فاطمة ناعوت – حاضر عن المتّهم
فاطمة ناعوت – حاضر عن المتّهم
فاطمة ناعوت – حاضر عن المتّهم
بقلم فاطمة ناعوتلا أشاهدُ التليفزيون. تمرُّ أيامٌ وأسابيعُ دون مشاهدة هذا الجهاز سارق الأعمار مُفخِّخ العقول. ولم أشعر أبدًا أننى أخسرُ شيئًا ذا بال من عدم تشغيل ذلك الصندوق، المُغلق أبدًا فى بيتى. لكننى اكتشفتُ أن عالَمًا ثريًّا ومبهجًا قد فاتنى أن أتابعه منذ سنوات. اسمه عالم أحمد أمين.
تعرّفت عليه الأسبوع الماضى عبر لوحة جرافيكاتير رسمها له صديقى الكاتب والرسّام الساخر فيليب فكرى، مع كلمة إشادة أثارت فضولى، فأن يكتبَ فنّانٌ ساخر عن فنانٍ ساخر، مُطوِّبًا إياه، بل مانحه لقب موهوب بدرجة عبقرى، فذلك يعطى للأمر أبعادًا لابد من التوقّف عندها. فقرّرتُ البحث عن هذا الموهوب؛ علّ شيئًا خطيرًا قد فاتنى. واكتشفتُ أننى بالفعل قد فاتنى شىءٌ خطيرٌ ومحترمٌ.
لن أتكلّم فى هذا المقال عن الشقّ الكوميدى، لأنه لا يحتاج إلى تطويبى، وقد حصد من الجماهيرية الآن ما حصدَ، عن استحقاق. كوميديان يحتلّ اليوم مكانة متفرّدة فى ساحة الكوميديا، عطفًا على أنه عازفٌ موسيقىّ، عطفًا على كونه صحفيًّا وكاتب سيناريو. لكن الأخطر من كل ما سبق هو أنه مثقفٌ متأمِل.
المتأمِلُ هو الشخصُ القادر على ملاحظة ما حوله من ظواهرَ مجتمعية وطفراتٍ سلوكية وأنماط بشرية، ثم القدرة على تأمل كل ما سبق. ثم فرزه وتحليله وفكّ شفراته وتذويب طلاسمه، ثم تصنيفه وأرشفته. بعد هذا تأتى مرحلة صهر ما سبق من أعراف صلبة وتقاليد راسخة فى بوتقة العقل وإخضاعه للنقد. ثم بلورته وتصفيته وتنقيته وإعادة تجميعه. حتى تحين المرحلةُ العسرة: صفّ وجدولة ما سبق وإعادة تعريفه فى كلمات بسيطة. ثم المرحلة الأخيرة الأصعب، وفيها يتجلّى دور الموهبة التى تميّز الفنّان عن الفيلسوف. كيف تكون تلك الكلماتُ البسيطة خفيفةَ الظل، بحيث تبرح خانة الحكمة الفجّة، لتدخل حقل الاسكتش الساخر.
أما سرُّ خطورة ما سبق، فهو أنه يرسم لنا سلوكياتنا التى نكررها كل يوم بعفوية ونمطية دون أن نفكّر فيها، بريشة النقد والنقض الساخرة. فيُجبرنا على أن نقف أمام مرآةٍ، تشبه مرآة ميدوزا، التى نرى فيها عيوبنا، ولكن ليس بأسلوب النصيحة الصادمة، بل بأسلوب المزاح المرح. فنضحك على أنفسنا ونحن نتأمل ما نفعل ونكرر كل يوم. ثم نحاول أن نُهذِّب من أنفسنا ونرتقى، ونُعدّل من طقوس نفعلها منذ طفولتنا كأنها مُسلّماتٍ وفروض مجتمعية لا مجال أبدًا إلى مجرد التفكير فيها، فضلا على التفكير فى إصلاحها.
أما العمل الذى أجبرنى على كتابة هذا المقال، فهو ثمان دقائق قدّم خلالها أحمد أمين فيلمًا قصيرًا مونو- هيرو، أى فيلم الممثل الواحد. صدر هذا الفيلم وقت حكم الإخوان وتسيّد رموز التيار السلفى بازدواجيتهم وغلاظتهم ما جعل الناس تنفر من كل من يرتدون عباءة الدين. فجاء ذلك الفيلم ليُذكّر الناس بأن الإسلام برىء من أمراض تُجّاره، وليس عدلا أن نضع كل رجال الدين فى سلّة واحدة، الصالح منهم والطالح.
فى تلك الأيام، تكوّنت فى أذهان الناس صورة شوهاء عن الدين بسبب ما شهدنا من خطايا الإخوان ورموز التيار السلفى الذين تفنّنوا فى رسم صورة مقيتة لرجل الدين المُنفّر، الذى يأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه، لا سيّما بعد ضبط برلمانى سلفى فى وضع مشين مع منتقبة على الطريق الزراعى وغيرها مما فعل الإخوان من أكاذيب وخيانات ساهمت فى تشويه صورة رجل الدين فى الوعى العام. قدّم أحمد أمين شخصية أزهرى مثقف بشوش الوجه يحكى للناس عن سماحة الإسلام واحتوائه كل البشر. وكيف كان الرسول الكريم يمازح زوجاتِه وأصدقاءه، ويتسابق مع السيدة عائشة، فتسبقه مرّة ويسبقها مرّة. وأنه- عليه الصلاة والسلام- لم يكن فظًّا ولا غليظ القلب، عكس الكثير من رجال الدين اليوم، للأسف. لاحظ الشيخُ الداعية انصراف الناس عن المساجد وقولهم إنهم لم يعودوا يثقون بذوى اللحى. فكتب لافتة تقول الإسلام برىء من المُنفّرين، دار بها فى الطرقات ليقرأها المارّة والسابلة. يبدأ الفيلم بآذان الفجر يصدح من مآذن القاهرة، والشوارع شبه خالية. يشاهد الشيخ فى طريقه للمسجد سيارةً معطلة، يتدلّى من مرآة صالونها صليبٌ خشبى.
يقوم الشيخُ الطيب بدفعها، ثم يُلوّح لسائقها المسيحىّ الذى شكره ومضى. وينتهى الفيلم والشيخُ جالس وحيدًا فى المسجد، حتى يدخل عليه طفلٌ صغير يجلس أمامه للتعلّم. وفى هذا إشارة إلى الغد المشرق الذى سيعود فيه الناسُ لسماحة الدين ونبذ العنف والطائفية التى لا تنمّ إلا عن نقص هائل فى الإيمان. أما العبقرية، فكانت فى عنوان الفيلم: حاضر عن المتهم. كأنما هذا الشيخ السمح، بما يقدمه للناس من محبة وبشاشة وإبراز رحمة الدين ورحابته، هو الحاضر مع المتهم البرىء: الإسلام، ليقدّم دليلَ براءته، مما ألصقه به الارتزاقيون. تحية احترام لهذا الفنان المثقف.