الحروب الصليبية بين الحقيقة التاريخية والتزوير
الحروب الصليبية بين الحقيقة التاريخية والتزوير
صموئيل طلعت
درسنا فى المدارس وقرأنا فى كتب التاريخ العربية المعاصرة أن سبب الحروب الصليبية هو جشع الصليبين وأنهم أتوا لإستعمار الشرق فمثلاً يقول الدكتور محمد عمارة عن الحملات الصليبية [التى قادتها الكنيسة الكاثوليكية، وسخرت فيها فرسان الإقطاع الأوروبيين، ومولتها المدن التجارية الأوروبية .. لإحتلال الشرق .. وإعادة إختطافه من التحرير الإسلامى .. ونهب ثرواته، وإقامة الكيانات الإستعمارية الإستيطانية على أراضيه ..] [1]
لكننى فوجئت وأنا أقرأ فى موسوعة “قصة الحضارة” أن أول سبب للحروب الصليبية هو تقدم الجيوش الإسلامية تجاه أوروبا ومعاملة المسلمين الغير إنسانية للمسيحيين (سواء الذين يحجون للقدس أو للقاطنين فيها) حيث يقول المؤرخ ول ديورانت [وأول سبب مباشر للحروب الصليبية هو زحف الأتراك السلاجقة] [2]
ثم وضح أنه على الرغم من روح التسامح الدينى التى تمتع بها الحكام الفاطميون حيث كان المسيحيون يمارسون شعائرهم بحرية إلا أنه كانت هناك فترات قصيرة تم فيها اضطهاد للمسيحيين مثل ما فعله الحاكم بأمر الله من تدمير كنيسة الضريح المقدس (القيامة) عام 1010م ولكن المسلمين أنفسهم هم الذين أعادوا بنائها حيث يقول [وكان الفاطميون حكام مصر قد حكموا فلسطين حكماً سمحاً رحيماً؛ استمتعت فيه الطوائف المسيحية بحرية واسعة في ممارسة شعائر دينها إذا استثنينا بعض فترات قصيرة قليلة.
نعم إن الحاكم بأمر الله، الخليفة المجنون، دمر كنيسة الضريح المقدس (1010) ؛ ولكن المسلمين أنفسهم قدموا المال الكثير لإعادة بنائها][3]، لكن قمة الاضطهاد قد تم فى عهد الأتراك حيث يقول [لكن الأتراك انتزعوا بيت المقدس من الفاطميين فى عام 1070م، وأخذ الحجاج المسيحيون بعد عودتهم إلى أوطانهم يتحدثون عما يلقونه فيها من ظلم وتحقير.
وتقول قصة قديمة لا نجد ما يؤيدها، إن أحد هؤلاء الحجاج وهو بطرس الناسك حمل إلى البابا إربان الثانى Urban II من سمعان بطريق أورشليم رسالة تصف بالتفصيل ما يعانيه المسيحيون فيها من اضطهاد وتسغيث به لينقذهم (1088م).] [4]
فما الذى كان يعانيه المسيحيون إبان تلك الفترة ؟
قلتُ لنفسى ربما ول ديورانت لأنه غربى قد يكون متحاملاً على المسلمين، ولكن ول ديورانت مشهود له بالنزاهة التاريخية، يقول عنه محمد بدران [خصت منها (يقصد موسوعة “قصة الحضارة”)الحضارة الإسلامية بجزء كامل، وقد وصف فيه المؤلف (يقصد ويل ديورانت) هذه الحضارة وصف المؤرخ النزيه، فأبان فضلها على العالم ماضيه وحاضره، ولم تفته الإشارة بفضائل الدين الإسلامى][5] بالإضافة إلى أنه مؤرخ له مكانته المرموقة فما الذى يجعله يهز مكانته بالتحامل على المسلمين؟
يقول الدكتور حسن عثمان عن الموسوعة [وفى سبيل ذلك طاف المؤلف (يقصد ويل ديورانت) فى صحبة زوجته ( يقصد أريل ديورانتAriel Durant ) كثيراً من أنحاء الأرض مرات عديدة متتالية، ومضيا معاً باحثين منقبين مشاهدين متأملين مستلهمين معارفهما وخبراتهما من شتى الأصول والمصادر والأفاق، فجاء الكتاب (يقصد قصة الحضارة) وافياً شاملاً، مع تميزه بالبساطة والسهولة والوضوح والسلاسة والعمق والذوق الرفيع، فضلاً عن عنايته بذكر فيض من المصادر والمراجع لمن يرغب فى الاطلاع والبحث مزيداً ][6].
وقد حصل بسبب هذه الموسوعة التى أستغرق تأليفها خمسين عاماً على ميدالية الحرية Medal of Freedom من الرئيس الأمريكى فورد Gerald Ford فى 10 يناير 1977، لذلك فهو مؤرخ له مكانته المرموقة بلا شك، ولذلك فإن أحكامه التاريخية هامة بالنسبة لنا، وهذا ما دفعنى للبحث فى كتب التاريخ الإسلامى، فوجدت ما قاله ول ديورانت مفصلاً فى كتاب المؤرخ المسلم المقريزى حيث يقول بالنص:
[وفي أيامه أمر المتوكل على الله في سنة خمس وثلاثين ومائتين أهل الذمّة بلبس الطيالسة العسلية وشدّ الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السرج، وعمل رقعتين على لباس رجالهم تخالفان لون الثوب، قدر كلّ واحدة منهما أربع أصابع، ولون كلّ واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا، ومنعهم من لباس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن لا يشعلوا في الطريق نارا، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب بذلك إلى الآفاق، ثم أمر في سنة تسع وثلاثين أهل الذمّة بلبس دراعتين عسليتين على الذراريع والأقبية، وبالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمير دون الخيل والبراذين.
