مباديء تفسير الكتاب المقدس وسماته
مباديء تفسير الكتاب المقدس وسماته
إن الافتراض الأساسي بشأن الكتاب المقدس، والذي يميز المؤمنين عن غير المؤمنين، هو أن الكتاب المقدس هو إعلان الله عن نفسه وعن إرادته للإنسان. ورغم أن المسيحيين متحدين ومتفقين في هذا التأكيد الأساسي، إلا أن مضامين العبارة يتم النظر إليها بطرق مختلفة للغاية. لذلك من المهم أن نفهم هذه الاتجاهات المختلفة، وهذا لأن افتراضات الشخص المسبقة ستحدد، إلى حد كبير، كيف سيفهم ويفسر الكتاب المقدس. قام أحد المؤلفين بشرح هذا الأمر كما يلي:
يجب أن نعرف أنفسنا… فكل منها يقترب من الكتاب المقدس وينظر إليه بافتراضاته المسبقة الخاصة. هذه الافتراضات هي جزء من نظرتنا العالمية العامة، وجزء من لاهوتنا الشخصي. للوهلة الأولى يرتبط هذا بالطريقة التي ننظر بها إلى الكتاب المقدس: هل يتكون من افتراضات وأمور معصومة؟ هل هو سجل لبعض من أعمال الله؟ هل هو سجل موحى به من الله؟ هل يوجد إعلان خارج الكتاب المقدس؟ وهكذا فنظرتنا ورأينا بهذا الشأن سيحدد كيف سنتعامل مع النص. فعقولنا لا تكون فارغة عندما نقرأ أو نستمع إلى الكتاب المقدس، إذ أن ما نسمعه قد تم تحديده جزئياً بواسطة ما في عقولنا بالفعل.
وهكذا فإن افتراضاتنا المسبقة تشكل ما نفهمه. ليس من الضروري أن نجادل هنا بشأن مجموعة معينة من الافتراضات، بل أن نتوصل إلى أننا قد أصبحنا على وعي بافتراضاتنا الخاصة، بحيث أننا عندما نفهم ونفسر، نعرف كيف قد تأثرنا بها. كما أنه من المهم أيضاً أن نرى أن افتراضاتنا متسقة وثابتة، أي أننا لا نعمل بمجموعة افتراضات في بعض الأحيان بينما نعمل بمجموعة مختلفة في أحيان أخرى.[1]
إذا تم قبول الكتاب المقدس بأي معنى على أنه رسالة من الله، فإن المكان المنطقي الذي نبدأ منه سيكون أن نبحث ما إذا كان الكتاب المقدس نفسه يخبرنا بالاتجاه والنظرة التي يجب أن نتبناها في السعي لفهم معانيه أم لا. هل الكتاب المقدس في إحدى الأجزاء يقوم بتفسير معنى العبارات الموجودة في جزء آخر؟ يمكن أن نقول مثلاً أن العهد الجديد كله هو تفسير للعهد القديم. بغض النظر عما إذا كانت الوسائل التي استخدمها المسيح والرسل في تحديد معاني مقاطع العهد القديم هي نماذج يمكن أن نتبعها، فإن الافتراضات التي كانوا يعتنقونها يجب بالتأكيد أن تكون نموذجاً لنا. فما هي الافتراضات التي كان المسيح والرسل يعتنقونها إذاً بشأن تفسير العهد القديم؟
كان المسيح والرسل ينظرون إلى الكتاب المقدس على أنه وثيقة كتبها البشر بالتأكيد، ولكنها في نفس الوقت وثيقة مصدرها الله نفسه. دعونا نفحص مضامين هذين الافتراضين الأساسيين – وهما أن الكتاب المقدس هو كتاب إلهي، فهو كلمة الله، كما أنه كتاب بشري، أي أنه الكلمة من خلال بشر إلى بشر رفقائهم.
الكتاب المقدس هو كتاب فوق طبيعي في سماته
ذو سلطان
حيث أن الله هو مؤلفه، الكتاب المقدس هو كتاب ذو سلطان، فهو مطلق في سلطته بالنسبة للفكر والسلوك الإنساني. “كما قال الكتاب” هو تعبير يتكرر كثيراً في كل أنحاء العهد الجديد. فالحقيقة هي أن العهد الجديد يحوي أكثر من مائتي اقتباس مباشر من العهد القديم. بالإضافة لذلك، فإن العهد الجديد به عدد ضخم وغير محدد من التلميحات إلى العهد القديم. كما أن من كتبوا العهد الجديد، باتباع مثال يسوع المسيح، بنوا لاهوتهم على العهد القديم. فبالنسبة لكل من المسيح والتلاميذ، كان الاقتباس من الكتاب المقدس معناه حسم قضية ما.
جدير بالثقة
حيث أن الله هو مؤلفه، فإن الكتاب المقدس كله جدير بالثقة. فلا يوجد مكان ترك فيه يسوع المسيح او أي ممن كتبوا العهد الجديد مجالاً للخطأ. بل الأمر الأكيد أن المسيح والرسل قدموا إعلاناً لله ولمشيئته تخطى كثيراً ما أعلنه العهد القديم، لكن دون وجود أدنى تلميح بأي خطأ، حتى عندما تم شرح العهد الجديد بأنه يضع العهد المؤقت القديم جانباً. وحيث أن الكتاب المقدس هو كلمة الله، فإنه يعتبر جدير تماماً بالثقة في رسالته العامة الشاملة وفي كل جزء من إعلانه.
وحيث أن مصدره هو الله، فإن الكتاب المقدس أهل للثقة في جميع أجزائه بحيث أن كل أجزائه تشكل وحدة متجانسة. فقد كتب بولس قائلاً: “كل الكتاب هو موحى به من الله” (2تيموثاوس 3: 16). إن الذين كتبوا العهد الجديد قاموا بالاقتباس من كل جزء من أجزاء العهد القديم، وتقريباً من كل سفر من أسفاره. بل الأكثر من ذلك، ينظر المسيح والرسل إلى رسالة العهد القديم على أنها رسالة واحدة – رسالة الفداء.
بسبب مصدره الإلهي، يُنظر إلى العهد القديم على أنه كتاب مسيحي. كما استخدم الرسل العهد القديم على أنه أساس تعليمهم عن يسوع المسيح، وقام يسوع بعمل أمور “لكي يتم الكتاب” – فكانت هذه الصيغة سمة من سمات تعاليم يسوع. وقد اتبع من كتبوا الأناجيل ومن كتبوا الرسائل الرسولية نفس هذا المنهج.[2]
كثير من نبوات العهد القديم كانت مباشرة، مثل تلك الخاصة بموت يسوع المسيح في إشعياء 53.
لكن مثل هذه النبوة المستقبلية الواضحة وتحقيقها، نادراً ما توجد في العهد الجديد؛ فهذا هو الاستثناء وليس القاعدة… بل بدلاً من ذلك، كان الذين كتبوا العهد الجديد يبحثون عن معنى العهد القديم المتضمن بمعناه الكامل (sensus plenior) في العهد الجديد. وبهذا العمل وجدوا توافقات وقياسات وتشابهات موحية مختلفة – البعض منها أساسية جداً والبعض أقل أساسية – ولكنها جميعاً مبنية على افتراضات مؤكدة عن سيادة الله على شؤون التاريخ؛ وعن السمة المتفردة للكتاب المقدس إذ أنه موحى به من الله؛ وعن هوية يسوع بأنه هو هدف (telos) تاريخ الخلاص.[3]
سوف ندرس فيما بعد ما إذا كنا يجب أن نتبع مثال المسيح والرسل في صنع تفسيرات مجازية لتاريخ وتعاليم العهد القديم. لكن عند هذه النقطة، يكفي أن نشدد على أن العهد القديم كان يعتبر، بواسطة كل من الرب يسوع نفسه ورسله، كتاب فوق طبيعي، مركزه المسيح.
الكتاب المقدس هو كتاب طبيعي في سماته
يتعامل العهد الجديد مع العهد القديم على أنه كتاب فوق طبيعي. فالعهد القديم مليء بالنبوات الخاصة بالمسيا والعهد الجديد. تلك النبوات واضحة، وقد وجدها المسيح ومن كتبوا العهد الجديد مخفاة بين طيات أحداث وكلمات العهد القديم. ومع ذلك، فإن العهد الجديد لا يتعامل مع العهد القديم على أنه فوق طبيعي بالكامل، أو على أنه كتاب “سحري”. بل يتعامل مع العهد القديم على أنه تواصل بشري، يستخدم اللغة بمعناها العام. إن من كتبوا العهد القديم كانوا غالباً معينين لذلك، فموسى وداود وإشعياء، يتم الاقتباس منهم باستمرار، بينما الأنبياء الأقل شهرة يذكر اسمهم كمصدر للإعلان. وقد عبر بطرس عن ذلك بوضوح قائلاً: “بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس”. (2بطرس 1: 21).
يكتب ريتشارد لونجنكير بشأن أسلوب يسوع في تفسير العهد القديم قائلاً:
عدة مرات في الأناجيل، يتم تصوير يسوع على أنه يفسر العهد القديم بطريقة حرفية، خاصة فيما يتعلق بالقيم الأساسية الدينية والأخلاقية. وفي تعليمه عن العلاقات البشرية، يظهر يسوع بأنه يستخدم الكتاب المقدس بطريقة مباشرة أيضاً، مع عدد قليل فقط من الاختلافات في النصوص. ففي توبيخه للفريسيين، على سبيل المثال، يقوم باقتباس خروج 20: 12، “أكرم وأمك”، و21: 17، “ومن شتم أباه او أمه يقتل قتلاً”.
وفي تأييده لعدم انفصام الزواج، يقتبس تكوين 2: 24 “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً”. كما في اليهودية بصفة عامة – فيما يتعلق بتوجه الإنسان الأساسي نحو الله – سواء كان هذا الإنسان فريسياً، أو منشقاً، أو حتى هيلينياً، وفيما يتعلق بقيم الإنسان الأخلاقية الأساسية، وبالعلاقات الإنسانية الأساسية، كان يسوع يفسر الكتاب المقدس بطريقة حرفية للغاية. فهذه الأمور لها أهمية أساسية تكلم عنا الله بوضوح تام، لذلك فقد تعامل معها يسوع ومعاصريه في اليهودية بدون توسع وتفصيل أكير.[4]
بقدر ما كان موضوع رسالته أخلاقي في الأساس، يستخدم يعقوب العهد القديم بطريقة حرفية ومباشرة. كما أن تلاوة استفانوس للتاريخ اليهودي (أعمال 7) قد تكون هي الأطول من نوعها في العهد الجديد، ولكنها تعتبر نموذجاً لأسلوب تعامل العهد الجديد مع تاريخ العهد القديم. لم يكن استفانوس يستخدم قصص التاريخ لكي يستخرج منها رسالة سرية. فالمعنى الحقيقي الذي بنى عليه جدله لا يختفي بين الحقائق التاريخية؛ بل أن الحقائق التاريخية نفسها كانت هي الهدف الحقيقي.
ليست التعاليم الكتابية الأخلاقية والتاريخ فقط هم الذين يتعامل معهم من كتبوا التاريخ المقدس بمعناهم العادي، لكن حتى في التعليم اللاهوتي، يتمسك كل من بولس وكاتب الرسالة إلى العبرانيين في معظم الأحيان بالمعنى الأصلي للمقطع. كان المسيح والرسل في كثير من الأحيان يجدون معان في العهد القديم لم يكن للقارئ العادي أن يشك بوجودها هناك، وهكذا كان يتعامل مع العهد القديم على أنه كتاب فوق طبيعي. لكن استخدامهم الأكثر للعهد القديم كان على أساس المعنى الأصلي الواضح للمقطع.
بكلمات أخرى، إن تعليم الكتاب المقدس يجب قبوله كوسيلة تواصل بشري مباشر يؤخذ بالمعنى الطبيعي.
قبل أن نفحص المبادئ المبنية على الافتراضين اللذين كان يعتنقهما المسيح والرسل – بأن الكتاب المقدس إلهي وبشري في آن واحد – يجب أن نشير إلى عدة طرق تم بها تشويه هذين الافتراضين وإساءة تطبيقهما. هناك أربعة مناهج خاطئة في التفسير الكتابي سائدة اليوم.
الأول: المنهج الطبيعي، والذي يحد معنى وأهمية الكتاب المقدي في العناصر التي تتفق مع العمليات الطبيعية، والفهم البشري. فإمكانية التأليف الإلهي والأحداث فوق الطبيعية تكون مستبعدة منذ البداية.
الثاني: المنهج فوق الطبيعي، هو يفسر كل أحداث الكتاب المقدس من وجهة نظر فوق طبيعية. وبالتالي تكون مهمة المفسر هي البحث عن عدة معاني أو عن معاني خفية، يجب أن تكتشف من خلال الحدس والخبرة الروحية. وبذلك فإن المعنى “الطبيعي” للنص يتم التقليل من شأنه او تجاهله تماماُ.
الثالث: المنهج الوجودي، هو محاولة لدمج المنهجين الأولين معاًز فهو يقبل المنهج الطبيعي، ولكنه يذهب إلى ما هو أبعد منه عن طريق تعيين الحقيقة الكتابية عن طريق التلاقي بين استجابة المفسر، وشهادة المؤلف الكتابي لاختبار ديني مماثل.
الرابع: المنهج العقائدي، وهو الأخير، وفيه يتم توفيق أي تفسير لكي يتلاءم مع نظام عقائدي محدد مسبقاً أو مع سلطة خارجية. يتم استخدام هذا المنهج غالباُ بواسطة أولئك الذين ينادون بواحد من المناهج الثلاثة السابقة. بالإضافة لذلك، بعض المؤمنين، الذين يتبنون مناهج أخرى سليمة، قد يخطئون بأن يستبعدوا عقائدياً المعنى الواضح للنص ليك يجعلوه متفقاً مع نظام معين للمبادئ، أو مع سلطة بشرية ما، أو حتى مع اختبار شخصي. القليلون هم الذين يعترفون بتبنيهم لهذا المنهج، ومع ذلك فهو شديد الانتشار، وجميعنا معرضون للسقوط في التجربة.
من الواضح أن هذه المناهج لفهم الكتاب المقدس تختلف بصورة أساسية بحيث أن المعنى الذي يجده الشخص في الكتاب المقدس يختلف بصورة جذرية من منهج لآخر. فعلى سبيل المثال، خذ مثلاً قصة غزو يشوع لأريحا (يشوع 6). المنهج الطبيعي قد يرى الرواية على أنها قصة قديمة تم اختلاقها (حيث أن الأسوار لا تسقط عادة نتيجة لأصوات الأبواق) لكي تعلمنا عن انتصار الخير على الشر، بما يخالف التوقعات.
وحيث أن المنهج فوق الطبيعي يبحث عن معنى خفي، فقد يرى في السير حول الأسوار في صمت دعوة للمسيحيين لكي يشهدوا “بسيرهم” في صمت لمدة ستة أيام في الأسبوع إلى أن يتمكن القائد (الواعظ) في يوم الأحد من إعلان البشارة، وعندها تنهدم أسوار عدم الإيمان وتسقط ويتجدد الناس. أما المنهج الوجودي فقد يركز على الدعوة إلى الإيمان الديني الشخصي الذي كان في محور اهتمام الكاتب. فالقصة بالنسبة للشخص الذي يعتنق المنهج الوجودي قد تكون مجرد أسطورة فقط، لا تحمل التفاصيل فيها أية أهمية.
أما بعض من أصحاب المنهج العقائدي فسيواجهون مشكلة خاصة بقتل أهل أريحا بحسب أمر الله – فالإله المحب لا يمكن أن يأمر أبداً بقتل أناس أبرياء. بينما آخرون منهم قد لا يواجهون مشكلة في ذلك على الإطلاق، إذ يؤمنون بأن أهل أريحا قد خلقوا لأجل اللعن والدينونة على أية حال.
تقوم الفصول من الثاني وحتى الخامس من هذا الكتاب بمناقشة، بالترتيب، العناصر الدقيقة وتلك غير الدقيقة في تفسير الكتاب المقدس، باستخدام المناهج الطبيعية، وفوق الطبيعية، والوجودية، والعقائدية. من المهم أن نبدأ بهذه النظرة الشاملة، حيث أن العديد من المفسرين اليوم يميلون نحو واحد من هذه المناهج.
إن ميزان هذا الكتاب يحدد منهجاً أساسياً لفهم وتطبيق الكتاب المقدس، بطريقة يعطي قيمة كاملة لكل من تأليفه البشري والإلهي. البعض أطلق على هذا، منهج “دراسة القواعد – التاريخي”، لكن هذا المصطلح يفترض فقط بعضاً من المبادئ الكثيرة اللازمة لفهم أساليب التواصل البشري. وهو لا يشمل على الإطلاق بُعد التواصل الإلهي الذي يعدل، في بعض النواحي، المنهج الطبيعي لفهم اللغة البشرية. ربما يمكننا أن نطلق على هذا المنهج الاسم الذي أطلقه عليه الكتاب المقدس، والذي سنسعى لأن نتبعه، وهو منهج “تحليل أسلوب التواصل البشري/الإلهي”. لكن دعونا أولاً نفكر في تلك المناهج التي تخطئ في فهم وتطبيق الكتاب المقدس عن طريق تركيزها الزائد على سمة واحدة من الكتاب المقدس على حساب سمات أخرى.
[1] إيرنس بست، From Text to Sermon: Responsible Use of thw New Testament in Preaching (Atlanta: John Knox, 1978 الصفحات 97 -99.
[2] يمكنك أن تجد دراسة جيدة لكيفية استخدام المسيح والرسل للعهد القديم، في كتاب ريتشارد لونجنيكر، Biblical Exegesis in the Apostolic Period (Grand Rapids: Eerdmans, 1975).
[3] دونالد إيه هاجنر، The Old Testament in the New Testament, In Interpreting the Word of God، تحرير صمويل جي شولتز وموريس إيه إنس (Chicago: Moody, 1976) صفحة 103.
[4] لونجنيكر، الصفحات 66-68.
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
رائحة المسيحيين الكريهة – هل للمسيحيين رائحة كريهة؟ الرد على احمد سبيع
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث