المخلص الموعود به من الله : عالم يسوع – جون ديرين
المخلص الموعود به من الله : عالم يسوع
كيف كانت تبدو ملامح يسوع؟ لا بد وأن هذا السؤال خطر على بال كل واحد منا. ومن المحتمل أنه كانت في ذهن الغالبية منا صورة للشبه الذي كان عليه يسوع. وإذا كان لقاؤنا الوحيد بالمسيحية يأتي عن طريق زيادة لإحدى الكاتدرائيات العظيمة، أو حتى لكنيسة على زاوية الشارع، فلسوف نتخيله كشخص تحيطه هالة من القداسة في زجاج ملون لإحدى النوافذ. أو قد يبدو لنا كنوع من الأوهام التي تعيش في عالم الخيال. وهذا أمر له أهميته بالنسبة لمعتقدات المسيحيين، ولكنه لا يمثل شيئاً بالنسبة لاهتمامات الحياة اليومية.
ولكننا – من ناحية أخرى – إذا ما فتحنا العهد الجديد بدافع من الفضول وقرأنا فيه أن يسوع كان نجاراً، فلسوف يتكون لدينا انطباع مختلف تماماً عن يسوع. ذلك أنه طبقاً لما جاء في الأناجيل فقد قضى يسوع معظم حياته كعامل عادي. وربما أكثر من مجرد عامل يشتغل بالخشب[1]. ذلك أن القصص التي كتبت عنه رواها أناس يتكلمون اليونانية، والكلمة التي استخدموها لوصف مهنته يمكن أن يفهم منها بسهولة أنه كان عام بناء، يستخدم الحجارة أيضاً في عمله.
وثمة صورة تختلف اختلافاً طفيفاً تبرز لنا إذا ما أعدنا التأمل في القصص التي تضمنها العهد الجديد عن حياة يسوع، ذلك أننا على سبيل المثال سنكتشف أنه كان يكره العنف بجميع صوره وأشكاله، بل أنه قال لأتباعه: “لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً”[2]. ومع ذلك، كان يسوع رجلاً ذا شجاعة فائقة، ولقد تحمل في جَلَد أبشع نوعيات التعذيب والإعدام التي وصل إليها تفكير الإنسان.
والحقيقة أنه إذا ما كنا نفكر في المظهر الذي كان يبدو عليه يسوع من الناحية البدنية، فإننا لا نعرف شيئاً عنه على الإطلاق من هذه الناحية. أما إذا كنا نفكر في سماته الشخصية، فإن هذا يعتمد إلى حد كبير جداً على الجزء الذي نتناوله من حياة يسوع، وكذلك على نوعية شخصيته. غير أنه هناك أمراً واحداً بمقدورنا أن نكون على يقين منه. وهو أن خلفيته وأسلوب حياته لا يمكن أن يختلفا إلى حد كبير عن خلفية وأسلوب حياة أي شخص آخر كان موجوداً في ذلك الحين في هذا الجزء من العالم الذي نطلق عليه الآن “الشرق الأوسط”. وعلى هذا، وقبل أن ننتقل إلى أية نقطة أخرى في موضوعنا، ترانا في حاجة إلى أن نسأل بعض الأسئلة القليلة عن نوعية العالم الذي عاش فيه يسوع بالجسد. وحيث أن بعض بلدان الشرق الأوسط كانت لها – على أيام يسوع – أسماء تختلف عن تلك التي نعرفها بها اليوم، فإنه يجب علينا أن ننظر أولاً إلى خريطة ثم نقارنها بخريطة أخرى حديثة.
لقد تغيرت الأسماء، إلا أن غالبيتنا يشعر بألفة مع العالم في أيام يسوع. فالعنف والاضطهاد، والتفرقة العنصرية، والاستبداد والاستغلال والديكتاتورية، والظلم الاجتماعي، كل هذه المشاكل كانت مألوفة لشعوب الإمبراطورية الرومانية منذ ألفي عام مضت تماماً على النحو الذي نعرفها به في أيامنا هذه، فيما عدا أن الغالبية منا لا يعرفون عن هذه الأمور سوى أنها مثل ومفاهيم نتحدث عنها إلا أننا لم نختبرها بأنفسنا. أما في فلسطين، وفي أيام يسوع، فكانت تمثل الحقائق الرئيسية للحياة اليومية.
هيرودس الكبير:
حين ولد يسوع، كان هيرودس الكبير حاكماً لفلسطين، وهي دولة تقع على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وكانت – على الرغم من صغرها – تتمتع بأهمية استراتيجية. وقد عينه الرومانيون ملكاً على اليهودية سنة 37 ق.م. وقصة وصوله إلى السلطة، بل والواقع قصة بقية حكمه، هي قصة تقليدية للخيانة والقسوة. فهو كملك، جمع بين خليط غريب من الذكاء الدبلوماسي، مع غباء لا يكاد يصدق. ثم أن القصة التي تتحدث عن كيفية اغتياله لأطفال بيت لحم بعد ميلاد يسوع[3]– على الرغم من أننا لا نجدها في أية مصادر أخرى – إلا أننا نراها تنسجم تماماً مع شخصيته وخلقه وسلوكه. فكل من كان يعارض سياسته ما كان له أن يتوقع سوى أن يلقى ميتة رهيبة. ومثل كثيرين من الطغاة الذين هم على شاكلته، لم يكن يتردد إطلاقاً عن قتل حتى أقرب أفراد عائلته. فإحدى زوجاته وهي “مريمنة” تم إعدامها بناء على أوامره، كما أنه اشترك في قتل اثنين من أبنائه هما: إسكندر وارستبولس. وقبل موته بخمسة أيام فقط، في عام 4 ق.م.، أمر بقتل واحد آخر من أولاده، وهو أنتيباتر، والذي كان من المتوقع أن يخلفه.
ومع ذلك فإن هيردوس الكبير، لم يدع “الكبير” اعتباطاً. فعلى النقيض من الحكام السابقين تمكن هيرودس من حفظ السلام والنظام في مقاطعته. كما كان مسؤولاً أيضاً عن برنامج ضخم للبناء والتشييد. فهيروس الكبير هو الذي بدأ بناء الهيكل في أورشليم، والذي من يكن قد تم الانتهاء من بنائه أيام حياة يسوع. كما أنه شيد الكثير من المباني الفخمة الأخرى في أورشليم وقيصرية، وفي مدن رومانية أخرى خارج مقاطعته.
ثلاثة باسم هيرودس:
حين مات هيرودس الكبير سنة 4 ق.م. قسم الرومانيون مملكته بين أولاده الثلاثة المتبقين، وكان هناك استثناء واحد، وهو أنه لم يكن أي منهم أفضل من أبيه.
ç اليهودية: وهي ذلك الجزء من فلسطين الذي كان يتضمن أورشليم. قد أعطى لابنه أرخيلاوس. ولم يسمح له بأن يطلق على نفسه لقب “ملك” اليهودية، وهو اللقب الذي كان يطلق على أبيه، ولذلك أطلق عليه لقب “حاكم”. ولم يستمر في الحكم سوى عشر سنوات فقط، ثم خلعه الرومان من وظيفته. وفي سنة 6م، أصبحت اليهودية مقاطعة من الدرجة الثالثة تابعة للإمبراطورية الرومانية، يحكمها موظف من طبقة الفرسان، كان هو نفسه تحت إمرة حاكم سورية الرومانية. وحكام اليهودية الرومانيون هؤلاء أطلق عليهم فيما بعد لقب “ولاة”. وأكثره معرفة لدينا هو بيلاطس البنطي، الذي حكم اليهودية من سنة 26 إلى سنة 36م.
ç الجزء الشمالي من فلسطين أعطي لأنتيباس، وهو من أبناء هيرودس. وكان يعرف بلقب “حاكم” (أو رئيس ربع) على الجليل وبيرية. وكانت منطقته تتضمن قرية الناصرة التي تربى فيها يسوع. وكان أنتيباس يشبه أباه تماماً. وكان بارعاً يهوى عيشة الترف. وبغيته أن يخلد لنفسه اسماً فاهتم بتشييد المباني العامة. ومن بين مشروعاته إعادة بناء سيفوريس، وهي مدينة لا تبعد عن الناصر سوى أربعة أميال فقط. كما أنه بنى مدينة طبرية على بحر الجليل[4]، وقد أطلق عليها هذا الاسم تكريماً للإمبراطور الروماني طيباريوس. وهيرودس أنتيباس هو الذي أمر بقطع رأس يوحنا المعمدان[5]، كما اشترك في محاكمات يسوع.
ç وأخ ثالث، وهو فيلبس، أخذ بعض الأراضي الواقعة شمال شرقي فلسطين إثر موت والده. وقد أسس مدينة قيصرية فيلبس عن سفح جبل حرمون. ودون جميع أبناء هيرودس الكبير، كان فيلبس هو الوحيد الذي أثبت أنه حاكم متزن ويعرف الرحمة. وقد ظل في وظيفته “رئيس ربع” على أيطورية وتراخونيتس حتى عام 34م.
وبعد أن استبدل أرخيلاوس بحاكم روماني، قامت ثورات كثيرة ضد الرومان في اليهودية: فقد زاد إحباط اليهود لعدم تمكنهم من القيام بإدارة شئونهم. أما الرومان فقد أصبحوا أقل اهتماماً من ناحية محاولة فهم المشاكل الخاصة بالشعب اليهودي. ونتيجة لأعمال القمع والفساد من جانب كثيرين من الحكام الرومانيين، وزيادة تيار القومية اليهودية فقد انتهى الأمر بقيام انتفاضة عامة سنة 66م. قد تم إخماد هذه الانتفاضة في النهاية حين تم تدمير أورشليم إلى حد كبير على يد القائد الروماني تيطس سنة 70م.
اليهود والرومان
كان من الطبيعي أن يستاء يهود فلسطين من سيطرة الرومان عليهم. فمن سبق أن ذاق الحرية يجد أنه من الصعب أن يتقبل وضعاً تسوده الدكتاتورية المستبدة. إلا أن الأمر بالنسبة للشعب اليهودي يتضمن أكثر من ذلك بكثير. فقناعة هذا الشعب كانت تقوم على أساس دينهم، الذي كانت له سمة خاصة. ذلك أن الديانة اليهودية، على النقيض من كثير من الديانات الأخرى، لم تكن تقتصر فحسب على الاهتمام بالفرد كعابد لله وعلاقته به، بل إن اليهودية كانت ديانة أمة. فكون الشخص يهودياً كان أمراً له أهميته السياسية والدينية أيضاً.
