما ذكره الإنجيل فقد عرض الشيطان أن يشارك يسوع في السيادة. وإذا ما قبل يسوع أن يكون للشيطان سلطان على العالم ككل، فإنه سيعطي في مقابل ذلك سلطة سياسية محدودة. وهذا أمر ما كان سيقبله يسوع. فالتزامه الشخصي، والالتزام الذي طلبه فيما بعد أتباعه، هو أن الله وحده هو السيد والرب. والاعتراف بسلطان الشيطان في أي ناحية من نواحي الحياة معناه إنكار سلطان الله المطلق.
وعلاوة على ذلك. فقد عرضت على يسوع إمكانية أن يحكم بسلطان ومجد إمبراطور مثل الإمبراطور الروماني. ولكن يسوع كان يعرف أن هذا ليس عمله. وكان يعلم أن حكم الله في حياة البشر والمجتمع لا يمكن أن يُفرض من خارج. وإذا كان هناك درس واحد ينبغي أن يتعلمه من تاريخ شعبه، فهذا هو الدرس. فقد كانت لديهم كل الأحكام، في العهد القديم، ولكنهم بين آونة وأخرى كانوا يظهرون عجزهم عن العمل بها. ولقد رأى يسوع أن ما يحتاجه الناس هو أن يقدموا مشيئتهم وطاعتهم التامة لله، وبهذا يعطون الحرية الأدبية لخلق نوعية المجتمع الجديد الذي يريده الله لهم.
ولهذا فإنه من المؤكد أن التجربة الثالثة كانت أقوى التجارب أكثرها إلحاحاً. وقد رفضت أيضاً بأقصى قدر من الحسم والقطع “اذهب عني يا شيطان”. فما كان ليسوع أن يحاول أن يفرض على العالم نظاماً فاشستياً ليحل محل النظام الفاشستي العتيق الذي كانت تفرضه روما. فمجتمعه الجديد لن يكون حكماً يتسم بالطغيان والقسوة كما تصور كثيرون من اليهود، بل سيكون حكماً تابعاً من الطبيعة الجديدة الداخلية لأولئك الذين يشكلون جزءًا منه، فيما يخدمون ويعبدون الله وحده.
قصص ميلاد يسوع:
مما لا شك فيه أن القصص التي تتناول كيفية ولادة يسوع ليس بالقطع هي أسهل أجزاء الأناجيل فهماً. وسبق أن رأينا كيف أنه حتى تاريخ ميلاد يسوع تكتنفه العديد من المشاكل. ولكن هذه الصعوبة يغطى عليها الكثير من الأسئلة الأصعب التي تدور حول طبيعة هذه القصص. ولقد افترضنا حتى الآن أن قصص الإنجيل تقدم لنا معلومات كافية يعتد بها لكي تكشف على الأقل الإطار الصحيح للأحداث. غير أن بعض الباحثين يميلون إلى أن يتجاهلوا تماماً كل القصص التي ذكرها متى ولوقا عن ميلاد المسيح.
وقد اعتبروها قصصاً وضعتها الكنيسة الأولى في وقت لاحق لتقدم يسوع في صورة الشخص كما أرادوه بعد أحداث الفصح الأول، وليس من نوعية الشخص الذي كان عليه بالفعل “يسوع التاريخي”.
بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كان يسوع هو ربهم المقام وابن الله. فلم يكن مجرد ابن مريم ويوسف، نجار من الناصرة. فلن يكن يسوع سوى الله نفسه. والحجة تذهب إلى أنه بالنظر إلى معتقدات المسيحيين الأوائل فإنهم أدركوا أن شخصاً كهذا ما كان له أن يولد ولادة عادية، ولهذا ألفوا القصص التي نجدها الآن في الأناجيل.
والمشكلة الخاصة بهذه القصص تتركز حول ما ذكره كل من متى ولوقا من أنه لم تكن ثمة علاقة جنسية بين مريم ويوسف حين ولد يسوع (متى 1: 18، لو 1: 26، 27). وبالنظر إلى أننا نعرف من خبرتنا الشخصية أن هذا أمر مستحيل. فإن كثيرين من المسيحيين وغير المسيحيين أنكروا وجود أية حقيقة تاريخية بالنسبة هذه القصص. وعوضاً عن ذلك رأوا فيها محاولات رمزية لنقل الحقائق الدينية في قالب شعري رائع للتأكيد على أن يسوع كانت له علاقة خاصة بالله من بداية وجوده كإنسان، بل وحتى قبل ذلك.
والإجابة على أسئلة كهذه سوف تعتمد بشكل رئيسي على مواقفنا الأساسية وافتراضاتنا المسبقة في فهم العهد الجديد. فأولئك الذين يأخذون هذه القصص على أنها تمثل حقائق دينية لا تاريخية، يبدأون من حقيقة أنه لا يمكن أن يكون لنا أولاد بدون العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة. وعلى هذا تراهم يقولون إن ذلك ما كان ليحدث بشكل مختلف عن هذا، لأن الأمر لن يتم بطريقة أخرى، فإذا بدأ من الوضع الأساسي بأن أي شيء يتعارض مع خبرتنا في هذه الحياة يستحيل أن يكون له وجود، فمن الطبيعي والحال هذه، أنه علينا أن ننتهي إلى أن القصص التي قيلت عن ميلاد المسيح في العهد الجديد ما هي إلا إضافات أسطورية للقصص الحقيقية. ومع ذلك يبدو لي أن هذه ليست الطريقة المثلى لمعالجة هذه المشكلة.
وما من أحد منا يجد أن الإيمان بالمعجزات والأمور الخارقة للطبيعة أمر سهل، ناهيك عن فهمها. ولذلك فإن السؤال المعقول الذي يجب توجيهه هو ليس ما إذا كانت خبرتنا الشخصية تؤدي بنا إلى تصديق حدوث المعجزات، بل ما إذا كان الدليل المتوافر لنا يقودنا إلى أن تنتهي بالنسبة لحالة معينة إلى ما نسميه معجزة قد وقعت بالفعل. وهذا معناه أن السؤال المتعلق بميلاد يسوع بدون تدخل بشري (“الميلاد العذراوي”) يجب أن يكون: هل الدليل المستمد من الأناجيل يصلح لأن يكون دليلاً تاريخياً؟
فإذا تبين أن الإجابة على هذا السؤال كانت بالنفي، فهنا علينا أن ننظر إلى القصص التي ذكرها متى ولوقا على أنها محاولات لاحقة لبيان كيف أن الميلاد المعجزي يمكن أن يكون أمراً صحيحاً بالنسبة لشخص رائع. وإذا تبين أن الإجابة كانت “نعم”، هنا يتعين علينا – وبنفس الطريقة – أن نكون مستعدين لأن نقبل ما يشير إليه هذا الدليل.
ولكن هذا يختلف عن قولنا إنه يتعين علينا أن نتقبل ببساطة كل الأقوال التي جاءت في جميع قصص الإنجيل كحقيقة تاريخية. وما أريد قوله هو أنه يجب علينا أن نكون على استعداد لفحص كل دليل في إطار حالته الموضوعية. وإذا وجدنا أنه يوجد دليل تاريخي يشير إلى شيء خارق للطبيعة، فهنا لا يجب أن نرفض الدليل على أنه غير ذي صلة بالموضوع.
وكما حدث، فإن قصص ميلاد يسوع العذراوي تعطينا مثالاً طيباً بصفة خاصة عن نوعية الموضوعات التي يتعين علينا أن نتعامل معها. وهنا نجد حججاً عديدة:
فيما عدا الأصحاحات القليلة الأولى من إنجيلي متى ولوقا. لا يوجد قول صريح في بقية العهد الجديد كله أن يسوع ولد من عذراء. ولا يوجد ذكر لهذا في موضوعات كرازة التلاميذ الأوائل في سفر أعمال الرسل. فبولس لم يذكر هذا إطلاقاً. ولا نجد ذكراً لهذا في إنجيلي مرقص ويوحنا، على الرغم من أن هذين الإنجيلين لم يتعرضا لميلاد يسوع على الإطلاق.
ولذلك يبدو أنه كان من الممكن للمسيحيين الأوائل أن يفهموا فهماً كاملاً ما عمله الله من أجلهم بيسوع المسيح دون أي ذكر لميلاد يسوع من عذراء. وكثيراً ما حاول الكتاب المسيحيون اللاحقون أن يثبتوا أن ميلاد يسوع من عذراء أمر ضروري إذا كان للمسيحيين أن يؤمنوا أن يسوع كان بلا خطية، وأنه إنسان وإله. غير أن الرسول بولس – ضمن آخرين – أمن بكل هذه الأمور دون أن يحاول إطلاقاً أن يقيم أدلته على الأسلوب الخاص الذي ولد به يسوع.
