تاتيان السوري Tatian the Syrian
تاتيان السوري Tatian the Syrian
ولد تاتيان – السوري المنشأ – من أبوين وثنيين. وكما ذكرنا أعلاه، كان تاتيان تلميذاً ليوستينوس الشهيد. وهو يشترك مع معلمه في أنه بعد الكثير من الحيرة قد وجد أن التعاليم المسيحية هي الفلسفة الوحيدة الصحيحة. وهو يزودنا بالمعلومات التالية عن أسباب اهتدائه إلى المسيحية:
“ولأني كنت قد رأيت هذه الأشياء، وبالأكثر لأني أيضاً قد سمح لي بالدخول إلى الأسرار، ولأني في كل مكان قد فحصت الشعائر الدينية التي يقوم بها المخنثون والمأبونون، ووجدت أنه بين الرومان يتلذذ “جوتيتر” بالأشلاء البشرية ودماء الرجال المذبوحين، وأن أرطميس – في مكان لا يبعد كثيراً عن المدينة العظيمة – تجيز أفعالاً من نفس النوع، وأن شيطاناً هنا وآخر هناك يحض على ارتكاب الشر، أويت إلى نفسي وبحثت عن الكيفية التي بها يمكنني أن أصبح قادراً على أن أجد الحق.
وبينما كنت أولي اهتماماً جاداً جداً لهذه المسألة، حدث أن وقعت في يدي كتابات قديمة جداً مقارنة بآراء اليونانيين، وإلهية جداً على أن تقارن بضلالهم.
وقد قادني عدم تكلف هذه الكتابات، وشخصية كُتابها غير المصطنعة، ومعرفتها المُسبقة بأحداث المُستقبل، ونوعية وصاياها الممتازة، وإعلانها عن أن مقاليد الأمور في الكون تتمركز في يد كائن واحد، إلى أن أؤمن بها. ولقد تعلمت روحي من الله، فاكتشفت أن الفئة الأولى من الكتابات – كتابات اليونانيين – تقود إلى الدينونة، في حين تصنع هذه (الفئة) حداً للعبودية التي في العالم وتنقذنا من تعددية الحكام ومن عشرة آلاف طاغية، في حين لا تعطينا بكل تأكيد ما لم يكن لنا قبل أن نناله، لكن تعطينا ما كنا قد نلناه لكن الضلالة قد منعتنا من الاحتفاظ به”. (Orat. 29).
ويبدو أن اهتداء تاتيان إلى المسيحية قد حدث في روما، وهناك تردد على المدرسة التي أنشأها يوستينوس. وبالرغم من أن يوستينوس كان معلم تاتيان. إلا أنه بمجرد مقارنة كتابتهما سنلاحظ وجود تضاد حاد بينهما، وهذا يظهر على وجه الخصوص في التقييم الذي يعطيه كل منهما للفلسفة والثقافة غير المسيحية، ففي حين يحاول يوستينوس أن يجد عناصر للحق في كتابات بعض المفكرين اليونانيين، يعلم تاتيان بالتخلي الكامل عن الفلسفة اليونانية من حيث المبدأ.
ويظهر يوستينوس في دفاعه عن المسيحية الكثير من الاحترام للفلسفة غير المسيحية، في حين يظهر تاتيان كراهية صميمة لكل ما ينتمي إلى الحضارة، والفن، والعلوم، واللغة اليونانية.
لقد تطرفت شخصيته حتى إنه تصور أن المسيحية لم ترفض التعليم والثقافة المعاصرة بشكل كاف. وقد عاد تاتيان إلى الشرق حوالي عام 172م حيث أصبح مؤسساً لطائفة “الإنكراتيين” (Encratites) أي “المتقشفين” التي تنتمي إلى مجموعة الغنوسيين المسيحيين. لقد رفضت هذه الهرطقة الزواج باعتبار زنى، وأدانت استخدام اللحوم تحت أي صورة، وشرب الخمر، وتمادت في هذا حتى استبدلت بالخمر الماء في الخدمة الإفخارستية، ولهذا السبب لُقب المنتمون إلى هذه الطائفة بالـ “Aquarii” أي المائيون. ونحن لا نعرف شيئاً عن موت تاتيان.
كتابات تاينان
أولاً: الخطاب إلى اليونانيين
بقي من أعمال تاتيان عملان فقط، هما: “الخطاب إلى اليونانيين” و”الدياتسرون” (Diatessaron). وزمن كتابة “الخطاب إلى اليونانيين” والهدف من كتابته موضع خلاف، وأغلب الظن أنه قد كتب بعد موت القديس يوستينوس، لكن من الواضح أنه لم يكتب في روما. أما أن كان تاتيان قد كتبه قبل ارتداده أم بعده فلا يزال غير مؤكد.