وفيما كان اليهود يقرأون كتاباتهم المقدسة (التي يسميها المسيحيون العهد القديم) كانوا يؤمنون بأنهم اختيروا على وجه الخصوص من الله. ولسوف يأتي يوم يحكمون فيه العالم تحت قيادة المخلص الموعود به من الله، والذي يطلقون عليه اسم “المسيا”. وجاء وقت توقعوا فيه أن ذلك سيتحقق في المجرى الطبيعي للتاريخ.
ذلك أنهم على عهد الملك داود والملك سليمان، وكان ذلك قبل ميلاد يسوع بألف سنة تقريباً، كانوا قد أصبحوا من بين القوى العظمى في العالم. بل وفي عهود أحدث من ذلك بكثير كانوا يشكلون قوة يعمل لها ألف حساب. إلا أنه كان من الواضح لمعظم اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين أيام يسوع أن أمراً خارقاً للطبيعة لا بد أن يحدث إذا كان لهم أن يتحرروا يوماً من قبضة الرومان الحديدية.
وفي الوقت ذاته لم يكن جميع اليهود يريدون التحرر من حكم الرومان ذلك أنه كانت هناك بعض قطاعات المجتمع في فلسطين ممن كانوا يرون أنه من الأفضل لهم أن يكونوا على علاقة صداقة مع الرومان، بل إنه حتى بين أولئك الذين كانوا يرون أن الحرية أمر مرغوب فيه، كان هناك كثيرون منهم ممن لم يبذلوا أي شيء في سبيل الحصول على هذه الحرية.
ومن المهم أيضاً أن نتذكر أنه ليس جميع اليهود كانوا يعيشون في فلسطين نفسها. والواقع أن اليهود الذين كانوا يعيشون في المدن الكبرى في الإمبراطورية الرومانية كان عددهم يفوق كثيراً عدد من كانوا يعيشون في الوطن. فاليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين لم يكن عددهم يتجاوز خمس عدد اليهود على مستوى الإمبراطورية كلها، بل إن عدد اليهود في أورشليم نفسها ربما كان أقل من عدد اليهود الذين يعيشون في مدينة الإسكندرية في مصر.
ولا بد أن معظم الشعب اليهودي كان قد اعتاد تماماً جميع النواحي المتعلقة بحياة الرومانيين ومجتمعهم. من المؤكد أن معظم من كان منهم يعيش خارج فلسطين في الشتات (السبي)، نسقوا أسلوب حياتهم ليتناغم مع الظروف التي كانوا يعيشون فيها. ومن المؤكد أنهم كانوا دائماً يدركون حقيقة أنهم يهود، ومن ثم حاولوا المحافظة على تلك السمات الخاصة بثقافتهم القومية التي تميزهم بكل وضوح عن جيرانهم من غير اليهود. فالختان، وحفظ السبت، وشرائع العهد القديم المتعلقة بالطعام، هذه وأشياء كثيرة أخرى، كانت تكشف للعالم الروماني أن اليهود مختلفون عن غيرهم من الشعوب. ولكن على الرغم من هذا الاختلاف فهناك كثيرون منهم لم يكونوا يريدون حقاً أن يستبدلوا الحياة المريحة التي كانوا ينعمون بها كطبقة محترمة في مدينة رومانية، بحياة في فلسطين نفسها أقل رخاءً حتى لو كانت أكثر إثارة.
وعلى هذا، فإننا حين نتحدث عن يهود فلسطين فإننا في واقع الحال نتحدث عن نسبة صغيرة من الشعب اليهودي ككل. ومع ذلك فإن حتى بين هذه النسبة الصغيرة نجد مواقف كثيرة متباينة فيما يتعلق بالأمور التي لها تأثير على ديانتهم وعلاقتهم بالرومان الذين كانوا يحتلون بلادهم.
فلسطين وشعبها:
يخبرنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس، الذي عاش في أواخر القرن الأول الميلادي، والذي كان صديقاً للرومان، بأنه كانت هناك ثلاثة آراء رئيسية شائعة بين اليهود في فلسطين: “الفلسفة اليهودية” تأخذ ثلاثة مدراس. أما أتباع المدرسة الأولى فهم “الفريسيون”، والثانية “الصدوقيون”، أما الثالثة، والتي اشتهرت بأنها أكثرهم انضباطاً فهي جماعة الأسينين. كما أنه يذكر مجموعة رابعة هي “الغيورون”. ولكن، بالنظر إلى أنه لا يذكر هؤلاء دائماً بين الجماعات الفلسفية، فلا بد وأنهم شكلوا رابطة أقل تماسكاً. ومن الواضح أنه لم يكن جميع اليهود أعضاء في جماعة أو أخرى من هذه الجماعات، تماماً مثلما أنه ليس كل واحد في مجتمعنا عضواً في حزب سياسي. وربما كان لكل جماعة من هذه الجماعات الأربع عضوية صغيرة تماماً، على الرغم من أن رجل الشارع العادي كان يتطلع إلى أن تتولى إحداها القيادة. ونحن نقرأ عن ثلاث من هذه الجماعات في القصص التي تتناول حياة المسيح، وهم الصدوقيون والفريسيون والغيورون.
الصدوقيون: كثيراً ما يأتي ذكر الصدوقيين في العهد الجديد جنباً إلى جنب مع الفريسين، إلا أنهما في الواقع جماعتان منفصلتان تماماً وتتناقض آراء كل منهما مع الآراء الأخرى في كل شيء تقريباً. ولم يكن الصدوقيون سوى جماعة صغيرة، إلا أنه كان لهم نفوذ كبير. فقط كانت جماعتهم تتشكل أساساً من أكثر الكهنة في هيكل أورشليم نفوذاً، ولم يكن من بين أعضائها إلا الطبقات الغنية من المجتمع اليهودي. وكانوا محافظين متشددين في كل شيء، وكانوا يمقتون التغيير في جميع أشكاله ولا سيما التغييرات التي قد تؤثر في وضعهم البارز في المجتمع. وحتى إذا كانوا من الوجهة النظرية يؤمنون بمجيء “مسيا”، إلا أنه بصفة عامة لم تكن لهم أية علاقة بالمجادلات السياسية لأنهم كانوا لا يرون فيها فائدة سوى أنها ستسبب المتاعب للرومان.
والاسم “صدوقي” ريما يعني “ابن صادوق”، على الرغم من أنه من المؤكد أن الصدوقيين لم يكونوا من أحفاد صادوق الذي ورد ذكره في العهد القديم[6]. وقد اقترحت معان أخرى للاسم: إما أنه مأخوذ من كلمة عبرية معناها “الاستقامة الأخلاقية” أو “البر”، أو مأخوذ من الكلمة اليونانية “SYNDICIO”، والتي قد تعني “أعضاء المجلس”، ومن المؤكد أن مجلس السبعين اليهودي (السنهدريم) كان يضم من بين أعضائه كثيرين في الصدوقيين.
وإذا ما اعتُبر الصدوقيون كسياسيين محافظين، فإن فهمهم للديانة اليهودية لا يمكن أن يوصف إلا بأنه جاء في إطار رجعي. وكانوا يقولون إن التعليم الديني الوحيد الذي له سلطان، هو الناموس الذي أُعطي بيد موسى والذي جاء في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم (أي التوراة). ولم يكن لديهم أي وقت بالنسبة لبقية العهد القديم، أو لأي شخص يحاول إعادة تفسيره أو تطبيقه بطريقة مباشرة على موقفهم. وهذا يعني أنهم لا يشاركون اليهود الآخرين بعض معتقداتهم اليهودية والتي ليست واضحة تماماً في التوراة. فالصدوقيون لا يؤمنون بأن لله قصداً من وراء أحداث التاريخ، وكذلك بموضوعات أخرى مثل الاعتقاد بحياة مستقبلية، أو القيامة، أو الدينونة الأخيرة.
الفريسيون: وكانوا يشكلون طائفة أكبر بكثير، وربما كان عددهم أيام يسوع يزيد على ستة آلاف شخص. وكثيرون منهم كانوا يحترفون دراسة العهد القديم، غير أن آخرين منهم كانوا يقومون بأعمال إدارية. وكانوا يشكلون منظمة قومية، لها عدد كبير من المجموعات المحلية. وكان لكل مجموعة رؤساؤها وقوانينها، وكان يتم تشكيل مجموعات في معظم المدن والقرى باتساع فلسطين. ومن الناحية الدينية، ربما كانوا يشكلون أكثر الناس أهمية في الديانة اليهودية أثناء حياة يسوع. وكان الصدوقيون يكرهون الفريسيين لأنهم كانوا يؤمنون ويعملون أشياء لا تتفق في الواقع مع الفهم الحرفي لناموس موسى. غير أن الناس العاديين جداً كانوا يكنون لهم احتراماً كبيراً.
وأهم ما يأخذه الصدوقيون على الفريسيين، هو أنهم كوموا كمية كبيرة جداً من الأحكام والقواعد لكي يشرحوا من خلالها ناموس العهد القديم. وعلى الرغم من أن الفريسيين كانوا يعتبرون العهد القديم هو الدستور الأعلى لحياتهم وإيمانهم، إلا أنهم أدركوا أيضاً أنه لا ينطق بصفة مباشرة على نوعية المجتمع الذي يعيشون فيه. ولكي توجد هذه العلاقة كان يجب تفسيره بطرق جديدة. فالوصايا العشر على سبيل المثال تعلم الناس حفظ السبت وتقديسه.
ولكن ماذا يعني هذا في الواقع بالنسبة للحياة اليومية؟ ما الذي يجب على اليهودي التقي أن يعمله وما الذي لا يتعين عليه أن يعمله في السبت؟ وكان لدى الفريسيين قائمة بالقواعد التي يردون بها على هذا السؤال بطريقة عملية.
وإحدى كتاباتهم “Pirke Aboth” تستهل بالقول: “أقم سياجاً للناموس”. وهذا معناه “احموه بأن تحفظوه بقواعد تحذيرية كإنذار لإيقاف الناس قبل الوصول إلى الحالة التي يكسرون عندنا نفس الناموس المعطى من الله. وهذا قصد جدير بالثناء. غير أنه ليس هناك شك في أن هذا سوف يؤدي في النهاية إلى أن يضع الفريسيون كثيراً من القواعد التي يصبح معها الناموس عبئاً أخلاقياً بالنسبة للأتقياء، وليس هبة من الله. أما بالنسبة لغير المؤمنين فالكثير منه كان في عرفهم مجرد هراء. فعلى سبيل المثال، لم يكن يسمح للخياط بالخروج حاملاً إبرته في وقت متأخر من النهار قبل حلول السبت لئلا تظل في جيبه حين يبدأ السبت. ولكنه – كأي شخص آخر – بوسعه أن يتنزه يوم السبت على ألا تزيد المسافة على ألفي ذراع، أي ثلثي ميل[7]، وهي المسافة التي كانت بين بين إسرائيل وتابوت عهدهم المقدس حين دخلوا كنعان لأول مرة. وهذا ما أصبح يعرف برحلة السبت وقد ذكرت في الأناجيل.
وعلى الرغم من سخافة بعض معاييرهم، إلا أنه ليس هناك شك أن كثيرين من الفريسين كانوا يحفظون بالفعل هذه القواعد[8]. ويقول يوسيفوس: “إن الشعب في المدن كان يكنّ لهم احتراماً عظيماً، لأنهم يعظون ويمارسون هذه الأفكار الأخلاقية العالية”. ولكن يسوع شجبهم على اعتبار أنهم مراؤون، لأنه أدرك أن حفظهم للوصايا والتعاليم المتعصبة التي وضعوها هم أنفسهم، أصبحت لها أهمية أكثر من اللازم عندهم.
وشأنهم في ذلك شأن كثيرين غيرهم، بدأوا يساوون بين معرفة الله، والعضوية في جماعتهم، أي أن يكون الشخص فريسياً، وأن يكون الإنسان عضواً في شيعتهم كان يشكل في النهاية أهمية أكبر من معرفة وصية الله وفهمها[9]. وعلى الرغم من أنهم كثيراً ما يدعون أنهم يحفظون شريعة الله، إلا أنهم كانوا في واقع الحال لا يعملون إلا إلى لفت الانتباه إلى إنجازاتهم الأخلاقية. وهذا أمر يميل إليه جميع المنادين بالأخلاقيات.
أما من وجهة نظر يسوع فإن خطأ الفريسيين الحقيقي يتمثل في أنهم كانوا يعتقدون إن الله لا يهتم إلى بمطالب الناموس. والفكر اللاهوتي للفريسين ليس فيه مكان للإله الذي يعرّفه يسوع بأنه أبوه. إله عطوف ومحب، ويهتم بالزناة والمتسولين بأكثر مما يهتم بالمتدينين الذين يتمسكون بالتقليد[10]. فما من فريسي يستطيع القول مع يسوع: “لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة”.
والفريسيون بالطبع لهم آراؤهم الخاصة بهم بالنسبة لموضوعات أخرى. ولقد قبلوا سلطة العهد القديم بأكمله، وليس ناموس موسى فقط. وهم على النقيض من الصدوقيين، لم يجدوا صعوبة في الإيمان بأنه توجد حياة أخرى بعد الموت. وربما توقعوا أيضاً مجيء “مسيا” ليصحح أخطاء شعبهم. وعلى الرغم من أنهم لم يشتركوا إطلاقاً في أية ثورة ضد الرومان إلا أنه من المحتمل أنهم كانوا يعجبون بمن يقومون بها.
الغيورون: كانوا انهماكاً في مقاومة الرومان بصفة مباشرة. وربما كانوا يشاركون في كثير من معتقدات الفريسيين الدينية، إلا أن اعتقادهم هو أنهم لا يقبلون سيداً سوى الله، ومن ثم يجب طرد الرومان مهما كان السبب. وطبقاً لما يقوله يوسيفوس، فإن مؤسس شيعتهم هو رجل يدعى يهوذا[11]، وهو رجل جليلي قاد ثورة عام 6م، في ذات الوقت تقريباً الذي خلع فيه الرومان أرخيلاوس من الحكم. كما يقول لنا أيضاً إن هؤلاء الرجال يتفقون في كل شيء مع آراء الفريسيين، إلا أنهم كانوا في شغف ونهم للحرية لا يشبعون منها، وهم على قناعة من أن الله وحده هو الذي يجب أن يكون سيدهم وربهم[12]…. ولا يوجد ما يخيفهم ويجبرهم على خلع هذا اللقب على أحد سواه.
وقد استمر الغيورون كحركة فدائية حتى حصار أورشليم سنة 70م، وربما حتى إلى ما بعد ذلك. وواحد على الأٌقل من تلاميذ المسيح ويدعى سمعان[13]، كان من الغيورين، وكثيراً ما كان يسود الاعتقاد بأن يهوذا الإسخريوطي كان أيضاً واحداً منهم. غير أن الغيورين الأكثر حماسة يبدو أنهم رجال من طراز باراباس[14]، الذي اختارته الجماهير لأن يطلقوا سراحه حيث فضلوه على يسوع، وذلك المشاغب الذي خلط مرة عن طريق الخطأ بينه وبين بولس[15].
الأسينيون: وقد ذكرهم كتبة عديدون. فنجد أن فيلو (وهو يهودي من الإسكندرية في مصر، وكان يكتب باللغة اليونانية)، والكتاب اللاتيني بليني، ويوسيفوس، كل هؤلاء تحدثوا عن الأسينيين. ولكن ذكرهم لم يأت بواسطة أي واحد من كتبة العهد الجديد.
