النبوة الكتابية – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس
النبوة الكتابية – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس
النبوة الكتابية – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس
المبدأ الإرشادي: لكي تفهم النبوات المستقبلية في الكتاب المقدس، يجب مراعاة الإرشادات الكتابية بأمانة.
يمكن أن نطلق على أي نبي في الكتاب المقدس أنه متحدث رسمي باسم الله، وأي إعلان مباشر من الله في الكتاب المقدس يمكن أن نطلق عليه نبوة. وحيث أن الكتاب المقدس بأكمله هو من تأليف إلهي. يمكننا أن نطلق على الكتاب المقدس كله أنه الكلمة النبوية، وعلى كل مؤلف من مؤلفية أنه نبي. ومع ذلك، فهناك استخدام خاص لمصطلحات مثل النبوة، والنبي. فالنبوة المستقبلية بوجه خاص تحمل علامة الأصل الإلهي. والكثير من الكتاب المقدس هو عبارة عن نبوات مستقبلية.
وكما رأينا من قبل، يوجد هدفان للنبوة المستقبلية. فالهدف الرئيسي منها هو التأثير في سلوك أولئك الذين يسمعون النبوة. أما الهدف الثاني فهو يتم فقط عندما تتحقق النبوة، ويتحقق هذا الهدف بأن يبنى الإيمان، وتتعمق الثقة في الله الذي تنبأ بالأحداث بطريقة معجزية (يو 13: 19؛ 14: 29؛ 16: 4).
إن النبوة المحققة هي علامة إلهية، فالحقيقة هي أننا مدعون لتقييم أصالة وصدق النبي على أساس ما إذا كانت نبوته قد تحققت أم لا (تث 18: 22؛ إش 41: 23؛ 44: 6-8؛ حز 33: 33).
في بداية السبعينات من القرن الماضي، تلقيت نبوة مكتوبة تقول الآتي:
إن ولاية جورجيا في خطر التعرض لزلزال شديد العنف قبل نهاية أكتوبر 1972. وهذا الزلزال سيؤثر تأثيراً ضخماً على جنوب كارولينا.
هكذا يقول الرب، سيسقط الثلج هنا في كولومبيا، وفي جنوب كارولينا في مايو 1972.
وقد فهم مؤلف هذه النبوة الآثار المترتبة عليها، فقال:
إني أشعر أنني دعيت من الله لكي أكون نبياً. وأنا أطلب منك أن تحتفظ بهذا الخطاب كسجل لديك إلى أن ترى الدليل على حدوث هذه الأمور.
وحيث قد مضى عام 1972 ولم تتحقق أي من هذه النبوات أو ثبت صدقها، لم يحتاج المرء أن يأخذ بجدية النبوة الإضافية التي كانت تقول، “يقول الله أن الولايات المتحدة سوف يتم تدميرها بواسطة أحد الأعداء في غضون حوالي 10 سنوات. “فلو كانت قد أمطرت في جنوب كارولينا في مايو، لكان المرء يُنصح بأن يأخذ بجدية أية توقعات من ذلك المصدر!
وهكذا فالهدف من تحقيق النبوة هو إثبات صدق أو أصالة النبي، وبالتالي بناء الثقة في الله الذي فعل المستحيل، بأن كشف عن الأحداث قبل وقوعها. لذلك فإن نبوات العهد القديم التي تحققت في العهد الجديد بخصوص ميلاد وحياة وموت وقيامة يسوع المسيح لها قيمة هائلة في توكيد الإيمان، ليس فقط في الله الذي كشف هذه الأحداث قبل وقوعها بمئات السنين، بل أيضاً في الشخص الذي تم التنبؤ بمجيئه مسبقاً.
لكن ماذا عن النبوات التي لم تتحقق؟ قدر كبير من النبوات المستقبلية في الكتاب المقدس لم يتحقق بعد. إن القصد من الوقت الذي يسبق تحقيق النبوة هو أن تؤثر النبوة على فكر الشخص وسلوكه، وليس أن يُشبع فضوله بخصوص المستقبل. لكن لكي يكون لأي نبوة تأثير على أفكارنا وأفعالنا، يجب فهم معناها. فهل هناك أية سمات مميزة للنبوة المستقبلية في الكتاب المقدس يجب أن نفكر فيها؟ إن النبوة المستقبلية هي شكل متفرد ومتميز من التواصل، وتوجد إرشادات تساعدنا على فهم هذا الجزء من إعلان الله.
اللغة الحرفية
إن أول مبدأ إرشادي لفهم النبوة المستقبلية في الكتاب المقدس هو المبدأ الذي يقودنا في تفسير كل الكتاب المقدس: تعامل مع المقطع بمعناه البسيط والمباشر والعادي، إلا إذا كانت هناك أسباب تلزمك بغير ذلك. بكلمات أخرى، إن المقاطع النبوية، مثل أي تواصل بشري آخر، يجب التعامل معها باعتبارها حرفية إلا إذا كانت هناك أسباب تلزمنا بأن نفهمها بمعنى مجازي. وسوف نقوم هنا بمراجعة هذه الأسباب الملزمة، والتي تعتبر سليمة ومشروعة. لكن من المهم أولاً أن نبدأ بمبدأ النظر إلى اللغة المباشرة والعادية. لنفكر مثلاً في النبوة التالية:
“وأرد سبي شعبي إسرائيل فيبنون مدناً خربة ويسكنون ويغرسون كروماً ويشربون خمرها ويصنعون جنات ويأكلون أثمارها وأغرسهم في أرضهم ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم قال الرب إلهك” (عا 9: 14-15).
لا يوجد دليل في ذلك المقطع على أنه يجب التعامل مع اللغة مجازياً. ورغم أن العديد من المفسرين يتعاملون معه كذلك، إلا أنه لا توجد أسباب ملزمة هنا، سواء في القواعد العادية للغة البشرية أو في الإعلان الكتابي التالي، لفهم هذا المقطع مجازياً. فلا بد أن نبدأ بافتراض أن النبوة يجب فهمها حرفياً. لكننا عندما نبدأ بذلك ليس من الضروري أن ننتهي كذلك أيضاً، لأن قدراً كبيراً من النبوات تكون مجازية بالفعل، ولا بد أن نتمكن من التمييز بين ما هو حرفي وما هو مجازي.
