عملية إقرار قانونية أسفار العهد الجديد
عملية إقرار قانونية أسفار العهد الجديد
عملية إقرار ما هي أسفار العهد الجديد القانونية
حاججنا في الفصل السابق على أن الكنيسة ورثت قانون العهد القديم من الديانة اليهودية الفلسطينية، وتعاملت مع هذا القانون القديم بجملته على أنه “أقوال الله” (رومية 3: 2)، كما علم يسوع. حاججنا أيضاً على أن يسوع، منح مصادقته المسبقة على كُتاب العهد الجديد كمعلمي العقيدة. أسفر عن ذلك إقدام الكنيسة الرسولية على إضافة إلى ذلك القانون، كتابات الرسل بحيث اعتبرتها أيضاً بمثابة كلمة الله. هذا ما تؤكده وتثبته الأسفار المقدسة نفسها، ولا مجال للمجادلة حوله.
أما تصل الكنيسة إلى إدراك ما هي بالتحديد تلك الأسفار التي يجب إدراجها ضمن قانون العهد الجديد، فقد حصل ذلك بموجب عملية بطيئة تكاد لا تكون محسوسة. يكتب “هرمن ن. ردربس” في هذا السياق:
لم يجر قط أي بحث [بين الآباء الرسوليين قبل نحو عام 170م] حول “قانونية” معظم كتابات العهد الجديد [وفي النهاية أي منها]. فالكنيسة لم تنظر قط إلى تلك الكتابات على أنها أي شيء آخر غير الشهادة ذات السلطة إلى زمن الفداء العظيم… أما الارتياب في بعض هذه الكتابات… فلم ينشأ إلا لاحقاً نتيجة لبعض الأفعال التي حصلت داخل الكنيسة أو ضدها[1].
إنما يشير “ردربس” من خلال تعليقه الأخير، إلى زمن نحو 160م عندما أقدم “ماركيون”، الهرطوقي الغنوسطي، على التنكر لكل قانون العهد القديم، وعلى قبول فقط كسلطة من العهد الجديد، صيغة مشوهة لكب من إنجيل لوقا وسفر الأعمال مع عشر رسائل “مصححة” فقط لبولس. وهكذا، أصبحت مسألة قانون العهد الجديد موضوع اهتمام في بعض مناطق الكنيسة.
ويبدو أن هذه الريبة المناطقية “أضرت بما كانت تحظى به وثيقة ما من سلطة منذ البداية، كما دمرت اليقين الذي كانت الكنيسة تنعم في الأصل “بشأن أسفار العهد الجديد[2]. ومع هذا، بحسب “القطعة الموراتورية”، العائد تاريخها إلى نحو 175م، لم تكن الكنيسة على العموم تراعي أية شكوك بشأن قانونية الأناجيل الأربعة، وسفر الأعمال، وثلاث عشرة رسالة من رسائل بولس، مع 1يوحنا، و1بطرس.
أما قانونية الأسفار السبعة الباقية فظلت محط اهتمام في بعض مناطق الكنيسة على مدى نحو القرنين. لكن على قدر ما نمت المناطق المتعددة للكنيسة بعضها مع بعض على صعيد روابطها المسكونية، اتضح أكثر فأكثر أن الشكوك التي حامت حول هذه الكتابات، كانت مناطقية فقط، ولم تكن كونية قط كما أن هذه الشكوك المناطقية، تناقضت على نطاق واسع، مع ما آمنت الكنيسة به بشأن هذه المسائل لوقت طويل.
وعليه، فإن الأسفار السبعة شقت طريقها في الكنائس ببطء، وذلك بمعزل عن أية لجنة من اللاهوتيين أو أي قرار صادر عن مجمع كنيسي[3]، إلى أن احتلت في نهاية المطاف مكاناُ ثابتاً ودائماً ضمن القانون الأوسع لكنيسة العهد الجديد. وعلى أثر ذلك، طالب مجمع “قرطاجة” الثالث بألا يقرأ أي شيء في الكنيسة تحت صفة الأسفار الإلهية، ما عدا “الأسفار القانونية”. من ثم أكد بالتحديد أن قانون العهد الجديد يضم مجموعة أسفار العهد الجديد السبعة والعشرين.