وقد يبدو هذا دليلاً قوياً للشك في مصداقية القصص الواردة في إنجيلي متى ولوقا. غير أن الحقيقة هي أنها حجة ذات حدين. فبالنظر إلى أن فكرة الميلاد العذراوي لم تكن ضرورية للفهم التام لطبيعة شخص يسوع على وجه الدقة. فما الذي يحمل متى ولوقا، إذاً على اختلاقها؟ وهذا سؤال ملح على وجه الخصوص، بالنظر إلى أن القصص لم تتضمن نقاطاً لاهوتية صريحة تصف ميلاد يسوع.
فعلى سبيل المثال لم يقل متى ولوقا إطلاقاً أن يسوع كان بلا خطية لأنه ولد بهذه الطريقة، أو أنها جعلته ابن الله. وكذلك كونه شخصاً من البشر. وما يذكران ذلك ببساطة كحقيقة واقعة بالنسبة للطريقة التي ولد بها يسوع. ومن الصعوبة جداً أن تجد أن دافع ديني لاختلاف هذه القصص.
والواقع أن الأمر أيسر بكثير أن يُفترض أن أتيح لمتى ولوقا الاطلاع على تقاليد تاريخية من نوع ما، وكانت تتضمن هذه القصص الخاصة بميلاد يسوع، وأنهما ضمناها قصصهما المختلفة إلى حد ما في إنجيلهما.
ç في بعض الفقرات في الأناجيل يشار إلى يسوع باعتباره “ابن يوسف” (لو 4: 22، يو 1: 45؛ 6: 42)، والقوائم في كل من (متى 1: 2-16)، (لو 3: 23-38) تتبع سلسلة نسبه من خلال يوسف، ولذلك يقال أحياناً أنه حتى في الأناجيل نفسها لا نجد تناغماً. لأنه كيف يكون يوسف والد يسوع إذا كانت مريم عذراء حين حبلت به؟ ولكن هذا ليس بالاعتراض الخطير كما يبدو لنا.
ذلك أنه حين تزوج يوسف مريم، فلا بد وأن يصبح في نظر الرأي العام والشريعة اليهودية، الأب الشرعي ليسوع وفضلاً عن ذلك، لا توجد كلمة “أب بالتربية” في العبرية أو اليونانية، ولذلك فإن كتبة الأناجيل ربما كانوا يسجلون الوصف العام ليسوع على أن “يسوع بن يوسف” فحسب. ومن المؤكد أن لوقا اعتقد أن هذا هو ما عمله (3: 23). ومن غير المحتمل على أي حال أن أي كاتب للإنجيل كان سيناقض نفسه بهذه الطريقة الواضحة.
ç قيل أحياناً أن فكرة الولادة من عذراء استخلصت من قصص يونانية أو شرقية عن آلهة اتصلت جنسياً بنساء من البشر وأنجبت أطفالاً. وهذه ليست بالحجة الخطيرة، وقصص الأناجيل تتحرك في إطار مختلف تماماً عن القصص التي قيلت عن آلهة اليونانيين. فلسنا في حاجة سوى أن نقرأ إعلان ولادة يسوع من مريم (لوقا 1: 26-28) ونقارنها بقصص الفسوق التي تتناولها الأساطير اليونانية كي ندرك أنه لا يوجد علاقات وثيقة بينها. وإضافة إلى ذلك، فكل ما جاء في لوقا 1-2، له طابع بدائي إذا ما قورن ببقية كتابات لوقا. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين يعتقدون أن هذا يتم عن طريقة متعمدة لجأ إليها لوقا تقليداً لأسلوب الترجمة اليونانية للعهد القديم (الترجمة السبعينية).
وقال آخرون إن اللغة اليونانية التي كتب بها لوقا لها طابع متناغم بما فيه الكفاية للقول بأنه هنا كان يقتبس أو يعتمد على مصدر آرامي. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد والحال هذه أن يكون قد حصل على قصص ميلاد يسوع هذه من أول جماعة من المسيحيين بفلسطين ذاتها، وهم المسيحيون الوحيدون اللذين كانوا يتكلمون الآرامية على وجه الإطلاق.
