شهادة غريزة البقاء – فادي اليكساندر
نقرأ فى الرسالة إلى ديوجنيتوس، التى يرجعها غالبية علماء الآباء إلى كوادراتوس[1]، تلميذ الرسل، الذى عاش فى القرن الأول و كتبها فى اواخره:
“الله بذاته، القادر على كل شىء و خالق جميع الاشياء و غير المرئى اُرسل من السماء، و عاش بين البشر. هو الحق، و القدوس كلمة الله غير المُدرك و القائم بثبات فى قلوبهم. لم يرسل كما قد يتخيل أحدهم، أى خادم أو ملاك أو حاكم أو أى شىء يدب على الارض.
ولا عهد بذلك لمن يحكمون الأشياء فى السماء، بل أرسل جابل و صانع كل الأشياء، الذى به صنع السماوات، و به جعل للبحر حداً، الذى تخضع له النجوم بالحقيقة، و منه تستمد الشمس قوتها لتطيعه، و هو الذى يطيعه القمر الذى يضىء فى الليل، و تطيعه النجوم ايضا فى مداراتها، بل و زُيِِنت كل الأشياء و وُضعت فى حدودها بواسطته. هو الذى تخضع له السماوات و كل ما فيها، و الأرض و كل ما عليها، و البحر و كل ما فيه.
هو الذى يحكم النار و الهواء و الهاوية، و كل شىء فى الأعالى، و كل شىء تحت الارض، و كل شىء بينهما. هذا ارسله إليهم ليس لكى يتسلط عليهم ولا لكى يرعبهم، بل ليُظهر رحمته و وداعته. فكما يرسل الملك ابنه، الذى هو ملك ايضاً، هكذا أرسل الله إبنه كأله، أرسله كمخلص للبشر ليفتش عنا، لكى يقنعنا و ليس ليقهرنا، لأن العنف و الإكراه ليسا من طبع الله. ارسله ليدعونا، و ليس كمنتقم يعاقبنا، ارسله لمحبته لنا، و ليس ليحاكمنا”[2].
هذا اللاهوت الواضح و القوى، حول مفهوم لاهوت المسيح، لا يختلف كثيراً عن لاهوت القرن الرابع. رغم ذلك، فسيناريو انتصار الأرثوذكسية يقترح أن هذه حقائق مزورة و مزيفة. يجب أن يسوع رجلاً حكيماً لا أكثر، و على أقصى حد، “نبى رؤيوى” Apocalyptic Prophet. لكن على العكس، لا يمكن أن يكون يسوع هو الله، لأن آباء الكنيسة هم من اخترعوا هذه الفكرة! و فى هذه المقالة، أضع أحد أشهر الاحتجاجات: غريزة البقاء.
لا يُوجد غريزة إنسانية أقوى من غريزة البقاء. لا يُمكن أن يُقدِم إنسان نفسه للموت إلا لو كان واثقاً ثقة مطلقة أن ما سيموت من أجله “حقيقى”. لا يمكننا تخيل أن إنسان ما سيدفع بحياته للعذاب و الآلام و يختمها بميتة شنيعة، إلا لو كان متأكداً أن ما يشهد لأجله حقيقى و واقعى. أريد هنا أن ألقى الضوء على أحد الشخصيات المسيحية التى قدمت نفسها ذبيحة للأسود، لأجل الإيمان بالرب يسوع، الإله و المُخلِص.
أغناطيوس الأنطاكى[3]، حامل الإله، هو ثانى أسقف لكنيسة الله فى أنطاكية بعد الأسقف الأول ايفوديوس. كان أغناطيوس تلميذاً للقديس بطرس الرسول، و بناءً على بعض الأبحاث الحديثة، كان تلميذاَ للقديس يوحنا ايضاً. كتب أغناطيوس سبعة رسائل، إلى: أفسس، مغنيسية، تراليان، روما، فيلادلفيا، سميرنا، و أخيراً إلى مُعاصِره بوليكاربوس أسقف سميرنا و تلميذ يوحنا ايضاً.
إن الطريق للاستشهاد الذى سار فيه أغناطيوس إلى روما، و فيه كتب رسائله السبع، مليئاً بالدلالات التى يجب فحصها جيداً و تأمل أبعادها و تضميناتها. لكن قبلاً، لنرى عقيدة الرجل فى المسيح الإله، فى غضون عشر سنوات من إنتهاء القرن الأول (كُتِبت هذه الرسائل بين الأعوام 107 – 110 م)، و بعد إكتمال العهد الجديد بخمسة عشر سنة فقط!
شهادة أغناطيوس للاهوت المسيح[4]:
“أغناطيوس، المدعو ايضاً حامل الإله (أو المتوشح بالله)، إلى الكنيسة فى أفسس فى آسيا، الجديرة بكل التهانى، و المُباركة بعظمة كمال الله الآب، المُعدة من الأزل لمجد أبدى غير متغير، متحدة و مُختارة بألمها الحقيقى بمشيئة الآب فى يسوع المسيح إلهنا” (مقدمة الرسالة إلى أفسس).
“هناك طبيب واحد فقط، جسد و روح هو، مولود و غير مولود، هو الله الظاهر فى الإنسان، الحياة الحقيقية فى الموت، وُلِد من مريم و من الله، كان قابلاً للألم اولاً، لكن لن يكون قابلاً للألم ثانيةً، يسوع المسيح ربنا” (أفسس 7 : 2).
“لأن إلهنا، يسوع المسيح، حملت به مريم بحسب خطة الله: من بذرة داود، نعم حقيقى، لكن ايضاً من الروح القدس. لقد وُلِد و تعمد لكى، بطاعته، يُطهِر الماء” (أفسس 18 : 2).
“إحترسوا كى تقيموا كل شىء فى إتفاق مع الله، مع الأسقف الذى يترأس مكان الله (أى بدلاً من الله على الأرض، بإعتباره وكيل سرائر الله)، و الشيوخ الذين هم فى مكانة مجمع الرسل، و رؤساء الشمامسة الذين هم أعزاء جداً إلىّ، المؤتمنين على عمل يسوع المسيح الذى كان مع الآب منذ البدء و ظهر أخيراً فى الجسد” (مغنيسية 6 : 1).
“كان الأنبياء رجال الله، عاشوا بحسب يسوع المسيح. لهذا السبب تم اضطهادهم، و أوحى لهم حيث كانوا بنعمته يقنعون غير المطيعين أنه هناك إله واحد أظهر نفسه من خلال إبنه، يسوع المسيح، الذى هو كلمته التى إنطلقت من الصمت، و الذى كان راضياً بإرساله له” (مغنيسية 8 : 1).
“أغناطيوس، المدعو أيضاً حامل الإله، إلى الكنيسة التى وجدت رحمة بعظمة الآب العالى جداً، و يسوع المسيح إبنه الوحيد؛ إلى الكنيسة المحبوبة و المستنيرة بمحبة يسوع المسيح إلهنا، بمشيئته التى أرادت كل شىء؛ إلى الكنيسة التى تحمل الرئاسة فى دولة الرومان، الجديرة بالله، الجديرة بالتكريم، الجديرة بالبركة، الجديرة بالمجد، الجديرة بالنجاح، الجديرة بالقداسة، و لأنكم تحملون رئاسة الحب على إسم المسيح و إسم الآب، أُصافحكم فى إسم يسوع المسيح، إبن الآب.
لأولئك المتحدين فى الجسد و الروح بكل وصاياه، الممتلئين بنعمة الله دون تردد، الانقياء بوضوح من كل لون غريب، أرجو لكم فرحاً حقيقياً فى يسوع المسيح إلهنا” (مقدمة الرسالة إلى روما).
“أُمجد يسوع المسيح، الإله الذى جعلكم حكماء؛ لأننى لاحظت ثابتين فى إيمان غير متزعزع، كأنكم سُمِرتُم على صليب ربنا يسوع المسيح بالجسد و الروح؛ و أنكم أكدتكم فى محبة بدم المسيح، مؤمنين بشدة بربنا أنه بالحقيقة من نسل داود بحسب الجسد، و إبن الله بمشيئة و قوة الله، وُلِد حقاً من عذراء و تعمد على يد يوحنا حتى أن كل استقامة تحققت به، و فى عهد بيلاطس البنطى و هيرودس الحاكم، سُمِر حقاً بحسب الجسد لأجلنا، و نحن ثمار آلامه الإلهية المُباركة”
(الرسالة إلى سميرنا 1 : 1).
هذه مقتطفات بسيطة من شهادة أغناطيوس للاهوت المسيح فى رسائله[5]. تلك الرسائل التى أرسلها لهذه الكنائس و هو فى طريقه من أنطاكية إلى روما، فى طريقه لكى يُلقى طعاماً للأسود!
استشهد اغناطيوس فى عهد الإمبراطور الرومانى تراجان؛ بين الأعوام 107 – 110. و فى رسالته إلى المؤمنين فى روما، رفض أن يحاولوا مساعدته على الهرب، آثراً أن يقدم نفسه شهادة حية للإيمان بالرب يسوع المسيح الإله و المُخلص. لما سيكذب هذا الرجل؟ لما سيُزوِر الحقيقة و هو أمام وحوش مفترسة على وشك أن تفتك بجسده – و قد فتكت به بالفعل؟![6] أننا أمام إحتمال واحد فقط لا غير، و هو أن أغناطيوس هو الكاذب.
احتمالية أن يكون أغناطيوس نفسه قد خُدِع غير واردة تماماً لأنه كان تلميذ الرسل أنفسهم (بطرس و يوحنا)، بالإضافة إلى ثبات هذه النصوص و غيرها فى الطبعات اليونانية النقدية لرسائل أغناطيوس مثل طبعة كيرسوب ليك و طبعة فانك بيلميير[7].
بإختصار، لا يوجد غريزة أقوى من غريزة البقاء، و الإحتمالية الوحيدة الواردة هى أن أغناطيوس يكون قد زيّف الحقيقة و هو فى مواجهة الموت؛ و هى الاحتمالية التى لا يمكن تفسيرها فى ضوء النتيجة الطبيعية الأولى: حب البقاء!
ليس أغناطيوس فقط، بل مسيحيين كثيرين لا حصر لهم. بوليكاربوس، تلميذ يوحنا الرسول، أحب أن يموت محروقاً مُعلقاً على وتد، على أن ينكر الرب. حتى اثناسيوس نفسه. فرغم أن اثناسيوس لم يمت شهيداً، إلا انه لاقى كل أنواع الاضطهاد فى حياته بعد مجمع نيقية.
لذلك، سيناريو انتصار الأرثوذكسية فى جوهره، لم يبرز نتيجة تحقيق تاريخى علمى، بل عن طريق نظرية المؤامرة فقط. اثناسيوس ظل منفياً عن كرسيه أغلب فترة جلوسه على سدة البطريركية. فإذا كان المنتصر هو الذى يكتب التاريخ، فالسؤال الذى طرحه دانيال والاس يفرض نفسه بقوة: لماذا انتصر المنتصر؟
هل انتصر بالقوة؟ هل كان هؤلاء يملكون جيوشاً و أسلحة، أبادوا بها أعدائهم؟ أم هل قام الأرثوذكس بحرق كتب المُخالفين؟ أم كان الملوك و الحكام معهم هم بالذات، و وقفوا ضد البقية و أبادوهم؟ كل من يقرأ حياة اثناسيوس بعد مجمع نيقية، و كيف انقلب عليه قسطنطين، و كيف اتحد غالبية أساقفة الأرض حينما دخلوا فى صفوف الآريوسيين، ضده هو وحده؛ سيعرف جيداً أن اثناسيوس انتصر لأن الحق كان معه، و ليس لأنه كان قائداً لجيوش قسطنطين!
لو أن الحق بهذه الهشاشة و الضعف، و لو تبين لى أن أغناطيوس و اثناسيوس خدعوا العالم فى كل العصور، و زوروا التاريخ، و زيفوا الحقيقة، لوقفت أمام هذا الحق و صرت شيطاناً جديداً، رافضاً له…حتى لو كان الحق حقاً!
[2] الرسالة إلى ديوجنيتوس، الفصل السابع، ترجمة بولين تدرى، مُراجعة د. نصحى عبد الشهيد، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، نوفمبر 2004، ص 20 – 21.
[3] عن كتاب: الآباء الرسوليون، ترجمة و تحقيق البطريرك إلياس معوض، منشورات النور 1982، ص 102 – 103.
[4] تمت ترجمة النصوص عن موسوعة العالم ويليام جرجينز، إيمان الآباء الأوائل، المجلد الأول، ص 17 – 27.
[5] هناك حوالى 37 نص فى رسائل أغناطيوس تشهد للاهوت المسيح. للتفاصيل أكثر راجع: لاهوت المسيح حقيقة إنجيلية تاريخية ام نتاج مجمع نيقية؟ الأب عبد المسيح بسيط، ص 65 – 67.
[6] خبر إستشهاد أغناطيوس ورد إلينا بتفاصيله فى كتابات ايريناؤس، اوريجانوس، يوسابيوس و غيرهم.
[7] هذا الإصدار هو النص اليونانى النقدى القياسى لكتابات الآباء الرسوليون، و صدر عن جامعة توبينجين فى عام 1956. تقع كتابات أغناطيوس فى المجلد الأول، ص 82 – 113.