بعد هذا الأمر الواقع، بحث الدارسون المسيحيون مطولاً عن المعايير التي كانت الكنيسة الأولى قد اعتمدتها خلال هذه القرون الأولى لتقرير قانونية أحد الأسفار: الرسولية، القدم، استقامة التعليم فيه، اتساع رقعة انتشاره، مقدار وفرة قراءته، ووحيه؛ هذه جميعها، جرى اقتراحها.
غير أن “ريتشارد ب. غافن” الابن، حاجج عن حق في نظري، على أن الدراسات والأبحاث عجزت عن تحديد المعايير التي كانت قد اعتمدت في معرض تحديد قانونية الأسفار، بمعزل عن التهديد في الوقت عينه بتقويض قانون العهد الجديد كما كان قد وصل إلينا. المعضلات التي تنشأ من هذه المعايير هي التالية:
- معيار الرسولية لا ينطبق على مرقص، ولوقا، والأعمال، وربما العبرانيين، ويهوذا، وعلى الأرجح أيضاً رسالة يعقوب. هذا المعيار يفوته عرض السبب وراء عدم تضمين القانون بعضاً من رسائل بولس الأخرى (1كورنثوس 5: 9؛ 2كورنثوس 2: 4، 9؛ كولوسي 4: 16).
- معيار القدم هو صيغة مختلفة عن المعيار السابق، كما أنه يفوته أيضاً تفسير لماذا لم يجر إدراج “رسالة بولس السابقة” (1كورنثوس 5: 9) ضمن القانون مع أنها أقدم من الرسالة إلى العبرانيين، فيما اعتبرت هذه الرسالة قانونية.
- لا يفسر معيار وفرة قراءة السفر، سبب رفض بعض الوثائق من صنف “راعي هرماس”، و”الديداخي”، مع أن هاتين الوثيقتين. كانت تقرآن من حين إلى آخر في العبادة الجهورية، في حين جرى ضم ضمن القانون وثائق أخرى مثل 2بطرس، و2يوحنا، و3يوحنا، ويهوذا، حيث الدلائل على قراءتها قليلة جداً.
- معيار الوحي، مع كونه ضرورياً بكل تأكيد للقانونية، لا يستطيع تفسير ما هو السبب وراء عدم شمل رسالة بولس إلى اللاودكيين (كولوسي 4: 16) في القانون، مع أنها رسولية، وموحى بها، ويجب قراءتها في الكنائس.
يجادل “غافن” أيضاً أن كل المحاولات المبذولة لبرهان هذه المعاير، إنما تخضع سلطة القانون إلى نسبية البحث التاريخي وإلى الإدراك البشري غير المعصوم عن الخطأ[4]. يلحظ “ردربس” أيضاً في هذا السياق:
…. مهما كان الدليل على الرسولية قوياً (وبالتالي على القانونية) في حالات عدة، ومهما كانت الحجج المؤيدة لرسولية بعض الكتابات[5]. من غير الممكن أن تشكل الأحكام التاريخية الأساس الأخير والأوحد لقبول الكنيسة العهد الجديد لكونه قانونياً. أما قبول العهد الجديد على هذا الأساس، فهذا يعني أن الكنيسة تكون، في نهاية المطاف، قد أرست أسس إيمانها على النتائج التي آلت إليها الأبحاث التاريخية[6].
لو صح ذلك، لا يعود بإمكان أحد أبداً معرفة بالتأكيد، بمعزل عن تصريح مباشر صادر عن الله بشأن هذه المسألة، أن هذه الأسفار السبعة والعشرين هي وحدها التي قصد لها الله أن تكون ضمن قانون العهد الجديد. كذلك، لا يعود بإمكان أحد أبداً معرفة بالتأكيد إن كان العهد الجديد يتضمن سفراً كان يجب عدم تضمينه، أو لعله لا يتضمن سفراً كان ينبغي شمله ضمن القانون.
إذاً، إن كان البحث التاريخي والتقصي البشري المعرض للخطأ، لا يصلحان كأساس نهائي لقانونية الأسفار السبعة والعشرين في العهد الجديد، فما هي القوة المحركة وراء قانونيتها؟ من غير الممكن الإجابة عن هذا السؤال بشك يشبع الذهن في حال إصرار أحدنا على التفكير بمعزل عن الأسفار المقدسة. غير أن المسيحي سيقبل بالإيمان أن الكنيسة، وبترتيب إلهي تحت قيادة الروح القدس، حصلت على العدد الصحيح من الأسفار، كما على القائمة الصحيحة بالأسفار.
كل ما نعرفه بالتأكيد عن تاريخ القرون الأربعة الأولى من الكنيسة، يوحي بأن روح الله قاد الكنيسة بعناية إلهية – ليس بموجب عملية تصويت أقدم عليها مجمع كنيس ما، لكن بشكل غير محسوس وبما لا يرقى إليه الشك – عندما طرحت أسئلتها، مهما كانت، من أجل تبني تلك الأسفار التي كان قد قرر المثلث الأقانيم أن تشكل الأساس لتعليم الكنيسة العقيدي.
فيشكل على طول الحقبة المسيحية شهادة معصومة عن الخطأ للأحداث المركزية المجردة والعظمى للتاريخ الفدائي. وبذلك يكون “التقليد الرسولي” قد صادق على نفسه وأرسى نفسه مع الوقت داخل أذهان شعب الله، لكونه وحده هذا الأساس والشهادة المعصومين عن الخطأ. وباختصار، تكوين قانون أسفار العهد الجديد السبعة والعشرين.
بعد كل ما قيل وعمل، يبدو أنه في نهاية المطاف ليس من نتاج بشر أو مؤسسة كنسية ما، بل عمل الروح القدس وحده على قدر ما شهد داخل قلوب شعب الله ومنحهم أن يعوا على صعيد كوني أنها كانت تلك الأسفار التي يترتب عليهم الاصغاء إلى سلطتها. يصرح “مارتن هـ فرانزمان” في هذا السياق أن لا أحد من الآباء الرسوليين قبل عام 170م.
…. يسأل صراحة أو يجيب عن السؤال: “أية أسفار يجب تضمينها ضمن قائمة تلك التي لها طابع معياري بالنسبة إلى الكنيسة؟” لكن ما نجده فعلاً في كتابات المدعوين آباء رسوليين… الشهادة لحقيقة كون الأسفار المعدة لتصبح قانون العهد الجديد هي هناك، وتعمل في الكنيسة منذ البداية…
ثانياً، نجد الشهادة لحقيقة أن فكر الكنيسة وحياتها كانا قد تشكلا منذ البداية، بموجب مضمون كتابات العهد الجديد…. كان بوسع الله وحده، الذي هو الرب فعلاً على كل التاريخ، المجازفة والمخاطرة من خلال الطريقة التي بها أدخل كلمته إلى التاريخ. كان بإمكان الله وحده الذي، في المطلق، يسود على شعبه من خلال روحه، أن يقود كنيسته الضعيفة، والمحاصرة بالأعداء، والمضطهدة إلى طرح الأسئلة الصحيحة بشأن الأسفار التي تطلب من شعب الله أن يمنحوها ولاءهم والفوز بالإجابات الصحيحة.
وكان بإمكانه وحده أن يختم تحت إرشاد الروح القدس على ما كان حقاً رسولياً وبالتالي صاحب سلطة… كما أن روح الله كان بإمكانه وحده أن يجعل الناس يرون وجود كلمة تستلزم إطاعة شعب الله لها، وبالتالي فرضت نفسها بصفتها كلمة الله، وعليها بكل تأكيد رفع من الساحة كل شيء آخر يدعي بأنه من الله.
هذا ما فعله قانون السبعة والعشرين سفراً. فهو أثبت نفسه خلال القرون الأولى من الكنيسة وحافظ على نفسه باستمرار في حياة الكنيسة… وسيحافظ على نفسه فيما بعد…. الأسفار السبعة والعشرون هي حاضرة هناك في الكنيسة. وهي تعمل داخل الكنيسة. إنهما كما أطلق عليها أثناسيوس التسمية: “ينابيع الخلاص” للعالم المسيحي[7].
يلحظ أيضاً “ف. ف. بروس” في هذا المجال:
بكل تأكيد، وبينما ينظر أحدنا رجوعاً إلى عملية تحديد الأسفار القانونية خلال القرون الأولى للمسيحية، ويتذكر بعض الأفكار التي كان بمقدور كتاب الكنيسة من تلك الحقبة صياغتها، من السهل استنتاج كيف أنهم لبلوغ خلاصة حول حدود القانون، كانت تقودهم في ذلك حكمة أسمى من حكمتهم البشرية. يبدو أن أولئك الذين كانت أذهانهم قد تشكلت إلى حد كبير بالأسفار التي كان ينظر إليها كقانونية، وجدوا أنه من الطبيعي أن يصدروا حكماً من هذا النوع.
لكن ليس من قبيل الإدراك المتأخر للأمور، القول مع “وليم باركلي” إن “أسفار العهد الجديد أصبحت قانونية، بما أنه ما كان باستطاعة أحد الحؤول دون فعلها ذلك”. أو حتى بلغة “أوسكار كلمان”، “الأسفار التي كانت لتنشئ القانون العتيد، فرضت نفسها على الكنيسة بفضل سلطانها الرسولي المفطورة عليه في جوهرها، كما لا تزال تفعل، بما أن المسيح الرب يتكلم خلالها[8].
د. أ. كارسن، دوغلاس ج. مو، وليون موريس يعلنون موافقتهم:
…. إنه لمن الأهمية بمكان ملاحظة كيف أنه في غياب أية آلية كنسية لفرض القرارات، على شاكلة البابوية في القرون الوسطى، توصلت الكنيسة المنتشرة في كل أنحاء العالم إلى قبول على صعيد كوني تقريباً، الأسفار السبعة والعشرين نفسها، إذاً، لم تكن الكنيسة هي التي وضعت القانون على قدر ما وضع القانون نفسه. هذه الفكرة كانت قد ذكرت مراراً، وتستحق أن تكرر.
كون الكنيسة بأكملها مبدئياً توصلت إلى اعتبار الأسفار السبعة والعشرين عينها قانونية، أمر رائع عندما نتذكر أن النتيجة لم يتم فرضها. كل ما كان بوسع الكنائس المتعددة المنتشرة في كل أرجاء الإمبراطورية فعله، هو الشهادة لاختبارهم الشخصي مع الوثائق والتشارك في أية معرفة قد يكونون حصلوا عليها من أصلها وعن طبيعتها. عندما نأخذ بعين الاعتبار التنوع في الخلفيات الثقافية وفي التوجه إلى أساسيات الإيمان المسيحي داخل الكنائس، فإن إجماعهم حول تلك الأسفار التي يجب أن تشكل العهد الجديد، يوحي بأن القرار النهائي في ذلك لم يتم فقط على المستوى البشري[9].
إذاً، في معرض الرد عن السؤال “بيت القصيد”، لماذا من جملة كل الأعمال الأدبية المرشحة للدخول في القانون، ومن جملة كل الكتابات الرسولية الموحى بها، بات أخيراً قانون العهد الجديد يتألف من السبعة والعشرين سفراً المعروفة لدينا؟ بوسعنا فقط استخلاص ما يلي مع “غافن”:
…. هذه الأسفار السبعة والعشرون وحدها، هي التي ارتأى الله أن يحافظ عليها، وهو لم يخبرنا لماذا…
بالنسبة إلى مسألة قانون العهد الجديد أيضاً، إلى أن يأتي يسوع، نحن نسلك بالإيمان، وليس بالعيان (2كورنثوس 5: 7). لكن ذلك الإيمان المؤسس على التقليد الرسولي للعهد الجديد، ليس اعتباطياً ولا هو أعمى. فله موجباته، وموجباته الوجيهة. وهو لا يتعارض إلا مع استقلالية المنطق[10].
عرضت في الفصلين السابقين وفرة من الأسباب للإيمان بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى بها[11]. الآن، أبغي تطبيق هذا الحق بقولي إن الراعي الذي يعظ من الكتاب المقدس عن قناعة وبقوة، ويطبق بكل جرأة وشجاعة ذلك السيف الماضي ذي الحدين على حياة رعاياه لكي يؤلم في حرقه ثم يعود فيشفي. وبفضل بلسم شفائه هذا، يسكن الأوجاع ويعزي، وبذلك يعصب جراحاتهم، ويقودهم إلى سبل البر، ذلك الراعي، سيكون راعياً حقيقياً في خدمة الرب يسوع، راعينا العظيم.
وسيشهد نتائج حية لما أعلنه الله عن كلمته: “لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك، بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي. لا ترجع إليّ فارغة، بل تعمل ما سررت به وتنجح فيما أرسلتها له” (إشعياء 55: 10، 11).
إن المرشح للخدمة المسيحية الذي لا يؤمن بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى بها، عليه عدم الانخراط في الخدمة. ليس مكانه هناك. وفي حال كان في الخدمة من قبل، عليه إما الاعتزال عن الخدمة بما أنه كان يجب ألا يدخلها على الإطلاق، أو أقله عليه الإفصاح أمام رعيته عن أنه لا يؤمن بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى به. عندئذ، لا يعود أصحاب الحس يخضعون لسلطته بما أنه يكون قد فقدها بعد أن كان قد استمدها من سلطة كلمة الله.
كما أنه يصبح بوسعهم أن يرحلوا من عنده من أجل الإصغاء إلى راع آخر يؤمن بسلطان كلمة الله، ذلك لأن جميع العقائد الأخرى للإيمان الحق هي مشتقة من الكتاب المقدس الموحى به إلهياً وتستمد سلطتها منه: تشكل عقيدة الوحي حجر الأساس – الأم والحارس – لسائر عقائد الأسفار المقدسة! إنها تكتسب كل هذه الأهمية!
أوضح “لويس غوسن” أية أهمية حيوية تكتسبها عقيدة الوحي الحرفي بالنسبة إلى كل من الخدمة المسيحية، والفرد المسيحي. والإنسان العادي، وأمم العالم. أقدم على ذلك من خلال جعله مفارقة بين شخصين، أحدهما (وهو “غوسن” نفسه) الذي يراعي النظرة المستقيمة إلى الكتاب المقدس، لكونه “موحى به من الله” ولك قول فيه “نافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر” (2تيموثاوس 3: 16).
فيما الشخص الآخر يعتبر أن الكتاب المقدس هو أي شيء أقل من كونه كلمة الله نفسها – كتاب من الحكمة البشرية السامية، ربما، أو من الأساطير والفولكلور – أو شيء آخر ما عدا كونه كلمة الله. يكتب:
لو صح القول…. إن كل ما في الكتاب المقدس ليس له أهمية، ولا ينعكس على الإيمان، ولا علاقة له بيسوع المسيح. ولو صح القول بموجب رأي آخر، إن هذا الكتاب يخلو من أي شيء موحى به ما عدا ما له أهمية في نظرك، وهو ينعكس حقاً على الإيمان، وله حقاً علاقة بيسوع المسيح، في هذه الحال، يكون كتابك المقدس مختلفاً بالكلية عن كتاب الآباء، والمصلحين والقديسين من كل العصور. كتابك عرضة للخطأ فيما كتابهم كان كاملاً.
لكن هناك الشيء الكثير غير مجرد الفارق بيننا. ذلك لأنه بحسب إجابتك، لن يكون لدينا كتابان مقدسان وحسب، بل لن يتمكن أحد من معرفة ما هو عليه كتابك المقدس فعلاً.
إنه بشري وعرضة للخطأ، بحسب زعمك، إلى حد ما فقط، لكن من سيحدد مقدار هذا الحد؟
لكن، ليس هذا كل ما في الأمر، لأن ما يلي هو أخطر بعد. فبحسب إجابتك، ليس الكتاب المقدس وحده الذي تغير، بل أنت.
أجل، حتى أمام تلك النصوص التي أكثر ما استحوذت على إعجابك، لن يكون عندك لا موقف المؤمن، ولا قلب المؤمن! كيف يكون ذلك، بعد أن أقدمت على استدعاء هذه إلى جانب بقية الأسفار المقدسة للمثول أمام محكمة حكمك الشخصي على الأمور، بحيث تعتبرها إلهية، أو غير إلهية، أو نصف إلهية؟ وأية سلطة لنفسك قد يحمله قول يبدو في نظرك أنت معصوماً؟
ألم يتوجب عليه المثول أمام محكمتك، جنباً إلى جنب مع سائر أقوال الكتاب نفسه، والذي كنت أصدرت حكمك بحقه على أنه بشري بالكامل أو جزئياً؟ هل ذهنك في هذه الحال سيضع نفسه في موقع التلميذ المتواضع والخاضع، بعد أن كنت قد نصبت نفسك قاضياً على هذا القول؟ هذا مستحيل. إن لم تكن له من احترام، قد يكون من قبيل الإذعان، ولن يكون أبداً بدافع الإيمان أو الموافقة أو العبادة. هل تعود لتدعي أمامي بأنك تؤمن بالمصدر الإلهي للنص؟ فأنت لست تؤمن بالله، بل بالحري بنفسك…
بحسب الإجابة التي تعرضها أنت، فإن ذراع الرب هي مشلولة بالنسبة إليك؛ كما أن سيف الروح بات كليلاً، بعد أن فقد حدته وقدرته على الاختراق. كيف عساه من الآن فصاعداً أن يخرق إلى المفاصل والمخاخ؟ وكيف عساه أن يصبح من شهواتك، ومن شكوكك، ومن العالم، ومن الشيطان؟ كيف عساه أن يمدك بالطاقة، ويمنحك النصرة، والنور، والسلام؟
كيف يحصل بين الفينة والأخرى، ومع فارق زمني طويل… بفعل نعمة الله البحتة ومن دون أي استحقاق فينا، أنه وبالرغم من الحالة المحزنة التي تتخبط فيها النفس، قد يصل إليها قول إلهي ويمسكها على حين غرة. لكن هذا لا يقلل من صحة القول إن هذا التوجه والميل إلى محاكمة الأسفار المقدسة، وإلى التشكيك مسبقاً في وحيها على الصعيد الكوني، يعد من أعظم العوائق أمام تتميمها عملها بفعالية. وهكذا يظهر مدى الأهمية البالغة التي يحتلها [الوحي] على صعيد إضفاء حيوية على إيمانناً[12].
[1] Herman N. Ridderbos, Redemptive History and the New Testament Scriptures (Second Revised edition: Phillipsburg, N.J.; Presbyterian and Reformed, 1988), 40. F. F. Bruce, The Canon of Scripture (Downers Grove, I11: Inter-Varsity, 1958), 255.
كتب مبدئياً الأمر عينه قبل ثلاثين عاماً: “لم يتعب المسيحيون الأولون أنفسهم بمعايير القانونية؛ ما كان بوسعهم فهم هذا التعبير بسهولة. قبلوا أسفار العهد القديم المقدسة، كما كانوا قد تسلموها؛ فكانت تحظى سلطة هذه الأسفار، بالتأييد الكافي من خلال تعليم ومثال الرب ورسله اللذين كانا يكتسبان في نظرهم سلطة بديهية”. سواء بكلمات الفم أم بشكل مكتوب.
[2] Ridderbos, Redemptive History, 44.
[3] ادعت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لوقت طويل كونها هي التي ابتكرت قانون العهد الجديد. لكن، لا يوجد أي دليل تاريخي لتأييد هذا الادعاء. بل على نقيض ذلك، قانون العهد الجديد هو الذي أنشأ الكنيسة، وليس العكس.
[4] Richard B. Gaffin, Jr. “The New Testament as Canon” in Inerrancy and Hermeneutics, edited by Harvey M. Conn (Grand Rapids: Baker, 1988), 168-70.
[5] راجع الملحق في نهاية الفصل.
[6] Ridderbos, Redemptive History, 32, 33. R. C. Sproul, Essential Truths of the Christian Faith (Wheaton, I11.: Tyndale), 1992.
يعلن “سبرول” بشكل محدد في ضوء الأسباب التي صرح بها “ردربس” أن “العهد الجديد الذي بين أيدينا هو مجموعة عرضة للخطأ من الأسفار المعصومة عن الخطأ” بالطبع، في ضوء الأسباب التي دفعت “سبرول” إلى تأكيد أن العهد الجديد هو “مجموعة عرضة للخطأ”، كان يلزمه التصريح بأنه مجموعة عرضة للخطأ من “الأسفار العرضة للخطأ” أيضاً. ذلك لأنه يعتمد الأسلوب الأساسي عينه لتبيان سلطة كل سفر بمفرده في العهد الجديد. يكفي القول إني لا أتفق معه بقوة.
ففي اعتقادي أنه على خطأ، فالعهد الجديد في نظري هو مجموعة “معصومة عن الخطأ” لأسفار “معصومة عن الخطأ”، وذلك لأسباب لا يشاركني فيها، بالطبع، إنه ينسجم مع ذاته كباحث يبني خلاصاته على البراهين، لدى تصريحه بما صرح به عن القانون الكتابي، ويؤسفني ألا يتمكن المزيد من محبذي البراهين أمثاله، من رؤية بوضوح أن رأيه يعد الخلاصة الوحيد المنسجمة مع آراء هؤلاء القوم
لكن، إن كان العهد الجديد عندنا هو، في أفضل حالاته، مجموعة عرضة للخطأ من الأسفار المعصومة عن الخطأ، كما يقترح، ففي هذه الحال قد يكون العهد الجديد عندنا قد فاته أن يشمل ضمنه بعض الأسفار “المعصومة عن الخطأ” أو لعله تضمن سفراً لم يقصد الله له أن يكون جزءًا من شهادة الكنيسة للفداء وجزءًا من قانون الإيمان والحياة الأوحد لهذا الجيل بأكمله. يؤسفني جداً اعتناق “سبرول” لهذا الرأي، بما أنه يشكك في سلطة العهد الجديد بأكمله، والتي هي منزهة عن الخطأ.
[7] Martin H. Franzmann, The Word of the Lord Grows (St. Louis, Concordia, 1961), 287-88,294-95.
[8] F. F. Bruce, The Canon of Scripture (Downer’s Grove, I11.: InterVarsity, 1988), 282.
[9] D. A. Carson, Douglas J. Moo, and Leon Morris, An Introduction to the New Testament (Grand Rapids: Zondervan, 1992), 494.
اقتباسهم هذا مأخوذ من:
Glenn W. Barker, William L. Lane, and J. Ramsey Michaels, The New Testament Speaks (San Francisco: Harper & Row, 1969), 29.,
بوسع أحدنا ذكر أيضاً:
Harold Lindsell and Charles J. Woodbridge, A Handbook of Christian Truth (Revell, 1953), 21:
“نشأ قانون العهد الجديد كما هو عندنا اليوم، تدريجياً، وليس بموجب ما آل إليه التصويت في أي مجمع كنسي معين، لكن على أساس الوعي الذي ساد الكنيسة الكونية بأن هذه الأسفار، وهذه الأسفار وحدها، كانت كلمة الله الموحى بها. أمامنا هنا مثال عظيم على قدرة الروح القدس الحافظة والمشرفة”.
[10] “The New Testament as Canon”. 181. Gaffin.
[11] أنا مدين لـ “أ. كالفن باسنر” ومحاضراته حول علم الدفاع، بالنسبة إلى العديد من الأفكار في هذا المقطع وما يليه.
[12] Louis Gaussen, “Prefatory Observations” in Theopneustia: The Inspiration of the Holy Scriptures by David Scott (Revised edition; Chicago: Bible Institute Colportage, n. d.) 5-22.