الرسالة إلى ديوجنيتوس Diognetus
الرسالة إلى ديوجنيتوس Diognetus
إن الرسالة إلى ديوجينتوس هي عبارة عن دفاع عن المسيحية كُتب على شكل رسالة موجهة إلى الوثني ذي المنصب المرموق ” ديوجينتوس” (Diognetus)، ونحن لا نعرف المزيد عن الكاتب أو المرسل إليه. ويعتقد ليتزمان (H. Leitzmann) أنه من الممكن أن يكون ديوجينتوس هو نفسه المعلم الخاص بالإمبراطور ماركوس أوريليوس. أما زمن الكتابة فهو محل تخمين.
وهناك الكثير من الأمور المشتركة بين محتوى الرسالة إلى ديوجينتوس وكتابات أرستيدس، لكن لا يبدو أن الرسالة تعتمد عليها بشكل مباشر. ومن ناحية أخرى، استخدم الكاتب كتابات إيرينيوس، وعلاوة على ذلك، يذكرنا الفصل (7: 1-5) بما ورد في عمل هيبوليتوس (Philosophoumena) الفصل (19: 33)، أما الفصلان (11 و12) فهما بكل بساطة خاتمة هذا العمل.
لهذا السبب اعتقد (R. H. Connolly) أن هيبوليتوس الروماني هو الكاتب، وهذا سيضع تاريخ كتابتها في بداية القرن الثالث، وهناك سبب آخر لهذا التاريخ يقترحه ما ذكره الكاتب في سياق العمل بأن المسيحية كانت قد انتشرت بالفعل في كل مكان.
وقد ظهر مؤخراً اقتراح بخصوص كاتب الرسالة، ذلك لأن (P. Andressen) يعتقد أن كوادراتس هو من كتبها، وأنها ليست إلا الدفاع المفقود الذي كتبه هذا الكاتب. وبالرغم من أنه من الصحيح أن العبارة الوحيدة التي اقتبسها يوسابيوس (Hist. Eccl. 4: 3: 2) من هذا الدفاع غير موجودة في الرسالة إلى ديوجنيتوس، إلا أن هناك فجوة بين العدد 6 والعدد 7 من الفصل السابع تنساب جداً مع الشذرة التي من دفاع كوادراتس المفقود.
كذلك تتفق المعلومات التي لدينا عن كوادراتس من كتابات يوسابيوس، وجيروم، وفوتيوس، وسلسلة الشهداء الخاصة بـ (Bede) والرسالة الأبوكريفية الموجهة من القديس يعقوب إليه، مع محتوى الرسالة إلى ديوجنيتوس. أيضاً يتفق الانطباع الذي نأخذه عن الكاتب من قراءة الرسالة إلى ديوجنيتوس مع ما نعرفه عن المدافع كوادراتس تقليدياً، أي كونه كان تلميذاً للرسل، وأنه كان يكتب مستخدماً الأسلوب الأدبي الكلاسيكي، وأنه لم يكن فقط معادياً للوثنية، بل لليهودية أيضاً.
بالإضافة إلى هذا، وكما نعرف من يوسابيوس، وجه كوادراتوس دفاعه إلى الأمبراطور هادريان؛ والحقائق التي تزودنا بها تلك الرسالة عن المرسل إليه ديوجنيتوس ستتناسب بشدة مع هذا الإمبراطور.
وأخيراً، إذا افترضنا أن كوادراتس هو نفسه كاتب الرسالة إلى ديوجنيتوس، سيكون السؤال حول أصالة الفصلين الأخيرين (الفصلين 11 و12)، الذين يشكلان معاً نوعاً من الخاتمة، هو في ضوء مختلف تماماً.
فكاتب هذه الخاتمة يسمي نفسه “تلميذ الرسل ومعلم الوثنيين”، ويبدو لـ (P. Andriessen) أنه لا يوجد كاتب كنسي آخر يمكن لهذا الوصف أن ينطبق عليه كل الإنطباق، غير أن اختلاف الأسلوب بين الفصلين الأخيرين وما سبقهما من فصول يبقى قائماً. وهكذا، تعيد فرضية (Andriessen) فتح النقاش حول كاتب الرسالة إلى ديوجنيتوس.
ولسوء الحظ، لم يبق لدينا اليوم أي مخطوطات للرسالة، فالمخطوطة الوحيدة التي كنا نمتلكها هلكت عام (1870م) عندما احترقت مكتبة ستراسبورغ أثناء الحرب الفرنسية البروسية. وكانت هذه المخطوطة، التي تعود إلى القرن الثالث عشر أو الرابع عشر، مملوكة فيما مضى لدير (Maursmuenster) الألزاسي (Alatian). وأدرجت الرسالة في هذه المخطوطة ضمن كتابات يوستينوس الشهيد. ولقد اعتمدت كل الطبعات الخاصة بالرسالة على هذه المخطوطة.
وكانت مناسبة لكتابة الرسالة هي طلب ديوجنيتوس الذي سأل صديقه المسيحي أن يمده بمعلومات عن ديانته، ويمكن للمرء أن يستنتج الأسئلة التي سألها ديوجنيتوس من مقدمة الرسالة: “أرى يا ديوجنيتوس أنك تبذل الكثير من الجهد لتتحقق من ديانة المسيحيين وتسأل بشأنهم أسئلة دقيقة جداً متأنية، إنك تسأل “من هو هذا الإله الذي يثقون به؟
وما هي نوعية عبادتهم التي تمكنهم جميعاً من أن يحتقروا العالم ويستخفوا بالموت، ولا يقيموا اعتباراً للآلهة التي يؤمن بها اليونانيون، ولا يمارسون خرافات اليهود؟ وما هو سر هذه المحبة القوية التي يكنونها لبعضهم البعض؟ ولماذا أتى هذا الدم الجديد أو الروح الجديدة إلى العالم الذي نعيش فيه في وقتنا هذا وليس قبل ذلك؟”
ويصور الكاتب (فصول 2-4) بكلمات تتوهج حماسة تفوق المسيحية على وثنية الأمميين الحمقاء وشكلية العبادة الخارجية عند اليهود. وهو في نقده للديانتين الوثنية واليهودية يستخدم براهين يمكن للمرء أن يجدها بالفعل في كتابات المدافقين اليونانيين.
وأفضل جزء من الرسالة هو التقرير الذي يصف فيه الكاتب الحياة الفائقة للطبيعة التي للمسيحيين (فصول 5-6): “إن المسيحيين لا يختلفون عن بقية البشر في الموطن، أو اللغة، أو الملبس، فالحقيقة أنهم لا يسكنون في مدن خاصة بهم، ولا يستخدمون لغة معينة؛ ولا يعيشون نمطاً شاذاً من الحياة. وبكل تأكيد لم تكن عقائدهم اكتشافاً يرجع الفضل فيه إلى أفكار بعض الرجال المحبين للبحث أو تأملاتهم؛ كما أنهم لا يدافعون – كما تفعل بعض الجماعات الأخرى – عن أية عقيدة ذات منشأ بشري.
لكنهم يعيشون في مدن يونانية أو غير يونانية كما هو نصيب كل واحد منهم، ويمتثلون لعادة البلد في الملبس، والمأكل، وطريقة الحياة. إن فحوى أسلوب حياتهم بكليته يدل على أنها تستحق الإعجاب، وهي باعتراف الجميع تخالف كل توقع.
إنهم يقيمون في مواطنهم، ولكن كما لو كانوا غرباء؛ إنهم يشتركون في كل شيء كمواطنين، ويتحملون كل الأعباء كغرباء؛ كل أرض غريبة هي موطنهم؛ وكل وطن هو أرض غريبة. إنهم يتزوجون كالآخرين وينجبون أطفالاً؛ لكنهم لا يهملون أطفالهم. إنهم يبسطون مائدتهم للجميع، لكن ليس مضاجعهم.
إنهم في الجسد، ولكنهم لا يعيشون بحسب الجسد. إنهم يقضون أيام حياتهم على الأرض، ولكنهم يحملون جنسية السماء. إنهم يطيعون القوانين المستقرة، لكن حياتهم الخاصة تذهب إلى ما هو أبعد من تلك القوانين.