ç أما قصة متى فتثير بالأحرى مشكلة من نوعية مختلفة. ذلك أنه تدعيماً لقصته جاء باقتباسات من العهد القديم: “وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل” (متى 1: 22، 23). والأكثر من ذلك، أن هذه الفقرة المأخوذة من إشعياء النبي في العهد القديم لها معنى مختلف تماماً في الترجمة اليونانية للعهد القديم عن المعنى التي وردت به في الأصل العبري. وقد اقتبس متى من النسخة اليونانية. غير أنه في النص العبري لإشعياء 7: 14 قيل “شابة”، ولم توصف بالتعبير الفني “عذراء”. ولذلك قال البعض إن فكرة الميلاد العذراوي كلها قد اخترعت من هذه الترجمة الخاطئة لفقرة إشعياء في الترجمة السبعينية.
وهناك ثلاثة أمور يجب ذكرها هنا:
أولاً: هذه الحجة يمكن أن تنطبق على إنجيل متى فقط نظراً لأن لوقا لم يستشهد بالعهد القديم تدعيماً لقصته عن الولادة من عذراء، ولذلك، وحتى لو فرض أن هذه الحجة صحيحة، فإنها تؤثر في قصة متى فقط وليس في قصة لوقا
ثانياً: إذاً، فإنه حقاً وبلا ريب، أن السبب الوحيد الذي حمل متى على قبول واستخدام النسخة اليونانية بدلاً من النص العبري هو انه كان مناسباً بالأكثر لقصده بخلاف النص العبري. غير أن هذه سمة عامة من سمات إنجيل متى. فكثيراً ما يختار متى نصوصاً من العهد القديم ويقول إنها تحققت في حياة يسوع وخدمته وبطريقة تبدو لنا غير ذات صلة وعديمة الأهمية. وهذا أمر شبه مؤكد لأنه كان يكتب أساساً للقراء اليهود.
وكان اليهود يعتقدون بأن مسيح الله سوف يحقق وعوداً معينة في العهد القديم، وهكذا كان متى يشير إلى العهد القديم بأكثر مما فعله كتبة الأناجيل الآخرون. وذلك ليقنع القراء اليهود بأن يسوع كان حقاً المسيا الذي كان ينتظرونه.
ثالثاً: من المحتمل تماماً ألا يكون كاتب إنجيل متى الحقيقي هو الذي اختار هذه الآية بالذات من النص من سفر إشعياء، وهناك دليل كاف يشير إلى أن الكنيسة في مرحلة مبكرة جداً من تاريخها بدأت تجمع معاً نصوصاً من العهد القديم بدت لها أنها تتنبأ عن بعض النواحي من حياة يسوع. وهذه هي مجموعة النصوص التي يطلق عليها باحثو العهد الجديد اسم “شهادات”.
وربما كانت هناك مجموعات عديدة مختلفة بعد موت يسوع بزمن ليس بطويل. ومفهوم الولادة من عذراء كان غير مقبول بالمرة من اليهود الأرثوذكس، ونحن نعرف أن كثيرين من أعضاء الكنائس الأولى ظلوا يهوداً صالحين بعد أن أصبحوا مسيحيين. وبالنظر إلى أنه ما من أحد سوى اليهود المقتنعين سوف يهتم بإثبات أنه في يسوع تحققت نبوات العهد القديم، فمن غير المحتمل على الإطلاق أنهم اكتشفوا هذه الفكرة هناك ما لم يكونوا يعرفون أساساً تاريخياً لذلك.
فما الذي نتوصل إليه إذاً عن ميلاد يسوع من هذه القصص الواردة في إنجيلي متى ولوقا؟ من المؤكد أنه بمقدورنا أن نعرف بالتأكيد أنه حين نطبق عليها القواعد العادية للبحث التاريخي، فإن الموضوع لن يكون واضحا المعالم كما يبدو حين ننظر إليه من وجهة نظر فلسفية ونسأل ببساطة: هل من الممكن أن تكون قد حدثت مثل هذه المعجزة؟ ومن الواضح أن متى ولوقا كانت لديهما بالأحرى تقاليد مختلفة عن ميلاد يسوع.
ومع ذلك فإنها يتفقان من ناحية أن مريم كانت عذراء حين حبلت به، ويجب علينا ألا ننسى أن الإنجيلين الآخرين لا يعرضان لميلاد يسوع إطلاقاً. والقصص لم تتضمن ادعاءات لاهوتية، ومع أن فكرة الولادة من عذراء لم تذكر في أي موضع آخر في العهد الجديد، فإنه لا يوجد شيء يناقضها في أي موضع.
وفضلاً عن ذلك، فالتقليد الخاص بالكنيسة المسيحية بجملته بدءًا من القرن الثاني وما بعد ذلك يؤيد الاعتقاد بأن يسوع ولد من عذراء، بل أنه حتى في أناجيل الأبوكريفا التي صدرت في تاريخ لاحق لا توجد قصة أخرى عن ميلاد يسوع. وعلى هذا يبدو أن أغلبية المحاولات التي استهدفت إنكار أي طابع تاريخي لقصص الإنجيل بالنسبة لهذه النقطة قامت على افتراضات لا تفسح المجال للأمور الخارقة للطبيعة، وليس على أساس فحص الدليل من الناحيتين العلمية والتاريخية.
هل استغرقنا وقتاً طويلاً دون أن نثبت شيئاً؟ إذا كانت المحصلة الوحيدة لبحثنا هي أن نبين أن يسوع قد ولد دون أب بشري، فإننا لم نقل شيئاً عميقاً جداً، أو له صلة بالموضوع. لكن المسيحيين الأوائل أرادوا أن يقولوا ما هو أكثر من ذلك. ويسوع نفسه أراد أن يقول أكثر من ذلك بكثير، وهذا ما سوف نلمسه في الفصل الثاني.
هل كان يوحنا عضواً في جماعة قمران؟
بالنظر إلى التشابهات بين ما نعرفه عن يوحنا المعمدان وأنشطة جماعة قمران، لم يكن ثمة مفر من أن نسأل هل كانت هنا علاقة بينهما؟ وهناك تشابهان رئيسيان بينهما نجد انه ينبغي علينا النظر فيهما.
في برية اليهودية:
طبقاً لما ذكره لوقا، عاش يوحنا المعمدان في البرية حتى بدأ خدمته العلنية (لو 1: 80، 3: 2). وبالنظر إلى أنه كان يعمد في نهر الأردن، فإنه من الطبيعي افتراض أن البرية المشار إليها هي برية اليهودية المحيطة بالبحر الميت، والتي يتدفق فيها نهر الأردن. وهذا يعني انه ربما كان يعيش في نفس البرية التي كان يعيش فيها أهل قمران، وفي نفس الفترة تقريباً. ومن حيث أن ديرهم لا بد وأنه كان من الأمكنة القليلة التي يمكن أن يعيش الإنسان فيها في البرية، فقد قيل إن يوحنا ربما كان على معرفة جيدة بهم، بل وربما كان عضواً في جماعتهم.
ومن المؤكد أنه ليست هناك صعوبة في الاعتقاد بأن يوحنا كان يعرف بوجود الدير في قمران. إلا أن البعض قالوا إنه كان عضواً في هذه الجماعة، وأنهم قاموا بتربيته منذ حداثته. وقد أقاموا حجتهم هذه على ما جاء في (لو 1: 80) من أنه كطفل كان “ينمو ويتقوى بالروح” وأنه كان في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل” وهذا القول يمكن أن يضاف إلى معلومة ذكرها يوسيفوس عن الأسينيين. فقد قال إنهم كثيراً ما كانوا يتبنون أبناء الآخرين لتلقينهم أفكار شيعتهم، ولكن وجهة النظر هذه تكتنفها صعوبات كثيرة:
ç الكلمات اليونانية المستعملة في لوقا 1: 80، 3: 2 لا توحي بالضرورة أن يوحنا نشأ بالفعل كصبي في البرية يتأمل عمل حياته، وذلك قبل قيامه بتعميد الناس مباشرة، إذ أن المضمون الطبيعي لقصة ميلاده يظهر أنه تربى بالطريقة العادية على يدي والديه.
ç كما أنه من غير المحتمل أيضاً أن يكون والداه قد سمحا لجماعة مثل جماعة قمران بأن تتبنى ابنهما. ولا يرجع ذلك إلى أنهما كانا يتلهفان بأن يكون لهما ابن، بل لأن أباه زكريا كان كاهناً – ومن بين المعتقدات البارزة لجماعة قمران أن كهنة أورشليم كانوا فاسدين. ومن الصعوبة الاعتقاد بأن والدي يوحنا قد قدما ابنهما لجماعة كانت تعادي كل ما كانا يمثلانه.
ç علينا أيضاً أن نتذكر أن برية اليهودية كان شاسعة وليس من الضروري أن كل من يعيش فيها كان لا بد وأن يعيش في قمران. ذلك أن الشواطئ المحيطة بالبحر الميت عامرة بالكهوف التي تصلح لتكون مأوى مثالياً للنساك، مثلما كانت بالنسبة للغيورين الذين كانوا يقاومون الرومان بعد تدمير أورشليم سنة 70م. بل إن يوسيفوس يقول لنا كيف أنه ذات مرة انضم إلى رجل اسمه (بانوس Bannus)، كان يعيش عزلة في البرية. وإغراء مثل هذه النوعية من الحياة كان دائماً قوياُ بالنسبة لأناس لهم ميول معينة. وبمقدورنا أن نكون واثقين تماماً من أنه لا بد وأنه كان هناك أفراد كثيرون يعيشون هكذا في البرية المحيطة بالبحر الميت.
المعمودية:
من الصعوبة إيجاد أية علاقة بين يوحنا والأسينيين على أساس أسلوب حياتهم، ومن المؤكد أنه ليس من السهل عمل ذلك استناداً إلى طقوسهم الدينية. ونحن نعرف أن يوحنا وأهل قمران أيضاً استخدموا الماء في طقوسهم الدينية، إلا أنه ليس هناك ما نستطيع قوله أكثر من ذلك. والواقع أنه توجد اختلافات كبيرة بين مفهوم المعمودية عند يوحنا، والغسلات الطقسية التي كانت تمارس في قمران:
ç كان هناك اختلاف بالنسبة للناس الذين كانوا يشاركون فيها. فيوحنا كان يعمد الذين أرادوا أن يغيروا من أسلوب حياتهم. أما جماعة قمران فلم تكن تقبل إلا الذين يستطيعون اثبات أنهم قد غيروا بالفعل أسلوب حياتهم. والذي يريد الانضمام إليهم كثيراً ما كان عليه أن ينتظر مدة سنة أو سنتين قبل أن يسمح له بالاشتراك في الغسلات الطقسية في قمران، في حين أن يوحنا كان على استعداد لأن يعمد فوراً أي شخص كان يريد التوبة.
ç طابع الطقس كان مختلفاً. فالذي يعمده يوحنا، لم يكن في حاجة إلى أن يتعمد مرة أخرى على الإطلاق. أما في قمران، فالغسلات الطقسية كانت تكرر مراراً كثيرة. والواقع أن البروفسور راولي H. H. Rowley أشار إلى أن “المعمودية” بالمعنى الذي نفهمه نحن في العادة ليس هي الكلمة الصحيحة لوصف ما كان يحدث في قمران. فمعموديات الأسينيين كانت وسيلة للطهارة الطقسية لحياة أعضاء هذه الشيعة وليست طقساً يجب أن يمارس كشرط للقبول فيها.
ç معنى الطقس كان مختلفاً. فمعمودية يوحنا كانت تجرى كجزء من الاستعداد لمجيء المسيا المنتظر. لكن غسلات قمران لم يكن لها علاقة بالانتظار المسيا، أو أي شخص آخر. بل كانت مجرد وسائل للتعبير رمزياً عن النقاء الأخلاقي والروحي الذي كانت الجماعة تأمل حفظه بين أعضائها.
إذاً، هل كان يوحنا عضواً في جماعة البحر الميت؟ يبدو أن أفضل إجابة هي أنه لو كان عضواً بها في أي وقت فمن المؤكد أنه كان قد غير نظريته العلنية. ولكن الحجج التي تؤيد ذلك ليس قوية، ومن المؤكد أننا سنكون في حاجة إلى دليل آخر لو حدث وتبين في أي وقت من الأوقات أنها كانت حججاً سليمة بشكل مؤكد.
[1] لوقا 1: 5-28؛ 57-80.
[2] لوقا 1: 46-55.
[3] لوقا 2: 8-20.
[4] لوقا 2: 25- 38.
[5] لوقا 18: 17.
[6] لوقا 4: 16-20.
[7] مرقص 1: 2-3.
[8] لوقا 3: 7-17.
[9] مرقص 8: 31-33.
[10] متى 3: 15.
[11] مرقص 10: 38.
[12] لوقا 4: 1-4.
[13] تثنية 8: 3.
[14] مرقص 6: 30-44.
[15] 1كو 1: 22.
[16] تثنية 6: 16.
[17] متى 4: 8-10.
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
فتاة مسيحية تتعرض لقص شعرها في مترو الأنفاق من إمراة منقبة
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث