Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

اتساق وترابط الحق – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس

اتساق وترابط الحق – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس

اتساق وترابط الحق – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس

اتساق وترابط الحق – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس

المبدأ الإرشادي: اعمل على اتساق وترابط الحق المعلن.

من الخطوات الضرورية في فهم إعلان الله عن نفسه وعن مشيئته للإنسان، هو أن نأخذ أجزاء متنوعة من التعليم الكتابي في موضوع ما ونضعها جميعاً معاً في وحدة متسقة.

والخطوة الأولى لعمل دراسة موضوعية أو بناء هيكل نظامي للتعليم الكتابي، هي أن نقوم بتحليل كل مقطع وفحصه، لتحديد المعنى الذي يقصده المؤلف. ومع ذلك، فكما رأينا في الفصل السابق، عندما نقوم بدراسة عنصر واحد من الحق المعلن في مقطع واحد فقط، قد يقودنا ذلك إلى تشويه هذا الحق.

فالتناقضات، والحذف، والتركيز الخاطئ على نقاط معينة، قد يمضي دون أن نلاحظه. وعلى سبيل المثال، أن نبدأ وننهي دراستنا لشخصية الله بالمقاطع التي تتعامل فقط مع محبته، لن يعطينا ذلك فهماً كاملاً أو دقيقاً لشخص الله، إذ أن هناك صفات أخرى لله، مثل قداسته وعدله، لا بد أن نضعها في الاعتبار كذلك.

لقد تم إعطاء الكتاب المقدس لنا بواسطة الأنبياء والرسل الذين كانوا، في معظم الأحيان، يوصلون جزءاً واحداً فقط من حق الله إلى شخص محدد أو جماعة معينة. لذلك فقد جادل البعض بأن الرغبة في تنظيم كل الأجزاء المتنوعة داخل وحدة متسقة ليست ضرورية، وفي الحقيقة، قد لا تصح بالنسبة للأسفار المقدسة كما أعطاها لنا الله. فالتحليل أمر مشروع بمثل هذه النظرة؛ لكن التوليف ليس كذلك.

يعتقد البعض أن محاولة تنظيم أو توليف العناصر المتنوعة للمبدأ الكتابي أو لجميع المبادئ الكتابية ووضعها معاً، تأتي من أسلوب غربي في التفكير في تصنيفات منطقية، بينما ليس هذا هو الأسلوب الوحيد في التفكير، أو ربما لا يكون هو أفضل أساليب التفكير. لأنه إن كان كذلك، فلماذا لم يعط لنا الكتاب المقدس بصيغة نظامية؟

في الحقيقة أنه كما رأينا من قبل (في الفصل الخامس)، لا يعتبر هذا الجدل مؤسس جيداً. فلكنا نفكر عن طريق ربط أفكار جديدة بالأفكار التي قبلناها بالفعل من قبل. وقد يكون من الممكن بالنسبة للإنسان العاقل أن يعتنق فكرتين متناقضتين في نفس الوقت، بأن يبقى كل منهما منفصلة عن الأخرى في تفكيره، ولكنه يكون من المستحيل بالنسبة له أن يتعامل مع جميع مفاهيمه وأفكاره بتلك الطريقة.

جميعنا لاهوتيون نظاميون، بمعنى أن لدينا أفكاراُ متنوعة عن الله تتفق معاً بطريقة أو بأخرى. واللاهوتي الضعيف هو الشخص الذي يكون لديه نظرة محدودة أو غير صحيحة عن الله لأنه لا يعي إلا بعض من عناصر الحق المعلن، أو لأن لدينه نظرة مشوهة لله لأنه يفتقر إلى المنظور الكتابي الشامل. أما اللاهوتي الجيد من ناحية أخرى، فهو الشخص الذي يضع في اعتباره كل الحق المعلن عن الله، ويقوم بربط كل جزء فيه داخل إطار كلي واحد.

فإن كان هذا هدف جيد للدراسة الكتابية، لماذا لم يعطينا الله الحق بطريقة منظمة؟ رغم أنه ليس هناك تفسير لذلك في الكتاب المقدس، إلا أن هناك العديد من الإجابات المحتملة. أولاً، الكثير من حق الله معطى لنا بطريقة منظمة. فسفر رومية هو مثال تقليدي للعرض المنظم للحق.

 

لكن عند تعليم الأطفال، لن يكون هناك توصيل جيد للفكرة لو أن كل المنهج المعد لتعليمهم كان مقدماً في شكل كتلة واحدة من المادة المنظمة. فمن الضروري أن نبدأ من حيث هم، وأن نبني مفاهيمهم خطوة بخطوة. وبالمثل، أعلن الله عن نفسه وعن مشيئته للإنسان على مراحل، عندما كان البشر مستعدين لاستقبال تلك المعرفة.

ورغم أننا لا نستطيع أن نثبت ذلك، فإن السبب الآخر الذي لأجله كشف الله عن حقه في الكتاب المقدس بطريقة تاريخية وقصصية، هو أنه ربما كانت هذه هي أفضل طريقة يمكن بها فهمه بواسطة أكبر عدد ممكن من البشر. يتم تقديم الإعلان الكتابي في كثير من السياقات، وبصيغ متعددة، بحيث توجد في صلبه إمكانية لأن يتكلم مرات ومرات لجميع أحوال وأوضاع الناس في كل العصور.

بلا شك توجد أسباب أخرى لذلك. إلا أن ولا واحد من هذه الأسباب يعفينا من مسؤولية أن نتيقن من أننا نفهم ونميز كل ما يقصده الله لنا أن نفهمه بشأنه وبشأن إرادته. فإن الله لم يخلق العالم وبه كميات ضخمة من المنتجات الجاهزة، ولكنه قدم لنا المواد الخام، وسمح للإنسان أن يبحث في منجم كنوز خليقته. وبنفس الطريقة، قدم لنا الله في كلمته المادة الخام التي يمكن لكل الأجيال أن تستقي منها كنوز الحق.

إن دراسة الموضوعات هي لاهوت نظامي مصغر، بمعنى أن قطاعاً صغيراً فقط من كل التعليم الكتابي يتم فصله والتعامل مع كوحدة واحدة. فمثلاً، في اللاهوت النظامي لعقيدة الله، يتم تنظيم كل ما يعلمه الكتاب المقدس ويختص بشخص وعمل الله، في وحدة واحدة مستقلة، فيتم فحص جميع صفاته باستفاضة.

لكن عند الوعظ في خدمة صباح الأحد، أو في دراسة الكتاب المقدس يوم الأحد مثلاً، لا يمكن للمرء أن يتحدث عن كل صفات الله. لذلك يمكن مثلاً دراسة موضوع ثبات الله وعدم تغيره. بل يكن كذلك تضييق نطاق الموضوع، بالحديث عن معنى عدم تغير الله وأثر ذلك على معايير الأخلاق البشرية. فتتم دراسة السلوك الأخلاقي البشري كانعكاس لصفات الله، في ضوء حقيقة أن صفات الله الأخلاقية ثابتة ولا تتغير على الإطلاق.

وهكذا عند عمل لاهوت نظامي، يواجه المسيحيون أعظم اختلافاتهم. فكيف يمكن أن يوضع الحق الكتابي في صورة نظامية، بحيث نكون أقرب إلى حق الله، كما هو في الواقع المطلق، ولا نجد أنفسنا في الواقع أبعد عنه؟ هل توجد إرشادات تمكننا من الوصول إلى هدفنا في البحث عن حق الله بأكمل صورة ممكنة، مع ارتباط كل من هذه الأجزاء معاً في تناسق واتفاق؟

إني أومن بوجود مثل هذه الإرشادات، ولكن الأمر الأهم من أي مبدأ إرشادي هو المنهج الذي يتبعه الفرد في دارسة الموضوعات أو العقائد الكتابية. لذلك فإننا سنقوم بفحص المنهج اللازم لتحقيق هذا الهدف، ثم نقوم بعد ذلك بفحص الإرشادات الخاصة بتطوير لاهوت سليم فعلياً.

منهج سليم

إننا إذ نقترب من قصد الكتاب المقدس في أن نكتشف كل الحق الذي يريدنا الله أن نفهمه، سنقوم بفحص توقعاتنا واتجاهاتنا، حيث توجد حدود لما يمكننا أن نفهمه.

الهدف من الدراسة اللاهوتية

أولاً، يجب ألا تكون الدراسة اللاهوتية بحثاً أكاديمياً عقيماً عن الحق المطلق. فالله في الأغلب لا يهتم بما أعرفه، بقدر اهتمامه بهويتي، وبكيفية سلوكي. كما عبر أندرو موراي عن هذا الأمر ذات مرة قائلاً، “لم يعط الكتاب المقدس لنا لزيادة معرفتنا، بل لتغير سلوكنا”.

فالكتاب المقدس لم يقدم لنا فقط لكي يعلمنا ما يجب أن نؤمن به، وما لا نؤمن به، ولكنه أعطي لنا أيضاً لكي يوضح لنا كيف يجب أن نسلك، وما الأمور التي يجب أن نمتنع عنها (2تي 3: 16). وهكذا فكل دراستنا الكتابية يجب أن تكون لأجل غرض تطبيقها في الحياة، وتحويل الحق إلى الحياة اليومية.

لنأخذ مثلاً العقيدة الكتابية الخاصة بالنبوة. يخبرنا الكتاب المقدس عن سبب إعطاء النبوة – وهو بالطبع ليس الغرض الشائع الذي تستخدم لأجله. “أقول لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون أني أنا هو” (يو 12: 19)، “وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون” (يو 14: 29). هذا هو بوضوح الهدف من التنبؤ بعد أن تتحقق النبوة. أن نؤمن بالمسيح. لكن ماذا عن الكم الكبير من النبوات التي لم تتحقق – هل لها أي غرض بالنسبة لنا اليوم؟ النبوة هي أساساً تسبق وتخبر برسالة الله.

وليست تتنبأ بالمستقبل. فمن ضمن 164 مقطع تنبؤي في العهد الجديد (باستثناء سفر الرؤيا، المخصص بالكامل للنبوات) يرتبط 141 منها بطريقة مباشرة بالسلوك، وهي معطاة بوضوح للتأثير على السلوك وليس لزيادة المعرفة، وحوالي 23 مقطع منها فقط، معطى أساساً للإخبار عن المستقبل.

لذلك يجب أن تكون دراسة نبوات الكتاب المقدس في الأساس لأجل غرضين:

(1) دراسة النبوات التي تحققت لتوطيد إيماننا.

(2) دراسة النبوات التي لم تتحقق بعد للتأثير على سلوكنا.

يا له من أمر يريحنا من التدريبات الفكرية الشاقة، ويا لها من فائدة روحية سننالها إذا قمنا بدراسة النبوات بهذه الطريقة، وإذا فرض دارسو الكتاب المقدس أن يدرسوا لأجل هدف إشباع فضولهم، والتعرف على الأحداث المستقبلية بتخطي التعليم الأساسي الواضح للكتاب المقدس.

يا له من سلام سيشعر به الإخوة إذا رفض دارسو الكتاب المقدس أن يبنوا شركتهم مع بعضهم البعض على أساس الاعتناق الشديد لنوع معين من التفاصيل التنبؤية! فلو كان غرض الله أن يشبع فضولنا بشأن المستقبل، لكان هذا الأمر بالتأكيد لا يزيد صعوبة عن إعطائنا التعاليم الأساسية العظيمة التي يتفق عليها شعبه.

أما بالنسبة لهدفه الأساسي من إعطاء النبوات – هو أن يؤثر على سلوكنا – نجد أن تعاليم الكتاب المقدس الواضحة أكثر من كافية لهذا الأمر. “ليس لكن أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه. لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليهم وتكونون لي شهوداً” (أع 1: 7-8).

ففي مجال الدارسة الكتابية على وجه الخصوص، يمكن للمعرفة الزائدة أن تكون أمراً خطراً. فالعلم الكلي ليس مطلوباً، لكن الأمانة والإخلاص مطلوبان. وهذا يتطلب الأمانة فيما نعرفه، هذا لأننا مسؤولون بصورة خاصة أن نعيش بحسب ما نعرف (لو 12: 47-48). لذلك يجب ألا يكون السعي للحق اللاهوتي هو غاية في حد ذاته، بل وسيلة لمعرفة الله وطاعته بكمال أكثر.

الدافع وراء الدراسة اللاهوتية

لكن لو أن كل من درسوا الكتاب المقدس وضعوا تطبيق الحق كهدف بالنسبة لهم أسمى من السعي نحو الحق الافتراضي الأكاديمي، هل كانت كل الاختلافات الطائفية ستتوقف، تشفى الانقسامات المذهبية؟ كلا، وهذا لأن اتجاهات أساسية أخرى في المنهج الكتابي.

فما هو إذاً العلاج للانقسامات العميقة في جسد المسيح الواحد؟ الإجابة التي يقدمها بولس على ذلك بسيطة: العلم ينفخ ولكن المحبة تبني (1كور 8: 1)، هذا هو الحل باختصار. فالله يهتم أساساً ليس بما نعرفه، بل بهويتنا وبكيفية سلوكنا، والمحبة تتضمن كل مشيئته الخاصة بهذا الأمر. فكورنثوس الأولى 13 لم يعط فقط كمجرد وصف للمحبة، بل تم إعطاؤه أساساً كدينونة مباشرة للانقسامات التي كانت في جسد المسيح. هذا هو الحل الإيجابي: المحبة.

ولكن ليس هذا هو الحل بالكامل، إذ يوجد جانب سلبي، وهو أن العلم ينفخ، تقدم لنا الأصحاحات من 1-3 من كورنثوس الأولى، وفيلبي 2، الدواء الناجع: الاتضاع، بمعنى أن يكون لنا فكر واحد بأن يكون لنا فكر المسيح، الذي إذ كان لدينه كل شيء، أصبح لا شيء.

وهذا نموذج بسيط لتلك العملية. فبعد أن ينفخ العلم ويفرق، يأتي المسيح، الذي هو غير محدود في كل شيء – بينما نحن فارغون ومتضعون ولا ندعي لأنفسنا أية معرفة، بطموحنا الشخصي، وغيرتنا، ومحدوديتنا. ثم تأتي المحبة، ليست كعاطفة، بل كأسلوب يشمل الحياة بأكملها – والتي تستطيع أن تعمل وتغير، فيتجه بناء جسد المسيح الواحد إلى الأمام (راجع أف 4). فالمعرفة الكتابية التي لا يتم تطبيقها تدمر؛ بينما المعرفة التي تطبق تعطي حياة.

الاتجاه في الدراسة الكتابية

 الاتضاع هو واحد من العناصر الأساسية في دراسة مبادئ الكتاب المقدس. فالاتضاع يجب أن يفسح الطريق للمحبة لكي تقوم بعملها. لكن حجر الأساس في الاتضاع، وهو أن نحسب بعضنا البعض أفضل من أنفسنا (في 2: 3) – ليس سهلاً دائماً. فكيف يمكننا أن نصل إلى ذلك؟ يأتي الاتضاع فيما يختص بدراسة مبادئ وعقيدة الكتاب المقدس كنتيجة لمواجهة حقائق معينة. فالدارس المخلص للكتاب المقدس يدرك الآتي:

(1) أن الإعلان هو جزئي فقط.

(2) أننا محدودون.

(3) أننا ساقطون.

(4) أننا نحتاج ذهناً مفتوحاً.

(5) وأنه لا بد أن يكون لدينا استعداد للطاعة.

الإعلان جزئي فقط. إن الغرض من الكتاب المقدس وطبيعته المحددة هو أن يكشف، وليس أن يخفي أو يشوه أو يفرق. وكان يمكن لله بالطبع أن يكشف بوضوح عن الكثير من التفاصيل. لكن لسبب ما اختار الله ألا يكشف عن التفاصيل بمثل وضوح قيامه بذلك بالنسبة للحقائق الأساسية العظيمة. فمجد الله إخفاء بعض الأمور (أم 25: 2). “السرائر للرب إلهنا” (تث 29: 29).

وبالتأكيد أن الأمور التي يؤكد عليها الكتاب المقدس والحقائق الأساسية تقدم لنا معيناً لا ينضب، يشبعنا ويحفزنا. وهذه الأمور المعلنة هي “لنا ولبينينا إلى الأبد بجميع كلمات هذه الشريعة” (تث 29: 29). ومع ذلك، لا يرضى الإنسان بأن يترك الأمور هكذا. لذلك نرى أن الفكر المتضع هو أمر أساسي.

لماذا لم يكشف لنا الله أكثر من ذلك؟ ولماذا لم يشبع فضولنا في المعرفة؟ هذا لأن هناك بعض الأمور لا نحتاج أن نعرفها. فقد قال يسوع للتلاميذ: “ولم أقل لكم من البداية لأني كنت معكم” (يو 16: 4). عند هذه المرحلة في رحلتهم الروحية لم يكن التلاميذ في حاجة أن يعرفوا كل شيء كانوا يرغبون في معرفته.

بل الأهم من ذلك، هو أن الله لا يكشف لنا شيئاً نكون غير مستعدين لقبوله: “إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” (يو 16: 12). وهكذا يتضح أن الله كشف لنا فقط عن تلك الأجزاء القليلة، من أموره العظيمة الهائلة، والتي يعتبرها ضرورية لخيرنا.

تحدث الانقسامات الكبيرة في أغلب الأحيان لأن الناس يجادلون فيما يعتقدون أنه توازن للحق غير المعلن. فعلى سبيل المثال، كثير من أنواع اللاهوت النظامي تأخذ موضوع سيادة الله ومسؤولية الإنسان إلى ما هو أبعد من حدود الإعلان، بواسطة استخدام المنطق.

وقد علق الأسقف التقي مول على هذه المشكلة بقوله: “دعونا مثل الكتاب المقدس، “نذهب إلى كلا النقيضين”؛ عندما سنكون أقرب ما يمكن – ربما بحسب ما يسمح لنا بذلك فكرنا المحدود في الوقت الحاضر – إلى الحق الكامل وهو يتحرك ليشكل محيط الدائرة الكاملة في الله”.[1]

نحن محدودون. حتى لو كان الإعلان شاملاً، لن نستطيع أن نفهمه بالكامل، وهذا لأننا محدودون، والحق غير محدود. فأفكار الله تبعد عن أفكارنا مثل بعد السماوات عن الأرض (إش 55: 9). لذلك فإن كل حكم نقوم به هو خارج هذا النطاق. إن لدينا قصر نظر، كما أننا محدودون في الوقت والمكان والمعرفة والخبرة والقدرات العقلية.

في أول مرة طرت فيها فوق جبال بلو ريدج، أدركت قدراً ضئيلاً من الاختلاف العظيم الذي تصنعه وجهة نظر الإنسان في رؤيته للأشياء. فالسماء حقاً شديدة البعد والارتفاع عن الأرض، وبعض الجبال المعروفة التي كانت تبدو شديدة العظمة، عندما تسلقتها أو قدت السيارة فوقها، لمن يكن ممكناً التفريق بينا بعضها البعض.

وفي الحقيقة أنني سألت الملاح، بعد أن عبرنا فوق هذا الجبل، عن الزمن الذي تبقى لنا للوصول إليه! فكل ما هو كبير أو صغير، يأخذ عندئذ معنى مختلفاً تماماً. عندها سألت نفس متعجباً إن كنا قد رأينا حقاً أي شيء من المنظور الإلهي – كما يراه الله، وكما سنراه نحن في يوم من الأيام! إننا بالتأكيد لا نرى أي شيء بصورة كاملة، فمجال رؤيتنا شديد الضحالة.

وعندما نركز على أمر واحد، فإن أموراً أخرى في الواقع الحقيقي يبدو أنها تخرج من مجال تركيزنا. الله وحده في مجال رؤيته غير المحدود هو الذي يمكنه أن يرى كل الواقع أمام عينيه. يعبر سي إس لويس عن محدودية الإنسان كالتالي:

خمسة حواس؛ فكر تجريدي؛ ذاكرة انتقائية عشوائياً؛ مجموعة هائلة من المفاهيم والافتراضات المسبقة التي من فرط كثرتها لا أستطيع أن أفحص أكثر من قلة قليلة منها – بل أني لا أعيها كلها مطلقاً. فكي هو قدر الحقيقة الكلية التي يمكن لمثل هذا الجهاز أن يستوعبها؟[2]

وقد كتب إيه دبليو توزر أيضاً عن هذا الموضوع:

يقول ماثيو أرنولد أن روح الإنسان هي مرآة مشدودة على حبل، تتحول مع كل نسيم في أي اتجاه، وهي تعكس دائماً ما هو أمامها، ولكنها لا تعكس أبداً أكثر من جزء صغير من الكل.

ويختلف حجم هذه المرآة من إنسان إلى آخر. لكن لا يستطيع أي إنسان أن يستوعب البانوراما الواسعة التي تقع أمامنا وحولنا. أما الأمر الأكيد فهو أن العملاق الفكري لديه مرآة أوسع، لكن حتى أوسع هذه المرايا يعتبر صغيراً بصورة تثير الشفقة.

لكن طالما أننا نعرف أن نظرتنا للحق جزئية، يمكننا أن نحتفظ بذلك الاتضاع الفكري الذي يتناسب مع هذه الحالة؛ فبمجرد أن تكون لدينا فكرة أن نظرتنا شاملة، عندئذ نصبح لا نطاق فكرياً. وبمجرد أن نصبح مقتنعين أن نظرتنا هي الوحيدة المعقولة، عندها تموت في الحال قدرتنا على التعلم.

في رأيي أن الوحدة بين المسيحيين لن تتحقق إلا قبل المجيء الثاني بوقت قصير. فهناك العديد من العوامل التي تعمل ضدها. لكن يمكن لقدر عظيم من الوحدة أن يتحقق إذا اقتربنا جميعاً من الحق باتضاع أعمق. فلا يوجد إنسان يعرف كل شيء، سواء كان قديساً أو عالماً أو مصلحاً أو لاهوتياً.[3]

إننا نعرف بعض العلم – كأطفال (1كور 13: 9-12). اقتربت إحدى المرات من ابنتي البالغة الرابعة من العمر وصديقتها وهما تبنيان أشكالاً بالمكعبات.

وسمعتهما تتشاجران مع بعضهما البعض، “أنه ليس بيت، إنه مدرسة”

“كلا إنه ليس مدرسة، إنه بيت”.

واستمر الجدال كثيراً، فابتسمت لنفسي، ثم بدأت أتساءل، ترى كم من مرة يبتسم أبونا السماوي وهو يرى اعلاناتنا العقائدية التي في كثير من الأحيان تذهب إلى ما هو أبعد من مجال معرفتنا؟ كانت كل من الطفلتين محقة في حدود رؤيتها – عندما حاولت كل منهما بناء بيت من المكعبات، لكنهما أصبحتا غبيتان عندما حاولتا الجدل فيما هو أبعد من نطاق خبرتهما المحدود.

لكن الأخبار السارة هي أننا لن نظل أطفالاً إلى الأبد، بل سوف ننضج ونصبح بالغين. إننا لن نصبح غير محدودين بالطبع، ولكننا سنعرف أكثر كمالاً، كما صرنا معروفين، عندما لن نعد ننظر في مرآة باهتة، بل وجهاً لوجه وعيناً لعين. “يرفعون صوتهم يترنمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون” (إش 52: 8).

العقل المتضع الخاضع يرضى ويقنع عندما يصل أثناء دراسته لعقيدة ما، إلى مكان للانفصال، حيث ينفصل حق الله غير المحدود عن مجال الرؤية المحدودة ويأتي إلى ما وراء الحجاب، إلى ما هو غير محدود. عندها يكون السعي وراءه أو الحنق لانفصاله أمراً غير حكيم. فعندما يرى المرء حقاً مدى محدوديته مقابل خلفية من اللانهائية، يكون الاتضاع أمراً حتمياً، والجدل العقائدي مستحيلاً.

نحن ساقطون. إننا لسنا فقط محدودين، ولكننا ساقطون أيضاً. فالخطية قد أعمت وغطت رؤيتنا وفهمنا للإعلان الذي لدينا، لذلك فإننا قابلون للخطأ. “ومن المتوقع أن الروح القدس لا يعفي تماماً من الخطأ تلك الأذهان التي لم يطهر قلوب أصحابها بالكامل من الخطية”.[4]

إننا نختار التفسيرات التي تدعنا نفعل ما نرغب في فعله. كما أننا نقوم بتحريف وتغيير المعنى، وإلى العقلانية، إلى أن يصل الكتاب المقدس إلى أن يعني ما نريده أن يعنيه. كما أننا شديدو العناد والتشبث بآرائنا اللاهوتية. فرغباتنا الخاطئة وعنادنا يشوهان فهمنا لكلمة الله.

هذه العناصر الثلاث الأولى للاتضاع في دراسة الكتاب المقدس يجب أن تذكرنا أن الاتضاع والمحبة هي أكثر صحة وجاذبية من الجزم بالرأي بغطرسة. فالاعتراف السليم باللا أدرية أو بعدم العلم بكل ما يتخطى الحقائق المؤكدة، يحافظ على وحدة الروح بين أبناء الله، وعلى السلام الشخصي في قلب الإنسان. فلا يوجد شيء يكسر الوحدة بين الإخوة أو سلام الفرد الداخلي أكثر من الاختلاف في الرأي في المسائل التي تتعلق بعقائد الكتاب المقدس.

قال أوغسطينوس: “الوحدة، هي من الأساسيات؛ والحرية، من الأمور الثانوية؛ أما المحبة، فيجب أن تكون في كل شيء. “تأتي المشكلة بالطبع في الفصل بين الأساسيات والأمور الثانوية. فإن استطاع الفرد فقط أن يرضى بالحقائق العظيمة المعلنة بوضوح في كلمة الله، وأن يرفض أن يحرك مجرد رأي ما من وضعه في “الأمور الثانوية” إلى “الأساسيات”، فيالها من وحدة وتناغم واتساق وبركات تنتج عن مثل هذا الاتجاه!

لذلك يجب أن يكون الاتضاع فيما يتعلق بالمعرفة، اتجاهاً حتمياً عندما يواجه المرء الحقائق السابقة. ومع ذلك، فإني لم أجده حتمياً. كان يمكن أن يكون كذلك إذا كان الاتضاع هو نتيجة للمنطق وحده، ولكنه ليس كذلك، فالاتضاع هو من ثمر الروح. فمواجهة الحقائق بعقلانية هو أمر ممكن فقط بالنسبة للشخص الذي لديه قلب منكسر وتائب، والذي لديه إرادة خاضعة بالكامل لله.

نحتاج ذهناً مفتوحاً. إن التسليم الكامل هو أمر سلبي وإيجابي معاً. فسلبياً، هو يعني الانفتاح الكامل في القلب والفكر. ولكن في تطوره الكامل، لا يكون هذا الانفتاح في الذهن مجرد عقل يوافق على فكرة يتم اقتراحها، بل على العكس، إنه اتجاه متعمد يصعب تبنيه، ويصبح هو العامل المتحكم في تفكير الشخص.

مثل هذا الاتجاه الذهني لا يمكن استدعاؤه في مناسبة ما، ثم التخلي عنه عندما يحقق هدفه، بل هو عبارة عن استقامة وأمانة فكرية عميقة التأصل، تُعنى بحماس بالفحص الموضوعي لجميع البراهين لاكتشاف الحقائق واستبعاد أي شيء آخر دونها.

إن الانفتاح هو إطار فكري شديد الصعوبة في تطويره، رغم أن القليلين هم الذين يتعمدون إغلاق ذهنهم، وجميع الناس تقريباً يزعمون أن لديهم ذهن مفتوح. فأصعب شيء في الوجود هو أن يكون المرء أميناً ونزيهاً بالكامل في تفكيره الخاص، وأن يتمتع بصفاء وشفافية وسلامة الفكر.

وهذا لأن عدم الأمانة لا يكون عادة أمراً متعمداً، إذ أننا نرى الأشياء من خلال عدسات خبراتنا وتجاربنا، أو من خلال ما نقرأه ونسمعه، أو من خلال أسلوب حياتنا، أو من خلال نظام عقائدي قائم مسبقاً.

تتضح تلك الحقيقة من خلال التجربة المثيرة التي قام بها عالم بحث نفساني. فقد قام بوضع صورتين مختلفتين في مجسم، بحيث كانت العين اليسرى ترى مصارع ثيران؛ بينما ترى العين اليمنى لاعب بيسبول. ثم قام بسؤال بعض المكسيكيين وبعض الأمريكيين في التجربة أن ينظروا من خلال الجهاز ويقولوا ما رأوا.

فرأى معظم المكسيكيين مصارع الثيران، بينما رأى معظم الأمريكيين لاعب كرة البيسبول. فما في عقولنا غالباً ما يكون له علاقة بما نراه أكثر مما هو أمام أعيننا.

لذلك لا بد أن نقوم بتطوير شك سليم في أنفسنا وفي أفكارنا، ونظرة للكتاب المقدس تفصله عن فكرنا وخبرتنا الشخصية السابقة (بقدر الإمكان، بحسب ما هو متاح لنا كبشر)، لكي ندعه يتحدث ليس بما نعتقده بالفعل أو بما نريد أن نعتقده، بل بما يقوله الكتاب حقاً.

فالشك في أفكارنا الخاصة سيقودنا إلى الاستعداد لرفض حتى الأفكار التي تربينا عليها والتي اعتنقناها بعمق، وطرق المعيشة، والصداقات، والأفكار المرتبطة بهذه الأمور، دون تردد، بمجرد أن تأتي كلمة الله إلى بؤرة التركيز الواضحة.

إن القلب الخاضع المسلم لله يرغب في أن يعرف ما يقوله الكتاب المقدس، وليس ما يمكن أن نجعله يعنيه. فقبول المعنى الممكن، بدلاً من المعنى الأكيد، يتم دائماً بهدف صنع نظام ينسجم مع تفكير الشخص نفسه، لكن يجب ألا يفرض النظام على الكتاب المقدس قالبه المنطقي.

فالكتاب المقدس يعطي النظام كل ما يمكن له أن يأخذه بطريقة مشروعة، فإن احتاج النظام إلى المزيد لكي يكتمل، فيجب أن ينتظر النور الأكمل والأشمل في الأبدية. كما قال تشارلز سيميون من جامعة كامبريدج:

إن سعيي هو أن أستخرج من الكتاب المقدس ما هو موجود فيه، وليس أن أقحم عليه ما أعتقد أنه قد يكون فيه. إن لدي حماسة عظيمة لهذا الأمر، وهو ألا أتحدث أقل أو أكثر مما أعتقد أنه فكر الروح القدس في المقطع الذي أشرحه. وهكذا فإني لا أسعى لملاحقة شيء ما، ولا أتجنب أي شيء.

لا بد أن يكون لدينا استعداد للطاعة. إلا أن التسليم ليس مجرد انفتاح سلبي للذهن، ولكنه أيضاً رغبة واستعداد للإيمان والطاعة. ونرى هذا الأمر في الاتجاه الإيجابي، وهو جوع القلب الذي يسعى ويبحث عن الحق بشغف. فعندما يقترب المرء من الكتاب المقدس برغبة في التعلم والطاعة، فقط عندما يكون في وضع حرج، أو عندما يكون خائفاً من أن يقوم الكتاب بتغيير آرائه وتعديل سلوكه، فإن هذا الشخص يبرهن على عناده وقلبه غير الخاضع، ولا يمكنه أن يثق في أنه سيكتشف حق الله.

إن العقل الساعي بجدية لمعرفة الحق يفترض فرضيات جديدة ويفحصها ويختبرها بلا رحمة في الضوء الواضح لما يقوله الكتاب المقدس حقاً. فهو يقوم باستمرار بالفحص وإعادة الاختبار، ويرغب بالكامل في اكتشاف الحق الذي يتعارض مع ما يقر به التقليد. فيقوم عن عمد باستبعاد الآراء – حتى الآراء التي يتم اعتناقها بصورة واسعة – ويطلب فقط العودة إلى الأمور الموثقة بالبرهان الكتابي القوي.

فهو يخشى المستنقع الراكد للآراء المتعصبة، والعبارات والمصطلحات التقليدية التي تخفي أو تشوه العبارات الكتابية الواضحة، أو تلك التي فقدت صحتها ودقتها من خلال الاستخدام الشائع لها أو سوء استخدامها.

إن البحث المتحمس عن الحق الجوهري هو دليل على التسليم الإيجابي للقلب، الذي يعتبر والداً مسؤولاً عن مولد الاتضاع. وهذه الروح التي تسلم تسليماً غير مشروط يصحبه مواجهة أمينة للحقائق، تنتج الاتضاع. فالعقل المتضع لا يتطلع إلى العم الكلي المطلق، ولا إلى أية درجة يمكن قياسها فيه.

فهو يقوم بالبحث في الحقائق بفكر منفتح وخاضع، مدركاً الفارق بين الحقيقة القائمة وبين الأمور التي تخضع للاعتقاد أو الرأي، ويبقى كل منهما منفصلاً عن الآخر، ويقتنع بترك الأمور، التي لم يكشف عنها بوضوح، خارج مجال اليقينيات. كما يعلن المرنم عن ذلك بحكمة قائلاً: “يا رب لم يرتفع قلبي ولم تستعل عيناي ولم أسلك في العظائم ولا في عجائب فوقي. بل هدأت وسكت نفس كفطيم نحو أمه” (مز 131: 1-2).

وللتلخيص، يمكننا أن نقول إن الاتجاهات الثلاثة الأساسية لبناء نظام لاهوتي، هي:

1 – اليقين الكامل بأن المعرفة تكون مشروعة فقط عندما تقود إلى تغيير الهوية والسلوك.

2 – الوعي بأن المحبة تلخص وتجمع بين كل من الهوية والسلوك.

3 – الاتضاع العميق المبني على التسليم غير المشروط، والمواجهة الأمينة للحقائق الخاصة بمحدودية الإنسان ونظرته القاصرة والساقطة.

فبسبب السمة الجزئية للإعلان، ومحدوديتنا وقابليتنا للخطأ، وقلوبنا الخاطئة، يجب ألا نتطلع إلى الفهم الشامل لكل الحق، بل على العكس أن نؤمن بأن الأساسيات واضحة، يقول تيري: “إلى حد كبير، يعتبر معظم العهدين القديم والجديد شديد الوضوح بصفة عامة، بحيث لا يوجد مجال للجدال.

وتلك الأجزاء التي تبدو غامضة، لا تحوي أية حقيقة أو عقيدة أساسية لا تتواجد في مكان آخر بصورة أوضح”[5]. ولكي نميز ذلك الحق، سنقوم الآن بالتعرف على الإرشادات التي يجب اتباعها.

إرشادات لبناء لاهوت نظامي

ابن العقيدة الكتابية على التفسير السليم لكل نص

لا بد أن نقوم بتطبيق جميع الإرشادات التي كنا ندرسها حتى الآن، لأجل تحديد المعنى الذي قصده المؤلف في كل نص. وعملية التفسير هذه تشكل حجارة البناء لأية عقيدة أو مبدأ كتابي. هذا هو أول وأهم مبدأ إرشادي أساسي لبناء عقيدة أصيلة أو نظام عقائدي سليم.

إن الفكرة الشائعة عن العظات التي تتناول موضوعات، هي أنها تكون أكثر سهولة في إعدادها من العظات التفسيرية التي تكون مبنية مباشرة على تحليل مقاطع معينة. ومع ذلك فإن العظة أو الدراسة الموضوعية السليمة، أو البحث الذي يتعامل مع موضوع واحد من الكتاب المقدس، يكون في الحقيقة أكثر صعوبة في إعداده، حيث أنه يجب أن يتأسس على تفسير سليم لكل المقاطع التي تستخدم فيه.

بكلمات أخرى، فإن العظة التي تتعامل مع موضوع ما، لكي تكون عظة أصلية وسليمة حقاً، لا بد أن تمثل فهماً شديد الاتساع للعديد من مقاطع الكتاب المقدس. لكن بالنسبة للدراس الناضج للكتاب المقدس الذي يكون قد قام بالفعل بدراسة دقيقة لمعظم المقاطع الخاصة بالموضوع، قد لا يكون إعداد عظة موضوعية أمراً شديد الصعوبة، لكن إلى أن تتم هذه العملية الدقيقة، يجب اتخاذ الحيطة الشديدة عند تطوير وإعداد موضوع من عدة نصوص كتابية.

ابن العقيدة من خلال الكتاب المقدس بأكمله

أما ثاني مبدأ إرشادي لبناء هيكل عقائدي سليم فيهو يستخدم الإرشادات التي أوضحناها في الفصل السابق. فلا يصلح أن نبني عقيدة على مقطع واحد فقط، أو على عدد قليل من المقاطع التي تتحدث عن موضوع معين. وعلى الرغم من أن المنهج الأساسي تم عرضه في الفصل السابق، إلا أن العديد من الإرشادات تحتاج إلى أعادة توكيدها والتركيز عليها مرة أخرى.

لا بد أن يتم تجميع البيانات وتنظيمها. يجب التعرف على جميع البيانات الخاصة بالموضوع الذي تدرسه. وبعد ذلك، يجب تنظيم هذه البيانات داخل وحدة متسقة بحيث تتضح العلاقة بين العناصر المختلفة للمبدأ الكتابي. ولكي نقوم بذلك، يجب التفكير في كل المقاطع الموازية والمشابهة، وفحص كل المقاطع التي تحوي تعليماً مماثلاً، ودراسة كل المقاطع التي تحوي تعليماً مناقضاً، وتكميلها معاً.

بكلمات أخرى، كل شيء يقوله الكتاب المقدس عن هذا الموضوع لا بد من وضعه في الاعتبار وتحت الدراسة. فعندما نترك بعض المقاطع الجوهرية أو بعض عناصر الحق الذي يكشفه الله، فإن هذا يؤدي إلى تشويه ذلك الحق.

عندما يتم تجميع جميع البيانات، يجب أن يتم تنظيمها داخل وحدة متسقة حتى يمكن رصد الأمور غير المتفقة، والتعرف على الكلمات التي حذفت، والتوصل إلى التوازن الكتابي.

فمثلاً، عند التعرف على جميع التعاليم المرتبطة بموضوع أن نحيا كما عاش المسيح، يكون من الضروري أن ندرس على الأقل ثلاثة أمور رئيسية في هذا الموضوع: مقياس الله للحياة المسيحية، تدبير الله لعيش الحياة المسيحية، ومسؤولية الإنسان في التعامل مع تدبير الله. ويمكن أن يتعامل موضوع مقياس الله مع قسمين أساسيين، هما: الأخلاقيات الكتابية الشخصية والأخلاقيات الكتابية الاجتماعية.

ومن ضمن الأخلاقيات الكتابية الشخصية، يجب أن تكون المحبة واحداً ضمن العديد من المقاييس التي يجب التفكير فيها. ولكن موضوع المحبة نفسه، يتم التعامل معه في الكتاب المقدس بصورة موسعة ويتطلب دراسة دقيقة. فلكي نفهم المحبة الكتابية تماماً، لا بد أن نقوم بالتعرف على الآتي: العلاقة بين المحبة كاسم يصف كيف يشعر المرء، وبين المحبة كفعل يصف كيف يتصرف المرء؛ وكيف يجب تعريف المحبة؛ وأساس المحبة الكتابية؛ وموضوعات المحبة الكتابية؛ وبرهان المحبة؛ وحدود المحبة.

وبالتالي، يصبح هذا الأمر واحداً من ضمن العديد من العناصر الأخرى في التفكير اللاهوتي في الأخلاقيات الكتابية الشخصية، التي تعد جزءًا من موضوع أكبر عن الأخلاقيات الكتابية أو المقاييس الأخلاقية. ومرة أخرى نجد أن موضوع المقاييس الكتابية بأكمله، هو مجرد جزء فقط من الموضوع الأشمل لعيش الحياة المسيحية (عقيدة التقديس).

وفي النهاية يبدأ دارس الكتاب المقدس في بناء وحدة متناسقة من خلال أحجار البناء التي جمعها، والتي هي عبارة عن الحقائق الفردية التي اكتشفها في المقاطع المتنوعة التي قام بدراستها.

فإن لم يتم اعتبار المحبة جزءًا من مقياس الله للحياة المسيحية، أو إذا كان التعليم عن المحبة يتناول جزءًا واحداً فقط من المعلومات الكتابية عن هذا الموضوع، يمكن أن يتكون لدى المرء مقياس مشوه في التعليم الخاص بالحياة المسيحية. لذلك يجب أن يشمل المقياس التعليم الكتابي الكامل الخاص بموضوع ما، ويجب استخدام جميع البيانات المتوفرة لدينا حوله.

يجب التعامل بطريقة نظامية مع مبدأ كتابي محدد. يجب أن يرتبط المبدأ أو الموضوع الكتابي المحدد بجميع التعاليم الأخرى التي يمكن أن تؤثر على ذلك المبدأ الكتابي المعين. وبهذه الطريقة، يتم دمج النواحي المتنوعة من هذا المبدأ داخل ما يكن أن نطلق عليه لاهوت نظامي. فمثلاً، في المبدأ الكتابي الخاص بالحياة المسيحية الذي ذكرناه سابقاً، لا يمكننا أن نحصل على الفهم الكامل له بدون التفكير في النواحي الأخرى لهذا المبدأ، مثل عقيدة الخلاص.

فكيف يرتبط الغفران والتبرير والتجديد والمبادئ الكتابية الأخرى للخلاص، بالحياة المسيحية الكتابية؟ أو لنفكر مثلاً في طبيعة الله. إن كانت مشيئة الله أن يتم استعادة شبهه الأخلاقي في البشر الذين خلصهم، أليس من الضروري أن ندرس طبيعة الله الأخلاقية لكي نفهم بالكامل كيف يرغب الله أن يكون عليه الشخص المسيحي، وكيف يرغب في أن يسلك؟

لذلك فمن أجل الفهم الكامل لموضوع أو لمبدأ كتابي معين، يجب أن نربطه بكل الموضوعات الكتابية الأخرى التي تؤثر فيه.

تختلف البيانات من حيث أهميتها. ليس لجميع البيانات نفس الأهمية في بناء الموضوع أو المبدأ الكتابي إلا أن جميع البيانات الخاصة بموضوع ما يجب وضعها في الاعتبار، وذلك الموضوع يجب أن يرتبط بموضوعات أخرى تتعلق به. ومع ذلك فيجب ألا تعطى نفس الأهمية لكل نص يقدم حجر بناء في هذا المبدأ الكتابي. لذلك فهناك أربعة معايير يتم تطبيقها في تقديم أهمية البيانات التي لدينا:

1 – يجب تفضيل المقطع الواضح عن المقطع الغامض. فإن لم يكن الأمر الذي قصده المؤلف واضحاً تماماً، ويكون المفسرون عندها في حيرة بشأن معناه، عندها لا يكون هذا النص مثالياً كحجر بناء للمبدأ الكتابي. فيجب أن يرتكز ثقل المبدأ أو التعليم الكتابي على أساس صلب لتعليم واضح. فمثلاً، الآية الموجودة في 1بط 3: 19، هي آية شديدة الصعوبة في فهمهما، وتوجد في مقطع شديد الصعوبة كذلك: “الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن”.

واجه الكثيرون من المفسرين صعوبات كبيرة في التعرف على المعنى الأكيد لهذه الآية، واتفق على معناه عدد قليل من المفسرين. وهكذا، فعندما نبني مبدأ كتابي مهم مثل فكرة المطهر على مثل هذا النص الغامض، لا يكون هذا البناء على أساس صلب.

لكن دعونا نلاحظ أن كلمة غامض لا تعني “غير متفق مع نظامي”. فالمقاطع الغامضة هي تلك المقاطع التي يكون فيها المعنى غير واضح، حتى مع الاستخدام الجاد لإرشادات تفسير الكتاب المقدس. فالمقاطع التي بها هذا النوع من الغموض يجب ألا تكون هي الأساس لبناء المبدأ الكتابي.

2 – يجب إعطاء أهمية أكبر للتعاليم التي تتكرر كثيراً. ليس من الحكمة أن نبني مبدأ كتابياً على نص منفرد – رغم أنه من الحقيقي أن الله لا يحتاج أن يتكلم مرتين لكي يجعل عباراته جديرة بالثقة. لكن يجب إعطاء أهمية أكبر للتعاليم التي تتكرر كثيراً ويتم التركيز عليها في الكتاب المقدس.

“يمكن إلغاء الحجة من كل نص، أو استبعادها بصورة كبيرة، عندما تكون منفردة؛ لكن العدد الكبير والمتنوع من مثل هذه الدلائل والحجج، عندما يتم التعامل معه ككل بحيث يظهر تناسقاً واضحاً، لا يجب استبعاده.”[6]

يمكن للشاهد الموجود في أعمال 22: 16 أن يبدو وكأنه يعلم عن التجديد بالمعمودية: “والآن لماذا تتوانى. قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب”. ولكن الكم الكبير من تعاليم العهد الجديد الخاصة بأساس خلاصنا يبدو أنه يعرف الإيمان بأنه المعيار الوحيد للخلاص. وهكذا فإن العقيدة، وخاصة مثل هذه العقيدة الرئيسية، يجب أن تبنى على أساس واسع يتكون من العديد من النصوص والتوكيدات الكتابية. وهكذا فإن إجماع شهادة العديد من المقاطع يقدم أساساً صلباً للمبدأ الكتابي.

3 – التعليم المباشر والحرفي يجب أن تكون له الأولوية. يجب أن يبنى المبدأ الكتابي على أساس صلب وأكيد من المقاطع الحرفية التي تحوي تعليماً مباشراً. فيجب ألا يبنى على مقاطع مجازية أو شعرية أو تاريخية، إلا إذا كانت هذه اللغة المجازية أو تلك المقاطع التاريخية يتم تفسيرها حرفياً بواسطة الكتاب المقدس نفسه.

لذلك فليس من الضروري أن يتم استبعاد المقاطع التاريخية أو المجازية من الاعتبار في بناء المبدأ الكتابي، بل يجب أن يتم استخدامها بحذر شديد. أما بالنسبة للإرشادات الخاصة باستخدامها فسيتم دراستها فيما بعد.

4 – الإعلان اللاحق يأخذ أسبقية عن الإعلان السابق في بناء المبدأ الكتابي. رغم أنه قد لا يكون من السليم استخدام العهد الجديد كأساس لمبدأ كتابي بصورة مستقلة عن تعاليم العهد القديم، إذ أن إعلان العهد الجديد ينمو من العهد القديم، وحتى المصطلحات التي تستخدم فيه هي مشتقة في الأساس من استخدام العهد القديم لها، إلا أن العديد من تعاليم العهد القديم حلت محلها تعاليم العهد الجديد، بسبب تطور الفداء في التاريخ وتطور الإعلان في الكتاب المقدس.

لذلك يجب إعطاء أهمية أكبر للإعلان اللاحق، خاصة عندما يحل إعلان العهد الجديد محل إعلان العهد القديم، كما في حالة عمل المسيح الفدائي.

لكن هذا لا يعني أن تعليم العهد القديم يجب تركه جانباً بدون تصديق العهد الجديد عليه. ولكنه يعني حقاً أن بنية المبدأ المسيحي يجب أن تقوم أساساً على العهد الجديد وعلى تعاليم العهد القديم ومقاطعه التي تركز وتقدم أساساً لتعاليم العهد الجديد. وقد أوضح المسيح ذلك بجلاء في متى 5: 21-22: “قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم.

وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم، ومن قال لأخيه: رقا، يكون مستوجب المجمع، ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم.”

ومع ذلك فإن تعاليم العهد الجديد يمكن أن يتم فهمها بطريقة سليمة فقط عن طريق الإعلان الأسبق، كما أكد المسيح على ذلك بقوله: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل”. (متى 5: 17-18).

ينسب الكتاب المقدس لنفسه فقط الحق والسلطان، فهو لا يمنح أي منهما لأية كتابات أخرى. فالكتاب المقدس وحده هو الذي يُلزم ضمير المؤمن، والكتاب المقدس وحده هو الذي يجب أن يكون أساس كل بنية لاهوتية.

لا تبن مبدأ على استدلال أو استنتاج. إن القوى العقلية هي عطية من الله، ومهمتنا هي أن ندرس بدقة لكي نستطيع أن نتعامل بصورة سليمة مع كلمة الله. لكن حيث أن الإعلان محدود للغاية، فمن المحتم أن تظهر العديد من الفجوات في أي نظام يسعى إلى الكمال أو الشمولية. فقد يكون من المشروع أن نستنتج منطقياً العناصر المفقودة، لكن إن كان الكتاب المقدس هو سلطتنا الوحيدة، يجب ألا نستخدم الاستنتاج المنطقي مع السلطة الإلهية.

فمثلاً، يعلم الكتاب المقدس أن الله الآب هو الإله الواحد الوحيد، كما أنه يعلم كذلك أن يسوع المسيح هو ابن الله، وأن الروح القدس هو الله. فكيف يمكن لهذا التعاليم أن ترتبط ببعضها البعض؟ من الضروري أن نسعى للتوصل إلى وحدة متسقة، وأن نبني نظريات عن كيفية الربط بين الثالوث وبين الوحدة الإلهية.

الحقيقة هي أن عقيدة الثالوث هي نموذج لمثل هذا الاستنتاج، فالطريقة التي بها يرتبط الثالوث معاً في النهاية ليست معلنة في الكتاب المقدس، لذلك فإن نظرياتنا لربطهم معاً يجب أن نعتنقها باعتبارها مؤقتة أو غير نهائية.

فعند القيام ببناء لاهوت نظامي، استطاع القليلون أن يقاوموا إغراء عبور هذه الفجوة بالاستنتاجات المنطقية. لكن أن نبني بنية فوقية على استدلال مأخوذ من البيانات المحدودة في الكتاب المقدس، ثم أن نطلب الاتفاق عليها باعتبارها حق الله الأكيد، فهذا معناه أننا لا نسمح للكتاب المقدس نفسه بأن يكون هو السلطة النهائية. يعبر تيري عن هذا الأمر جيداً بقوله:

معظم الاختلافات الكبيرة في العقائد المسيحية نشأت نتيجة محاولة تعريف ما لم يعرف الكتاب المقدس.[7]

لكن الكتاب المقدس يحوي كل ما هو ضروري للخلاص؛ لذلك فإن كل ما ليس موجود فيه، ولم يتم اثباته فيه، ليس من المطلوب من أي إنسان أن يؤمن به كبند من بنود الإيمان، أو يحسب من المتطلبات الضرورية للخلاص.[8]

إنني لا أنتقص من حتمية وقيمة “ملء” نظام مبني على بيانات ومعلومات كتابية بأجزاء من المنطق إلا أننا يجب أن نصر على عدم استخدامه مع السلطة الكتابية.

لا تبن مبدأ كتابي على التقليد. من المفيد للغاية أن ندرس تاريخ العقيدة أو تاريخ عقيدة محددة. فمعظم الهرطقات تم ابتداعها بالفعل ودحضها. لكن ليس من الضروري لكل دارس للكتاب المقدس أو حتى لكل جيل، أن يعيد الكرة بدراسة هذا التاريخ مرة أخرى.

فمن الحكمة أن نبني على جهود أولئك الذين سبقونا، فإن كان اتجاه الاتضاع يميز دارس الكتاب المقدس، فإنه لن يستخف بجهود الآخرين أو يفشل في إدراك عمل الروح القدس في كنيسته. لكن في التحليل النهائي، يجب أن تبنى العقيدة على الكتاب المقدس بمفرده، وليس على تقليد ما، مهما كان قدر القداسة الذي أسبغ عليه بالزمن أو مدى سعة انتشاره.

إن المفسر النظامي لعقيدة الكتاب المقدس يتوقع منه أن يعرض، بتحديد واضح ومصطلحات دقيقة، مثل هذه التعاليم، باعتبار أن لها ضمان أكيد في كلمة الله. لذلك يجب ألا ندخل على نص الكتاب المقدس أفكار أزمنة لاحقة، أو أن نبني على أية كلمات أو مقاطع عقيدة لا تقوم بتعليمها من الأساس.[9]

لا تبن مبدأ كتابي على أية مصادر خارجية أخرى. كما رأينا من قبل، لقد تم إعطاء الكتاب المقدس لنا لأجل غرض محدد – وهو إعلان خلاص الله – فهو غير مصمم لكي يعلمنا كل ما يختص بمعرفة الله أو حتى الناس. لذلك فإن الإنسان، المخلوق على صورة الله والذي أوكل إليه أن يشارك في رعاية جزء من خليقة الله (تك 1: 28)، يجد أن مجده في أن يبحث عن المعرفة (أم 25: 2).

إلا أن مثل هذا التحقيق والتنظير التجريبي لا يمكن استخدامه بنفس السلطة باعتباره إعلان من الله، ولكنه يمكن بالتأكيد أن تكون له فائدة عملية للبشرية.

كيف يرتبط ذلك ببناء لاهوت نظامي؟ إنه أمر سليم تماماً أن نلجأ إلى التجربة البشرية والتحقيق العلمي للتحقق من التفسيرات التقليدية للكتاب المقدس. فالتفسيرات التقليدية للكتاب المقدس التي كانت تعلم أن الأرض هي مركز الكون، تم تحديها علمياً، وهكذا تم إعادة فحص الكتاب المقدس.

كما أنه أمر سليم تماماً بالنسبة للإنسان أن يدرس عملياته الذهنية وعلاقاته الاجتماعية الخاصة لكي يميز طرقاً أفضل للحياة الفعالة. ولكنه ليس من المنطقي أن يستخدم مصادر غير كتابية مثل السجلات التاريخية غير الكتابية، والنظريات العلمية، أو الخبرات البشرية لتحل محل التعليم الكتابي الواضح.

فتلك المفاهيم المأخوذة من مصادر غير كتابية يجب ألا تختلط مع البنية العقائدية كما لو كانت جزءًا من حق الله المعلن السلطوي. بعض من هذا المزج الشخصي يكون حتمياً، لكن الدارس الحريص يظل منتبهاً حتى يستعبد ذلك بقدر الإمكان. فلكي نقوم ببناء نظام سلطوي للحق الإلهي المعلن، لا بد أن نحتفظ بالبنية العقائدية، متميزة عن أية بنية علمية أو ثقافية أو تقليدية أو فكرية أخرى.

من الصواب بالنسبة لنا أن نطرح أسئلة عن الكتاب المقدس متعلقة باختبارنا البشري. فمثلاً، ربما أكون قد استنتجت من الكتاب المقدس مبدأ يقول إن الشفاء الجسدي يحدث دائماً للشخص الذي لديه إيمان. لكن بفحص اختبارات المسيحيين عامة، واختبارات الناس الذي يعلمون عن المبدأ بأكثر قوة، نكتشف أن أولئك الذين يبدو أن لديهم إيمان قوي، في معظم الأحيان، لا ينالون الشفاء.

تلك الحقيقة بمفردها يجب ألا تتسبب في جعل الشخص يرفض هذا المبدأ، وذلك لأن الخبرة البشرية ليس هي الحكم الأخير في القضية. ومع ذلك، فإنه من السليم تماماً بالنسبة للمسيحي أن يعيد فحص الكتاب المقدس لكي يرى إن كان الاعتقاد الذي يعتنقه هو تعليم كتابي بالحق أم لا.

يجب أن يعكس المبدأ الكتابي تركيزاً وتأكيداً كتابياً. إن خدمة التبشير والتعليم يجب أن تركز على تلك العناصر من الحق الكتابي التي يحتاجها السامعون أكثر. فالتعليم الكتابي القوي عن عدم التقيد بحرفية الناموس قد لا يكون مناسباً للسامع الذي يكون بالفعل غير مقيد بالشريعة، لكن التركيز في تلك الحالة يمكن أن يكون على الشريعة. لكن بالنسبة للسامع الذي لديه شعور بالذنب، يكون التعليم عن عدم التقيد بحرفية الشريعة هو الأمر الأكثر ملائمة للتركيز عليه.

وقد يكون من المستحيل الفصل تماماً بين عملية تفسير الكتاب المقدس وتطبيقه. فالسياق الحالي لدارس الكتاب المقدس يؤثر حتمياً على عمله في الكشف عن معنى الكتاب المقدس في سياقه القديم. وهكذا فالتفسير والتطبيق دائماً ما يؤثر أحدهما على الآخر. ولكن هذا التأثير يجب أن ينتج تدرجاً تصاعدياً يتجه نحو المزيد من الفهم والطاعة لمشيئة الله.

كما أن المواقف الحالية قد تطرح أسئلة على سياق الكتاب المقدس القديم، ونوع هذه الأسئلة تؤثر على الطريقة التي تأتي بها الإجابة، حتى بالنسبة لأكثر الدارسين موضوعية وحذراً. وهكذا بالنسبة للشخص الملتزم بسلطة الكتاب المقدس، فإن طاعته للحق الذي تم اكتشافه في الكتاب المقدس يعمل على الفور على تغيير موقفه الشخصي، بحيث يصبح نوع السؤال المطروح على الكتاب المقدس بعد ذلك مختلفاً عن السؤال الذي تم طرحه من قبل. لذلك فإن كل دورة من التفاعل ستقود المرء أقرب تجاه الحق.

وهكذا يؤثر السياق والمحيط الحالي على مجال تركيز المرء. ومع ذلك، في البنية العقائدية للمرء، يجب على الدارس أن يتبع الإرشادات الخاصة بالتركيز على ما يركز عليه الكتاب المقدس. فالحقيقة أنه ليس من السهل فقط، بل من الشائع أيضاً أن يتم تشويه تعاليم الكتاب المقدس ببساطة عن طريق التركيز على عنصر أو جانب واحد فقط من الحق، والفشل في التركيز على جانب آخر. وهذا بالفعل واحد من أكبر مصادر الخلافات والاختلافات الطائفية.

فمثلاً، لقد كان بولس يحاج المسيحيين في كورنثوس لأنهم كانوا يركزون كثيراً على موهبة الألسنة بحيث كانوا يشوهون العقيدة الكاملة الخاصة بالمواهب والقدرات التي يعطيها الروح القدس وخدمة الكنيسة. وهكذا فإن أي تعليم ثانوي في الكتاب المقدس، أو حتى استنتاج مبني على معلومات كتابية، يمكن أن يتم التركيز عليه بصورة كبيرة بحيث يصبح أساساً للانقسام في جسد المسيح.

دعونا نفكر أيضاً في مثال آخر. بالنسبة للمسيحي الذي يتصرف مثل غير المسيحيين، هناك عدة أمور ضرورية بالنسبة له. فهو يحتاج أن يعود إلى العلاقة التي كانت له من قبل، بالثقة في يسوع المسيح كسيد على حياته، ويطلق على هذه العودة مصطلح “اختبار الأزمة”. وهذا التحول هو أمر ضروري بالفعل، ولكن من الممكن أن يكون التركيز على هذا الالتزام والتسليم أو التوبة شديداً، بحيث يتم تجاهل بقية العقيدة الكاملة للنمو المسيحي، ويتم تشويه القوة الشاملة للتعليم الخاص بالحياة المسيحية.

ومن ناحية أخرى، من الممكن التركيز على النمو المسيحي فقط وتجاهل العلاقة الأساسية مع الله، بحيث يفترض الناس أنهم ينمون، بينما هم في الحقيقة ليسوا في وضع النمو على الإطلاق.

في هذين المثالين التوضيحيين، لم يتم تبني أي تعليم باطل داخل نظام المبادئ الكتابي، ومع ذلك فإن التركيز الخاطئ، أي الذي لم يكن هو تركيز الكتاب المقدس نفسه، يكون له نفس النتيجة النهائية – وهي تشويه الحق الكتابي.

لذلك يجب أن يتم بناء المبدأ الكتابي على الأساس الصلب لما يعلمه الكتاب المقدس، لأن هذا التعليم وحده هو الذي له سلطان من الله لكي يدعم المبدأ الكتابي. أما الاستنتاج والتقليد والخبرة البشرية والسجلات التاريخية غير الكتابية والنظريات العلمية فهي جميعها مصادر قيمة ومفيدة للمعرفة، ولكنها كلها قابلة للخطأ، ولا يمكن أن يتم دمجها كجزء من بنية المبادئ الكتابية التي لها سلطان باعتبارها الحق الإلهي المعلن.

ملخص

يمكننا أن نقوم بثقة بتجميع كل ما يعلمه الكتاب المقدس حول موضوع ما، أو كل ما يكشفه الكتاب المقدس عن الحق الإلهي، وننظمه داخل وحدة متسقة. ويمكن أن نقوم بذلك عن طريق إقامة المبدأ الكتابي على أساس:

(1) التفسير السليم لكل مقطع.

(2) على أساس الكتاب المقدس كله.

(3) وعلى أساس الكتاب المقدس وحده.

كانت الدراسة اللاهوتية في القرون السابقة تعتبر “ملكة العلوم”. وربما لا يكون هذا الأمر بعيداً تماماً عن الواقع، فالدراسة اللاهوتية للموضوعات قد لا تكون أمراً يطلبه الكتاب المقدس، ولكن الكتاب المقدس يسمح بها بالتأكيد، كما تتطلبها حالتنا البشرية.

فهي تساعدنا على فهم حق الله ومشيئته لنا بصورة أشمل، بل أنها تساعدنا أيضاً على تفسير المقاطع الفردية بدقة أكثر، لأن الكتاب المقدس يتم فحصه في ضوء بعضه البعض. “بنورك نرى نوراً” (مز 36: 9). وبرغم أن دراسة الموضوعات والمبادئ الكتابية لا تحل كل المشاكل، إلا أنها تحل بالفعل الكثير من المشاكل الظاهرية في الكتاب المقدس.

 

مراجع مختارة للمزيد من الدراسة

– ديفيز، جون جيفرسون. Handbook of Basic Bible Texts: Every Key Passage for the Study of Doctrine and Theology. Grand Rapids: Zondervan، 1984.

– إلويل، والتر إيه، محرر. Evangelical Dictionary of Theology. Grand Rapids, Baker، 1984.

– جونستون، روبر كي، محرر. The Use of the Bible in Theology: Evangelical Options, Atlanta: John Knox,، 1985.

[1] إتش سي جي مول، (London: Pickering & Inglis) Romans، صفحة 306.

[2] سي إس لويس، (London: Faber and Faber, 1961) A Grief Observed، صفحة 51.

[3] إيه دبليو توزر، Our Imperfect View of Truth, The Allianess,، 11 مارس 1959، صفحة 2.

[4] جورج سالمون، Infallibility of the Church (Grand Rapids: Baker, 1957)، صفحة 285.

[5] ميلتون إس تيري، Biblical Hermeneutics (Grand Rapids: Zondervan, 1974)، صفحة 583.

[6] نفس المرجع السابق. صفحة 587.

[7] نفس المرجع السابق، صفحة 585.

[8] نفس المرجع السابق، صفحة 583.

[9] نفس المرجع السابق.

اتساق وترابط الحق – بحث عملي تدريبي لدراسة الكتاب المقدس

Exit mobile version