فلما مات يوساب في سنة اثنتين وأربعين ومائتين خلا الكرسيّ بعده ثلاثين يوما، وقدّم اليعاقبة قسيسا بدير بحنس يدعى بميكائيل في البطركية، فأقام سنة وخمسة أشهر ومات، فدفن بدير بومقار، وهو أوّل بطرك دفن فيه، فخلا الكرسيّ بعده أحدا وثمانين يوما، ثم قدّم اليعاقبة في سنة أربع وأربعين ومائتين شماسا بدير بومقار اسمه قسيما، فأقام في البطركية سبع سنين وخمسة أشهر ومات، فخلا الكرسيّ بعده أحدا وخمسين يوما.
وفي أيامه أمر نوفيل بن ميخائيل ملك الروم بمحو الصور من الكنائس، وأن لا تبقى صورة في كنيسة، وكان سبب ذلك أنه بلغه عن قيم كنيسة أنه عمل في صورة مريم عليها السلام شبه ثدي يخرج منه لبن ينقط في يوم عيدها، فكشف عن ذلك فإذا هو مصنوع ليأخذ به القيم المال، فضرب عنقه وأبطل الصور من الكنائس، فبعث إليه قسيما بطرك اليعاقبة وناظره حتى سمح بإعادة الصور على ما كانت عليه، ثم قدّم اليعاقبة ساتير بطركا، فأقام تسع عشرة سنة ومات، فأقيم يوسانيوس في أوّل خلافة المعتز، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وعمل في بطركيته مجاري تحت الأرض بالإسكندرية يجري بها الماء من الخليج إلى البيوت.
وفي أيامه قدم أحمد بن طولون مصر أميرا عليها، ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل فأقام خمسا وعشرين سنة ومات بعد ما ألزمه أحمد بن طولون بحمل عشرين ألف دينار، باع فيها رباع الكنائس الموقوفة عليها، وأرض الحبش ظاهر فسطاط مصر، وباع الكنيسة بجوار المعلقة من قصر الشمع لليهود، وقرّر الديارية على كلّ نصرانيّ قيراطا في السنة، فقام بنصف المقرّر عليه.
وفي أيامه قتل الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، فلما مات شغر كرسيّ الإسكندرية بعده من البطاركة أربع عشرة سنة، وفي يوم الاثنين ثالث أحرقت الكنيسة الكبرى المعروفة بالقيامة في الإسكندرية، وهي التي كانت هيكل زحل، وكانت من بناء كلابطرة.
وفي سنة إحدى وثلاثمائة قدّم اليعاقبة غبريال بطركا، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وأخذت في أيامه الديارية على الرجال والنساء، وقدّم بعده اليعاقبة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة قسيما فأقام اثنتي عشرة سنة ومات. وفي يوم السبت النصف من شهر رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق، ونهبوا ما فيها من الآلات والأواني وقيمتها كثيرة جدّا، ونهبوا ديرا للنساء بجوارها، وشعثوا كنائس النسطورية واليعقوبية.
وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قدم الوزير عليّ بن عيسى بن الجرّاح إلى مصر، فكشف البلد وألزم الأساقفة والرهبان وضعفاء النصارى بأداء الجزية، فأدّوها، ومضى طائفة منهم إلى بغداد واستغاثوا بالمقتدر بالله، فكتب إلى مصر بأن لا يؤخذ من الأساقفة والرهبان والضعفاء جزية، وأن يجروا على العهد الذي بأيديهم. وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة بطركا اسمه … «1» فأقام عشرين سنة ومات، وفي أيامه ثار المسلمون بالقدس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وحرّقوا كنيسة القيامة ونهبوها وخرّبوا منها ما قدروا عليه.
وفي يوم الاثنين آخر شهر رجب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة مات سعيد بن بطريق بطرك الإسكندرية على الملكية بعد ما أقام في البطركية سبع سنين ونصفا في شرور متصلة مع طائفته، فبعث الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أبا الحسين من قوّاده في طائفة من الجند إلى مدينة تنيس، حتى ختم على كنائس الملكية وأحضر آلاتها إلى الفسطاط، وكانت كثيرة جدّا فافتكها الأسقف بخمسة آلاف دينار باعوا فيها من وقف الكنائس.
ثم صالح طائفته وكان فاضلا وله تاريخ مفيد، وثار المسلمون أيضا بمدينة عسقلان وهدموا كنيسة مريم الخضراء، ونهبوا ما فيها، وأعانهم اليهود حتى أحرقوها، ففرّ أسقف عسقلان إلى الرملة وأقام بها حتى مات، وقدّم اليعاقبة في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة تاوفانيوس بطركا، فأقام أربع سنين وستة أشهر ومات، فأقيم بعده مينا، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، فخلا الكرسيّ بعده سنة، ثم قدّم اليعاقبة افراهام بعده مينا، فأقام ست وستين وثلاثمائة فأقام ثلاث سنين وستة أشهر ومات مسموما من بعض كتاب النصارى، وسببه أنه منعه من التسرّي، فخلا الكرسي بعده ستة أشهر، وأقيم فيلاياوس في سنة تسع وستين، فأقام أربعا وعشرين سنة ومات، وكان مترفا.
وفي أيامه أخذت الملكية كنيسة السيدة المعروفة بكنيسة البطرك، تسلمها منهم بطرك الملكية أرسانيوس في أيام العزيز بالله نزار بن المعز، وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة زخريس بطركا، فأقام ثماني وعشرين سنة، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز بالله تسع سنين، اعتقله فيها ثلاثة أشهر، وأمر به فألقي للسباع هو وسوسنة النوبيّ، فلم تضرّه، فيما زعم النصارى.
