الخطاب اللاهوتي الخامس – في الروح القدس – غريغوريوس النزينزي
الخطاب اللاهوتي الخامس – في الروح القدس – غريغوريوس النزينزي
1 – هذا ما كان علينا أن نقوله في الابن، وهكذا جاز خطابنا بسلام بين من كانوا يتوخون رجمه[1]. والكلمة لا تقبل الرجم، ولكنها قد تصبح، إذا شاءت، حجر المقلاع ترمى به الوحوش الضارية، أين الأقوال التي تقترب بقحة من الجبل[2]. يقولون: ماذا تستطيع أن تقول في الروح القدس؟ ومن أين تأتينا بهذا الإله الغريب الذي ليس له في الكتاب أي أثر؟ هذا ما سيردده أولئك الذين يقفون من الابن موقف اعتدال[3]. وكما أننا نجد الطرق ومجاري المياه تنفصل بعضها عن بعض ثم تعود إلى الاجتماع، نجد الأمر نفسه هنا، فإن من يختلفون في بعض الآراء يلتقون على غيرها، وذلك لوفرة غنى الكفر، بحيث يمتنع التمييز بين مَواطن الاتفاق ومَواطن الاختلاف.
2 – وإنه لمن أصعب الصعب أن نتكلم عن الروح، لا لأن الذين ضيق عليهم في الكلام على الابن سيبذلون قصاراهم لمحاربة الروح فحسب – وهم بحاجة ماسة إلى أن يكونوا كافرين بوجه من الوجوه، وإلا فالحياة في نظرهم غير ذات قيمة – بل لأننا نحن أيضاً، وقد انهالت علينا وأرهقتنا الأسئلة، نعاني ما يعانيه أولئك الذين يشعرون بالغثيان، فإنهم إذا تقززوا من طعام، عافوا جميع الأطعمة، فنحن كذلك نعاف كل نقاش. وليعن الروح مع ذلك فتسرع كلمتنا[4] ويتمجد الله. أما فيما هو من أمر البحث، والتحري الدقيق في طرائق استعمال اللفظتين “روح” و”قدس” في الكتابة الإلهية، مع البراهين الداعمة لهذه الدراسة، وتفسير المقاطع التي تجمع فيها هاتان اللفظتان، أي “الروح” و”القدس”، فهذا العمل ندعه لآخرين، لأولئك الذي قاموا به لأنفسهم ولنا، فيما نعمل نحن لهم. وإننا نعود إلى مواصلة الخطاب.
3 – وهكذا فإن الذين يحسبون أننا ندخل الروح القدس إلهاً غريباً ومسجلاً تسجيل زور، فيغتاظون ويناضلون نضالاً شديداً للدفاع عن الكتابة الإلهية[5]، عليهم أن يعلموا أنهم “جزعوا جزعاً حيث ليس جزع”[6]، وأن حبهم للكتابة قناع يخفون وراءه الكفر[7]، كما سنبين ذلك بعد قليل عندنا نرد اعتراضاتهم[8]. إننا، ونحن على هذا القدر من الاقتناع بألوهة الروح القدس، موضوع عبادتنا، سنأخذ في هذا العرض للاهوت متناولين الثالوث بالتعبيرات نفسها، وإن رأى البعض في ذلك تجرؤاً مفرطاً. “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم”[9] الآب. “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم” الابن. “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم” البارقليط الآخر[10]. لقد كان، وكان، وكان. ولكنه كان واحداً. نور، ونور، ونور. ولكن نور واحد، وإله واحد. هذا ما تراءى لداود قديماً عندما قال: “بنورك نعاين النور”[11]. ونحن الآن، وقد أبصرنا، نكرز ونقول: من النور الآب، ندرك[12] النور الابن، وفي النور الروح، إنه لاهوت للثالوث موجز وبسيط[13] من ينكر فلينكر! ومن يتنجس فليتنجس![14] نحن ندرك ونكرز. “سنصعد إلى جبل عال نرفع صوتنا”، إن لم يسمع من ههنا، و”سنشيد” بالروح “في غير مخافة”[15]. إن خفنا فسيكون خوفنا من البطالة لا من الكرازة.
4 – إن كان هناك زمن لم يكن فيه الآب، كان هنالك زمن لم يكن فيه الابن. ولئن كان هنالك زمن لم يكن فيه الابن، كان هنالك زمن لم يكن فيه الروح أيضاً. لئن كان الواحد منذ البدء[16]، كان الثلاثة أيضاً منذ البدء. إن سفلت الواحد أجرؤ أن أقول لك: لا تُشد بالاثنين الآخرين. فما نفع ألوهة ناقصة؟ أو بالحري أي ألوهة تكون هذه الألوهة الناقصة؟ وكيف تكون كاملة إذا كانت بحاجة إلى شيء تكتمل به؟ والحال أنها تكون بحاجة إلى شيء إن خلت من القداسة. وكيف تحصل عليها إن خلت من الروح القدس؟[17] فليقل هل القداسة هي شيء آخر غيره؟ وكيف تفهم؟ فإن كانت هي إياه فكيف لا يكون الروح القدس “منذ البدء”؟[18] فكأنه كان من الأفضل لله أن يكون حيناً غير كامل وبدون الروح؟ فإن لم يكن “منذ البدء”[19] كان من رتبتي، وإن سبقني في الوجود بعض السبق، فإن الوقت هو الذي يفصلني عن الله. وإن كان من رتبتي فكيف يصيرني إلهاً[20]، أو كيف يوحدنا أنا والألوهة؟
5 – إنني سأناقش لك الموضوع منطلقاً من بعض العلو. لقد تكلمنا آنفاً على الثالوث. إن الصدوقيين أنكروا إنكاراً تاماً وجود الروح القدس، كما أنكروا وجود الملائكة والقيامة، لا أدري كيف تعاموا عن الشهادات الكثيرة الواردة في العهد القديم في شانه. ويبدو لي أن من اقتربوا منا من لاهوتيي اليونان اللامعين قد استشفوه ولكنهم لم يتفقوا على تسميته: فقد دعوه “عقل الكون”[21]، و”العقل الخارجي”[22]، وأموراً أخرى مشابهة. أما حكماؤنا فقد ذهب بعضهم إلى أنه قوة[23]، وبعضهم إلى أنه مخلوق، وبعضهم إلى أنه الله، ووقف آخرون موقفاً حائراً فما قالوا بهذا ولا ذاك احتراماً للكتابة الإلهية التي، على حد قولهم، لا تورد بصراحة أياً من هذه الألفاظ[24]. ولهذا فإنهم لا يجلونه كما أنهم لا يحطون من شأنه، ولكنهم يقفون منه موقفاً وسطاً، أو بالحري موقفاً يرثى له. وبين الذين يعترفون بألوهته قوم أرثوذوكسيتهم في تفكيرهم لا غير، وقم تحملهم جرأتهم على أن تكون أرثوذوكسيتهم على شفاههم أيضاً. وهنالك آخرون سمعت أنهم، في حكمتهم الشديدة، يقيسون الألوهة بمقياس. إنهم يعترفون معنا بالثلاثة الذين نعرفهم، ولكنهم يقيمون بينهم فروقاً، فيجعلون الأول غير متناه من حيث الجوهر والقدرة، والثاني من حيث القدرة دون الجوهر، والثالث شبه محدود في هذا وتلك. إنهم يتمثلون، على غير وجه، بالذين يجعلون الثالوث “صانعاً، ومساعداً، وخادماً”، ويرون في الرتبة والصفة اللتين تنطوي عليهما هذه الأسماء تفاوتاً حقيقياً في المكانة والسلطة.
6 – إلا أننا لا نخاطب من لا يعترفون بوجود الروح القدس، ولا اليونانيين الذين يهذون. فلا “يمتد دهن الخطأة” إلى خطابنا. وإننا سنتوجه إلى الآخرين على النحو التالي: “هل يُجعل الروح القدس في الكائنات القائمة بذاتها، أو في الصفات التي تقوم بغيرها؟ الناس الحاذقون في الموضوع يسمون ما كان في الحالة الأولى جوهراً، وما كان في الحالة الثانية عرضاً. فإن كان عرضاً كان، على الأرجح، قوة الله، وماذا يمكنه أن يكون غير قوة، وقوة من؟ ولا شك أن ذلك يوافقه أشد الموافقة، ويبعد عنه مبدأ التركيب. ولئن كان قوة فقد أتته القوة من غيره، لا من ذاته، ومتى توقفت عنه انتهى وجوده: ذلك هو شأن القوة. وكيف يعمل[25] والحالة هذه؟ هل يفوه بأقوال[26]، أو يفرز أشخاصاً[27]، هل يحزن[28] ويغضب[29]، ويعمل كل ما يدل بوضوح على أنه متحرك، لا أنه حركة؟ أما إذا كان جوهراً، لا شيئاً يدور في فلك الجوهر، فإنه يُعد خليقة، أو إلهاً، إذا إن نصف الإله الذي لا يتصف بصفات هذا ولا ذاك، أو يكون مزيجاً من هذا وذاك فأمر لا يستطيع أن يتخيله أحد حتى الذين اخترعوا “التيوس الأيائل”. أما إذا كان خليقة، فكيف نؤمن به، أو كيف نصير به كاملين؟ وليس سواء أن نؤمن بشيء، وأن نؤمن بالنظر إلى شيء. في الحال الأولى يكون عملنا متعلقاً بالألوهة، ويكون في الحال الثانية متعلقاً بما شئت من الأشياء. وإذا كان الله، لم يكن خليقة، ولا صنع صانع، ولا عبداً مثلنا، وبكلام آخر لم يكن قابلاً أي اسم يدل على حِطّة ونقص.
7 – لك الكلام الآن، فلتنطلق مقاليعك، ولتتجالد أقيستك. إنه في نظرك إما غير مولود، وإما مولود. فإذا كان غير مولود، كان هنالك اثنان بلا مبدأ، وإن كان مولوداً تميز أيضاً: فهو يأتي من الآب أو من الابن. فإن أتى من الآب كان هنالك ابنان أخوان. وبما أنك شديد التمسك بالأمور الجسدية تماد في القول وقل إنهما توأمان، أو إن أحدهما البكر والآخر الثاني! وهو يضيف: وإن أتى من الابن، كان لنا هنالك إله حفيد. هل من غرابة أقبح من هذه الغرابة؟ إنه مقال “الحكماء للشر”[30] والذين يأبون أن يجعلوا الخير في كتاباتهم. أما أنا فإن وجدت هنالك تميزاً ضرورياً تقبلت عناصره ولم يخفين أن أسميها. لا، لا، إذ إن الابن ابن لعلاقة[31] من درجة أسمى، ولا نستطيع التعبير بغير هذه الطريقة عن أنه يأتي من الله وإنه واحد معه في الجوهر، وهكذا كان لا بد لنا في الكلام على الألوهة من اللجوء إلى ألفاظنا الأرضية على الوجه المجازي، ولا سيما الألفاظ التي تدل عندنا على القربى. ومن هذا القبيل قد يخيل إليك أن الله من النوع المذكر لأنه يدعى الله والآب، والألوهة من النوع المؤنث، بسبب علامة التأنيث، وأن الروح القدس غير مذكر ولا مؤنث لكونه لا يلد. وإن واصلت تخيلاتك الصبيانية، مجارياً الأقدمين في أحلامهم وخرافاتهم التي ذهبوا فيها إلى أن الله ولد ابنه باتحاده بإرادته، فيكون لنا من ذلك إله في الوقت نفسه ذكر وأنثى، إله مركيونس مبدعاً “آيونات جديدة”[32].
8 – وإذا كنا لا نرتضي تمييزك الأول الذي لا يحتمل شيئاً وسطاً بين اللامولود والمولود، فسيتلاشى في الحال، مع تمييزك، الإخوة والأحفاد الذين ورد ذكرهم في كلامك، وكما تنحل عقد الرباط وتلافيفه عند حل العقدة الرئيسية، كذلك سقطت مزاعمك في اللاهوت. قل لي، أين تجعل، في التمييز الذي لجأت إليه، ذاك الذي ينبثق؟ إنه يظهر وسطاً، والذي جعله في هذا الوسط لاهوتي أرفع منك، هو مخلصنا. هذا ما لم يكن لك من الكتاب عهد ثالث تلجأ وتسقط منه القول: “الروح القدس الذي من الآب ينبثق”[33]. وإذ كان ينبثق من الآب فهو ليس خليقة، وإذ كان غير مولود فهو ليس ابناً، وإذ كان وسيطاً بين اللامولود والمولود فهو الله. وهكذا يتفلت من أشراك أقيستك، ويتجلى إلهاً أقدر من تمييزاتك. فما هذا الانبثاق؟ قل لي ماذا يعني أن يكون الآب غير مولود فأقول لك ماذا يعني أن يكون الابن مولوداً والروح منبثقاً. عند ذلك نتمم معاً منحنيين[34] على أسرار الله. ومن نحن لهذا الأمر؟ إننا لا نستطيع أن نعرف ما بين أقدامنا، ولا “إحصاء رمل البحر، وقطار المطر، وأيام الدهر”[35] فكيف لنا باختراق “أعماق الله”[36]، والكشف عن الطبيعة التي لا توصف ولا يدركها عقل.
9 – إنه يقول: ماذا ينقص الروح حتى يكون الابن؟ لو لم ينقصه شيء لكان الابن. أما نحن فنقول: لا ينقصه شيء، لأن الله منزه عن النقص، وإنما الفرق، إذا صح القول، في الظهور والتجلي، أو في العلاقة بينهم[37]، تلك العلاقة التي هي في أساس اختلاف الأسماء. ولا شيء ينقص الابن لكي يكون الآب – إذ إن البنوة ليست نقصاً – وهو مع ذلك ليس الآب، وإلا فينقص الآب شيء لكي يكون الابن، إذ إن الآب ليس الابن. إن هذه الألفاظ لا تدل على نقص أو انخفاض فيما هو من الجوهر، والتعبيرات “غير مولود” و”مولود” و”انبثق” تدل على الآب، والابن والروح القدس موضوع كلامنا هنا، وهكذا نحافظ على ميزة الأقانيم الخاصة في الطبيعة الواحدة وكرامة اللاهوت الواحدة. فالابن ليس الآب إذ ليس إلا آب واحد، ولكن له ما للآب، والروح القدس ليس الابن لمجرد كونه يأتي من الآب، إذ ليس إلا ابن واحد، الوحيد[38]، ولكن له ما للابن. الثلاثة واحد في الألوهة، والواحد هو ثلاثة من حيث الميزات الخاصة. وهكذا فالواحد ليس ما ذهب إليه سابليوس[39]، والثالوث ليس ما تذهب إليه انقسامات اليوم الهدامة[40].
10 – كيف إذن؟ الروح القدس؟ لا شك في ذلك. أيكون إذن واحداً مع الآب والابن في الجوهر؟ أجل، لكونه الله. فيقول: أعطني إذن من هو الابن ومن ليس هو الابن آتيين من الآب الواحد، ثم أعطينهما متساويين في الجوهر، فأسلم بأنهما كليهما الله. أعطني، أنت أيضاً إلهاً آخر وطبيعة واحدة إلهية[41]، فأعطيك الثالوث نفسه، مع الأسماء نفسها والحقائق نفسها. وألا يكون إلا إله واحد، وطبيعة سامية واحدة، من أين آتيك بتشبيه يوضح ذلك؟ أو تأتي بالتشبيه من الأشياء الأرضية التي تتشبث بها؟ إنه لعار قبيح، وأكثر من عار، بل جهالة جهلاء. أن تتخذ من الأشياء الدنيا صورة للحقائق العليا، ومن الأمور الحائلة صورة للحقائق التي لا تحول، فذلك كما قال أشعيا “أن يُطلب الأحياء بين الأموات”[42]. وإني بسببك سأعمد إلى بعض ما على هذا الأرض لدعم هذا العرض الذي أنا آخذ فيه. بإمكاني أن أقدم من حياة الحيوان عدة أمثلة، ولكني سأهمل ما كان لدينا مبتذلاً، وما كان معروفاً لدى البعض، وأتوقف عند الحذاقة العجيبة التي جعلتها الطبيعة في تناسل الأحياء. لقد قيل إنهم يولدون لا متشابهين من آباء متشابهين، ومختلفين من آباء مختلفين وحسب، ولكن متشابهين من آباء مختلفين، ومختلفين من آباء متشابهين أيضاً. وإن كان ما يقوله أحدهم جديراً بالتصديق، كان هنالك نوع آخر للتناسل: الكائن الواحد يتهدم ثم يعود فيبعث مولوداً جديداً[43]. وهنالك أيضاً حيوانات تخرج نوعاً ما من ذاتها، وتتحول إلى شكل آخر، وذلك من جراء ما في الطبيعة من قوة وعظمة[44]. أضف إلى ذلك أنه قد يكون هنالك من الكائن الواحد كائن غير مولود وآخر مولود، ومع ذلك متساويان في الجوهر. وهذا ما يوافق موضوعنا أفضل موافقة. وإني سأتخذ مما لدينا شاهداً يعرفه الجميع، ثم أنتقل إلى موضوع آخر.
11 – ما كان آدم؟ كان كائناً صنعه الله[45]. وحواء؟ بضعة اقتطعت من هذا الكائن المصنوع[46]. وشيت؟ كائناً وَلداه هما[47]. ألا ترى أن “صنع” “واقتطع” “وولد” ذات مدلول واحد؟ وكيف لا تكون كذلك؟ هل الأشخاص الثلاثة من جوهر واحد أم لا؟ كيف لا يكونون من جوهر واحد؟ وهكذا فمن الثابت أن كائنات أتت إلى الوجود بطرق مختلفة تستطيع أن تكون واحدة في الجوهر. وإني أتكلم هكذا لا لأني أنسب إلى الألوهة أنها صنعت أو اقتطعت أو كانت عرضة لأي تأثير جسدي – فلا يهاجمني في ذلك أحد المماحكين! – ولكني أتأمل في هذه الأمور، كما لو كان ذلك في مشهد من مشاهد المسرح، ما يدركه العقل، إذ إنه يستحيل أن يعبر التشبيه عن الحقيقة كاملة وصافية. ويقولون: ما نفع ذلك؟ وليس بالأمر الواحد أن يكون هذا مولوداً وذاك أتياً إلى الوجود بطريقة أخرى. كيف ذلك؟ حواء وشيت ألم يأتيا من آدم؟ ألعلهما أتيا من آخر؟ هل كانا كلاهما مولودين؟ كلا! ولكن ما هما؟ حواء مقتطعة، وشيت مولود، ومع ذلك فالواحد منهما يشبه الآخر، لأنهما إنسانان: لا أحد ينكر ذلك. ألن تتوقف عن مهاجمة الروح بادعائك أنه إما مولود وإما غير الله وغير واحد مع الله في الجوهر؟ وهل تسلم بأن رأينا ممكن بعد ما قدمنا من الحقائق الإنسانية؟ أظن أنك الآن توافقني عليه، ما لم تكن مقيماً على خطة الخصومة ومقاومة الحقيقة الراهنة.
12 – وهو يقول: ولكن من عبد الروح؟ مَن مِن جماعة العهد القديم أو جماعة العهد الحديث؟ من توجه إليه بالصلاة؟ أين كتب عن وجوب التعبد له وتوجيه الصلاة إليه؟ أنى لك هذا الرأي؟ سنقدم فيما بعد الشرح الأكمل، عندما نتكلم على العقائد غير المكتوبة[48]. والآن نكتفي بالقول: الروح هو الذي فيه نعبد وبه نصلي. فقد قيل: “إن الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”[49]، وكذلك: الروح يعضد ضعفنا فإنا لا نعلم كيف نصلي كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا توصف”[50]، و”إني أصلي بالروح، ولكني أصلي أيضاً بالعقل”[51]، أي روحاً وعقلاً. فالعبادة والصلاة والعبادة ألا يمكن لهذه الفكرة أن يؤيدها جميع الذين يحيون في الله ويعلمون علم اليقين أن عبادة الواحد هي عبادة الثلاثة، إذ إن الثلاثة متساوون في الكرامة والألوهة؟
ولن يخيفني النص “كل شيء به كوّن”[52]، وكأن هذا “الكل” يشمل الروح القدس أيضاً. فقد قيل: “كل ما كوّن”[53]، لا “كل” بغير قيد ولا استثناء، فلا الآب معني، ولا كل ما لم يكوّن. بين لي إذن أن الروح القدس مصنوع، واجعل الابن صانعه، واجعله في رتبة المخلوقات، وما دمت لا تبين ذلك فأنت لم تأت الكفر مع هذا التعميم بأي مدد. لئن كوّن فلا شك أن المسيح مكونه: لن أنكر ذلك أنا أيضاً. وإن لم يكونه فكيف يكون بين عداد كل ما كون، أو كيف يكون المسيح مكونه؟ توقف عن الحط من قدر الآب بتحقير ابنه الوحيد – لأنه حط من قدر الآب أن تفقده ابنه وتجعل هذا الابن خليقة إن خليقة فوقية – وتوقف عن الحط من قدر الابن بتحقير الروح. فليس الابن صانع رفيق عبودية، ولكنه يتقاسم والروح مجد المساواة في الكرامة. لا تدخل شيئاً في الثالوث مما يشبهك مخافة أن تنحرف عن الثالوث[54]. لا تحلق أي انتقاص بهذا الطبيعة الواحدة والمتساوية في التقدير والإجلال، فأي انتقاص تلحقه بالثلاثة تلغي به الكل، أو بالحري تبعد به ذاتك عن الكل. فمن الأفضل قبول تصور ناقص عن الوحدة في الثالوث من التجرؤ على المضي إلى أقصى درجة من الكفر.
13 – لقد وصل خطابنا إلى النقطة الرئيسية، وإني أتألم لعودة قضية ماتت منذ زمن طويل وقضى عليها الإيمان[55]. ومع ذلك لا بد لنا من الصمود أما الثرثارين وتجنب الاندحار من جراء الإهمال، ونحن الذين نحوز الابن وندافع عن الروح. يقولون إذا وجد إله وإله وإله فكيف لا يكون هنالك ثلاثة آلهة؟ أوليس “بوليرخية” ما تكرمونه؟ من الذين يفوهون بهذا الكلام؟ إنهم الكافرون المغرقون في الكفر[56]، والذين يقفون في الكفر الموقف التالي[57]، أعني أولئك الذين لهم في الابن مذهب حسن. أما جوابي فسيكون في قسم منه للجميع، وسيتوجه بنوع خاص في قسم منه إلى الفئة الأخيرة. فأقول لهؤلاء: لماذا تدعوننا “ثالوثيي الآلهة”، أنتم الذين تكرمون الابن وإن كنتم تنكرون الروح؟ ألستم أنتم “ثانويين”؟ إذا كنتم تأبون تقديم العبادة للابن الوحيد أيضاً فأنتم، والحق يقال، في عداد خصومنا، فلماذا نعاملكم برفق وكأنكم أناس لم يموتوا بعد موتاً كاملاً. ولكن إذا أكرمتم الابن، وذهبتم في استعداداتكم الخلاصية إلى هذا الحد، كان لنا السؤال الآتي: بأي حجة تدفعون عنكم “الثانوية” إذا أُخذت عليكم؟ إذا كنتم تعرفون حجة بارعة فردوا، وسلحونا هكذا بوسيلة للرد، إن الحجج التي تدافعون بها عنكم “الثانوي” تكفينا هكذا عليكم؟ إذا كنتم تعرفون حجة بارعة فردوا، وسلحونا هكذا بوسيلة للرد. إن الحجج التي تدفعون بها عنكم “الثانوية” تكفينا لندفع عنا “ثالوثية الآلهة”. وهكذا نكون الرابحين بجعلكم المدافعين عنا أنتم الذين كنتم خصومنا. هل من سخاء أوفر من هذا السخاء؟
14 – فكيف يكون لنا أن نقاوم ونحج هاتين الفئتين معاً؟ ماذا يكون جوابنا؟ ليس لنا نحن إلا إله واحد، لكون الألوهة واحدة، والذين يأتون من الواجد يعودون إليه، وإن كنا نؤمن أن هنالك ثلاثة: ليس الواحد الله أكثر من الآخر، ولا ذاك أقل، ليس الواحد قبل، والآخر بعد، وليس فيهم انفصام في الإرادة، ولا انقسام في القدرة. لا يمكن أن يكون فيهم شيء مما نجده في الخلائق المركبة. وإذا كان لا بد من الإيجاز قلنا: إن الألوهة غير منقسمة فيمن هم متميزون: كذلك الأمر في ثلاثة شموس متداخلة، يكون مزيج نورها واحداً. وهكذا عندما نتطلع إلى الألوهة، العلة الأولى و”المونرخيا”، لا نرى غير الوحدة، وعندما نتطلع إلى من فيهم الألوهة، الذين يأتون من العلة الأولى على غير زمن ويتساو في المجد والكرامة، نجد الثلاثة الذين نعبدهم.
15 – ثم ماذا؟ قد يقال اليس عند الإغريق، كما ورد في تعاليم الكبار في فلاسفتهم، ألوهة واحدة وعندنا إنسانية واحدة، أي جميع الجنس البشري؟ ومع ذلك أليس لديهم عدة آلهة، لا إله واحد، كما أنه من الثابت وجود أناس كثيرين. وإن في الجماعة البشرية، والحال هذه، وحدة لا يمكن النظر إليها إلا بالفكر، والأشخاص هم على أشد ما يكون الاختلاف فيما بينهم، إذ إن الزمن قد قسمهم، كما قسمتهم طاقة الانفعال والفعل. فنحن، لسنا مركبين فحسب، بل نحن أيضاً متعاكسون، بعضنا بالنظر إلى بعض، وفي ذواتنا فلا نثبت على حال واحدة في النهار والواحد، ولا في أثناء الحياة كلها، وإلى ذلك ففي أجسادنا ونفوسنا تيارات وتقلبات متواصلة. لا أدري على الملائكة وجميع الطبائع العليا التي تأتي في الرتبة بعد الثالوث. هي على هذا النحو، مع أنها ذات طبائع أبسط. وإنها لقربها من الجمال الأسمى، أشد ثباتاً في تطلعها إليه.
16 – أما ما يكرمه الإغريق من آلهة ومما يدعونه “شياطين”[58]، فإنا بغنى عن تقبيحهم عليهم، فلاهوتيوهم أنفسهم يتحدثون عما هم عليه من خضوع شديد للأهواء، ومن تناحر وشقاق، ومما هم عليه من النقائص والعيوب والتقلب. إنهم في خصام دائم بعضهم مع بعض، وفي شجار مع العلل الأولى ومع ما يدعوهم الإغريق أوقيانس، وتيثياس، وفانيتاس، وما لا أدري من الأسماء، وأخيراً مع إله يقوده شغفه بالعنف إلى الفتك بأبنائه، فهو يبتلعهم بجشع لكي يصبح أباً لجميع البشر والآلهة[59] الذين افترسوا وقذفوا بالتقيؤ وبطريقة قبيحة. فإن لم يكن هنالك إلا خرافات وأساطير على حد ما يقولونه ويحاولون أن يتجنبوا عار هذا القول[60]، فماذا يقولون عندما يسمعون أن “الكون ثلاثة أقسام” يحكم كل قسم منه إله، وأن هؤلاء الآلهة الثلاثة على انقسام من جهة تقاسم العناصر والامتيازات؟[61]
إلا أن الحال ليست حالنا، و”ليس مثل حظ يعقوب”[62] على حد قول لاهوتيي[63]، فكل واحد من الثلاثة ليس بأقل وحدة بالنسبة إلى من معه مما هو عليه في ذاته، وذلك بسبب الوحدة في الجوهر والقدرة. هذا هو مبدأ توحدهم كما يتوصل عقلنا إلى إدراكه. فإذا كان هذا التفسير متيناً شكرنا لله نعمة هذه الدراسة، وإلا فلا بد لنا من تطلب غيره.
17 – لا أدري هل نقول إن حججك صادرة عن رجل مازح أو رجل جاد عندما تعمل على دكّ الاتحاد الذي نقول به. فكيف تفكر وتحلل؟ تقول: إن الأشياء الواحدة في الجوهر تحصى معاً – تريد بهذا الكلام أنه يمكن جمعها في عدد واحد – ولكن التي ليس واحدة في الجوهر لا تحصى معاً. وتضيف: من هنا لا يمكنكم إلا أن تقولوا بثلاثة آلهة، وفاقاً للمبدأ السابق، أما نحن فلا خطر علينا من هذا القبيل، لأننا لا نقول بوحدة الجوهر. وهكذا فإنك تملصت من العقدة بكلمة واحدة، وادعيت الانتصار، ولكن بئس الانتصار. لقد فعلت فعل من يعمدون إلى شنق أنفسهم خوفاً من الموت. وكي لا تجهد نفسك في الدفاع عن “المونرخيا” أنكرت الألوهة، وجعلت بين يدي أعدائك ما يطلبون. أما أنا فلن أسلم من أعبد، مهما كلفني ذلك من مشقة. ولا أرى أن في ذلك مشقة.
18 – تقول إن الأشياء الواحدة في الجوهر تحصى معاً، والتي ليست كذلك تعد منفصلة بعضها عن بعض. أنى لك هذا؟ من أي علامة أو من أي ساطر أساطير؟ ألا تعلم أن كل عدد يدل على كمية الأشياء، لا على طبيعتها؟ وأنا إلى هذا الحد متخلف وجاهل حتى إنني أستعمل “ثلاثة” لأعد ثلاثة أشياء. حتى إذا كانت هذه الأشياء من طبائع مختلفة، وبعكس ذلك واحد، وواحد، وواحد، أي ما هو لعدد من الوحدات المختلفة، حتى إذا كانت الأشياء من جوهر واحد، إذ إنني انظر إلى كمية الأشياء التي يتناولها العدد أكثر مما أنظر إلى الأشياء نفسها، وبما أنك تتمسك بحرفية الكتاب المقدس إلى هذا الحد – وأنت في الحقيقة تحاربه – فتأمل في الأمثلة التي اتخذتها منه. في كتاب الأمثال: “ثلاثة تحسن السير: الليث، والتيس والديك، وفي المقام الرابع الملك الذي يخطب في قومه”[64]. ولا أورد ما في النص نفسه من مجموعات ذوات أربعة معدودات بطبائع مختلفة. وأجد كروبين عدهما موسى منفصلين[65]. كيف يكون الثلاثة الأولون ثلاثة، بحسب قواعد فنك، ويكونون في الوقت نفسه منفصلين في الطبيعة، أو كيف يمكن إحصاء الاثنين الآخرين منفصلين وهما متشابهان في الطبيعة ومتحدان اتحاداً شديداً؟ وإن أوردت لك الله ومامّون “ربين اثنين”[66] معدودين في فئة واحدة مع ما بينهما من بون شاسع، فقد أكون في عينيك بهذا الجمع أشد سخفاً وأهلاً للاستخفاف.
19 – ويقول: من الممكن أن تعد الأشياء معاً في حين تكون من جوهر واحد، وذلك عندما يدل عليها اسم واحد بطريقة التبادل، من ذلك مثلاً: ثلاثة رجال، ثلاثة آلهة، لا مجموعة من ثلاثة تتألف من أشياء مختلفة. ما هذا الجواب؟ إنه جواب من يتلهى بالألفاظ ولا يهتم للحقيقة. فكأن بطرس وبولس ويوحنا ليس ثلاثة وليسوا من ذوي جوهر واحد، إذ لم يقل ثلاثة بطرسات وثلاثة بولسات وثلاثة يوحنات! فنحن نطالب للأسماء ذوات الدلالة الخاصة ما منحته لذوات الدلالة العامة، وذلك جرياً مع تصورك وتخيلاتك، وإذا تمنعت من ذلك كنت ظالماً.
ولكن ماذا يقول يوحنا؟ يقول في رسائله الجامعة: “والشهود في الأرض ثلاثة الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة هم في جسد واحد”[67]. أتظن أنه يهذي؟ إنه أولاً يجرؤ على عد ما ليس من جوهر واحد معاً، وهذا ما لا تبيحه أنت إلا للأشياء ذات الجوهر الواحد. ومن يستطيع القول إن هذه الشهود الثلاثة من جوهر واحد؟ وإنه ثانياً استعمل الألفاظ ولم يحافظ على ما بينها من علاقة، فبعدما استعمل اللفظة “ثلاثة” في صيغة المذكر عاد عليها في صيغة اللامذكر واللامؤنث (neuter) مخالفاً بذلك قواعد لغتك وأصولها. ومع ذلك، فأي فرق بين استعمال “ثلاثة” بصيغة المذكر أولاً ثم العودة عليها بالقول واحد وواحد وواحد بصيغة اللامذكر واللامؤنث، أو بالقول واحد وواحد وواحد بصيغة المذكر، وأن نسميها، لا ثلاثة بصيغة المذكر، بل ثلاثة بصيغة اللامذكر واللامؤنث؟ وهذا ما ترفضه بالنسبة إلى اللاهوت؟
ما قولك في اللفظة “كركينس”؟[68] أليست تدل على الحيوان، والآلة، ومجموعة النجوم؟ وما قولك في اللفظة “كلب”؟ أليست تدل على الكلب الذي يعيش على الأرض، وكلب البحر، ومجموعة النجوم؟ ألا تظن أنه يقال ثلاثة “كركينسات”، وثلاثة كلاب؟ بلى! هل هي لذلك من جوهر واحد؟ أي إنسان عاقل يثبت ذلك؟ هل ترى كيف أن هذه الردود أسقطت ما ذهبت إليه من الأشياء لا تعد معاً إلا إذا كانت من جوهر واحد؟ وهكذا فماذا بقي لك إذا كان من الممكن للأشياء التي من جوهر واحد ألا تعد معاً، وإذا كان من الممكن للأشياء التي ليست من جوهر واحد أن تعد معاً؟
20 – إني أذكر أمراً آخر – وقد لا يكون خارجاً من الموضوع – أليس لدينا اثنان إذا جمعنا واحداً وواحداً، وفي اثنين ألسنا نجد واحداً وواحداً؟ بلى وإذا جرينا على مبدأك وجمعنا الأشياء التي من جوهر واحد، وفصلنا الأشياء المختلفة، فماذا يجري؟ يجري أن الأشياء نفسها هي في الوقت نفسه من جوهر واحد ومن جوهر غير واحد. يأخذني الضحك عندما أرى هذا العد تارة هكذا وتارة هكذا، وأنت بذلك فخورن وكأن الأشياء متعلقة بموقع الكلمات وفي هذا الحال وجرياً على المبدأ نفسه تستطيع القول: بما أن الكتابة الإلهية تسمي الأشخاص أنفسهم تارة على هذا الترتيب، وطوراً على ترتيب آخر، لما لهم من تساو في كرامة الطبيعة، فماذا يمنع من النظر إلى أن هنالك تفاوتاً فيما بينهم قدراً وكرامة؟ وإن لأرى الأمر نفسه في موضوع “الله” و”الرب”، وفي موضوع الأحرف الجارة في “منه وبه وإليه”[69] وأنت تتوهم أنك تستطيع بها أن تخضع الألوهة لمبادئك، مرجعاً الأول منها إلى الآب، والثاني إلى الابن، والثالث إلى الروح القدس. ماذا يكون موقفك لو أرجع كل حرف من هذه الأحرف إلى أي من الثلاثة في غير تمييز، لأنك، وإن أرجعت جميعها إلى الكل – وهي كذلك في نظر المتيقظ – تُدخل بها تفاوتاً شديداً في الكرامة والطبيعة؟[70]
هذا يكفي من هم على شيء من النوايا الصالحة. ولكن يصعب عليك، بعد تهجمك على الروح، أن تكبح جماحك، وتتوقف عن شجار لا نهاية له، وعن التشبه بالرتوت الشديدة التوحش التي تنقض على السيف، وذلك إلى أن تنال نصيبك الكامل من التجريح. وهيا بنا نعالج ما تبقى من الحجج.
21 – إنك لا تزال تردد: هذا ليس في الكتابة الإلهية. وألا يكون الروح غريباً ومقحماً خلسة وتحايلاً، بل أن يكون معروفاً ومكتشفاً لدى القدامى والمحدثين، أمر برهنه الكثيرون ممن وضعوا التفسيرات المتعلقة بالموضوع، أولئك الذين مارسوا الكتابة الإلهية في غير فتور ولا ضحالة، بل في استنطاق للحرف، وفي استبطان للأشياء[71]، وقد استحقوا لذلك أن يشاهدوا الجمال الذي كان مطوياً، واستناروا بنور المعرفة.
فلنبين ذلك نحن أيضاً بإيجاز وعلى قدر طاقتنا، حتى لا نبدو ذوي أطماع مفرطة وبلا فائدة، ولا “نبني على أساس غيرنا”[72]. فالذي يحملك على التجديف، والإكثار من هذه الثرثرة[73] الفارغة، وهذا الكفر الذي لا يجدي فتيلاً هو أنه لم يرد في الكتابة بوضوح كاف أن الروح القدس هو الله، وأنه لم يسم بهذا الاسم مراراً كما جرى ذلك للآب أولاً ثم للابن بعد ذلك. إننا سنزيل من أمامك هذه العقبة بتفسير وجيز للأشياء والأسماء، معتمدين اعتماداً خاصاً على الكتابة الإلهية.
22 – هنالك أشياء لا توجد ولها أسماء، وأشياء توجد ولا أسماء لها، وأخرى لا توجد ولا أسماء لها، وأخرى توجد ولها أسماء. هل تطلب أمثالاً على ذلك؟ إني على استعداد لتقديمها. لقد ورد في الكتابة الإلهية أن الله ينام[74]، ويستيقظ[75]، ويغضب[76]، ويمشي[77]، وأنه جالس على الكروبين[78]. فهل أخضع لذلك كله في الحقيقة؟ هل بلغك يوماً أن لله جسماً؟ إنها أشياء لا توجد إلى في المخيلة. وقد استعرنا ما لنا لندل بعض الدلالة على أمور الله. فبقولنا “ينام” نعبر عن أن الله يبتعد عنا وكأنه يهملنا لأسباب يعرفها هو، إذ أنا النوم يعني لدينا التوقف عن كل نشاط وكل عمل. ويقولنا “يستيقظ” نشير إلى أنه عاد علينا بالخير، إذ إن الاستيقاظ هو النهوض من النوم، كما أن النظر إلى شخص ما هو عدم التحول عنه. وعندما يعاقبنا الله نتصور أنه غاضب، لأن العقوبة لدينا تصدر عن الغضب. وهو يعمل تارة هنا، وتارة هناك، فنعبر عن ذلك بالمشي لأن المشي انتقال من مكان إلى آخر. وهو يرتاح إلى القوات المقدسة، وكأنما يطيب له أن يقيم فيما بينها: إنه جالس وله عرش، إنها صورة مأخوذة مما لنا، إذ إن الألوهة لا ترتاح إلى أحد كما ترتاح إلى القديسين. إنه يتحرك بسرعة، فهو يطير[79]. إنه ينظر إلينا وكأن له وجهاً[80]. إنه يعطي ويتقبل وكأن له يداً[81]. وخلاصة القول إن أعمال الله المختلفة قد عبر لنا عنها بصورة مادية.
23 – وأنت، من أين أتيت بـ “اللامولود” و”بغير المبدأ”، وقد تحصنت بهما هذا التحصن؟ ونحن أنفسنا من أين أتينا بـ “غير المائت”؟[82] بين مصدرها في ألفاظها. فيما أنها لم ترد في الكتابة الإلهية سنعلن أنها غير صحيحة أو سنمحوها. ها قد قضين عليك انطلاقاً من مبادئك نفسها، وسقط سور الألفاظ الذي كنت تحتمي به في ثقة هكذا عظيمة. ألا ترى أنها صادرة عما يتضمنها معنوياً، وإن لم ترد في لفظها. فما الذي يتضمنها؟ “أنا الأول والآخر”[83]، “لم يكون إله قبلي ولا يكون بعدي”[84]، فهو إذن “الكائن”[85] كينونة كاملة لم يكن لها ابتداء ولن يكون لها انتهاء. فعندما قلت بأن لا شيء قبله، ولا علة سابقة له، رحت تدعوه “اللامبدأ له”، و”اللامولود”، وعندما قلت بأن وجوده لا ينتهي رحت تدعوه “اللامائت” و”اللاقابل الفساد”. تلك هي الفئة الأولى وتلك حالها.
والآن ما هي الأشياء التي لا توجد والتي ليس لها أسماء؟ هذه: الله شرير، الكرة مربعة، الماضي حاضر، الإنسان غير مركب. هل عرفت يوماً أحداً قادته الحماقة إلى أن يتجرأ على تصور مثل هذه الأمور والمناداة بها؟
بقي أن نبين الأشياء الموجودة والتي لها أسماء: الله، الأنسان، الملاك، الدينونة، سخف الأقيسة التي تشبه أقيستك، تعطيل الإيمان والقضاء على السر[86].
24 – إذا كان مثل هذه الفروق بين الأسماء والأشياء فكيف تكون عبداً للحرف على هذا الحد؟ هل أنت آخذٌ بالحكمة اليهودية؟ هل أنت مقيد بمقاطع الحروف دون الأشياء نفسها؟ لو قلت أنت: خمسة مضروبة باثنين، أو سبعة مضروبة باثنين. وإذا استنتجت أنا من ذلك: عشرة، أو أربعة عشر، أو إذا قلت أنت: كائن حي، عاقل، مائت، واستنتجت أنا أنه الإنسان، أفتحسب أنني أهذي؟ كيف ذلك وأنا أقول ما تقول أنت؟ والكلام إنما يأتي من قائله بقدر ما يأتي ممن يحمل على قوله. وكما أنني هنا أنظر إلى تفكيرك أكثر مما أنظر إلى أقوالك، كذلك الأمر عندما أجد شيئاً آخر لم يقل أو لم يقل بوضوح، وهو في طوايا الكتابة الإلهية، فإني لن أحجم عن إعلانه، ولن أخافك أنت الناقد الساعي وراء الأسماء! هذا موقفنا بالنسبة إلى من لا تخلو آراؤهم من بعض الصحة[87].
إننا لا نستطيع أن نواجهك أنت بمثل هذا الكلام[88]. إنك تنكر التسميات الكثيرة والواضحة التي تدل على الابن. إنك لن تتقيد بالأخرى[89] أيضاً – وهذا أمر ثابت – حتى لو كانت في عينيك أكثر وضوحاً وعدداً. وإذا كان الأمر كذلك، رأيت أن أرتقي بالموضوع إلى أعلى، وأشرح لكم، وإن كنتم علماء، سبب الغموض كله.
25 – لقد حصل “انقلابان”[90] شهيران في تاريخ البشر وفي طريقة حياتهم، وقد عودهما عهدين و”زلزالين أرضيين”[91]، والأمر معروف يكاد لا يجهله أحد: الواحد نقل من الأوثان إلى الناموس[92]، والآخر من الناموس إلى الإنجيل[93]. وقد أخبرنا أن هنالك زلزالاً ثالثاً للانتقال من هنا إلى هناك، إلى ملكوت لا يتغير ولا “يتزعزع”[94]. هكذا كان بالنسبة إلى العهدين العتيق والجديد[95]. كيف ذلك؟ لم يجر التغيير فجأة، ولا منذ انطلاق الحركة الأولى لهذا العمل. لماذا؟ لا بد من معرفة السبب. كان علينا أن نقتنع لا أن نُكره، لأن ما يخالف الإرادة لا يدوم – تلك حال مجاري المياه والنباتات إذا ضيق عليها – ولكن ما يتفق والإرادة هو آمن وأبقى: فمرجع إحدى النتيجتين إلى المكره، ومرجع الثانية إلينا نحن، الواحدة جديرة بالصلاح الإلهي، والأخرى جديرة بسلطة غاشمة. فكان تدبير الله لا في الإحسان إلى من يرفضون الإحسان، بل في توزيع النعم على من يتقبلونها. هكذا كان الله كالمؤدب أو كالطبيب ينهى عن هذه السيرة، ويبيح تلك، ويتغاضى عن بعض الأمور مجاراة للأحوال، هذا ما يفعله الأطباء في معالجة مرضاهم، إنهم يتحيلون جهدهم على الدواء لكي يتقبله مرضاهم، فيغيرون طعمه بمواد أقرب إلى التقبل، وإنه لمن الصعب تغيير الأشياء التي قضت العادة والزمن الطويل باحترامها. ماذا أعني بهذا القول؟ إن الانقلاب الأول ذهب بالأوثان ولكنه أباح الذبائح، والانقلاب الثاني ذهب بسنة الذبائح، ولكنه لم يمنع الختان، وعندما ارتاح الناس إلى الإلغاء، تقبلوه حتى فيما كان مباحاً: هؤلاء في موضوع الذبائح، وأولئك في موضوع الختان. لقد انتقلوا من الوثنية إلى اليهودية، ومن اليهودية إلى المسيحية، تقودهم هذه التغيرات الجزئية إلى الإنجيل بطريقة لا شعورية. وليقنعك بولس في الموضوع! لقد انطلق من الختان[96] ومن التطهير[97] وقال: “وأنا أيها الأخوة إن كنت أكرز إلى الآن بالختان فلم أضطهد بعد؟”[98] هنالك كان التسامح، وهنا الكمال.
26 – بهذا أستطيع أن أقارن ما هو من شأن اللاهوت، ولكن بطريقة عكسية. هناك التغيير عن طريق الإلغاء، وهنا الكمال عن طريق الإضافة. وذلك كما يلي: العهد القديم أعلن الآب في وضوح، والابن في غموض. العهد الجديد أعلن[99] الابن، وألمع بألوهة الروح. وهكذا أصبح للروح القدس مقر فيما بيننا، وهو ينير طريقنا إليه. وهكذا لم يكن من الحكمة، قبل الاعتراف بألوهة الآب، أن ينادى علناً بالابن، وقبل التسليم بألوهة الابن، أن يقحم الروح القدس عبئاً إضافياً – ولو كان التعبير جريئاً – وإلا كان الأمر على البشر كالغذاء الثقيل الذي يبهظ، أو كتحويل الأنظار إلى نور الشمس بعيون لا تزال ضعيفة، مما يفقدهم جميع طاقاتهم. أما إذا جرى الأمر بالإضافات الجزئية، و”بالمراقي”، على حد قول داود، بخطى متعاقبة، وبالتحول “من مجد إلى مجد”[100] فإن نور الثالوث يتلألأ أكثر فأكثر.
وأنا أرى أن هذا هو سبب سكناه الجزئية في نفوس التلاميذ، مراعياً في ذلك طاقات من يتقبلونه، في بدء الرسالة الإنجيلية، وبعد الآلام، وبعد الصعود: إنه يكمل طاقاتهم[101]، وقد نُفخ[102]، وظهر ألسنة من نار[103]. وقد كشف عنه يسوع شيئاً فشيئاً، كما تلاحظ ذلك أنت نفسك عندما تقرأ بانتباه أكثر قوله: “وأنا أسأل الآب فيعطيكم معزياً آخر روح الحق”[104] – هذا كي لا يظهر مناوئاً لله ومتكلماً بفعل قوة أخرى وهو يقول “سيرسله”، ولكن “باسمي”[105] – فهو يغفل “أسأل” ويحتفظ بـ “سيرسله” – ثم إنه يقول: “أرسِلُه”[106] وفي هذا كرامته الذاتية، ثم يقول “متى جاء”[107]، وفي هذا قدرة الروح.
27 – إنك ترى الإنارات الجزئية التي أنارتنا، والنظام الذي يُحسن بنا أن نجري عليه في “اللاهوت”، فلا نفاجئ بالكشف، ولا نموّه الحقائق إلى أقصى حد. ففي هذاك تفريط، وفي هذا كفر، هذاك قد يصدم الغرباء عنا، وهذا قد يحول عنا من هم معنا.
هنالك فكرة قد يكون غيري قد اهتدى إليها، ولكنني أرى أنها من ثمار تفكيري، فأضيفها إلى ما قيل. لقد دفق المخلص على تلاميذه سيلاً من التعاليم، ولكنهم – على حد قوله – لم يكونوا قادرين على حمل بعضه إذ ذاك[108]، للأسباب التي أتيت على ذكرها، لهذا كان لا يبوح بها. وهو يضيف أن الروح، متى جاء، سيرشدنا إلى كل شيء[109]. ومن تعاليمه، على ما أظن، ألوهة الروح نفسها، التي أوضحت فيما بعد، عندما حان وقت معرفتها وسهل إدراكها. أي بعد تمجيد المخلص ومعجزة قيامته التي لم تدع مجالاً للتردد والإنكار. هل كان بإمكانه أن يعد، وهل كان بإمكان الروح أن يبشر بشيء أعظم من هذا؟ إذا كان هنالك شيء يجب اعتباره عظيماً وجديراً بعظمة الله فهو هذا الوعد أو هذا التعليم.
28 – هذا هو رأيي في الموضوع. وكم أود لو يشترك معي فيه أصدقائي فنعبد الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، ثلاثة أقانيم، في لاهوت واحد، لا يناله انقسام في المجد، والكرامة، والجوهر، والملك! هكذا شرحه، منذ عهد قريب، أحد رجال الله[110]. فلا رأى “إشراق كوكب الصبح”[111]، على حد قول الكتاب، ولا أبصر مجد الإشراق العلوي، ذاك الذي تنكر لهذا الرأي، وانقاد لأحوال الزمان والمكان، فبدل موقفه وانحاز إلى فريق حقير في موضوع هو أعظم الموضوعات وأجلها شأناً! فكيف يؤلهني الروح بالمعمودية[112] إن لم تجب عبادته؟ وإذا وجبت عبادته فكيف لا يكون جديراً بمراسم تلك العبادة؟ وإذا كان جديراً بهذه المراسم فكيف لا يكون إلهاً؟ الواحد مرتبط بالآخر. تلك، والحق يقال، سلسلة ذهب[113] وخلاص. ومن الروح يأتينا التجدد[114]، ومن التجدد استعادة حالنا الأولى، ومن هذه الاستعادة معرفة من أعادنا.
29 – هذا ما يمكن قوله إذا سلمنا بأن الروح لم يرد ذكره في الكتابة الإلهية[115]. أما أن يكون ذكره وارداً فإليك جماً من الشواهد تبين أن ألوهة الروح القدس ظاهرة في الكتاب، وذلك لمن ليسوا حمقى ولا غرباء عن الروح. تأمل ما يلي: يأتي المسيح إلى العالم فيسبقه الروح[116]، المسيح يعتمد فيشهد له[117]، المسيح يتعرض للتجربة فيعيده إلى الجليل[118]، المسيح يجترح المعجزات فيرافقه[119]، المسيح يذهب فيقوم مقامه[120]. ما الذي يعصيه من الأعمال العظيمة والأمور التي يستطيع الله أن يعملها؟ أي من الأسماء التي تطلق على الله لا تطلق عليه، ما خلا اللامولود والمولود؟ إذا كان لا بد من استثناء ميزتي الآب والابن الخاصتين حتى لا يكون هنالك التباس واختلاط في الالوهة التي تجعل الأشياء في محلها وفي نظام كامل. إنني أرتجف عندما أفكر في غنى الألفاظ وفي جميع الأسماء التي تهان عندما يهاجم الروح! لقد قيل له: روح الله[121]، روح المسيح[122]، فكر المسيح[123]، روح الرب[124]، الرب نفسه[125]، روح التبني[126]، والحق[127] والحرية[128]، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح العلم والتقوى وخشية الرب[129]، فهو الذي صنع كل ذلك. إنه “يملأ الكل” بجوهره، و”يحتوي الكل” إنه يملأ المسكونة[130] بالنظر إلى جوهره، ولا تحده المسكونة بالنظر إلى قدرته.
إنه صالح[131]، مستقيم[132]، يعضد[133]، إنه يقدس[134] بطبيعته لا بموهبة عارضة، غير موهوب القداسة، يقيس ولا يقاس[135]، يُشترك فيه[136] ولا يَشترك، يملأ[137] ولا يُملأ، يحتوي[138] ولا يُحتوى، يُؤخذ ميراثاً[139]، يُمجد[140]، هو معدود مع الآب والابن[141]، موضوع تهديد[142]، إنه إصبع الله[143]، إنه نار[144] مثل الله[145]، ليظهر، على ما أظن، أنه واحد معه في الجوهر، إنه الروح الذي يخلق الكائنات[146]، الذي يجدد الخلق بالمعمودية[147]، بالقيامة[148]، إنه الروح الذي يعرف كل شيء[149]، الذي يعلم[150]، الذي يهب حيث يريد وبقدر ما يريد[151]، الذي يرشد[152]، الذي يتكلم[153]، الذي يرسل[154]، الذي يفرز[155]، الذي يغضب[156]، الذي يجرب[157]، الذي يوحي[158]، الذي ينير[159]، الذي يحي[160]، أو بالحري الذي هو نفسه نور وحياة – الذي يجعلنا هياكله[161]، الذي يؤلهنا[162]، الذي يقودنا إلى الكمال[163]، بحيث إنه يسبق المعمودية[164] وإنه يُطلب بعد المعمودية. له جميع أعمال الله[165]، وهو ينقسم ألسنة من نار[166]، يوزع المواهب الروحية[167]، يصنع الرسل، والأنبياء، والمبشرين، والرعاة، والمعلمين[168]، إنه فهم، شامل، نير، نافذ، لا يوقفه شيء، ولا يشوبه فساد[169] – هذا يعني أنه الحكمة العليا، وأنه يعمل بطرائق كثيرة[170]، وينير كل شيء وينفذه[171]، وأنه معلم ذاته[172]، وغير متحول[173]. أنه كلي القدرة[174]، والرقيب الذي يراقب كل شيء[175]، والذي ينفذ جميع الأرواح[176]: الفهمة، الطاهرة، اللطيفة[177] – القوات الملائكية على ما أرى – كالتي للرسل والأنبياء[178]، في آن واحد ولكن لا في الأمكنة الواحدة [179]– لأنهم منتشرون هنا وهناك – مما يدل على أن لا شيء يحده.
30 – إن الذين يقولون ذلك يعلمونه، والذين يسمونه “معزياً آخر”[180] – أي إلهاً آخر – أولئك الذين يعلمون أن التجديف عليه هو وحده غير مغتفر[181]، أولئك الذين وصموا حننيا وسفيرة بوصمة عار رهيبة لأنهما كذبا على الروح القدس، أي كذباً على الله لا على إنسان[182]، هؤلاء أنفسهم هل يعلنون، في رأيك، أن الروح القدس هو الله أو شيء آخر؟ إلى أي حد تكون هكذا شديد الكثافة وشديد البعد عن الروح إذا كانت تحول دونك ودونه عقبة وكنت بحاجة إلى من يعلمك! إن التعبيرات هي بمثل هذه الغزارة وبمثل هذه الحيوية. ما الذي يحوجك إلى أن تسرد لك هذه الشواهد واحدة واحدة؟
وهنالك أيضاً كل ما يورده الكتاب من أمور أدنى وأوضح: مُعطى[183]، مُرسل[184]، موزع[185]، العطية الروحية[186]، الموهبة[187]، النفخة[188]، الوعد[189]، الشفاعة[190]، أو أي كلمة أخرى من هذا النوع – هكذا كي لا أعددها واحدة فواحدة – فيجب إرجاعها إلى العلة الأولى، لكي يتضح مصدرها، وكي لا يتوهم المتوهم أن هنالك ثلاثة مبادئ منقسمة وتعدد آلهة. وإنه لسواء في مجال الكفر، المزج كما فعل سابليوس، والفصل كما فعل آريوس، هنا في موضوع الأقنوم، وهناك في موضوع الطبيعتين.
31 – وإني، بعد التفكير العميق في ذاتي مع ما بذلت فيه من فضول روحي، وبعد معالجة الموضوع من جميع جهاته ساعياً في أن أجد صورة لحقيقة بمثل هذه العظمة، لم أعرف كيف وبأي شيء من الأشياء الأرضية أستطيع أن أشبه الطبيعة الإلهية. حتى لو وجدت بعض التشابه، فإن القسم الأكبر يفوتني ويتركني تحت مع تشبيهي. تصورت، كما تصور غيري، ينبوعاً، وجدولاً، ونهراً، علني أجد تشابهاً بين الينبوع والآب، وبين الجدول والابن، وبين النهر والروح القدس. هذه الأشياء لا يجزئها الزمن، ولا تنفصل بعضها عن بعض من حيث التلاحق، وكأني بها تتمايز بعض التمايز بخصائصها الثلاث. إلا أني خشيت في بدء الأمر أن أجعل بهذا التشبيه لا أدري أي جريان في الألوهة يُفقدها الثبات والاستقرار، ثم خشيت أن يكون تشبيهي اقراراً لوحدة في الأقانيم، لأن الينبوع والجدول والنهر شيء واحد يتخذ أشكالاً مختلفة.
32 – وفكرت كذلك في الشمس، والشعاع، والنور. وهذا لا يخلو أيضاً من خطر: يُخشى أولاً تصور تركيب ما في الطبيعة غير المركبة – كما يكون ذلك في الشمس وخصائصها – ويخشى ثانياً ان يخص الآب وحده بالجوهر فتزول أقنومية الآخرين، ويكونان قوتين لازمتين لله لا أقنومين، فليس الشعاع شمساً وليس النور شمساً، بل فيض شمسي ومزية جوهرية. وإنه ليخشى عند التمسك بهذا التشبيه أن ينعت الله بالوجود وباللاوجود معاً، وهذا منتهى السخف.
وقد سمعت أحدهم يصوغ تفسيراً بمثل هذه الألفاظ: تلتمع على أحد الجدران بقعة ضوئية تصدر عن الشمس وتعكسها مياه متحركة، فالشعاع يتخذ هذه الحركة، وينشرها في الطبقات الهوائية، ثم يصطدم بالسطح الجامد، فيحصل من ذلك ارتجاج غير عادي. يضطرب الشعاع بحركة متشعبة وسريعة، فهو عند ذاك وحدة وتعدد وتعدد ووحدة، فهو يتوارى بسبب سرعة التلاقي والتفاصل وقبل أن تتمكن منه العين.
33 – وهذا أيضاً لا أستطيع قبوله للسبب الآتي: إننا نرى جيداً مصدر حركة الشعاع، والحال أن الله لا سابق له، ولا محرك، لأنه هو علة كل شيء وليس له علة. أضف إلى ذلك أننا نلمس هنا أيضاً الأمور نفسها: التركيب، والتوزع، والطبيعة غير المستقرة والقابلة للتحول، وهذا كله لا يمكن تصوره في الألوهة. وخلاصة القول إنني عندما أجيل الفكر في التصور الذي تقدمه الأمثلة والتشبيهات، لا أجد ما يرضيه وما يرتاح إليه، هذا ما لم يقدنا التبصر إلى اختيار ناحية واحدة من الصورة واسقاط الباقي. أخيراً وجدت من الأفضل أن تترك على الأرض الصور والظلال الخداعة والبعيدة كل البعد عن الحقيقة، وأن أعتنق الفكرة التي تتفق والإيمان أوثق اتفاق، وأقتصر على عدد قليل من الألفاظ، مهتدياً بهدي الروح القدس، ومحافظاً إلى النهاية على الإنارة التب حصلت عليها منه والتي كانت لي “القرين الصادق”[191] والشريك، مع مواصلة السير في طريق هذه الحياة والعمل على إقناع الآخرين، قدر المستطاع، بأن يعبدوا الآب والابن والروح القدس، ألوهة واحدة، وقدرة واحدة، إذ “له كل مجد، وكرامة، وعزة، إلى دهر الدهور”[192]. آمين.
[1] إشارة إلى ما جاء في لو 4: 30، أي إلى أن المسيح جاز بين اليهود الذين كانوا يريدون رجمه.
[2] خر 19: 12.
[3] أي أولئك الذين يفكرون في الابن تفكيراً أورثوذكسياً بعيداً عن التطرف والزيغ.
[4] طالع مز 147: 15.
[5] 1كور 3: 6.
[6] مز 13: 5.
[7] طالع متى 7: 15.
[8] سيكون ذلك في الفقرات 12إلى 24.
[9] يو 1: 9.
[10] يو 14: 16-26.
[11] مز 35: 10.
[12] طالع يو 1: 5.
[13] لم يخطئ غريغوريوس في ظنه أن البعض سيجدون في كلامه تجرؤاً، فقد وجه إلى كل من أقانيم الثالوث الكلام الإنجيلي الذي قيل في الابن، أي إنه “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم” (يو 1: 9)، فاعتبر أن هذا الكلام موجه إلى الجوهر الإلهي لا إلى الميزة الخاصة التي تميز الأقنوم، واستعان على ذلك بالمزمور 35: 10، وقد فسره أيضاً ثالوثياً. وتحليل غريغوريوس لا يستقيم إلا إذا اعتبر أن يوحنا 1: 9 لا يشير إلى التجسد، أي مجئ الكلمة إلى العالم منيراً كل إنسان، بل إلى النور الإلهي الذي ينير النفوس، وهو نور الله الذي يمكن أن ينسب إلى كل أقنوم على السواء.
[14] طالع رؤ 22: 11.
[15] أش 40: 9.
[16] يو 1: 1.
[17] يبدو أ، غريغوريوس قد جعل القداسة هنا ميزة الروح القدس، فكأن قداسة الله تقتضي وجود الأقنوم الثالث، وكأن القداسة في نظر غريغوريوس غير النور الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم، فهي للروح القدس، وهو للجوهر كله. وهكذا فاللفظة “روح” لا تكفي للدلالة على الأقنوم الثالث الذي هو “الروح القدس”. بمعنى أن لا قداسة إلهية بدون الروح القدس، كما انه لا أبوة إلهية بدو الآب. وبالنسبة ‘لينا فقداسة الروح هي التي تتيح لنا الاعتراف بألوهة الابن، وبدعوة الآب على أننا أبناء بالتبني.
[18] يو 1: 1.
[19] المرجع نفسه.
[20] 1كور 3: 16.
[21] أفلاطون: فيدون 97.
[22] أرسطوا: توالد الحيوانات 2: 3-9.
[23] تتضمن اللفظة اليونانية معاني شتى منها “القوة العاملة”، و”القوة المحركة، و” القوة الصادرة عن غيرها”.
[24] كان باسيليوس من الذين لا يطلقون على الروح القدس اسم الله لأنه لم يطلق عليه هذا الاسم بصراحة في الكتاب المقدس.
[25] 1كور 12: 11.
[26] متى 12: 20؛ يو 14: 26.
[27] أع 13: 2؛ طالع روم 1: 1؛ غلا 1: 15.
[28] أف 4: 30.
[29] أي 4: 9.
[30] إر 4: 22.
[31] في الخطاب 29: 16، قال غريغوريوس: الآب ليس اسم جوهر، أيها الحكماء، ولا اسم فعل، إنه اسم علاقة…”. في ذلك تحديد مهم، فإن كلمة “علافة” ستصبح تقليدية في عرض العقيدة الثالوثية، وأسماء أقانيم الثالوث تتحدد تماماً بالعلاقة: فالآب هو أبو ابنه الوحيد، وليس إلا ذلك. وفي موضع آخر، يعبر غريغوريوس عن هذه الحقيقة بأسلوب واقعي جداً: “…. إنه فقط أب ولم يسبق أن كان ابناً، لأنه بجملته اب لابنه بجملته… ولأنه، أخيراً، أب منذ البدء، وليس لاحقاً.
[32] الآيونات كائنات كل واحد منها ذكر وأنثى، فتتوالد في ذاتها ومن ذاتها، أزواجاً، والزوج الأول في الله. ومرجع مذهب الأيونات إلى الغنوصيين لا إلى مركيونس، وقد نسب غريغوريوس مركيونس إلى الغنوصية خطأ كما فعل بعض من سبقه.
[33] يو 15: 26.
[34] يو 20: 11.
[35] سير 1: 2.
[36] 1كور 2: 10.
[37] طالع الخطاب 29: 19، الحاشية 1.
[38] يو 1: 14.
[39] الوحدة الإلهية، في نظر سابليوس ، لا تتفق وثلاثية الأقانيم. طالع الخطاب 30: 6، الحاشية 1.
[40] أي الأريوسية، ولا سيما الأفنومية منها.
[41] كلام موجه إلى الذين يسلمون بألوهة الابن دون الروح القدس: فوجود أقنومين إلهيين ليس بأقل صعوبة في الإدراك من وجود ثلاثة (طالع الفقرة 13 من هذا الخطاب).
[42] أش 8: 19.
[43] رأى البعض في هذا الكلام إشارة إلى الفينكس.
[44] من ذلك الفراشة وغيرها.
[45] تك 1: 27.
[46] تك 2: 21-22.
[47] تك 4: 25.
[48] طالع الفقرتين 26 و27 من هذا الخطاب.
[49] يو 4: 24.
[50] روم 8: 26.
[51] 1كور 14: 15.
[52] يو 1: 3.
[53] المرجع نفسه.
[54] إن ادخال أي حقيقة من حقائق الخليقة في الثالوث هو هدم للألوهة.
[55] هذه القضية تقوم على التوفيق بين الإيمان بالله الواحد والإيمان بالثالوث. كيف لا يقضي القول بالله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، على عقيدة التوحيد؟ والذي يعالجه هنا غريغوريوس هو موضوع وحدة الله القائمة على المساواة في الكرامة وكمال الألوهة في الثلاثة.
[56] أي أولئك الذين ينكرون ألوهة الابن وألوهة الروح القدس كأتباع أفنوميوس.
[57] أي أولئك الذين يقولون بألوهة الابن، وينكرون ألوهة الروح القدس.
[58] شياطيهم هذه كائنات وسط بن الآلهة والبشر وغير خالدة.
[59] تعبير هوميري.
[60] إشارة إلى خرافة خرونس.
[61] الإلياذة 15: 189.
[62] إر 10: 16.
[63] يشير غريغوريوس بهذا القول إلى أسلوب قديم في الدفاع المسيحي.
[64] أم 30: 29-30.
[65] حر 37: 8.
[66] متى 6: 24.
[67] 1يو 5: 8.
[68] اللفظة “كركينس” تعني في اليونانية: سرطان، وكماشة، ومجموعة نجوم “برج السرطان”.
[69] روم 11: 36.
[70] إن الترتيب الذي وردت فيه أسماء الأقانيم، مع الأحرف المذكورة. فتحت باباً للهراطقة للتمييز بين الآب والابن والروح القدس، ولجعل الثلاثة في كرامة وألوهة متدنيتين من الواحد إلى الآخر. وغريفوريوس يرى أن الأحرف لا ترد دائماً هي هي، ويضيف في شيء من الهزء، ما يكون موقفك لو وردت دائماً هي هي؟
[71] يو 20: 11.
[72] روم 15: 20.
[73] 2تيم 4: 3.
[74] مز 77: 65.
[75] دا 9: 14.
[76] أش 5: 25.
[77] تك 3: 8، 11: 15.
[78] أش 37: 16، مز 79: 2.
[79] مز 17: 11.
[80] مز 33: 17 ألخ.
[81] مز 10: 12 ألخ.
[82] قد يُعترض على غريغوريوس بما ورد في 1تيم 1: 17، فيكون التعبير “غير قابل الفساد” هو المقصود هنا.
[83] أش 41: 4.
[84] أش 43: 10.
[85] خر 3: 14.
[86] روم 4: 14 و1كور 1: 17.
[87] يريد بهم من يقولون بألوهة الابن دون الروح القدس (طالع الرقم ا13).
[88] أي أنت الذي تنكر ألوهة الابن.
[89] أي تلك التي تدل على الروح القدس.
[90] عب 12: 27.
[91] متى 27: 51.
[92] خر 20: 3-5.
[93] متى 27: 51.
[94] عب 12: 28.
[95] لا ينحصر الكلام هنا في تاريخ الخلاص وحده، بل يتناول أيضاً تاريخ عقيدة الثالوث وتجليها شيئاً فشيئاً على مر العصور. وقد تكون الكلمة “أيكونوميا” التي يختم بها غريغوريوس الفقرة 25 كلمة الانتقال من تاريخ الخلاص إلى التعليم الإلهي (ثيولوجيا).
[96] أع 16: 3.
[97] أع 21: 26.
[98] غلا 5: 11.
[99] طالع 1بط 1: 20.
[100] 2كور 3: 18.
[101] متى 10: 1؛ مر 6: 7؛ لو 9: 1.
[102] يو 20: 22.
[103] أع 2: 3.
[104] يو 14: 16-17.
[105] يو 14: 26.
[106] يو 16: 7.
[107] يو 16: 8.
[108] يو 16: 12.
[109] يو 16: 13.
[110] قد يكون المشار إليه باسيليوس، وله في الروح القدس أبحاث شهيرة.
[111] أي 11: 17؛ 2بط 1: 19.
[112] متى 28: 19.
[113] تعبير هوميري: الإلياذة 8: 19.
[114] يو 3: 5.
[115] طالع مطلع الفقرة 21.
[116] لو 1: 31، 35.
[117] لو 3: 21-22.
[118] لو 4: 2، 14.
[119] متى 12: 22، 28.
[120] أع 1: 9, 2: 3-4.
[121] 1كور 2: 11.
[122] روم 8: 9.
[123] 1كور 2: 16.
[124] حك 1: 7.
[125] 2كور 3: 17.
[126] روم 8: 15.
[127] يو 14: 17؛ 15: 26.
[128] 2كور 3: 17.
[129] أش 11: 2.
[130] حك 1: 7.
[131] مز 142: 10.
[132] مز 50: 12.
[133] مز 50: 14.
[134] 1كور 6: 11.
[135] يو 3: 34.
[136] روم 8: 15.
[137] حك 1: 7.
[138] حك 1: 7.
[139] أف 1: 13-14.
[140] 1كور 6: 19، 20.
[141] متى 28: 19.
[142] مر 3: 29.
[143] لو 11: 20.
[144] أع 2: 3.
[145] تث 4: 24.
[146] مز 103: 30.
[147] يو 3: 5؛ وطالع 1كور 12: 13.
[148] حز 37: 5-6 و9، 10، 14.
[149] 1كور 2: 10.
[150] يو 14: 26.
[151] يو 3: 8.
[152] مز 142: 10.
[153] أع 13: 2.
[154] أع 13: 4.
[155] أع 13: 2.
[156] أي 4: 9.
[157] أع 5: 9.
[158] يو 16: 13.
[159] يو 14: 26.
[160] يو 6: 63.
[161] 1كور 3: 16.
[162] 1كور 3: 16.
[163] يو 16: 13.
[164] طالع أع 10: 47.
[165] 1كور 2: 4-6، 11.
[166] أع 2: 3.
[167] 1كور 12: 11.
[168] أف 4: 11.
[169] حك 7: 22.
[170] طالع 1كور 12: 11.
[171] حك 7: 24.
[172] حك 7: 23.
[173] حك 7: 23.
[174] حك 7: 23.
[175] حك 7: 23.
[176] حك 7: 23.
[177] حك 7: 23.
[178] حك 7: 27.
[179] حك 8: 1.
[180] يو 14: 16.
[181] متى 12: 31.
[182] أع 5.
[183] لو 11: 13.
[184] يو 16: 7.
[185] عب 2: 4.
[186] 1كور 12: 30.
[187] أع 2: 38.
[188] يو 20: 22.
[189] غلا 3: 14.
[190] روم 8: 26.
[191] طالع فيل 4: 3.
[192] رؤ 1: 6؛ 5: 13.