كيف عرف موسى قصة الخلق حتى يسجلها؟
كيف عرف موسى قصة الخلق حتى يسجلها؟
يسأل النقاد: من أين علم موسى بقصة الخلق وجغرافية المنطقة وأسماء أسلافه حتى يسجلها في التوراة؟
وللإجابة على هذا السؤال أقول:
- أولاً يجب أن لا ننسى ما قاله الرسول بطرس: “تَكَلَّمَأُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (2بط1: 21)، ولا ما قاله الرسول بولس:” كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ…” (1تي3: 16)، فبلا شك أرشد الروح القدس موسى النبي في كتابة الأحداث التي لم يراها، وتاريخ الآباء الذين لم يعاصرهم، وحفظه من الخطأ وقت الكتابة. فإن كان الرب قد عرّفه ما سوف يحدث في المستقبل فتنبأ بالخلاص (تك3: 15)، ومجيء المخلص المسيح (تث18: 15)، أفلا يستطيع أن يعرفه بما سبق[1].
- يجب أن نعرف أنه لم يكن بين آدم وموسى إلاّ عدد قلييل من الحلقات بسبب طول أعمار الآباء، فبلا شك كان آدم يعرف كل شيء من الله، الذي طالما كان يتكلم معه، وسلمها آدم لأولاده وأحفاده وخاصة أنه عاش 930 سنة (تك5:5)، وهكذا وصلت القصة لموسى النبي، ولاسيما أن متوشالح الذي عاش 969 سنة وعاصر آدم 243 سنة، وسام عاش 600 سنة وعاصر متوشالح 98 سنة، وإسحق الذي عاش 180 سنة عاصر سام 50 سنة، ولاوي عاصر إسحق 34 سنة، وقهات بن لاوي عاش 133 سنة، الذي هو والد عمرام الذي تزوّج بنسيبته يوكابد من بنات لاوي أيضاً، وأنجبت منه موسى ثالث أولادها وأصغرهم، وبلا شك سمع موسى وهو صبي صغير معظم القصص من أمه في قصر فرعون[2]. وهنا تظهر أهمية التربية في الصِغَر. تُرى ماذ نعلم ونحكي اليوم لأبنائنا؟ وهل آباء وأمهات اليوم لديهم ما يقدموه لأولادهم؟ وهل لدينا الوقت لنحكي لهم قصص من الكتاب المقدس؟
- أما عن معرفة موسى بجغرافية المنطقة وأسماء بلاد وشعوب ما بين النهرين والممالك المجاورة، فينبغي أن لا نتجاهل أن موسى تربى في قصر فرعون ملك أعظم إمبراطورية في ذلك العصر مما أعطاه الفرصة ليعرف كل ما يحدث في العالم في عصره. ولا ننسى أن موسى تهذب بكل حكمة المصريين كما يذكر “يوسيفوس” المؤرخ اليهودي: “لقد أحضرت له ابنة فرعون أعظم أساتذة مصر في الطب والفسلفة والفن والرياضة لأنها كانت تعده للعرش”[3]. ويقول فيلو عن موسى: “كان موهوباً في الرياضيات والهندسة الجيولوجيا والشعر والموسيقى بأوزانها والفسلفة وعلم النجوم وبقية الفروع الأخرى التي اشتهر بها علماء مصر”. وقد كان موسى قائداً حربياً، وقاد حملات عسكرية ضد ليبيا والنوبة، فلا بد أنه درس جغرافية المنطقة، كما أن هناك مراسلات كانت تتم بين قصر فرعون وبين أمراء وملوك بلاد ما بين الرافدين وكان موسى يطًلِع عليها.
- بعض النقوش المكتوبة والمرسومة على الفخار والجلد، فالآباء كانوا يعتنون بتدوين الحوادث بأحسن إحكام، فالقدماء عرفوا الكتابة حتى قبل زمن إبراهيم في أور الكلدانيين، ومن المرجح أن إبراهيم خليل الله كان ممن تعلموا الكتابة، وكتب كثيراً في أمور الخليقة وعناية الله بالبشر، وحواراته الخاصة مع الله والتي لم يسمعها ويعرفها سواه، وربما يكون موسى قد إطلع على كتابات إبراهيم عندما حملها اليهود معهم إلى مصر، والتي كُتِبَت على اللخاف (حجارة رقيقة) أو الصفاح (حجارة عريضة) أو اللَبِن الرقيق كما شُوهد في آثار أشور وبابل[4]، ويهوذا ابن يعقوب كان له خاتم يَختم به الصكوك (تك38: 18، 41: 42). وقال المؤرخ هيروديتس أن البابليين كانوا يجملون عِصياً بنقوش، وصور الأزهار، والأثمار، والطيور. وقد وُجد من الآثار البابلية والآشورية كتابات قديمة فيها نباً الخليقة والطوفان، وبرج بابل متشابهة مع ما جاء في السفر.
- يرى هاريسون (K. Harrison) أن أسلوب الكتابة على ألواح فخارية صغيرة (حتى لا يسهل كسرها) كان منتشراً في الشرق الأدنى القديم من رسائل وعقود أراضي وأملاك وتعاقدات تجارية وقوائم مواليد أيضاً.
والكلمة “مبادئ” أو “مواليد” في العبرية والواردة بالسفر هي إشارة لما سبق هذه الكلمة وليس لما ورد بعدها (قارن تك2: 4). “هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ”. فخلق السموات والأرض حدث سابق لهذه العبارة “”هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ”.
ويرى هاريسون (R.K. Harrison) أن الاسم الوارد في اللوحة ربما يكون إشارة على أنه هو كاتب اللوحة. ففي (تك6: 9) وردت العبارة “وَهذِهِ مَوَالِيدُ بَنِي نُوحٍ”، ويتساءل هاريسون: أليس من الضروري أن تكون هذه اللوحة خاصة بنوح ويكون هو كاتبها؟! (قارن أيضاً تك 10: 1) “وَهذِهِ مَوَالِيدُ بَنِي نُوحٍ” عبارة ربما تعني أن السجل السابق للأسرة كان في حوزتهم.
من الدراسة السابقة يمكن القول أن الكلمة العبرية “مبادئ” أو “مواليد” ربما تكون إشارة عن اسم الناسخ لهذه المخطوطة التي ورد في نهايتها (وليس في بدء المخطوطة)، ولم يكن مصادفة أن يتبع كاتب السفر هذا الأسلوب في الكتابة. ويرى هاريسون ووايزمان (Wisemann Harrison) أن سفر التكوين تضمن 36 أصحاحاً في إحدى عشر لوحة (مخطوطة) تمثل جميعها تاريخاً رائعاً ومجيداً عن الآباء الأول. فتناول حياتهم مكتوبة ومسجلة بدقة في بيئة وثقافة ما بين النهرين.
هذه اللوحات (المخطوطات) الإحدى عشرة هي بمثابة مصادر دقيقة لسفر التكوين (36 أصحاح الأولى) وهي كالآتي:
- أصل الكون (تك1: 1 – 2: 4).
- أصل البشرية (تك2: 5- 5: 1).
- تواريخ نوح (تك5: 3- 6: 9أ).
- تواريخ أبناء نوح (تك6: 9ب -10:1).
- تواريخ سام (تك10: 2- 11: 10أ).
- تواريخ تارح (تك11: 10ب – 11: 27أ).
- تواريخ إسماعيل (11: 27ب- 25: 12).
- تواريخ إسحق (تك25: 13- 25: 19أ).
- تواريخ عيسى (آدوم) (25: 19ب – 36: 1).
- تواريخ عيسى في جبل سعير (تك36: 2- 36: 9).
- تواريخ يعقوب (تك36: 10- 37: 2).
هذه المخطوطة تعد مواداً هامة للست والثلاثين أصحاحاً الأولى من سفر التكوين.
وقد قام موسى بجمع وترتيب هذه المواد وصياغتها من جديد في صورتها الحالية.
أما بقية أصحاحات سفر التكوين مثل حياة يوسف وقصته مع إخوته وحياته في مصر (تك37: 2ب – 50: 26) فيرجح العلماء وعلى رأسهم هاريسون أن هذه القصة كانت تتردد شفوياً من جيل إلى جيل حتى عصر موسى. ويرجح أيضاً أن موسى هو الذي قام بكتابتها وصياغتها بإرشاد الروح القدس في هذا القالب والأدبي والرائع والجميل في اللغة العبرية. وفي مواضع عديدة من الأسفار الخمسة وردت الإشارات الخاصة بأمر الرب لموسى أن يكتب ما يريده (يهوه) على ألواح حجرية (خر34: 28).
ومما لا شك فيه أن موسى استعان بخبرات المصريين في الكتابة على ورق البردي. وهناك إشارة تؤكد أنه كان يكتب على الجلود (راجع سفر العدد 5: 23- 24).
ويعتقد أن الجزء الأكبر من سفر التكوين أعيدت كتابته على نمط كتابة الألواح الأشورية (على ألواح فخارية صغيرة)، ويمكن للإنسان أن يتصور مراحل تطور أسلوب الكتابة من جيل إلى آخر، ومن ألواح فخارية إلى جلود كباش ثم ورق البردي. واهتمام المختصين والموهبين بكتابة السفر المقدس. ويعد موسى في نظر العلماء أنسب شخصية لقيامه بجمع مواد السفر وكتابتها على هذه الصورة الأدبية الرائعة، كسجل ثابت وكمرجع تاريخي هام عن أصل الخلييقة وذلك على ألواح جلدية أو على أوراق البردي.
- لقد اكتسب القرآن الكثير والكثير مما ورد في التوراه فهل كل القصص التي اقتبسها القرآن من التوراة محرفة أيضاً؟؟ وكيف صدَّق عليها القرآن؟!!
وفيما يلي نذكر بعض الاقتباسات القرآنية من سفر التكوين:
- قصة خلق العالم في ستة أيام، وخلق آدم من التراب، وعصيان آدم وحواء بالأكل من الشجرة المُنهي عنها، وطردهما من الجنة، والوعد بالخلاص (الحديد4، ص71، طه 115-124، الأعراف 19- 26، البقرة 35- 38).
- تقديم قايين وهابيل قرابينهما لله وقبول قرابين هابيل ورفض قرابين قايين، وقتل قايين لهابيل (المائدة 27- 30).
- إنذار نوح لقومه، وصُنع الفلك وسخرية قومه منه، وإدخال زوجين من الحيوانات للفلك وحدوث الطوفان إذ إنفتحت أبواب السماء ماء منهمر، وتفجرت الأرض عيوناً، ونجاة نوح ومن معه في الفلك وغرق الباقين، ثم توقف الفيضان، وجفاف الأرض، ورسو الفلك على جبل (الجودي) ونزول نوح من الفلك ونوال نوح البركة (الأعراف 59-64، يونس 71-73، هود 25-49، الأنبياء 76-77، الشعراء 105-122، العنكبوت 14، 15، الصافات 74-82، نوح 1-28، القمر 9-16، المؤمنون 23-30).
- قصة إبراهيم وإيمانه، وذهابه إلى أرض كنعان المباركة، وولادة إسماعيل (آل عمران 95، مريم 49، إبراهيم 39).
- استضافة إبراهيم للملائكة وذبح عجلاً لهم، وتبشيرهم لإبراهيم بإسحق، وضحك سارة لكبر سنها، وولادة إسحق، وامتحان الله لإبراهيم، وشروع إبراهيم في ذبح ابنه إسحق وافتداؤه بكبش (هود 69-73، الحجر 51-56، الذاريات 24-30، الأنعام 84، الصافات 100-113).
- تبكيت لوط لأهل مدينته بسبب فسادهم، وضهاب الملائكة للوط، ومحاولات القوم التعدي على الملائكة واغتصابهم، ومحاولة لوط تقديم إبنتيه للقوم لعلهم يكفون عن محاولة الاعتداء على الملائكة، ودعوة الملائكة للوط لترك المكان هو وأولاده وزوجاتهم، وإهلاك شغب سدوم، ونجاة لوط، وهلاك زوجة لوط (الأعراف 80-84، النمل 54-58، العنكبوب 28-35، الشعراء 160-174، الأنبياء 74-75، القمر33-39، هود 74-83، الحجر 57-77).
- قصة يوسف وأحلامه وحسد إخوته له، وطرحهم إياه في الجب، وكذبهم على أبيهم وإدعائهم بأن الذنب افترسه، وجاءوا له بقميصه وعليه الدم، وبيعه لقافلة تقصد مصر بدراهم بسيطة، واتهام زوجة فوطيفار ليوسف وسجنه (يوسف 1-35).
- تفسير يوسف جلما الساقي والخباز، وإخبارهما بأن الساقي سيعود ويسقي الملك، أما الخباز فسيصلب وتأكل الطير جسده، وطلب يوسف من الساقي أن يذكره لدى فرعون (يوسف 36-42).
- حلم فرعون إذ رأى سبع بقرات عجاف ياكلن سبع بقرات سمان، وسبع سنبلات يابسة تأكل سبع سنبلات خضر، وتفسير يوسف الحلم لفرعون (يوسف 43-49).
[1] – السنن القويم في تفسير اسفار العهد القديم صــ 8.
[2] – المرجع السابق صـ 7.
[3] – The New International Dictionary of The Bible, p. 357.
[4] – السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم، صـ 8-11.