ويعتقد بعض الدارسين أن “الخطاب” ليس دفاعاً كُتب بهدف الدفاع عن المسيحية أو لتبرير تحول الكاتب إليها، بل عظة تعليمية تشتمل على دعوة للالتحاق بالمدرسة التي أنشأها الكاتب. لكن حتى لو كان قد ألقي كخطاب في افتتاح المدرسة، فلا شك أنه في البداية كان التفكير هو أن يكون خطاباً موجهاً إلى العامة.
غير أنه يبقى صحيحاً أن هذا الخطاب ليس دفاعاً عن المسيحية بقدر ما هو مقالة هجومية عنيفة متطرفة ترفض الثقافة اليونانية برمتها وتستخف بها، فهو يرى أن فلسفة، ودين، وإنجازات اليونانيين أمور حمقاء، مخادعة، ولا أخلاقية، وبلا قيمة. ويقول تاتيان في المقدمة أن أي شيء يبدو ذا قيمة في الحضارة اليونانية، قد أخذه اليونانيون من البرابرة، لكن معظمها بلا قيمة أو يشجع على اللا أخلاقية، كأشعارهم وفلسفتهم وبلاغتهم.
وينقسم الجزء الرئيس من هذا العمل إلى أربعة أقسام:
- القسم الأولى (الفصول 4: 3 – 7: 6) ويحتوي على رؤية الكون من منظور مسيحي:
1) يعطي الكاتب تعريفاً للمفهوم المسيحي عن الله (فصل 4: 3-5).
2) ثم يتناول علاقة اللوغوس بالآب، وتكون المادة، وخلق العالم (فصل 5).
3) يتبع هذا وصف لخلق الإنسان، وقيامة الموتى، والدينونة الأخيرة (فصول 6-7: 1).
4) في نهاية القسم (فصل 7: 2-8) يتناول تاتيان خلق الملائكة، وحرية الإرادة، وخطية آدم وحواء، والملائكة الأشرار والشياطين، وهذا الموضوع يقودنا إلى القسم الثاني.
- القسم الثاني (فصول 8 -20) ويحتوي على رؤية للشياطين من منظور مسيحي:
1) علم التنجيم من اختراع الشياطين، ولقد أساء الإنسان استخدام حرية الإرادة، ومن ثم أصبح عبداً للشياطين. لكن هناك إمكانية أن يحرر الإنسان نفسه من هذا القيد، وذلك بان يتخلى تماماً عن كل الأمور العالمية. (الفصول 8-11).
2) وللحصول على قدرة على هذا التخلي ومن ثم الهروب من قوة الشياطين، يجب علينا أن نسعى لكي ترجع نفوسنا لتتحد بالروح السماوي. وقد كان هذا “الروح في الأصل يسكن في صدر الرجل الأول[1]، لكنه قد رحل عنه بسبب الخطية الأولى، تلك التي كانت من عمل الشياطين. (الفصول 12-15: 1)
3) الشياطين هي صورة للمادة والشر، لذا لا تستطيع أن تُقدم توبة، لكن البشر هم صور لله، وهكذا يستطيعون أن يبلغوا الخلود عن طريق إماتة الذات (الفصول 15: 2 – 16: 6).
4) على الإنسان ألا يخاف الموت لأنه مُرغم على أن يرفض المادة كلها حتى يحوز الخلود. (فصل 16: 7-20).
- القسم الثالث (فصول 21-30) ويتناول الحضارة اليونانية في ضوء الموقف المسيحي من الحياة:
1) جهل التعاليم اللاهوتية اليونانية تتناقض مع سمو سر التجسد تناقضاً حاداً. (فصل 21).
2) المسارح اليونانية هي مدارس الرذيلة، وحلبة المصارعين تشبه المجزرة. والرقص، والموسيقا، والشعر هي أمور أثيمة وبلا قيمة. (فصول 22-24).
3) الفلسفة اليونانية والقانون اليوناني متناقضان ومخادعان (فصول 25-28).
4) يُشرق على خلفية الحضارة اليونانية المظلمة سمو الديانة المسيحية بإشراق أكثر لمعاناً. (فصول 29-30).
- القسم الرابع ويتناول عصر المسيحية وقيمها الأخلاقية (فصول 31-41):
1) الديانة المسيحية أقدم من كل الديانات الأخرى، لأن موسى عاش قبل هوميروس والمشرعين اليونانيين كلهم بزمن طويل، بل وحتى قبل الحكماء السبعة. (فصول 31: 1-6، 36-41).
2) الفلسفة المسيحية والسلوك الحياتي المسيحي يخلوان من كل حسد وحقد، ولهذا السبب يختلفان عن حكمة الكُتاب اليونانيين. وتعود الاتهامات الباطلة الموجهة إلى المسيحيين باللا أخلاقية وأكل لحوم البشر على هؤلاء الذين افتروها من عابدي الآلهة اليونانية، لأن مثل هذه الجرائم متكررة ومعروفة في العبادة اليونانية. ولا يمكن وصم أخلاقية ونقاء المسيحيين بمثل هذه الافتراءات (فصول 31: 7-35).
وفي الختام يقدم تاتيان نفسه لأي نقد:
“يا أيها اليونانيون، أنا تاتيان، تلميذ الفلسفة البربرية، قد كتبت هذه الأمور من أجلكم. لقد ولدت في أرض الآشوريين، وتثقفت أولاً بتعاليمكم، ثم بعد هذا تثقفت بهذا التعاليم التي أخذت على عاتقي أن أنشرها من الآن فصاعداً، عارفاً من هو الله وما هي أعماله، أقدم نفس إليكم مستعداً لاختبار عقيدتي في حين ألتزم ثابتاً بأسلوب الحياة الذي بحسب الله”. (Ch. 42, ANF 2: 81/2).
ثانياً: الدياتسرون
إن أهم أعمال تاتيان هو “الدياتسرون”. وهو في حقيقته، عبارة عن توفيق بين الأناجيل الأربعة. ولقد أطلق عليه تاتيان عنوان “الذي من خلال الأربعة” لأنه ينسق فقرات من الأناجيل الأربعة معاُ ليؤلف منها رواية إنجيلية واحدة متواصلة. وقد كان هذا الكتاب لوقت طويل يستخدم رسمياً في ليتورجية الكنيسة السريانية، ولم تُستبدل به الأناجيل الأربعة القانونية قبل القرن الخامس الميلادي.
وقد كُتب الدياتسرون في أغلب الظن بعد عودة تاتيان إلى الشرق، وقد فقدت النسخة الأصلية، فيبقى السؤال قائماً إذا ما كان الدياتسرون قد جمع معاً باليونانية أم السريانية، إلا أن هناك من الأسباب ما يجعلنا نفترض أن تاتيان قد كتبه باليونانية ثم ترجمه بعد ذلك إلى السريانية.
ومؤخراً فقط اكتشف الأثريون الأمريكيون شذرة من نص الدياتسرون اليوناني، وهي تتكون من أربعة عشر سطراً وجدت أثناء الحفريات التي قامت بها جامعة “جون هوبكينز” (John Hopkins) في منطقة “دورا أيروبوس” بسوريا عام 1934، ومن الواضح أنها قد كُتبت قبل عام 1934، ومن الواضح انها قد كتبت قبل عام 254م. ويبدو أن وجود نص يوناني يعود إلى مثل هذا التاريخ المبكر يعزز من الرأي القائل بأن الدياتسرون قد كتب أصلاً باليونانية. ويمكننا أن نعيد تكوين النص كاملاً من الترجمات الباقية لدينا.
ولقد حفظ الدياتسرون في ترجمات عربية، ولاتينية، وفرنكونية متوسطة. علاوة على ذلك، ألف “أفرايم سايروس” (Ephrem Syrus) تفسيراً للدياتسرون في الفترة بين 360م و370م، وهو لا يزال في حوزتنا، وإن يكن ليس في نصه السرياني الأصلي، بل في ترجمة أرمنية تعود إلى القرن السادس الميلادي. وتوحي كل هذه الترجمات للدياتسرون بأن قد أثر بدرجة عالية على النصوص الإنجيلية الخاصة بالكنيسة كلها. ولقد نشأ نص الترجمة اللاتينية للدياتسرون في زمن مبكر، وهو يشكل المحاولة الأولى لتقديم الإنجيل باللغة اللاتينية.
وقد فقدت كل كتابات تاتيان الأخرى، وهناك ثلاثة منها قد ذكرت بواسطة المؤلف نفسه في الدفاع الذي كتبه، فالفصل الخامس عشر من هذا العمل يفترض مسبقاً أن تاتيان كان قد كتب فيما مضى مقالة بعنوان “عن الحيوان”، وفي الفصل السادس عشر يوضح أنه في مناسبة أخرى كتب عملاً عن الشياطين، ثم يعلن في الفصل الرابع عشر أنه بصدد كتابة عمل مستقبلي عن “هؤلاء الذين يتباحثون في الأمور الإلهية”. ويقتبس كليمندس السكندري في (Stromat. 3: 81: 1f) فقرة من مقالة تاتيان “عن الكمال بحسب وصايا المخلص”.
كذلك يقول رودون (Rhodon) إن معلمه تاتيان “قد أعد كتاباً عن المعضلات” أخذ فيه على عاتقه أن يبين ما كان مبهماً أو مخفياً في الكتب الإلهية، إضافة إلى ذلك، يقول يوسابيوس إن تاتيان: “قد جرؤ على أن يعيد صياغة بعض كلمات الرسول “بولس” ظناً منه أنه يصحح أسلوبه الأدبي” (Hist. Eccl. 4: 29: 6)
[1] المقصود هنا هو آدم. (المراجع)