هناك كثيرون يعتقدون أن إحدى فرق الأسينيين، هي التي كتبت الوثائق المعروفة باسم “لفائف البحر الأحمر”. وكان المقر الرئيس لهذه الجماعة في قمران، على مقربة من الركن الشمالي الغربي للبحر الميت. ولقد انسحب أهل قمران من الحياة العادية وعاشوا في شركة معاً في الصحراء، محاولين الحفاظ على تقاليد النقاء الديني والأخلاقي التي اعتقدوا أن بوسعهم أن يجدوها في العهد القديم.
إلا أنه ليس جميع الأسينيين يعيشون على هذا النهج، لأن يوسيفوس يقول: “إنهم لم يكونوا متمركزين في مدينة واحدة، بل استقروا بأعداد كبيرة في كل مدينة”. ثم أنه يتحدث عن آخرين الذين – على النقيض من المجموعات التي تتكون من الرهبان – كانوا متزوجين مع أنه بذل جهداً ليوضح أنهم نظروا إلى الزواج على أنه مجرد وسيلة لاستمرارية العنصر البشري، كما يوجد دليل مكتوب على أن مجموعة أخرى عاشت في البرية على مقربة من دمشق، وأن منظمتهم تختلف بشكل طفيف عن تلك الموجودة في قمران.
والواقع أنه ما من أحد يعرف العلاقة بين هذه الجماعات ولا كيفية انتسابهم إلى الأسينيين المبعثرين في جميع أنحاء فلسطين. ونحن نعرف الكثير عن جماعة قمران نتيجة اكتشاف كتاباتهم، التي تدعم معظم نقاط القصة التي ذكرها يوسيفوس.
ومن مخطوطات البحر الميت نعرف أن أهل هذه الجماعة كانوا يعتبرون أنفسهم كأقلية في إسرائيل أنهم أمناء لعهد الله. وكانوا ينظرون إلى الأمة اليهودية ككل، بل وحتى إلى الهيكل والكهنة في أورشليم، على اعتبار أنهم غير أمناء. وأن قائدهم فقط “معلم البر” وأتباعه الأمناء هو الذين بوسعهم أن يعرفوا أسرار العهد القديم.
وعلى مثال بعض الجماعات الأخرى، كان الأسينيون يتطلعون إلى يوم تحل فيه كارثة في التاريخ. وهنا سيؤكد الله سيادته على العالم، وذلك عندما يقهر الهراطقة الوطنيين والغرباء من الأعداء الغازين مثل الرومان. وهنا فإن أعضاء الشيعة – وليس الأمة اليهودية كلها – وسوف تعرف بأنها شعب الله المختار. ولسوف يتولون الأمور ويصححون أوضاع عبادة الله في هيكل أورشليم. وتوقع الأسينيون ظهور ثلاثة قادة: النبي الآتي الذي تنبأ عنه موسى، والمسيا الملك الذي سيكون من نسل داود والمسيا الكاهن، والذي سيكون له الأولوية الكبرى.
وعلى هذا يجب أن يكونوا في حالة استعداد دائم لهذه الأحداث، وطائفة الأسينيبن في قمران يمارسون الكثير من الغسلات الطقسية. وكل شيء كانوا يعملونه كان له مغزى ديني. وحتى وجباتهم اليومية كانت تشكل تطلعاً للوليمة السماوية والتي كانوا يعتقدون أنها ستكون في نهاية الدهر.
ومع إمكانية استثناء الصدوقيين، فإن كل الجماعات الدنية البارزة في فلسطين أيام يسوع كانت تأمل وتتضرع أن يقوم الله بعمل شيء ما في حياة شعبهم. وقد كانت لهم جميعاً أفكارهم الخاصة عما سيعمله، ومتى وكيف سيعمل ذلك. وبعضها مثل جماعة الغيورين، كان أعضاؤها على استعداد على معاونة الله حين يرون أن هذا ضروري.
وآخرون، كالفريسيين والأسينيين، كانوا يعتقدون أن الله لديه خطة سبق فأعدها، وهي خطة لا يمكن أن تتغير أو تدعم نتيجة أي تدخل من جانب البشر. غير أنه بمقدورنا أن نكون على ثقة من أنه كان هناك أناس عاديون كثيرون لم تكن لهم أية اهتمامات بالمناورات السياسية أو المنازعات اللاهوتية. ذلك أنهم بكل بساطة كانوا يعرفون أنهم في حاجة إلى أن يعمل الله شيئاً من أجلهم. ورغبتهم الوحيدة هي أن يكونوا في المكان الصحيح وفي حالة ذهنية سليمة حين يصل المخلص الموعود به من الله.
الرؤويون: تم التعبير عن التوقعات المستقبلية للشعب اليهودي تماماً في كتابات (الرؤويون)، هي كلمة تعني حرفياً أناس يكشفون عن أشياء سرية. والكتب التي يكتبونها ما هي إلا إعلانات لأسرار ما “رؤوية”. لا نعرف أهمية هؤلاء الناس على وجه التحديد، بالنظر إلى أننا لا نعرفهم إلا من خلال كتاباتهم. وليس من الواضح ما إذا كانوا يشكلون أي نوع من الجماعات ضيقة الأفق، وما إذا كانوا ينتمون إلى أي من الشيع الدينية المختلفة، من غير المحتمل أن يكون أي من الرؤويين من طائفة الصدوقيين بالنظر إلى أنهم ادعوا أنهم تسلموا إعلانات جديدة من الله (ولا يمكن للصدوقيين التسليم بأنه قد أعطي لهم أي إعلان إلهي منذ عهد موسى). وتماثل معتقداتهم من بعض النواحي معتقدات الفريسيين، لأنهم شددوا بشكل كبير على القول بأن الله لديه خطة سبق وأعدها من أجل تاريخ العالم.