إنهم يحبون الجميع، ويضطهدون من الجميع. إنهم غير معروفين، إلا أنهم يُدانون؛ يحكم عليهم بالموت، ولكن يعادون إلى الحياة. إنهم فقراء، لكنهم يغنون كثيرين. إنهم محرومون من كل شيء، لكنهم أغنياء في كل شيء، إنهم مهانون، لكنهم في إهانتهم يجدون مجدهم. يفترى عليهم، لكنهم يُبرئون. يُشتمون، ولكنهم يباركون؛ يُهانون لكنهم يعطون كرامة.
يفعلون الخير، ولكنهم يعاقبون كفاعلي شر، وعندما يُعاقبون يبتهجون لأنهم قد أسرعوا للحياة. يحاربهم اليهود كأشخاص من قبيلة مختلفة؛ ويضطهدهم اليونانيون. وهؤلاء الذي يضطهدونهم لا يستطيعون أن يعطوا سبباً لما يكنوه لهم من عداوة. ولنقل ذلك باختصار، كما أن الروح في الجسد، هكذا أيضاً المسيحيون في العلم، فالروح منتشر في كل أعضاء الجسد، والمسيحيون منتشرون في كل مُدن العالم.
والروح يسكن في الجسد لكنه ليس جزءً منه؛ هكذا يسكن المسيحيون في العالم، لكنهم ليسوا جزءاً منه. إنه هو نفسه غير مرئي، لكنه محبوس في الجسد المرئي؛ هكذا المسيحيون معروفون في العالم هكذا، لكن ديانتهم تبقى خفية. وبالرغم من أن الروح لم يسئ إطلاقاً إلى الجسد إلا أن الجسد يكرهه ويحاربه لأنه يمنعه من الانغماس في شهواته؛ هكذا أيضاً العالم، بالرغم من أن المسيحيين لم يسيئوا إطلاقاً إليه، إلا أنه يكرههم لأنهم يقاومون مسراته. والروح يحب الجسد الذي يكرهه؛ هكذا يحب المسيحيون الذين يكرهونهم.
والروح محبوس في الجسد، ولكنه يحفظه؛ هكذا أيضاً المسيحيون محبوسون في العالم كما في سجن، إلا أنهم هم الذين يحفظونه. وبالرغم من أن الروح خالد، إلا أنه يسكن في مسكن مائت؛ هكذا أيضاً المسيحيون بالرغم من أنهم يسكنون كغرباء بين الأشياء القابلة للفساد، إلا أنهم يتطلعون لعدم الفساد الذي ينتظرهم في السماء.
وكما أن الروح يكون في حال أفضل بتقنين المأكل والمشرب؛ هكذا أيضاً المسيحيون عندما يضطهدون يزدادون يوماً بعد يوم. هذا هو الدور المهم الذي أسنده الله إليهم، ومن غير المسموح به أن يهربوا منه”.
ويحتوي الفصلان (7، 8) على تعليم ملخص فيما يتعلق بالمصدر الإلهي للإيمان المسيحي، ذاك الذي أعلنه ابن الله، بهدف إظهار جوهر الألوهة. ولقد ظهر الملكوت على الأرض في زمن متأخر كهذا لأن الله قد أراد أن يُظهر للبشرية عجزها وحاجتها للخلاص (فصل 9). وفي الختام، ينصح الكاتب ديوجنيتوس أن يقبل العقيدة المسيحية (فصل 10).
والرسالة تستحق أن تصنف ضمن أروع وأجمل أعمال الأدب المسيحي اليوناني، فالكاتب متمكن بلاغياً، وعباراته مليئة بالجمال وموزونة بحذق، كما أن أسلوبه الأدبي واضح وصاف. ويكشف المحتوى عن رجل ذي إيمان متقد ومعرفة واسعة، وذهن متشرب تماماً بمبادئ المسيحية. كما أن أسلوب الكتابة يتلألأ بالحرارة والحيوية.