اللغة المجازية
أما المبدأ الإرشادي الثاني لفهم النبوة فهو التعرف على المقاطع المجازية عن طريق اتباع القواعد العادية للغة في التمييز بين ما هو حرفي وما هو غير حرفي. وعلى سبيل المراجعة (انظر الفصل 12)، دعونا نطبق الإرشادات الثلاث الأساسية الخاصة بموضوع التنبؤ في الكتاب المقدس.
1 – بعض التعبيرات يكون من الواضح أنها مجازية لأنها ستكون غريبة لو فهمناها بطريقة حرفية. فيمكن للقمر حرفياً أن يتحول إلى بحيرة كبيرة من الدم (يؤ 2: 31)؛ ويمكن لقضيب غصن أن يخرج من إنسان (إش 11: 1)؛ ويمكن لجبل حرفي أن يصير سهلاً (زل 4: 7) – لكن ولا واحد من هذه الأشياء محتمل الحدوث. فهي على السطح، لا تبدو أنها تنبؤات حرفية لأحداث حرفية ستأتي. فقد قصدها المؤلف وفهمها قراؤها الأصليون كما نفهمها نحن اليوم، باعتبارها لغة تصويرية مجازية. وهكذا فإن مهمة المفسر هي أن يكتشف المعنى الحرفي المقصود من تلك الصورة المجازية.
كما أن الأحلام هي واحدة من طرق الإعلان في الكتاب المقدس، خاصة في التنبؤ. فعندما حلم فرعون أن هناك سبع سنابل رقيقة من الذرة ستأكل سبع سنابل قوية وحسنة، لم يستطع ولا الفرعون ولا أي واحد من رجاله أو حكمائه أو “أنبياءه” أن يفهم هذا الأمر باعتباره نبوة عن أمر سيتحقق حرفياً. فعلى السطح كان المقصود بها أن تشير إلى حدث بشري عادي، لذلك كان على المفسر أن يبحث عن تفسير للنبوة، لكي يجد المعنى الحرفي لصورة واضحة.
كل من سفر دانيال وسفر الرؤيا مليء بتشبيهات غريبة عن مخلوقات خيالية تشبه الحيوانات، لا توجد على الإطلاق. فعندما نتعامل مع هذه النبوات باعتبارها تشير إلى ظهور وحوش حرفية تشبه هذا الوصف، فإن هذا الأمر لا يقوم فقط بجعل عمل النبي تافهاً، ولكنه يعد كذلك احتقاراً لا يغتفر لعقل الإنسان. وهكذا فالعديد من المقاطع النبوية تكون مجازية.
2 – عندما تكون هناك تعبيرات مجازية أخرى واضحة للغاية في السياق نفسه. يخبرنا دانيال عن أربعة وحوش عظيمة خرجت من البحر. كان أولها مثل أسد بجناحي نسر؛ وكان الثاني مثل دب؛ والثالث مثل نمر بأربعة أجنحة وأربعة رؤوس؛ بينما كان الرابع شديد الغرابة بحيث لم يمكن التعرف عليه في شكل أي حيوان معروف للقارئ. فإلى أي شيء تشير هذه الكائنات؟ في السياق نفسه يقول دانيال؛ “هؤلاء الحيوانات العظيمة التي هي أربعة ملوك يقومون على الأرض”.
وعندما وقف يسوع أمام الهيكل، تنبأ قائلاً: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو 2: 19). كان يمكن أن تكون هذه نبوة لحدث حرفي، وقد فهمها سامعوه بهذه الطريقة. ولكن في السياق القريب المباشر كان يوجد تفسير لها “وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده” (ع21). وكانت النتيجة أن تلاميذه تذكروا هذه النبوة بعد تحقيقها، “فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع” (ع 22).
كما فسر يوحنا العديد من الرموز في سفر الرؤيا. “فالكواكب السبع هي ملائكة السبع الكنائس، والمناير السبع هي سبع كنائس” (1: 20) “وجامات الذهب المملوءة بالبخور هي صلوات القديسين” (5: 8). ونفس هذا المقطع يقوم بتعريف “الأسد الخارج من سبط يهوذا، أصل داود، والحمل” باعتبارها إشارات ليسوع المسيح.
وأولئك المتسربلون بثياب بيض هم القادمون من الضيقة العظيمة، والثياب البيض هي إشارة للغفران الذي نالوه في المسيح (7: 13-14). ويطلق على أورشليم مجازياً “مصر، وسدوم” (11: 8). والتنين العظيم، أو الحية القديمة، هي إشارة لإبليس الشيطان، الذي يضل العالم (12: 9). الرؤوس السبعة هي سبعة جبال (17: 9)، والقرون العشرة هي عشرة ملوك (17: 15). والمياه هي شعوب وجموع وأمم (17: 15)، والمرأة هي المدينة العظيمة، عاصمة العالم كله (17: 18).
وهكذا فإن اللغة الرمزية غالباً ما يتم تعريفها في السياق بوضوح كامل، لذلك يجب على المفسر ألا يفرض معاني حرفية أو معاني أخرى على هذه الرموز.
3 – هناك أجزاء أخرى من الكتاب المقدس يمكن أن تعرف عبارة حرفية ظاهرياً باعتبار أن لها معنى مجازي. ليس هذه هي القاعدة العادية لفهم اللغة البشرية، ولكنها تسري هنا فقط لأن كل الكتاب المقدس هو موحى به من الله. وكما رأينا من قبل، فإن الكتب المقدسة اللاحقة يمكنها أن تفسر الكتب المقدسة السابقة بطريقة سليمة، لأن الروح القدس هو المؤلف الحقيقي خلف مؤلفي الأسفار المقدس.
لكن هذا لا يعني أنه من الصواب بالنسبة للمفسرين المعاصرين أن يأخذوا مقاطع حرفية ويفرضوا عليها معنى مجازياً. فنحن نؤمن أن الكتاب المقدس وحده هو الموحى به من الله بهذه الطريقة الفريدة. فالأشخاص الذين كتبوا الكتاب المقدس هم فقط المخولون بأن يكونوا متحدثين باسم الله في تقديم إعلان كلي الحق والصدق. أما مفسرو العصر الحالي فإنهم مستنيرون بالروح القدس، ولكن تفسيرهم قابل للخطأ، ويجب أن يكون هدفه التعرف على ما قصده المؤلف من معنى.
لكن، ما هو غير مشروع بالنسبة للمفسر المعاصر، هو أمر سليم ومشروع للغابة لابن الله، او للذين خولهم أن يكونوا متحدثين باسمه عن الإعلان الإلهي، أي الرسل في العهد الجديد. فمثلاً عندما تنبأ الله بأنه ستكون هناك عداوة بين نسل المرأة وبين نسل الحية (تك 3: 15)، فإن الفهم الحرفي لذلك سيقودنا إلى توقع أن يكون هناك حرب مستمرة بين البشر وبين الحيات، وفيها يسحق البشر رؤوس الحيات، وتقوم هي بسحق عقبه.
ومع ذلك فإن الكتب المقدس فيما بعد لا تظهر أن هناك مثل هذه المعركة بين الناس والحيات. ولكنها من ناحية أخرى، تظهر كموضوع رئيسي لها، الحرب بين الشيطان وقوى الشر، وبين قوى الله، حيث نسل حواء هم أرض المعركة. فالحية تستخدم في الكتاب المقدس كرمز للشيطان (رؤ 12: 9؛ 20: 2).
فالحقيقة أنه في رواية سفر التكوين، لم يكن الحيوان هو محور التركيز، بل قوى الظلام الشيطانية التي تجسدت في الحية. بل أن نسل المرأة، رغم أنه يصور عادة بأنه أنسال المرأة، أصيح له بالتدريج معنى خاصاً وصل إلى ذروته في تفسير بولس: “وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله لا يقول وفي أنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح” (غلا 3: 16). وقد تحقق الوعد لحواء في العهد الجديد في الشخص الذي يعبر عن هذا النسل، المسيح، المخلص الذي قهر الشيطان وسحق قوته.
ويبدو أن كل الإعلان اللاحق نبع من تلك النبوة الأصلية، وهكذا فإن الإعلان اللاحق يفسر النبوة في معناها العميق، وبآثارها الكونية.
نلاحظ مرة أخرى أن كلمة “مجازية” لا تعني “خرافية” أو أسطورية. فأعمق الحقائق يمكن التعبير عنها بلغة غير حرفية، والهدف من التفسير هو تمييز ما تشير إليه الصورة التشبيهية، لأن الشيء الذي يتم تصويره يكون له تحقيق حرفي في التاريخ. لذلك يجب أن نتعامل مع النبوات بطريقة حرفية كما تظهر، فإن لم تكن هناك أسباب تلزمنا بأن نفهمها بطريقة غير حرفية، يجب قبول المعنى الحرفي لها، وحيث أن الأسباب الملزمة مقصورة على ما سبق ذكره، فإن المفسرين المعاصرين اليوم ليسوا أحراراً في أن يعينوا معاني مجازية أو “روحية” للنبوة، لأن الكتاب المقدس نفسه هو السلطة المرجعية، وليس المفسر.
إن قيامنا بروحنة أية مفردات في الكتاب المقدس مرتبطة بمملكة العهد القديم، يشمل أية نتيجة خاصة أو أي معنى أكثر اتساعاً او ثراء، يعطيه الروح القدس لهذه المفردات، بغية تحقيق مملكة العهد القديم النموذجية، في مملكة العهد الجديد غير النموذجية، التي هي الكنيسة، سواء هنا أو فيما بعد في الأبدية.[1]
إن “مبدأ” وينجاردرن هذا غير منصوص عليه في الكتاب المقدس، وهو في الحقيقة منهج يعنى بالتحويل إلى المجازية (انظر الفصلين 3، 12). لكن هذا المنهج الخاص لا يتعامل مع كل الكتاب المقدس مجازياً، لأنه يقوم بتحويل بعض النبوات المختارة فقط إلى المجازية، وجميعها يتم التعامل معها بنفس التشبيه، باعتبار أن إسرائيل تمثل الكنيسة. وكما رأينا، لكي يكون هذا المنهج “المروحن” للأمور سليماً، يجب على مؤلف السفر الكتابي نفسه أن يعرف تعليمه باعتباره مجازياً أو أن يقوم بذلك التعريف مؤلفين لاحقين للأسفار المقدس.
فحتى لو كان يبدو أن العهد الجديد يقوم بتحويل مقطع ما من العهد القديم إلى المجازية، فإن هذا لا يعطي المفسر المعاصر الحرية في أن يتعامل مع مقاطع أخرى بنفس الطريقة. فإن قام أحد مؤلفي أسفار العهد الجديد ببناء قطاع كامل يقوم بوضوح بتحديد شيء ما في العهد القديم باعتباره مجازياً، فإن الإشارات الأخرى في العهد القديم لنفس هذا الأمر يمكن أن تكون لها سمات مجازية. فمثلاً، يتم ذكر خيمة الاجتماع وهو يضع هذا الأمر في الاعتبار. لكن بدون هذا التخويل الكتابي، يجب تفسير المقاطع الحرفية حرفياً.
دراسة الرموز
عند التفكير في النبوات المجازية، نحتاج أن نعطي اهتماماً خاصاً لموضوع “النماذج”، كقطاع رئيسي من قطاعات النبوة. تنتشر النماذج في الكتاب المقدس – وعادة ما يساء فهمها. فالشعب والطقوس، والاحتفالات، والأفعال، والأحداث، والأشياء، والمناصب (مثلاً، النبي، الكاهن، والملك) تستخدم جميعها في الكتاب المقدس كنماذج. وكما رأينا في الفصل 12، يمكن تعريف النموذج باعتباره “رمزاً نبوياً”. لذلك فلكي نفهم النماذج الكتابية، من المفيد أن نقارنها بالرموز العادية.
الرمز هو شيء يستخدم لتمثيل شيء آخر، وعادة ما يستخدم شيء مادي لتمثيل غير مادي. فمثلاً، هناك عدة رموز تمثل الكتاب المقدس. فيشار إلى الكتاب المقدس باعتباره لحم، ولبن، وخبز، ونار، وماء، وبذرة، وسيف، ونور. واللغة الرمزية، مثلها مثل صور المقارنة الأخرى، لا تحاول أن تصنع مقارنة كاملة من جميع النواحي بين العديد من نقاط التشابه، ولكنها تستخدم أمراً ما لتحديد سمة واحدة مشتركة بين الرمز والشيء الذي يرمز إليه. ومهمة المفسر هنا هي التعرف، ليس عن طريق خبرته أو ثقافته الخاصة، بل من الثقافة الكتابية، على النقطة المشار إليها.
إن عملية فهم الرموز هي أمر مهم، لأنها تكثر في الكتاب المقدس. فمثلاً، توجد أرقام رمزية في الكتاب المقدس، لكن هذا لا يعني أنه في كل مرة يستخدم فيها الرقم يكون له معنى رمزي، ومع ذلك، فغالباً ما يكون للأرقام معنى معيناً، مثلما يستخدم رقم أربعين ليرمز إلى الاختبار، ورغم ستة للإشارة إلى الإنسان، وسبعة للإشارة إلى الكمال أو الاكتمال. كما توجد رموز مادية مثل النحاس، والماء، والخميرة.
والحيوانات مثل الخروف، والكلب، والحيات، يمكن أيضاً أن تستخدم رمزياً؛ والأماكن مثل بابل أو مصر غالباً ما تستخدم رمزياً. حتى الأشخاص يمكن أن يتم استخدامهم رمزياً، فمثلاً، يرمز إبراهيم إلى الإيمان. والأحداث مثل الخروج، والطقوس الخاصة، مثل الختان، تستخدم باستمرار رمزياً.
يجب أن يتم فهم الرموز في الكتاب المقدس بنفس القواعد التي يتم بها فهم أية لغة رمزية. لكن عندما يستخدم الرمز للتنبؤ عن حدث مستقبلي، فإنه يأخذ سمة فوق طبيعية، ويشترك في طبيعة النبوة. وتستخدم المبادئ الخاصة بفهم النبوات، عندما تستخدم الرموز النبوية في الكتاب المقدس
لكن قبل أن ندرس معاً المنهج الخاص بفهم الرموز، قد يكون من المفيد أن نلاحظ الفرق بين الرموز والنماذج.
مقارنة بين الرمز والنموذج
التعريف
الرمز شيء يستخدم لتمثيل شيء آخر؛ غالباً ما يستخدم شيء مادي لتمثيل شيء غير مادي. |
| النموذج الرمز النبوي. |
الجوهر
عادة ما يمثل الرمز شيئاً مختلفاً في الجوهر عما يرمز إليه. فالكتاب والخبز متميزان تماماً في الجوهر، لكن الخبز يستخدم لكي يرمز إلى الكتاب المقدس. |
| النموذج قد يختلف في الجوهر عن الشيء المرموز إليه، كرمز عادي، ولكنه يمكن أن يكون شيئاً مشابهاً أو أن يكون هو حتى نفس الشيء. فالذبيحة الحيوانية ونظام الذبائح تم تصميمها للتنبؤ عن عمل المسيح الفدائي كذبيحة. والموت متشابه في كل من النموذج والشيء الذي يرمز إليه. فكل من ملكيصادق وداود يستخدمان كنماذج ترمز إلى المسيح، وكل من النموذج ومن يشير إليه بشر. |
العلاقات الزمنية
الرمز لا زمن له، فيمكن أن يرمز إلى شيء ماضي، أو حاضر أو مستقبل. |
| النموذج، كتعريف له، يشير إلى المستقبل. وهو عادة نموذج من العهد القديم يصور مسبقاً شيئاً عن الفداء في العهد الجديد. |
المشار إليه
قد يشير الرمز الواحد إلى أكثر من مرموز إليه. فالبذرة يمكن أن تشير إلى الكلمة (مت 13: 19) أو إلى أبناء الملكوت (مت 13: 38). ويمكن أن يشير الماء إلى التطهير، أو الشبع والرضى، أو إلى الكتاب المقدس، أو إلى يسوع. الخروف يمكن أن يرمز إلى الوداعة، أو إلى الغباء، أو إلى التضحية الطواعية. ويمكن أن تشير الحمامة إلى السلام، أو إلى عدم الضرر، أو إلى شعب الله، أو إلى الروح القدس. والحية يمكن أن ترمز إلى الشر، أو إلى الشيطان، أو إلى الحكمة. |
| النموذج يشير إلى تحقيق أمر واحد محدد، أو الشيء المرموز إليه. وعادة ما يشير النموذج الرمزي الكتابي إلى الفداء، وهكذا تستخدم خيمة الاجتماع في سفر العبرانيين. |
العناصر المتشابهة
عادة ما يقصد أن يكون هناك عنصر واحد للشبه بين الرمز والشيء المرموز إليه. وكما أشرنا من قبل، يمكن استخدام رمز واحد لكي يشابه العديد من الأشياء المختلفة الأخرى. |
| يمكن للنموذج أن يشبه عدة نواحي في المرموز إليه. والفصح هو صورة مفصلة للعديد من العناصر الخاصة بالفداء. وبالمثل، يشمل كل من نظام الذبائح وخيمة الاجتماع الكثير من الأمور المتوازية مع حق العهد الجديد. |
____________________________
لاحظ أن النموذج كثيراً ما يحتوي على رموز. فخيمة الاجتماع يتم التعامل معها في العهد الجديد باعتبارها ترمز إلى فداء المسيح. لكن يوجد في خيمة الاجتماع العديد من الرموز، مثل الماء، الذي يصور التطهير الروحي. النموذج من الناحية التعريفية، هو نبوة إلهية مخططة بوضوح. وعندما يذكر المفسر أشياء لم يتم تعيينها في الكتاب المقدس باعتبارها نماذج، ويعتبرها نماذج، فإنه بذلك يكون هو السلطة المرجعية وليس الكتاب المقدس. وهكذا تُكسر الحدود، بحيث تصبح “الروحنة” واستخدام التعبيرات الكتابية رمزياً، بابين مفتوحين إلى اساءات لا حد لها في استخدام الكتاب المقدس.
فعندما نطلق على كل شرح أو تطبيق أنه “نموذج” أو رمز، فإننا بذلك نسبغ عليه السلطة الكتابية، عندها يصبح أي نقاش غير ممكن، لأن “الله” (بحسب رأينا) هو الذي أعلن عن ذلك. إلا أن هذا المنهج يجب رفضه. من السليم تماماً أن نرى تشابهات وأن نستخدم مواد توضيحية، لكن في تلك الحالة، يجب على المفسر أن يعلن بوضوح أنه يقوم بذلك بسلطته هو، وليس بسلطة الكتاب المقدس.
إننا نقع كثيراً في إغراء تجاهل الرموز والنماذج، لكن المشكلة هي أن الكتاب المقدس مليء بالرموز. أما الإغراء المضاد فهو أن نفرح باستغلال فكرة الرموز ونقوم بارتجالها بحرية. لكننا يجب أن نرفض كلا الإغرائيين، وأن نقبل النماذج كعطية الله الصالحة التي يوجد هدف من ورائها، ونعمل باجتهاد لفهم المعاني المقصودة منها بواسطة المؤلفين. لاحظ إنني استخدم كل من الرمز والنموذج بمعانيها الفنية، أما إذا تحدثنا عن دراسة التمثيل والتشبيه والنماذج بصورة أعم وأشمل، فإن المعاني ستتسع أكثر، وربما نقوم بتعيين نفس الأفكار التي لأجلها استخدمنا المجاز والروحنة في الفصل الثالث.
لكننا نختم الآن بأن الطريقة الوحيدة السليمة للروحنة أو استخدام المجاز والرمز، هي عندما يقدم مؤلف السفر الكتابي نفسه، أو ربما مؤلف آخر من مؤلفي أسفار الكتاب المقدس اللاحقين، معنى ثان أو خفي، فإن لم يحدث ذلك، نكون ملزمين بأن نستخدم الكلمات بمعناها العادي الحرفي. وعندما يفترض المفسر أن العهد القديم مليء بالإشارات الرمزية والمجازية التي لا يقوم الكتاب المقدس نفسه بتعريفها، فإنه بذلك يقوض سلطة الكتاب المقدس.
والآن، عندما يقوم الكتاب المقدس بتعريف العبارة باعتبارها رمزاً أو نموذجاً، كيف نتعرف على المعنى؟ ما المعنى الذي قصده المؤلف، أو في حالة النماذج، ما المعنى الذي قصده الروح القدس؟ يمكننا أن نتبع في ذلك ثلاثة إرشادات:
1 – اعمل على مراعات السياق. السياق هو أمر مهم بصفة خاصة في حالة الرموز والنماذج، لأنه في السياقات المختلفة قد يكون للرمز معان مختلفة. فالسياق في متى 16: 6 يقول بوضوح أن الخميرة ترمز إلى التعليم الخاطئ. لكن، ماذا يقول السياق في متى 13: 33 عن الخميرة؟ هل امتداد ملكوت الله أمر خاطئ؟ كلا بالطبع، فالسياق هنا يشير إلى انتشار وامتداد أمر جيد.
2 – ارجع إلى أجزاء أخرى من الكتاب المقدس. كما تعلمنا، يمكن للإعلان اللاحق أن يقوم بتعريف شيء ما باعتباره رمزي، رغم أنه لم يشر إليه كذلك في مقطع العهد القديم. فحيث أن يوسف لم يتم تعريفه باعتباره نموذج للمسيح، يجب ألا يدعوه المرء كذلك. أنه أمر سليم تماماً أن نرى تشابهات بينه وبين المسيح في ارتحاله إلى مصر، وخيانة اخوته له، وبيعه، وارتقائه حتى وصوله لموضع السيادة، وروحه الغافرة.
نعم، هذه التشابهات موجودة، ولكن هناك عناصر أخرى لدى يوسف لا يمكن أن تكون مشابهة لتجربة المسيح، مثل زواجه من ابنه كاهن وثني، واختياره أسماء وثنية لأبنائه، وتكبره على اخوته، واخراجه لعائلته من أرض الموعد. بالإضافة لذلك، فقد أنشأ يوسف واحداً من أكثر الأنظمة القمعية في تاريخ البشرية. لذلك من الأفضل أن نستخدم يوسف كمثال توضيحي عن أن نستخدمه كنموذج.
فإذا استخدم جزء آخر من الكتاب المقدس كلمة ما رمزياً، فمن الصواب أن نجرب استخدام هذا الرمز في المقاطع التي لا يكون فيها المعنى واضحاً. لكن السياق نفسه هو الذي يجب أن يحدد ما إذا كان الرمز يمكن استخدامه أم لا. فمثلاً، يقال أن رقم 6 يشير إلى الإنسان (رؤ 13: 18)، لكن هل يكون له دائماً هذا الاستخدام؟ يجب على السياق أن يقرر ذلك.
وفي إشعياء 53، يرمز الغنم (بضلاله) إلى البشر، وفي نفس المقطع يرمز (بوادعته واستسلامه) إلى الرب يسوع. لذلك، عندما يستخدم مصطلح غنم بطريقة رمزية، فمن الصواب أن نسأل، أي من المعنيين هو المقصود، أم إن كان هناك معنى آخر في ذهن المؤلف.
3 – قصد المؤلف هو الذي يجب أن يسود في التعرف على معنى رمز ما، يجب أن يكون وجه التشابه متفقاً مع طبيعة الموضوع، كما كان يراه مؤلف السفر الكتابي والمتلقين المباشرين. فحيث أن العلاقة التي توصف في سفر نشيد الأنشاد، لا يتم تعريفها في أي مكان كنموذج للمسيح والكنيسة، يجب على المفسر ألا يفترض أن سليمان والروح القدس كانا يقصدان أن تكون كنموذج. ومن ناحية أخرى، يستخدم كل من العهدين القديم والجديد تشبيه الزواج لكي يعكس العلاقة النموذجية المثالية بين الله وشعبه. لذلك فمن الصواب أن نجد في نشيد الأنشاد تشابهات وشروحات للعلاقة الروحية بين الله وشعبه.
ومع ذلك، يجب على المفسر أن يتعامل مع النص بهدف محوري وهو تحديد ما كان يقصد المؤلف توصيله. فإن كان سليمان يقصد أن يكتب أنشودة عن المحبة البشرية، فيجب أن يكون هذا هو المعنى الذي يسعى المفسر إليه في كل الرموز الغنية الموجودة في السفر. وعلى أية حال، إن احتاج الأمر، يمكن الإشارة إلى التشابهات الموجودة فيه مع المحبة الإلهية، واستخدامها كتوضيح، لكن ليس كتفسير، للمعنى الذي كان يقصده سليمان.
يمكننا أن نرى هذه القاعدة اللغوية بوضوح في حالة الرموز. فعندما يخبرنا الكتاب المقدس بألا نطرح دررنا قدام الخنازير، وألا نطرح القدس للكلاب (مت 7: 6)، فإنه بذلك يؤذي مشاعر الكثيرين من معاصريه. فكيف يمكن لهذا المقطع أن يشير إلى إعطاء الحق الروحي إلى أناس ليسوا مستعدين لتلقيه بحكمة؟ وكيف يمكن أن نطلق على الناس “خنازير” أو “كلاب”؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة لا تكمن في الرمز الذي نجده في شيء معين، بل في وجه الشبه الذي كان يراه السامعون الأصليون.
ففي هذه الحالة، لم يكن سامعو يسوع يقومون بتحليل السمات الكثيرة للخنزير ويطبقوها جميعها على الشخص، بل كانوا يأخذون الصورة الشاملة بأكملها التي تشير إلى التنافر وحماقة الإتلاف في إعطاء جوهرة ثمينة إلى حيوان يعنى فقط بالطعام. إن المبدأ الإرشادي السابق للتفسير باستخدام الفهم الثقافي للمتلقي الأصلي، يكون ضرورياً للغاية في حالة الرموز، حيث تمثل الرموز الاستخدام الطبيعي للغة. كما ينطبق نفس هذا المبدأ الإرشادي على النماذج الكتابية.
فهل كان الشعب اليهودي يرى تاريخه كنموذج للرحلة الشخصية لكل مؤمن في الأجيال اللاحقة؟ وهل البرية ترمز إلى الحياة المسيحية العادية، أم أنها صورة للحياة المسيحية المنهزمة؟ وهل كنعان هي رمز للحياة المسيحية المنتصرة أم إلى السماء؟
إن التيهان في البرية، خاصة لأن هناك قدر كبير من التفسيرات المعلنة عن أهمية هذا الحدث، يمكن عن صواب أن تستخدم لتوضيح العناصر المختلفة للحياة المسيحية، لكن هذه الأحداث التاريخية لم يتم تعريفها باعتبارها نموذجاً بنفس الطريقة التي تم بها تعريف الفصح، ونظام الذبائح، وخيمة الاجتماع، والتي كانت معينة لكي تعكس أحداثاً خاصة.
لذلك فليس من الحكمة أن نستخدم هذه التطبيقات كما لو كانت تفسيرات للمعنى الذي قصده المؤلف. فأن ندعوها نماذج، فهذا يعني أننا نقصد بها أن تكون هي المعنى الذي قصده المؤلف، أو أنها معلنة إلهياً وبذلك تكون تفسيرات سلطوية. وهكذا فإن لم يعرف الكتاب المقدس شيء ما باعتباره نموذج، قد يكون من الصواب أن نستمد منه أوجه للشبه، ونستخدم هذا الشيء أو الحدث أو الشخص كتوضيح، لكن ليس أن نعينه كنموذج.
لقد درسنا بنوع من التفصيل إرشادات لتميز اللغة المجازية في النبوات المستقبلية، والإرشادات الخاصة بفهم اللغة المجازية، وخاصة النماذج. وقد كان هذا الأمر ضرورياً، لأن الكثير من النبوات يكون مجازياً، وقد تم إساءة فهم واستخدام هذه الأجزاء من الكتاب المقدس أكثر من غيرها. وسوف نتجه الآن إلى سمة معينة ومميزة للنبوة، وهي الإشارات الزمنية.
السمات الزمنية الخاصة
الكثير من التعاليم الكتابية لا زمن لها ولا تتقيد بالوقت، فمثلاً، الوصايا الأخلاقية تنطبق على جميع الناس في كل العصور والأزمنة. والرموز، كما رأينا، لا ترتبط بزمن معين. لكن النبوات المستقبلية تربط بالمستقبل. ولا يمثل ذلك مشكلة عندما يتم التنبؤ بحدث محدد، مثل موت يسوع المسيح. لكن العهد الجديد أوضح أمراً واحداً بشأن النبوات في العهد القديم: وهو أن المسيا الذي تم التنبؤ به قد جاء ومضى، أنه آت ثانية.
فنبوات العهد القديم التي ترتبط بمجيء المسيا يمكن أن تشير إما إلى مجيئه الأول، أو إلى مجيئه الثاني، أو إلى الاثنين معاً. بل الأكثر من ذلك، بعض نبوات العهد القديم التي تشير إلى حدث في المستقبل القريب، تستخدم أيضاً بواسطة العهد الجديد للإشارة إلى المسيا بعد ذلك بعدة قرون.
“وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (متى 1: 22-23).
يقول متى أن نبوة إشعياء (7: 14) كانت عن الميلاد العذراوي للمسيا، رغم أن المقطع يبدو بالنسبة لمعظم المفسرين أنه يتحدث عن ابن النبي نفسه (7: 16؛ 8: 3، 18). فكيف يمكن للنبوة أن تشير إلى كل من حدثين مستقبليين في نفس الوقت؟ هذه هي واحدة من السمات الخاصة المتعلقة بالزمن في النبوات المستقبلية.
الإشارات المتعددة
كما ناقشنا من قبل في الفصلين (1، 3)، من الصواب تماماً أن يكون لدينا أكثر من معنى واحد في العبارة، وهذه أداة شائعة ومعروفة، وهذا هو جوهر لغة الفكاهة واللغة الرمزية. ومع ذلك، إذا لم يكن الشخص يحاول أن يخادع، يجب أن يصبح المعنى الثانوي واضحاً سواء في السياق المباشر (كما في حالة المزحة، لئلا تصبح كذبة) أو في سياق أوسع. فمثلاً، يمكن إعطاء الشفرة للمتلقين بحيث يتمكنوا من فهم المعنى الثاني. ويمكن إعطاء تفسير لاحق، سواء شفهي أو بالأفعال.
يوجد نوع من الجدل فيما إذا كان لدى الأنبياء بالفعل في ذهنهم فكرة عن كل من التحقيق الأولي والتحقيق الأوسع للنبوة، أم أن الروح القدس كشف للأنبياء اللاحقين إشارة ثانية أو ثالثة. ومع ذلك، يجب أن نتفق جميعاً أنه يوجد العديد من الإشارات في بعض النبوات الكتابية، بحيث أن أي تحقيق أوسع أو ثاني للنبوة يجب أن يقوم به الروح القدس من خلال مؤلف السفر الموحى له بالروح القدس. لكن المفسر اليوم لا يتلقى إعلاناً معصوماً أو معلومات إضافية لم يتم إعلانها من خلال مؤلف السفر الكتابي.
يدعو بعض الناس تلك الإشارات المتعددة “التحقيق الجزئي”؛ فالنبوة واحدة، ولكن لها تحقيق جزئي وتحقيق أكثر كمالاً. فمن ناحية ما، يوجد فقط معنى واحد؛ ومن وجهة نظر أخرى، يوجد معنيان أو أكثر. ويتفق أنصار كلا النظرتين على أن الروح القدس لا بد أن يوضح أية إشارة إضافية للنبوة. بينما هناك آخرون يدعو هذا “تحقيق تدريجي” للنبوة. ويركزون على أن النبوة واحدة، ولكن لها تحقيق أكبر أو أوسع في وقت لاحق. يمكن تصوير هذه الظاهرة المرتبطة بالزمن في النبوة، كما هو موضح في الرسم أسفله.
دعونا الآن نفكر في بعض الأمثلة على الإشارات المتعددة.
“ يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون. حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلا: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت. قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به“. (تث 18: 15-18).
إن كانت الإشارة الأولية هي إلى يشوع، فإن الإشارة النهائية هي إلى المسيح (يو 1: 21، 45؛ 6: 14؛ أع 3: 22-23؛ 7: 37). وبالمثل، كانت مزامير داود المسيانية تشير في أغلب الأحيان إلى اختباره هو الشخصي، لكن التحقيق النهائي الكامل لها تم في نسله الذي هو المسيا. ويبدو متى 24 أنه مثال لإشارات متعددة في نبوة واحدة. فدمار أورشليم يبدو هو الأمر الواضح في الذهن، لكن التحقيق النهائي للنبوة هو مستقبلي بالتأكيد.
الإشارات المقسمة
واحدة من السمات المشابهة الأخرى المتصلة بالزمن هي ما يمكن أن نطلق عليه الإشارات المقسمة. فجزء من النبوة قد يشير إلى إحدى الأحداث المستقبلية، وجزء منها قد يشير إلى حدث آخر لاحق. ففي الإشارات المتعددة أو “التحقيق الجزئي” للنبوة، تشير نفس النبوة إلى أكثر من تحقيق واحد لها، ويكون الحدث الثاني هو الأكثر كمالاً وهو التحقيق النهائي لنفس النبوة، بينما في الإشارات المقسمة، يشير جزء من النبوة إلى حدث مستقبلي ما (قريب) والجزء الآخر من النبوة يشير إلى حدث مستقبلي آخر (أكثر بعداً). وأكثر الأمثلة الشهيرة تعبيراً عن ذلك هو النبوة الموجودة في إشعياء 61: 1-3:
“روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة فيرعون أشجار البر عرس البر للتمجيد”.
لقد تم التنبؤ في هذه النبوة بكل من سنة الرب المقبولة ويوم انتقام الرب، في نفس المقطع. لذلك فعندما قرأ الرب يسوع هذا المقطع (لو 4: 16-21)، توقف في منتصف المقطع وعلق قائلاً، “اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم” (ع21). فمن الواضح أن بقية المقطع لم يكن قد تحقق بعد، وهو لا يزال حدث مستقبلي. وهذا مثال نموذجي للإشارات المقسمة.
وبالمثل، فكر أيضاً في نبوة إشعياء عن مجيء المسيا:
“لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام”. (إش 9: 6)
مرة أخرى، نرى هنا المجيء الأول والمجيء الثاني للمسيح مدمجين في نبوة واحدة. فمن المفهوم بالطبع أن مفسري الكتاب المقدس قبل زمن المسيح لم يروا أي اختلاف أو فاصل زمني بين النبوات التي تتحدث عن مجيء المسيا الوديع الهادئ، بل وحتى المتألم، وتلك التي تتحدث عن مجيء الملك المنتصر الغالب. ليس الأمر ببساطة أن الشخص بالطبيعة يفضل الخلاص المادي من العبودية ونصرة الملك الغالب، بل أن النظرة السائدة إلى الأسفار المقدسة النبوية في زمن المسيح كانت مبنية على التركيز على ما نعرفه نحن الآن بأنه المجيء الثاني للمسيا.
لكن يجب ألا تدهشنا عناصر الإشارات المتعددة والإشارات المقسمة، فعندما يتم التنبؤ بالمستقبل، ويتم توقع سلسلة كاملة من الأحداث، فإنه من المعقول أن نرى النظرة العامة تحوي عدداً من العناصر التي يمكن التمييز بينها في وقت لاحق. وهكذا الأمر مع النبوات الكتابية. لذلك يجب أن نضع هذه السمات في اعتبارنا عند تفسير نبوة معينة، سواء تحققت بالفعل، أو لم تتحقق بعد.
لكن الميزة التي لدينا هي أننا نقف بين المجيء الأول والمجيء الثاني للمسيح، وهكذا يمكن أن يكون هناك نوع من التمييز بسهولة بين الحدثين. لكن من ناحية أخرى، يجب أن نكون مستعدين لاكتشاف أن ما يبدو في نبوة ما أنه حدث منفرد، فإنه عند تحقيقه يمكن أن ينقسم إلى عناصر متعاقبة. ولكن إذا كنا نعتقد أننا نميز بين أحداث منفصلة وأن هناك تتابع زمني معين غير مرئي بوضوح بواسطة مفسرين آخرين، فإن خبرة المفسرين قبل زمن المسيح يجب أن تنبهنا لكي نكون متضعين بشأن السلطة التي نستخدمها في تفسيرنا الخاص.
توجد مشكلة في التفاصيل العقائدية للأحداث المستقبلية وهي أن نفس هذه التفاصيل الجازمة بحسب رأينا، إذا لم تكن في مكانها الصحيح، قد تؤدي بنا إلى الضلال عندما تتكشف الأحداث بغير ما كنا نتوقعها، كما حدث في حالة الدارسين للأسفار النبوية في العهد القديم في القرن الميلادي الأول. فالحقيقة أنه عندما يثبت بطلان آراء كان يعتنقها المرء بشدة، فإن سوء الفهم الناتج يمكنه أن يقوض الإيمان بدلاً من أن يبنيه ويدعمه.
ملخص
يمكن فهم الهيكل العظيم للنبوات المستقبلية في الكتاب المقدس عندما نقوم باتباع الإرشادات التالي: ابدأ بافتراض أن النبوة يقصد أن يتم فهمها حرفياً؛ واستخدم الإرشادات الخاصة بالتعرف على الأجزاء المجازية وتفسيرها؛ وكن منتبهاً للسمات الزمنية الخاصة باحتمال وجود إشارات متعددة أو مقسمة.
وإذا قمت بالتفكير بنوع من التفصيل في الإرشادات التي ستساعدك على تفسير الهيكل الضخم للنبوات الموجودة في الكتاب المقدس، من الأفضل أن تعود إلى الفكرة الأصلية التي تتحدث عن الغرض. فالغرض الأساسي والأول للنبوات التي لم تتحقق بعد، هي أن تؤثر على الطريقة التي نفكر ونسلك بها اليوم. لهذا السبب، دعونا نركز في تفسيراتنا على تمييز كيف كان الروح القدس يقصد أن نستجيب في الأصل لتلك النبوة بالتحديد.
فإن قال المسيح أن بشارة الملكوت سوف تعلن وتمتد في كل العالم كشهادة، ثم يأتي المنتهى بعد ذلك، فما الفائدة إذاً من الجدل بشأن تتابع الأحداث المستقبلية؟ أليس من الأجدى كثيراً أن ندرس الهيكل العظيم لتعاليم العهد الجديد الخاصة بإعلان بشارة الملكوت، وأن نقوم بتلك المهمة الموكلة إلينا؟ إن حقيقة أن كل من الأحياء والموتى سيشاركون في مجد مجيء المسيح (1تس 4: 16-17)، يقصد بها أن تمنحنا تعزية عظمية، وليس أن تفرق بيننا بسبب الجدل حول التصوير الدقيق لتتابع الأحداث.
أما الهدف الآخر من النبوات، أي أن تبني إيمان الشخص عند تحققها، فهو سبب آخر يحثنا على دراسة النبوات باجتهاد. فتلك النبوات التي تحققت بالفعل، يجب أن تقوي إيمان المسيحيين وتثير التحدي لدى المتشككين وغير المؤمنين. أما النبوات التي لم تتحقق بعد، فيجب التعرف عليها، خاصة في شكلها الأوسع والأوضح، بحيث عندما تتكشف الأحداث فعلياً، يمكن أن تتوطد ثقتنا ونستجيب بطاعة لما تتطلبه منا.
مراجع مختارة للمزيد من الدراسة
المراجع العامة
- كلوز، روبرت جي، محرر. The Meaning of the Millennium: Four Views. Downers Grove, I11.: InterVarsity، 1977.
- إيركسون، ميلارد. Contemporary Options in Eschatology: A Study of the Millennium. Grand Rapids: Baker، 1977.
- لدويجسون، آر. A Survey of Bible Prophecy. Grand Rapids: Zondervan، 1973.
فحص نصوص الكتاب المقدس
- بيدرولف، ويليام إي. The Second Coming Bible. Grand Rapids: Baker، معاد طبعه 1977.
- باين، جي بارتون. Encyclopedia of Biblical Prophecy: A Complete Guide to Scriptural Predictions and Their Fulfillment. Grand Rapids: Baker، 1980.
ما قبل العصر الألفي
- فاينبيرج، تشارلز إل. Millennialism: The Two Major Views. Moody: Chicago طبعة منقحة 1980.
- كايزر، والتر سي. Back Toward the Future: Hints for Interpreting Biblical Prophecy. Grand Rapids: Baker، 1989.
- لاد، جورج إلدون. The Blessed Hope. Grand Rapids: Eerdmans، 1956.
نظرة ما بعد العصر الألفي
- هوكيما، أنتوني إيه. The Bible and the Future. Grand Rapids: Eerdmans، 1979.
- بويتنر، لورين. The Millennium Phillipsburg, N. J.، 1957.
موضوعات خاصة
- هنجسينبيرج، إي دبليو. The Christology of the Old Testament. Grand Rapids: Kregel مجلدان، معاد طبعه 1970.
- موريس، ليون. Apocalyptic. Grand Rapids, Eerdmans، 1977.
[1] إم جي وينجاردرن، The Future of the Kingdom in Prophecy and Fulfillment (Grand Rapids: Baker, 1955)، صفحة 85.