ولما مات خلا الكرسيّ بعده أربعة وسبعين يوما، وفي بطركيته نزل بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها، وذلك أن كثيرا منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم، فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين، فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك، وكان لا يملك نفسه إذا غضب، فقبض على عيسى بن نسطورس النصرانيّ، وهو إذ ذاك في رتبة تضاهي رتب الوزراء وضرب عنقه
ثم قبض على فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان وضرب عنقه، وتشدّد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار، وشدّ الزنار في أوساطهم ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عادتهم فعله في أعيادهم من الاجتماع واللهو، وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات وأدخله في الديوان.
وكتب إلى أعماله كلها بذلك، وأحرق عدّة صلبان كثيرة، ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء، وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر، وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة، وأباح ما فيها للناس، فانتهبوا منها ما يجل وصفه، وهدم دير القصير وانهب العامة ما فيه، ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطىء النيل بمصر، وأبطل ما كان يعمل فيه من الاجتماع للهو
وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم، ومنعهم من ركوب الخيل، وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة، بل تكون من جلود سود، وضرب بالحرس في القاهرة ومصر أن لا يركب أحد من المكارية ذمّيا، ولا يحمل نوتيّ مسلم أحدا من أهل الذمة، وأن تكون ثياب النصارى وعمائهم شديدة السواد
وركب سروجهم من خشب الجميز، وأن يعلق اليهود في أعناقهم خشبا مدوّرا زنة الخشبة منها خمسة أرطال، وهي ظاهرة فوق ثيابهم، وأخذ في هدم الكنائس كلها وأباح ما فيها، وما هو محبس عليها للناس نهبا وإقطاعا، فهدمت بأسرها ونهب جميع أمتعتها وأقطع أحباسها، وبني في مواضعها المساجد، وأذن بالصلاة في كنيسة شنودة بمصر، وأحيط بكنيسة المعلقة في قصر الشمع
وأكثر الناس من رفع القصص بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها، فلم يردّ قصة منها إلّا وقد وقع عليها بإجابة رافعها لما سأل، فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك، وتصرّفوا في أحباسها، ووجد بكنيسة شنودة مال جليل، ووجد في المعلقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جدّا إلى الغاية،
وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والديارات فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة حتى ذكر من يوثق به في ذلك أن الذي هدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيث وثلاثون ألف بيعة، ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة، وقبض على أوقافها، وكانت أوقافا جليلة على مبان عجيبة،
وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمام، وألزم اليهود أن يكون في أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام، ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من أرض مصر إلى بلاد الروم، فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أعفوا من النفي، وفي هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى.][7]
الترتيب الكرونولوجى للأحداث طبقاً لما قاله المقريزى:
- عام 300 : هدم كنيسة القيامة فى الاسكندرية أيام المعتز.
- عام 312 : حرق كنيسة العذراء بدمشق ونهب ما فيها.
- عام 325 : حرق ونهب كنيسة القيامة بالقدس.
- عام 328 : هدم وحرق كنيسة مريم الخضراء بالعسقلان.
كان لحدث هدم كنيسة القيامة وسوء معاملة الحجاج المسيحيين رد الفعل الأقوى فى الغرب [8]، وإن كان فى عهد الحاكم بأمر الله تم هدم الكنيسة وحرقها فقد كان فى عهد الملك الظاهر أنه تم قتل قسيس الكنيسة ونهب محتوياتها يقول يوسف بن تغري بردي:
[وكان للشيخ خضر المذكور منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بحيث إنّه كان ينزل عنده فى الجمعة المرّة والمرّتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعته ويستصحبه فى سائر سفراته، ومتى فتح مكانا أفرض له منه أوفر نصيب، فامتدّت يد الشيخ خضر بذلك فى سائر المملكة يفعل ما يختار لا يمنعه أحد من النوّاب، حتّى إنّه دخل إلى كنيسة قمامة ذبح قسّيسها بيده، وانتهب ما كان فيها تلامذته
وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبّر من الأموال، وعمرها مسجدا وعمل بها سماعا ومدّ بها سماطا. ودخل كنيسة الإسكندريّة وهى عظيمة عند النصارى فنهبها وصيّرها مسجدا، وسمّاها المدرسة الخضراء وأنفق فى تعميرها مالا كثيرا من بيت المال.] [9]
ومن المؤسف أن نجد كتب التراث الإسلامية تشير إلى أهم كنيسة مسيحية بأوصاف لا تليق بل أنا أرى فيها احتقاراً لمقدسات المسيحيين وتحقيراً لهم، إذ تدعو تلك الكتب كنيسة “القيامة” بكنيسة “القمامة”، وهذا الأمر لا ينفرد به هذا الكتاب بل نجده أيضاً فى كتاب (العبر في خبر من غبر) للذهبى حيث جاء فيه:
[وفيها هدم الحاكم العبيدي كنيسة قمامة بالقدس، لكونهم يبالغون في إظهار شعارهم، ثم هدم الكنائس التي في مملكته، ونادى: من أسلم، وإلا فليخرج من مملكتي، أو يلتزم بما آمر، ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدورهم، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة مثل المكمدة، وزنها ستة أرطال، في عنق اليهودي، إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، فقيل: كانت الخشبة على تمثال رأس عجل، وبقي هذا سنوات، ثم رخّص لهم في الردَّة، لكونهم مكرهين، وقال: ننزّه مساجدنا عمن لا نيّة في الإسلام.] [10]
تلك الأحداث من هدم للكنائس واضطهاد للمسيحيين دفعت توماس ف. مادين Thomas F. Madden (الذى يشغل كرسى قسم التاريخ فى جامعة سانت لويس و مؤلف كتاب A Concise History of the Crusades ومحرر كتاب Crusades, the illustrated historyالذى شارك فيه العديد من علماء التاريخ) أن يقول أن الحروب الصليبية لم تكن سوى حروب دفاعية، لا حروب لأجل الاستعمار وأن الهدف الأساسى من بقاء الصليبيين فى القدس هو حماية الأماكن المقدسة والحجاج المسيحيين لها. [11]
شهادة كاتب معاصر
شهد الدكتور عبد السلام الترمانينى (دكتوراة فى الحقوق من كلية الحقوق جامعة باريس عام 1939م، عميد كلية الحقوق بجامعة حلب عام 1962م، رئيس قسم القانون المدنى بجامعة دمشق عام 1970م) شهد بأن الدافع الأول للحروب الصليبية هو التعصب الدينى للمسلمين ومعاملتهم السيئة للمسيحيين فى الشرق وها هو نص كلامه [12] :
خاتمة
إن ما كتبته ليس هجوماً على المسلمين بل توضيحاً لحقائق التاريخ، فالحكام المسلمون ضربوا أمثلة فى التسامح الدينى والحكم العادل وأقرب مثال لنا صلاح الدين الأيوبى [13]، فما فعله صلاح الدين الأيوبى مع المسيحيين لهو أروع مثال على نبل المقاتل وشهامة الإنسان حتى أن الأستاذة إيريس حبيب المصرى (المؤرخة القبطية) كتبت عنوان “انتصار صلاح الدين على القلوب” [14] وقالت [وكان صلاح الدين اسماً على مسمى: فقد بدأ معه عهد من الاستقرار والعدالة فأنصف جميع المصريين على السواء.
وقد ازدانت عدالته بالكرم والسماحة فأحبه المصريون حباً جماً وأخلصوا له الولاء. وكان انتصاره على القلوب حاسماً.] [15] وكذلك كان حفيده المنصور محمد عادلاً فى حكمه فعندما طالبه البعض أن يضاعف الضرائب على الأقباط كما فعل غيره قال “إن كان غيرنا قد ظلم فلا داعى لأن نكون ظلمة” [16]
ملحق (1)
التاريخ الحقيقي للحروب الصليبية [17]
ترجمة: مايكل رأفت [18]
عنوان المقال الأصلي:
What the Crusades were really like?
A ZEINT Daily Dispatch, St, Louis, Missouri, 10 Oct, 2004 (ZEINT)
لم يكن الصليبيون مجرد معتدين بلا أى دافع، قتلة جشعين أو مستعمرين من القرون الوسطى، كما يصورون دائما فى بعض كتب التاريخ.
توماس مادين Thomas Madden, الذى يشغل كرسى قسم التاريخ فى جامعة سانت لويس و مؤلف كتاب ” التاريخ المختصر للحملات الصليبية A Concise History of the Crusades” يثبت أن الصليبيين فى الحقيقة لم يكونوا سوى مجرد قوات دفاعية لم يستفيدوا من حملاتهم بأى أراضى أو أموال أو مكاسب أرضية .
في الحقيقة يؤكد توماس مادين ان الحروب الصليبية لم تكن سوى حروب دفاعية، لا حروب لأجل الأستعمار. قد شارك “مادين” مع وكالة زينيت [19] في مناقشة أكثر تلك الأساطير شيوعًا عن الحملات الصليبية و الأثباتات التى عثر عليها حديثا والتى تثبت زيفها.
ودار اللقاء مع مايدن في صورة مجموعة من الأسئلة التي يجيب عليها، وها هو اللقاء:
س: ما هى أشهر تلك الإعتقادات الخاطئة عن الحملات الصليبية والصليبيين ؟؟
مادين: أشهر الأساطير الشائعة عن الحملات الصليبية هى التالية :
الأسطورة الاولى: الحملات الصليبية كانت حملات اعتدائية بلا أى سبب ضد العالم الإسلامى الوديع.
و هذه المقولة خاطئة الى أقصى درجة . فمنذ أيام محمد، وضع المسلمين نصب أعينهم دائما غزو العالم المسيحى. و قد أدوا عملا جيدا بصدد هذا أيضا، فبعد عدة قرون من الغزو المستمر، أستطاعت جيوش المسلمين أن تغزو وتسيطر على شمال أفريقيا بالكامل، الشرق الأوسط، أسيا الصغرى ومعظم أسبانيا.
بمعنى اخر، بحلول القرن الحادى عشر كانت القوات الأسلامية قد أوقعت بثلثى العالم المسيحى . فلسطين ـــ موطن يسوع المسيح ـــ، مصر ـــ مهد الرهبنة المسيحية ــــ، أسيا الصغرى ـــ التى زرع فيها القديس بولس الرسول بذور المجتمعات المسيحية الاولى ــــ هذه الأماكن و البلاد لم تكن مجرد أطراف ثانوية للمسيحية بل قلبها.
و لم تكن الأمبراطورية الإسلامية انتهت بعد – من توسعاتها – ولكن قد بدأت فى الضغط غربا نحو القسطنطينية، وتخطتها فى النهاية متجهة الى داخل أوروبا نفسها. فكان الأعتداء الذى بلا أى سبب يأتى من الطرف الأسلامى حصراً. فكان على المتبقى من العالم المسيحى فى لحظة ما أن يدافع عن نفسه وإلا أستسلم ببساطة للغزو الأسلامى.
الأسطورة الثانية: كان الصليبيون يلبسون صلبان، ولكنهم فى الحقيقة كانوا يهتمون فقط بالإستيلاء على الغنائم والأراضى فكانوا يتخذون شكلهم المتدين الورع كغطاء لجشع لا حد له.
أعتقد المؤرخون أن ارتفاع معدل السكان فى أوروبا أدى الى نشوء أزمة وجود الكثير من النبلاء الذين قد تربوا ونشئوا فى جو من الفروسية وصناعة الحرب، ولكنهم لم يكن لهم أى أراضى أو اقطاعيات من الممكن أن يرثوها. لذلك كانت الحملات الصليبية “صمام امان” بإرسال هؤلاء الرجال المحاربين بعيداً عن أوروبا إلى الأماكن التى يستطيعون فيها أن يحصلوا على الكثير من الأراضى لأنفسهم على حساب الأخرين ( غير الأوروبيين).
الدراسات الحديثة – فى ظل وجود قواعد البيانات المحوسبة و بمساعدتها – قامت بنسف تلك الأسطورة. نحن نعلم الأن أن من قاموا بالإستجابة لنداء البابا فى سنة 1095 كانوا من النبلاء الذين يمتلكون الأراضى والأقطاعيات فعلاً -كما هو الحال فى الحملات الصليبية الأخرى اللاحقة.
تكوين وإطلاق الحملات الصليبية كانت عملية مكلفة للغاية، و قد أجبر الأعيان والعظماء على بيع أو رهن أراضيهم لكى يوفروا التكاليف اللازمة للحملات. و كان معظمهم أيضا لا يهتمون بأن يحصلوا على ممالك تقع فى ما وراء البحار. و كما هو حال الجنود اليوم، كان جنود الحملات الصليبية فى العصور الوسطى فاخورين بتأديتهم لهذا الواجب ولكنهم اشتاقوا كثيرا للرجوع الى مواطنهم .
بعد النجاح الساحق للحملة الصليبية الاولى، التى أسفرت عن وقوع أورشليم ومعظم أجزاء فلسطين فى يد الصليبيين. قام الصليبييون بالرجوع فعلياً الى أوطانهم ما عدا قلة قليلة بقيت لكى تؤمن وتحكم الأراضى التى تم السيطرة عليها حديثاً.
كانت الغنائم أيضاً نادرة، فى الحقيقة، على الرغم أن الصليبيين بلاشك حلموا بالثروة الكبيرة التى كانوا سوف يحصلون عليها فى المدن الغنية كثيرة الثروة التى تقع فى الشرق، ولكنه فعلياً لم تستطع – تلك الغنائم – أن تعوض تكاليفهم الباهظة التى تكلفوها. ولكن الأموال والأراضى لم تكن هى السبب الأول فى إطلاقهم لحملاتهم، لقد ذهب الصليبيين فى تلك الحملات أولاً لكى يكفروا عن خطاياهم ويكسبوا الخلاص بعمل أعمال صالحة فى أرض بعيدة عن مواطنهم .
لقد تحملوا هذه التكاليف الباهظة والصعوبات لأنهم قد أمنوا أنهم بمساعدتهم لأخوتهم وأخواتهم المسيحيين فى الشرق كانوا يدخرون كنوزا لا تصدأ ولا يفسدها السوس.
لقد كانوا واعين بقول المسيح انه من لم يحمل صليبه لم يكن مستحقا له. و تذكروا أيضا أنه “لا حب أعظم من هذا أن يضع الانسان نفسه لأجل أحبائه”.
الأسطورة الثالثة: عندما دخل الصليبيين أورشليم فى عام 1099 قاموا بذبح كل رجل وامرأة وطفل فى المدينة حتى وصل الدم إلى كعوب الأقدام.
هذه المقولة هى المفضلة لبيان الطبيعة الشريرة للحملات الصليبية
إنه صحيح بكل تأكيد أن كثير من الناس الذين فى أورشليم قد قتلوا بعدما أوقع الصليبيين بالمدينة. و لكن هذا ينبغى أن يُفهم فى سياقه التاريخى.
المعايير الأخلاقية التى كانت مقبولة فى حضارات أوروبا ما قبل الحداثة وكذلك حضارات آسيا كانت تعتبر المدينة التى قاومت محاولات الأستيلاء عليها و فتحت عنوة ملكاً للقوات المنتصرة، و هذا لا يشمل المبانى أو البضائع فقط لكن البشر أيضاً، ولهذا كانت أى مدينة أو أى حصن (تحت الحصار) ينبغى أن يقيم إذا كان سوف يصمد فى مواجهة المحاصرين . فإذ لم يكن، كان من الحكمة ان تتم مفاوضات على شروط الإستسلام.
فى حالة أورشليم، قاوم المدافعون عن المدينة حتى النهاية، لقد حسبوا أن أسوار المدينة الهائلة المنيعة سوف تمنع الصليبيين من دخول المدينة حتى تأتى قوات التعزيزات من مصر، و لكنهم كانوا على خطأ. عندما سقطت المدينة، قتل الكثيرين، و لكن هناك أيضا من تم أفتدائهم أو تركوا أحرار.
بالمقاييس الحديثة ربما تبدو تلك الأمور وحشية. و لكن هانك من الرجال والنساء والاطفال الذين لا ذنب لهم يقتلون فى الحروب الحديثة أكثر بكثير من الذين يتم قتلهم بالسيف فى يوم أو اثنين، أنه لا يسوى الكثير لو كان الناس الذين فى تلك المدن المسلمة التى أستسلمت للصليبيين قد تركوا بدون أذى و أرجعت لهم ممتلكاتهم و تركوا يمارسون معتقادتهم الدينية بحرية .
أما بالنسبة للشوارع الغارقة فى الدماء هذه، لا يوجد أى مؤرخ يقبل هذا الخبر أكثر من أنها مبالغة أدبية، أورشليم مدينة كبيرة، كمية الدم اللازمة لملئ الشوارع كلها بالكامل و لعمق ثلاثة أنشات سوف يتطلب قتل الكثير من الناس أكثر من الذين يعيشون فى المنطقة كلها و ليست المدينة فقط.
الأسطورة الرابعة: الصليبيون كانوا مجرد مستعمرين من العصور الوسطى متسترين برداء الدين .
من المهم أن نتذكر أن فى العصور الوسطى لم تكن الحضارة الغربية هى تلك الحضارة القوية المسيطرة التى تستأسد على منطقة بدائية متخلفة. بل كان الشرق الإسلامى هو الأكثر قوة وثراء. لقد كانت أوروبا هى العالم الثالث وقتها.
الدويلات الصليبية التى تكونت على أثر الحملة الصليبية الأولى لم تكن لكى تزرع الكاثوليك فى وسط العالم الأسلامى على غرار الاستعمار البريطانى لأمريكا، الوجود الكاثوليكى فى تلك الدويلات الصليبية كان دائما تواجد قليل ومحدود، أقل من 10 % عدد السكان. هؤلاء كانوا الحكام و القضاة بالإضافة إلى التجار الايطاليين وذوى الرتب العسكرية. لقد كانت الأغلبية الساحقة من السكان فى تلك الدويلات الصليبية من المسلمين.
لم تكن تلك الدويلات مستعمرات بقصد زرع الكاثوليك فى الشرق الإسلامى ولا حتى كـــ “مصنع” للكاثوليك كما كان الحال فى الهند بل كانت مجرد قواعد صليبية، لقد كان الهدف الرئيسى لنشوء تلك الدويلات الصليبية هو الدفاع عن الأماكن المقدسة فى فلسطين، خاصة أورشليم. بالإضافة إلى توفير جو من الأمان للحجاج المسيحيين لكى يزوروا تلك الاماكن.
لم تكن هناك لتلك الدويلات الصليبية دولة أم ترعى تلك الدويلات اقتصادياً، ولم يستفد الأوروبيين من تلك الدويلات اقتصادياً، بل على العكس كانت تكاليف الحملات الصليبية لكى تدعم الشرق اللاتينى إهدار حقيقى للموارد الأوروبية، و بما أن تلك الدويلات كانت مجرد قواعد عسكرية فقد ركزت بالأكثر على الشؤون العسكرية.
عندما كان المسلمون يحاربون بعضهم البعض، كانت الدويلات الصليبية تلك فى أمان. ولكن بمجرد أن أتحد المسلمين استطاعوا أن يفككوا القوات الصليبية و يبعثروهم وأن يستولوا على تلك المدن مرة أخرى وأن يطردوا المسيحيين منها نهائيا سنة 1291.
الأسطورة الخامسة: لقد شنت الحملات الصليبية أيضاً ضد اليهود .
لا يوجد فى التاريخ بابا واحد دعى الى حملات صليبية ضد اليهود. خلال الحملة الصليبية الأولى قام عدد كبير من الرعاع – من الذين لا ينتمون الى القوات الأساسية للحملة – بالنزول الى قرى منطقة الراينلاند [20] وقرروا نهب وقتل اليهود الذين وجدوهم هناك. من ناحية، كان هذا مجرد جشع خالص ، و من ناحية أخرى نتج هذا عن إعتقاد خاطئ أن اليهود بوصفهم صالبى المسيح، كانوا هدف شرعى للحرب.
قام البابا أوربان الثانى وكذلك من أتى بعده من الباباوات بالتنديد وبقوة بتلك الهجمات على اليهود. كما قام الأساقفة المحليين لتلك المناطق ورجال الأكليروس الأخرين بالإضافة إلى العامة بالدفاع عن اليهود، بالرغم من النجاح المحدود لتلك المحاولات. على نحو مماثل، أثناء بدايات الحملة الصليبية الثانية، قام مجموعة من المارقين بقتل الكثيرين من اليهود فى المانيا قبل أن يدركهم القديس بيرنارد ويضع حد لهذا.
هذه الحوادث المؤسفة غير المقصودة التى حدثت أثناء الحركة الصليبية كانت ناتج غير محمود للحماسة التى كانت تسود الحملات الصليبية . وكمثال فى العصر الحديث، قام مجموعة من الجنود الأمريكان خلال الحرب العالمية الثانية بإرتكاب بعض الجرائم بينما هم خارج البلاد فى حملات عسكرية، و لقد تم القبض عليهم و معاقبتهم كجزاء لتلك الجرائم و لكن هدف الحرب العالمية الثانية لم يكن يشمل إرتكاب تلك الجرائم.
“التوتر الحالى بين الغرب و العالم الأسلامى لم تكن للحملات الصليبية فيه أثر يذكر” كما يقول أحد المؤرخين.
س: هل تظن أن الصراع بين الغرب والعالم الأسلامى هو بشكل ما نتيجة للحملات الصليبية ؟
مادين: لا، ربما تكون هذه إجابة غريبة خاصة عندما نرى أن بن لادن والإسلاميين الأخرين دائما ما يصفون الأمريكيين بــــ”الصليبيين”.
من المهم أن نتذكر أنه خلال العصور الوسطى – و حتى السنين المتأخرة من القرن السادس عشر – كانت القوة العظمى بالنسبة للعالم الغربى هو الإسلام. كانت الحضارة الإسلامية حضارة ثرية، متطورة و قوية جداً . بينما كان الغرب متأخر و ضعيف نسبياً.
كما أنه جدير بالملاحظة، أنه بإستثناء الحملة الصليبية الأولى، باءت كل الحملات الصليبية التى أطلقها الغرب بالفشل.
ربما أبطئت الحملات الصليبية من التوسعات التى كان المسلمون يقومون بها، لكنها لم تنجح فى أن توقفها أبداً.
لقد استمرت الامبراطورية الإسلامية فى التوسع أكثر فأكثر فى المناطق المسيحية، فقامت بغزو البلقان، معظم أوروبا الشرقية بل حتى أكبر مدينة مسيحية فى العالم، القسطنطينية .
من المنظور الإسلامى, لم تكن الحملات الصليبية شئ يستحق أن يلتفت إليه، حتى أنه لو كنت سألت شخص ما فى العالم الإسلامى فى القرن الثامن عشر عن الحروب الصليبية، لم يكن ليعرف أى شئ عنها. لكنها كانت مهمة بالنسبة إلى الأوروبيين، لأنها كانت جهود عظيمة ذهبت أدراج الرياح.
ولكن، خلال القرن التاسع عشر، عندما بدء الأوروبيون فى غزو و إستعمار دول الشرق الأوسط، أعتبر الكثير من المؤرخين – خصوصا الكتاب القوميين و الملكيين الفرنسيين – أن الحملات الصليبية كانت المحاولة الأولى لجلب ثمار الحضارة الغربية للعالم الإسلامى المتخلف، بمعنى أخر، تحول شكل الحملات الصليبية الى مجرد حروب إستعمارية.
هذه النظرة كانت تدرس فى المدارس التى أقيمت فى المستعمرات، وأصبحت نظرة مقبولة فى الشرق الأوسط. فى القرن العشرين، أصبحت الامبريالية شئ مكروه ومعاب، فتمسك الإسلاميون والقوميون العرب بالنظرة التى كانت الاستعمار ينشرها بشأن الحملات الصليبية، مدعين أن الغربيين مسئولين عنها وعليهم أن يتحملوا ملامتها لأنهم بدؤا بالتحرش بالمسلمين منذ ذلك الحين.
س: هل هناك تشابه بين الحملات الصليبية والحرب ضد الإرهاب اليوم ؟
مادين: بجانب أنه فى كل من الحربين كان الجنود يقاتلون لأجل هدف سامى أكبر من حياتهم، و أنهم تمنوا بشدة أن يعودوا الى أرض الوطن بعد أن يحققوا هذا الهدف، لا أرى تشابه أخر بين الحملات الصليبية والحرب على الارهاب. الدوافع التى وراء الحرب فى المجتمع العلمانى ما بعد عصر التنوير مختلفة بشدة عن الدوافع التى وراء الحملات فى العصور الوسطى.
س: ما هو الفرق بين الحملات الصليبية والجهاد الإسلامى؟
مادين: الهدف الرئيسى من الجهاد الإسلامى هو توسيع رقعة “دار الإسلام” – الأراضى الإسلامية – على حساب “دار الحرب” ( البلدان الغير خاضعة للامبراطورية الإسلامية)، بمعنى أخر، “الجهاد” هى حرب توسعية، هدفها هو غزو غير المسلمين وإخضاعهم للحكم الإسلامى. ومن ثم تخضع الشعوب التى هزمها المسلمون لخيار بسيط، الذين لا ينتمون الى “أهل الكتاب” – المسيحيين و اليهود – أما أن يعتنقوا الإسلام أو يقتلوا، أما بالنسبة لـــ”أهل الكتاب” فإما أن يخضعوا للحكم الإسلامى أو يقتلوا. انتشار الإسلام إذاً كان مرهوناً بالنجاح العسكرى للجهاد الإسلامى.
بينما الحملات الصليبية تختلف بشدة عن الجهاد الإسلامى فى هذا الشأن, فالمسيحية منذ نشأتها منعت دائماً التحول القهرى إليها مهما كانت الأسباب. إذن، التحول خوفاً من السيف والقتل، لم يكن مسموحاً به فى المسيحية أبداً. على عكس الجهاد، لم يكن الهدف من وراء الحملات الصليبية هو توسيع رقعة العالم المسيحى أو نشر المسيحية بواسطة التحول القهرى.
لقد كانت الحملات الصليبية رد فعل مباشر ومتأخر زمنياً لقرون من الغزو الإسلامى للأراضى المسيحية. كان الغزو التركى لآسيا الصغرى بداية من سبعينات حتى تسعينات القرن الحادى عشر هو الحدث الرئيسى الذى أشعل فتيل الحملة الصليبية الأولى.
دعى البابا أورلبان الثانى فى سنة 1095 للحملة الصليبية الأولى كإستجابة للإستغاثة العاجلة من الامبراطور البيزنطى فى القسطنطينية. نادى أوربان فرسان العالم المسيحى لكى ما يساعدوا إخوانهم الشرقيين.
لقد كانت آسيا الصغرى منطقة مسيحية، جزء من الامبراطورية البيزنطية، بشرها القديس بولس الرسول. بينما كان القديس بطرس هو أول أسقف لأنطاكية. كتب بولس الرسول أيضا رسالته المشهورة إلى المسيحيين من أهل أفسس. كذلك كتب قانون الإيمان فى مدينة نيقية. كل هذه الأماكن فى أسيا الصغرى.
استعطف الامبراطور البيزنطى مسيحيى الغرب لكى يساعدوه فى إستعادة الأرض وطرد الأتراك. وقد كانت الحملات الصليبية هى تلك المساعدة التى قدمها مسيحيوا الغرب إليه. كان هدفهم ليس فقط إستعادة آسيا الصغرى، لكن أيضا إستعادة كل الأراضى المسيحية التى ضاعت نتيجة للجهاد الإسلامى، وهذه تشمل بالطبع الأراضى المقدسة.
بإيجاز، الفروق الأساسية بين الحملات الصليبية والجهاد الأسلامى هو أن الحملات الصليبية كانت حملات دفاعية ضد الجهاد الإسلامى. تاريخ الحملات الصليبية فى الشرق بأكمله هو رد فعل للعدوان الإسلامى.
س: هل حقق الصليبيين أى نجاح فى تحويل العالم الإسلامى للمسيحية ؟
مادين: أذكر أنه فى القرن الثالث عشر، قام بعض الرهبان الفرانسيسكان بتنظيم إرسالية تعمل فى الشرق الأوسط لكى ما تحول المسلمين إلى المسيحية. لكنها لم تلقى نجاحاً، غالباً بسبب أن الشريعة الإسلامية تعتبر التحول الى ديانة أخرى جريمة كبرى.
ولكن هذه المحاولة ، كانت منفصلة عن الحملات الصليبية، التى لم تكن تهتم لتحويل أى شخص للمسيحية. كما أنها- تلك المحاولات – أعتمدت على الإقناع فقط، بدون اللجوء الى العنف.
س: كيف برر العالم المسيحى هزيمة الحملات الصليبية ؟
مادين: بنفس الطريقة التى برر بها يهود العهد القديم هزيمتهم. الله قد منع الإنتصار عن شعبه لأنهم كانوا خطاة.
و قد أدى هذا الى حركة تقوية كبيرة فى أوروبا هدفت إلى تطهير المجتمع المسيحى بكل طريقة ممكنة.
س: هل اعتذر البابا يوحنا بولس الثانى حقاً عن الحملات الصليبية ؟ هل قام فعلاً بإدانتها ؟
مادين: هذه أسطورة غريبة، لأنه قد تم إنتقاد البابا لأنه لم يعتذر بكلمات مباشرة واضحة عن الحملات الصليبية عندما سئل الغفران من كل الذين سبب لهم المسيحيون الأذى بغير وجه حق.
لم يدن أبونا المقدس الحملات الصليبية، ولا أعتذر عنها. لقد أعتذر عن خطايا الكاثوليك فقط. لاحقاً قد تناقل عن البابا يوحنا بولس الثانى انه قد أعتذر لبطريرك القسطنطينية عن غزو الصليبيين للقسطنطينية فى عام 1204 .
فى الحقيقة، لقد كرر البابا يوحنا بولس الثانى ما قاله سلفه البابا أينوسنت الثالث ( 1198 -1216). بأنه كان هناك الكثير من الأخطاء الغير مقصودة التى بذل هو الكثير لكى يتجنبها. لقد أعتذر يوحنا بولس الثانى عن خطايا الكاثوليك الذين أشتركوا فى الحملات الصليبية. لكنه لم يعتذر عن الحملات الصليبية نفسها ولا حتى عن نتائج الحملات.
مراجع البحث
- ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، (مكتبة الأسرة 2001)، المجلد الثامن (15/16).
- المقريزى: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، (دار الكتب العلمية، بيروت)، الطبعة الأولى، الجزء الرابع.
- يوسف بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب، مصر، الجزء السابع.
- الذهبى: العبر فى خبر من غبر، دارالكتب العلمية، بيروت، الجزء الثانى.
- د. عبد السلام الترمانينى: أحداث التاريخ الإسلامى بترتيب السنين، ط 1 / 1994م، دار طلاس، دمشق، المجلد الأول من الجزء الثالث.
- إيريس حبيب المصرى: قصة الكنيسة القبطية، الكتاب الثالث.
- د. محمد عمارة: الفاتيكان والإسلام ــــ أهى حماقة أم عداء له تاريخ، ط 1 / يوليو 2007
- د. حسن عثمان: منهج البحث التاريخى، دارالمعارف، ط 8
- د. عزيز سوريال عطية: الحروب الصليبية وتأثيرها على العلاقات بين الشرق والغرب، ترجمة: د. فيليب صابر سيف، دارالثقافة، ط 2
- Thomas F. Madden (ed.): Crusades, the illustrated history, The University Of Michigan Press.
[1] د. محمد عمارة: الفاتيكان والإسلام ـ أهى حماقة أم عداء له تاريخ، ط 1 / يوليو 2007، ص 79
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، (مكتبة الأسرة 2001)، المجلد الثامن (15/16)، ج 15، ص 11
[3] المرجع السابق، ص 11، 12
[4] المرجع السابق، ص 12
[5] المرجع السابق، ص 318، 319
[6] د. حسن عثمان: منهج البحث التاريخى، دارالمعارف، الطبعة الثامنة، ص 15
[7] المقريزى: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، (دار الكتب العلمية، بيروت)، الطبعة الأولى، ج 4، ص 411 : 414
[8] John France: The First Crusade “Impelled by the love of God”, In: Crusades, the illustrated history,(Thomas F. Madden, editor), p. 34
[9] يوسف بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب، مصر، ج 7، ص 162، 163
[10] الذهبى: العبر فى خبر من غبر، دارالكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 192
[11] راجع النص الانجليزى للحوار هنا:
والترجمة العربية ستجدونها فى (ملحق 1) نقلاً عن ترجمة مايكل رأفت:
http://freeorthodoxmind.blogspot.com/2011_07_01_archive.html#!/2011/06/blog-post_13.html
[12] د. عبد السلام الترمانينى: أحداث التاريخ الإسلامى بترتيب السنين، ط 1 / 1994م، دار طلاس، دمشق، ج 3، مجلد 1، ص 49
[13] أكد لى بعض الأصدقاء أثناء إعدادى هذا البحث أن صلاح الدين كان فى البدء معادياً للمسيحية والمسيحيين ولكن بسبب معجزة حدثت له صار يحسن معاملتهم ويُقال أن تلك المعجزة هى مشاهدته خروج النور المقدس من القبر، لا أعلم مدى دقة تلك القصة ولكنى سأبحث فيها.
[14] إيريس حبيب المصرى: قصة الكنيسة القبطية، ك 3، ص 170
[15] المرجع السابق، ص 180
[16] المرجع السابق، ص 194
[17] الآراء الواردة فى الحوار هى آراء صاحبها ولذلك فهى حجة عليه، وقد وضعتها فى البحث لما فيها من معلومات قيمة.
[18] بتصرف
[19] زينيت : وكالة أنباء عالمية لا تبغي الربح وتشمل فريقاً من المحترفين والمتطوعين المقتنعين بالثروة الرائعة التي تحملها رسالة الكنيسة الكاثوليكية
[20] الراينلاند : منطقة فى المانيا بطول نهر الراين.