وأياً كانت حقيقة الرؤويين، فإن لكتاباتهم سمات غير عادية تجعل إدراكها سهلاً.
ç لديهم تأكيد قوي على حياة السماء وليس على مجال الحياة اليومية الذي اختبره البشر. وعلى الرغم من أن أحداثاً في هذا العالم قد جاء ذكرها. إلا أن أهميتها قاصرة على أنها تكشف لنا شيئاً عن أحداث وقعت في العالم الروحي. وقد قال أحد الكتاب الرؤويين أن “العلي لم يخلق عالماً واحداً بل اثنين” (2اسدراس 7: 50)، ووجهة النظر هذه يشارك فيها كثيرون من الرؤويين، فقد كانت مهمتهم الكشف عما كان يحدث في عالم الله، وأن يؤكدوا لقرائهم أن لهم موقعاً أساسياً في أنشطة الله.
ç وهذا يعني أيضاً أن الكتابات الرؤوية تؤكد الأحلام والرؤى، والاتصالات بواسطة الملائكة. وبالنظر إلى أن الله بعيد في عالمه الخاص به (السماء) فثمة حاجة إلى استخدام وسطاء في معاملاته مع البشر. والرؤيا النموذجية تأخذ شكل تقرير مطول يبين كيف أن كتابتها قد تسلم رؤى ورسائل تكتشف عما يحدث في السماء.
ç ويصحب ذلك صيغة أدبية غير معتادة. لأن الرؤى لا توصف بعبارات صريحة، بل تستخدم نوعية من اللغة الرمزية. وكثيراً ما نجد إشارات عديدة إلى كتب الأنبياء في العهد القديم. وإلى الوحوش الأسطورية، كما تستخدم الأعداد الرمزية لتشير إلى أمم أو أشخاص.
ç والكتابات الرؤوية عادة ما تصدر باسم شخصية عظيمة عاشت في الماضي. فأخنوح، ونوح، وآدم، وموسى، وعزرا وعدد آخر من شخصيات العهد القديم، هؤلاء جميعاً نسبت لهم كتابات رؤوية. ولعل ذلك كان أمراً ضرورياً لأنه كان ثمة اعتقاد واسع الطيف لدى اليهود، بأن زمن النبوة الحقيقية قد ولى. وكان على أي راء معاصر يريد أن تُسمع رسالته، كان عليه أن ينسب ما كتبه إلى شخص يكون قد عاش بالفعل في زمن العهد القديم. وسفر الرؤيا هو السفر الوحيد في العهد الجديد الذي يستخدم لغة مجازية رؤوية موسعة. لكنه جاء مختلفاً تماماً من هذه الناحية. ذلك أن سفر الرؤيا لم ينسب إلى شخصية من العهد القديم، بل إن كاتبه عُرف بأنه يوحنا، وكان صديقاً ومعاصراً لقرائه[16].
أما لماذا أصبحت هذه النوعية من الكتابة شائعة للغاية في القرون التي كانت قبل ميلاد المسيح مباشرة؟ فإن هناك رداً رائعاً على هذا السؤال، وهو أن الكتابة الرؤوية كانت تعطي إجابة لحقائق الحياة الصعبة في فلسكين في ذلك الحين. فكثيراً ما اقترح أنبياء العهد القديم أن مجرى تاريخ إسرائيل يعتمد بطريقة ما على موقفهم من الله. فإذا ما أطاعوه ازدهروا، وإذا لم يطيعوه عليهم أن يتوقعوا أزمنة صعبة.
وهذه الأزمنة الصعبة توجت بسقوط أورشليم على يد نبوخذ نصر سنة 586ق.م، وسبي سكانها إلى بابل. وبعد قضاء فترة وجيزة في السبي سمح لليهود بالعودة إلى وطنهم، والذين عادوا قرروا ألا يرتكبوا نفس الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم. وعلى ذلك رجعوا عن طرقهم، وحاولوا تطبيق ناموس العهد القديم بحذافيره.
ومع ذلك، وطبقاً لما حدث فعلاً، فإنهم لم يحققوا نجاحاً. وبمرور الوقت بدا لهم أن الطريق إلى الازدهار إنما هو بالتعاون مع القوى الخارجية مثل الرومان وليس في بقائهم أمناء لدينهم. والذين حاولوا المحافظة على إيمان العهد القديم وجدوا أنفسهم أقلية تتناقص باستمرار، والذين حققوا نجاحاً كثيراً ما كانوا يحصلون على هذا النجاح عندما يتساهلون في إيمان آبائهم، بل وحتى من خلال التخلي عنه تماماً.
ربما بدأت الكتابات الرؤوية كرد على هذه المشكلة. لماذا لم تؤد الأمانة إلى الازدهار؟ ولماذا يعاني الأبرار؟ لماذا لم يضع الله نهاية لقوى الشر؟ وقد أجاب الرؤويون على هذه الأسئلة بقولهم إن المصاعب الراهنة هي متاعب نسبية. وإذا نظرنا إلى الأمور على ضوء عمل الله في التاريخ، فإن الأبرار في النهاية هم المنتصرون، والسيادة الظالمة للأشرار سوف تنهار. وكثيراً ما كان يطرح السؤال حول ما إذا كان ليسوع أية علاقة بهؤلاء الرؤويين ورؤاهم الخاصة بالعالم السماوي. ومن المؤكد أن ألبرت شويتزر Albert Sxhweitzer كان لديه هذا الاعتقاد، كما سيتضح لنا في الباب الثاني من هذا الكتاب.
كما توجد أيضاً أدلة كثيرة تبين أن يسوع كان على علم بالأفكار التي كان يطرحها الرؤويون. فهناك قدر كبير من التشبيهات المجازية والمفردات اللغوية التي استخدمها يسوع في تعليمه عن الأمور المستقبلية تماثل تلك التي استخدمها الرؤويون (مرقص 13، متى 24-25، لوقا 21). إلا أنه كانت هناك بعض الاختلافات الهامة.
ç الكتابات الرؤوية هي دائماً إخبار عن رؤى وأفكار أخرى تتعمق بالسماويات، أعطيت للناس من خلال وسائل خاصة. إلا أن يسوع لم يقم تعليمه على رؤى وإعلانات لم يقم تعليمه على رؤى وإعلانات إلهية من هذا القبيل. فقد كان يتكلم على أساس سلطانه، ولم يكن اهتمامه الأساسي موجهاً لأمور عالم آخر سمائي، بل بالحياة في هذا العالم. ولم يكشف عن أسرار، بل جعل له تلاميذاً وذكرهم بمسئولياتهم من قِبل الله.
ç كان الرؤويون دائماً مهتمين بتشجيع قرائهم وتعزيتهم، وذلك بأن يبينوا لهم أهم على صواب، وأنه سيتم القضاء على أعدائهم سريعاً. غير أن تعليم يسوع حتى بالنسبة لما أطلق عليه “الأقوال الرؤوية” لم يقصد به إطلاقاً تعزية تلاميذه. ولم يلمح إلى أنهم سينتصرون بطريقة تلقائية على أعدائهم، لأن ما قاله كان على النقيض من ذلك تماماً. ذلك أن يسوع اتخذ من تعليم الخاص بالأمور الأخروية مناسبة لتحفيز تلاميذه بالنسبة لسلوكهم في هذه الحياة، وأوضح أنه حينما يتدخل الله في شئون البشر فلسوف يكون ذلك وقت الدينونة سواء بالنسبة لتلاميذه أو بالنسبة لأي شخص آخر.
ç لا توجد مجموعة منظمة دقيقة من أقوال يسوع تتناول موضوع الأخرويات. ذلك أن ما قاله يسوع في هذا الشأن يختلف تماماً عن نظرة الرؤويين، الذين ذكروا كل ما يتعلق بهذا الموضوع على نحو من التفصيل. ذلك أن هذه الأمور كلها تتضمنها خطة الله السابق تحديدها. وأولئك الذين لديهم مفتاح هذه اللغة المشفرة بمقدورهم أن يعرفوا على وجه التحديد ما يخبئه لهم المستقبل. وبالطبع حاول بعض مفسري العهد الجديد أن يجدوا مثل هذا النظام في تعاليم يسوع. إلا أن النظم المتباينة العديدة التي توصلوا إليها توضح إخفاقهم. بل وما كان بوسعنا أن نتوقع لهم النجاح، لأن يسوع نفسه قال: “وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السماوات… ولا الابن إلا الآب” (مت 24: 36؛ مر 13: 32). وما كان بوسع أي راءٍ على الإطلاق أن يقول هذا.
ç وعلى أساس الاختلافات الجوهرية بين يسوع والرؤويين، فمن الواضح أنه لا يمكن تصنيفه كواحد منهم. فلم تكن له نظرة رؤوية بالنسبة للحياة. ولا شك أنه كان أحياناً يقدم تعليمه مستخدماً لغة الرؤويين اليهود وتشبيهاتهم، مثلما فعل حين أشار إلى القاعدة الذهبية لمعلمي اليهود في (متى 7: 12). وكمعلم صالح، أدرك أنه في حاجة إلى أن يتكلم باللغة التي يفهمها سامعوه، ومن المؤكد أن كثيرين من الناس العاديين في فلسطين كانوا على معرفة باللغة الرؤوية. إلا أن ما يميز يسوع أنه أخذ هذه المفاهيم المألوفة وأضفى عليها معنى جديداً. ولم ترد على لسانه كمجرد تفاهات يمتدح بها الإنسان التقي، بل كانت تمثل تحد خطير لالتزام ينطبق على التلاميذ وعلى الخطاة على حد سواء.
[1] مرقص 6: 3.
[2] متى 5: 39.
[3] متى 2: 16.
[4] مرقص 6: 17-29.
[5] لوقا 23: 12.
[6] (صم 15: 24-29.
[7] يشوع 3: 4.
[8] متى 23: 13، 15.
[9] عادات اليهود في العصور القديمة.
[10] مرقص 2: 17.
[11] حروب اليهود.
[12] عادات اليهود 18، 1، 6.
[13] مرقص 3: 18.
[14] مرقص 15: 6-15.
[15] أعمال 21: 37-39.
[16] (رؤيا 1: 1-9).